في طريق عودتي من طبيب الأسنان مساءً، مِلتُ إلى مقهىً معروف بجانب الكرخ من بغداد.
اخترتُ أن أجلس خارجاً، رُغم القَرّ والصِّرّ.. اتَّكأت على الأريكة بفراشها الوطيءِ الوثيرِ.. وضعت رِجلاً على رجل وأخذتُ نَفَساً عميقاً من هواءٍ مُنعش لم يُكدّره سوى نُسَيمات دُخان من أركيلة جارٍ على طاولة قريبة..
زفرتُ النَّفَس الأول، وأخذت نفساً آخر وثالثاً...
ثمَّ لمّا حضرَ الشّاي بأبخرته المتصاعدة؛ اكتملت أركانُ الأُنس والانبساط بهدوءٍ اصطنعتُهُ لنفسي من بين تَصَاخُب أصوات الجُلاّس من النّاس حولي، لَكأنَّما أصبحتُ به خارج الزَّمكان، وعَرَجتُ فيه بذاتي إلى حيثُ السَّكينة التي أَبَت الجَلَبة أن تَنزل حيث كُنت، فصعدتُ إليها حيثُ هي!
حدَّقتُ في النّاس دون أن أسمعهم، وأصواتهم تملأ مسمعي..
رفعتُ راسي للسَّماء أجتلي طوارِقها، وبصري مشغول عنها بمجهول لا يُحَسّ بعين ولا يُدرك بخاطر..
قرأتُ ما تيسّر ممّا بين يديّ، وفؤادي لاهثٌ وراء ذاك المجهول - منقطعٌ عن المسطور..
ثمَّ لمّا غبتُ عمَّن حولي إلى اللاحيث؛ أفقتُ على سلامٍ ورِضاً قلّما يَستشعرهما إنسان بهذه القوّة في النفس..
شعرتُ لحظتئذ بسعادة غامرة أن لم يُقاطعني من النّاس أحد سِوى النادل يرفع كوب شاي ويضع آخر بلُطفٍ ورويَّة؛ إذ لم يعرفني منهم أحد.
وشعرتُ بها أُخرى أن جلست بلا حاجبٍ ولا حارسٍ ولا رقيب؛ فلست حاكماً أو سياسيَّاً، لا سمح الله!
وشعرتُ بها ثالثة أن لم تُضايقني لجاجة صحفيّ أو وميض عدسة مصوّر، وأنفاسي ما زالَت مِلكي لا يُحصيها عليَّ أحد مِن الخلق.
ثمَّ قمتُ وتمشّيت أجوبُ شوارع بغداد الملفوفة بالضّباب الكثيف الذي استولَى على أبصار المارّة فيها، فلا يكاد الواحد منهم يُبصر أبعد مِن موطئ قدمه، وأنا غائب لا ألوي على شيء.. كُنت أتعرَّض لهوائها؛ لأملأ رِئتيّ من طُهْره رغم ثقله، وأتحسَّس النَّدى فيه؛ لأستقبله بوجهي ولحيتي حتّى وجدت أثره فيهما.
وهنا تذكَّرتُ قول الصادق الأمين: «مَنْ أَصبح مِنكُمْ آمِنًا في سِرْبِهِ، مُعَافًى في جَسدِه، عِندهُ قُوتُ يَومِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحذافِيرِها».. هذا هو، وربِّ محمّد!
فتعجَّبتُ ممّا يفعله السلاطينُ والحُكّام والسياسيون بأنفسهم وما يتقاتلون عليه من لُعاعِ الدُّنيا وفُتاتها.. حمدتُ الله أنِّي لم أكن مثلَهم وما كُنت يوماً معهم، وأيقنتُ أنَّ مَن وافق حالُه هذا؛ فهو السلطانُ على الحقيقة.. بل سُلطان السَّلاطين!
#أدب_رحلات #من_ذكرياتي
اخترتُ أن أجلس خارجاً، رُغم القَرّ والصِّرّ.. اتَّكأت على الأريكة بفراشها الوطيءِ الوثيرِ.. وضعت رِجلاً على رجل وأخذتُ نَفَساً عميقاً من هواءٍ مُنعش لم يُكدّره سوى نُسَيمات دُخان من أركيلة جارٍ على طاولة قريبة..
زفرتُ النَّفَس الأول، وأخذت نفساً آخر وثالثاً...
ثمَّ لمّا حضرَ الشّاي بأبخرته المتصاعدة؛ اكتملت أركانُ الأُنس والانبساط بهدوءٍ اصطنعتُهُ لنفسي من بين تَصَاخُب أصوات الجُلاّس من النّاس حولي، لَكأنَّما أصبحتُ به خارج الزَّمكان، وعَرَجتُ فيه بذاتي إلى حيثُ السَّكينة التي أَبَت الجَلَبة أن تَنزل حيث كُنت، فصعدتُ إليها حيثُ هي!
حدَّقتُ في النّاس دون أن أسمعهم، وأصواتهم تملأ مسمعي..
رفعتُ راسي للسَّماء أجتلي طوارِقها، وبصري مشغول عنها بمجهول لا يُحَسّ بعين ولا يُدرك بخاطر..
قرأتُ ما تيسّر ممّا بين يديّ، وفؤادي لاهثٌ وراء ذاك المجهول - منقطعٌ عن المسطور..
ثمَّ لمّا غبتُ عمَّن حولي إلى اللاحيث؛ أفقتُ على سلامٍ ورِضاً قلّما يَستشعرهما إنسان بهذه القوّة في النفس..
شعرتُ لحظتئذ بسعادة غامرة أن لم يُقاطعني من النّاس أحد سِوى النادل يرفع كوب شاي ويضع آخر بلُطفٍ ورويَّة؛ إذ لم يعرفني منهم أحد.
وشعرتُ بها أُخرى أن جلست بلا حاجبٍ ولا حارسٍ ولا رقيب؛ فلست حاكماً أو سياسيَّاً، لا سمح الله!
وشعرتُ بها ثالثة أن لم تُضايقني لجاجة صحفيّ أو وميض عدسة مصوّر، وأنفاسي ما زالَت مِلكي لا يُحصيها عليَّ أحد مِن الخلق.
ثمَّ قمتُ وتمشّيت أجوبُ شوارع بغداد الملفوفة بالضّباب الكثيف الذي استولَى على أبصار المارّة فيها، فلا يكاد الواحد منهم يُبصر أبعد مِن موطئ قدمه، وأنا غائب لا ألوي على شيء.. كُنت أتعرَّض لهوائها؛ لأملأ رِئتيّ من طُهْره رغم ثقله، وأتحسَّس النَّدى فيه؛ لأستقبله بوجهي ولحيتي حتّى وجدت أثره فيهما.
وهنا تذكَّرتُ قول الصادق الأمين: «مَنْ أَصبح مِنكُمْ آمِنًا في سِرْبِهِ، مُعَافًى في جَسدِه، عِندهُ قُوتُ يَومِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحذافِيرِها».. هذا هو، وربِّ محمّد!
فتعجَّبتُ ممّا يفعله السلاطينُ والحُكّام والسياسيون بأنفسهم وما يتقاتلون عليه من لُعاعِ الدُّنيا وفُتاتها.. حمدتُ الله أنِّي لم أكن مثلَهم وما كُنت يوماً معهم، وأيقنتُ أنَّ مَن وافق حالُه هذا؛ فهو السلطانُ على الحقيقة.. بل سُلطان السَّلاطين!
#أدب_رحلات #من_ذكرياتي