ما إن تنتهي من قراءة رواية الحبيب السايح «نزلاء الحراش» (٢٠٢١) حتى تجد نفسك تكرر أسطر مظفر النواب:
«فهذا الوطن الممتد من البحر إلى البحر/ سجون متلاصقة سجان يمسك سجان».
وقوله:
«خشيت أقول له: قاومت الاستعمار فشردني وطني»، وستتذكر أيضاً قراءاتك أدب السجون في العالم العربي، وإن كنت قرأت التركي عزيز نيسين فستتذكره أيضاً.
في العام ١٩٩١ تقدمت لامتحان الدكتوراه في جامعة (بامبرغ)، واخترت موضوع «أدب السجن» مادة من مواد الامتحان، وكان علي أن أقرأ كتاب سمر الفيصل «السجن السياسي في الرواية العربية» ورواية منيف» شرق المتوسط» مرجعين أعتمد عليهما، ولاحظت أن الفيصل كتب قسماً عن سجن الاستعمار السياسي وثانياً عن سجن الاستقلال السياسي، وأما منيف فقد كتب عن سجن النظام العربي في زمن الاستقلال.
ولسوف أتابع موضوع السجن من خلال النصوص أو الدراسات التي أنجزت عنه، وقد كثرت، ومن خلال ما تقدمه الفضائيات العربية عن تجارب السجناء يروونها بأنفسهم.
في العام (٢٠٠٧) قرأت رواية عزيز نيسين «سرنامة: وقائع احتفال رسمي» (١٩٧٣) فأذهلني ما كتبه فيها عن عالم السجن المرعب متناولاً قسم مرتكبي الجنح الأخلاقية وقسم السجناء السياسيين وموضحاً الاختلاف بينهما، ولا أظن أنني قرأت رواية عربية وصفت قسوة السجن وبؤس الحياة فيه كما قرأتها فيها.
لقد تذكرتها وأنا أقرأ رواية الحبيب السايح «نزلاء الحراش» (٢٠٢١) التي فيها كتابة عن سجناء مجرمين وسجناء سياسيين أيضاً وما يحدث بينهم من قتل واغتصاب وفتوات واعتداءات وما يجري على ألسنتهم من بذاءات.
وليست رواية نيسين الوحيدة التي تذكرتها، فقد تذكرت رواية أسامة العيسة «المسكوبية» (٢٠١٠)، وقصة أكرم هنية «كان ذلك قبيل موتنا» من مجموعة «دروب جميلة» (٢٠٠٧)، وما ذكرني بهما هو كتابة السايح عن تاريخ سجن الحراش منذ أسس في زمن الاستعمار وبقائه سجناً في زمن الاستقلال إلى أيامنا».
التأريخ للسجن منذ نشأته نقرأ عنه في رواية العيسة وتغير السجان من سجان غازٍ إلى سجان وطني نقرأ عنه في قصة هنية، وإن قدم الأمر على أنه ليس كما يتخيله السجين وإنما هو من باب الحرص عليه، وفي القصة يستشهدان معاً.
سجن الحراش سجن أقامه الفرنسيون «ومر به مناضلون وطنيون أشداء في الأربعينيات والخمسينيات وفي ما بعد الاستقلال وفي التسعينيات وقبل الحراك وخلاله اليوم. ولكني لم أتوقع قط أن يأمر بوضعي فيه من كنت رفيقاً له في السلاح» (١٥٤) يقول منصور الشملول المجاهد القديم المعروف بسي الخضر الذي قبع في الزنزانة ٥٤ التي قبع فيها قبل ٨٣ عاماً أيقونات حزب التحرير. ويضيف ابنه الحسين الذي ثأر لمقتل أخيه محمود، فزج به فيه وكاد يغتصب من سجين شاذ، مخاطباً أخاه الصحافي فيصل:
«ولكني لا أحب لك أن تسمع صراخ السجناء الأقل مقاومة ممن يطالهم الاغتصاب من الذين هم أقوى منهم. إنهم أخطر المجرمين والقتلة، ولا أن تصلك همهمات المهووسين بالعادة السرية وتحرقاتهم. الليالي في سجن الحراش تتحول إلى حشر قيامة بحلول ساعة النوم. جهنم أرحم. في جحيم إلهنا أنت لا تغتصب، ولا تجبر تحت التهديد بالقتل على استعمال فمك لتلبية حاجة أحد الشواذ. في السجن الكل يتحول إلى مهووس أو شاذ، بشكل أو بآخر» (١٢٧).
السجن الذي بناه المستعمر لم يغد متحفاً أو مشفى. لقد بقي سجناً.
مكون عنوان الرواية هو مكون شخصي ومكاني معاً، فالنزلاء هم الشخوص الذين زج بهم والحراش هو المكان الذي زجوا به. النزلاء متغيرون في الزمان، والمكان هو نفسه في الأزمنة المتغيرة؛ زمن الاستعمار وزمن الاستقلال.
في زمن الاستعمار زج الفرنسيون في السجن بالمقاومين، وفي زمن الاستقلال زج به بعض من كانوا أمس إخوة ورفاق درب من اختلفوا مع نهجهم، وفي فترات لاحقة زج به مرتكبو الجنح الأخلاقية، وفي حراك شباط ٢٠١٩ زج به النشيطون، ورئيسا وزراء ووزراء ورجال أعمال ومقاولون اتهموا بالفساد والرشوة ونهب المال العام، وهو ما يقوله عموماً عنوان الفصل الثالث «نزلاء بمقام شخصيات فوق العادة» ويفصله الفصل الرابع «ما يشبه باروديا» حيث يزج بصمد بويعلي وعبد الرازق كلال رئيسي وزراء في الحراش كنزيلين فوق العادة، وبالعودة إلى ما شهدته الجزائر في حراك ٢٠١٩ فقد تم بالفعل الزج برئيسي الوزراء أحمد أويحيى وعبد المالك سلال بالسجن وتمت محاكمتهما بتهمة الفساد.
في صفحة ١٥٨ يرد التساؤل الآتي:
«كيف لم يرمم هذا السجن، الشاهد على عار استعماري شنيع ارتكب بحق إنسان هذه الأرض، ولم يحول إلى متحف ذاكرة ومركز تاريخي للحركة الوطنية وحزب التحرير بالمجسمات والصور واللوحات… ؟».
«فهذا الوطن الممتد من البحر إلى البحر/ سجون متلاصقة سجان يمسك سجان».
وقوله:
«خشيت أقول له: قاومت الاستعمار فشردني وطني»، وستتذكر أيضاً قراءاتك أدب السجون في العالم العربي، وإن كنت قرأت التركي عزيز نيسين فستتذكره أيضاً.
في العام ١٩٩١ تقدمت لامتحان الدكتوراه في جامعة (بامبرغ)، واخترت موضوع «أدب السجن» مادة من مواد الامتحان، وكان علي أن أقرأ كتاب سمر الفيصل «السجن السياسي في الرواية العربية» ورواية منيف» شرق المتوسط» مرجعين أعتمد عليهما، ولاحظت أن الفيصل كتب قسماً عن سجن الاستعمار السياسي وثانياً عن سجن الاستقلال السياسي، وأما منيف فقد كتب عن سجن النظام العربي في زمن الاستقلال.
ولسوف أتابع موضوع السجن من خلال النصوص أو الدراسات التي أنجزت عنه، وقد كثرت، ومن خلال ما تقدمه الفضائيات العربية عن تجارب السجناء يروونها بأنفسهم.
في العام (٢٠٠٧) قرأت رواية عزيز نيسين «سرنامة: وقائع احتفال رسمي» (١٩٧٣) فأذهلني ما كتبه فيها عن عالم السجن المرعب متناولاً قسم مرتكبي الجنح الأخلاقية وقسم السجناء السياسيين وموضحاً الاختلاف بينهما، ولا أظن أنني قرأت رواية عربية وصفت قسوة السجن وبؤس الحياة فيه كما قرأتها فيها.
لقد تذكرتها وأنا أقرأ رواية الحبيب السايح «نزلاء الحراش» (٢٠٢١) التي فيها كتابة عن سجناء مجرمين وسجناء سياسيين أيضاً وما يحدث بينهم من قتل واغتصاب وفتوات واعتداءات وما يجري على ألسنتهم من بذاءات.
وليست رواية نيسين الوحيدة التي تذكرتها، فقد تذكرت رواية أسامة العيسة «المسكوبية» (٢٠١٠)، وقصة أكرم هنية «كان ذلك قبيل موتنا» من مجموعة «دروب جميلة» (٢٠٠٧)، وما ذكرني بهما هو كتابة السايح عن تاريخ سجن الحراش منذ أسس في زمن الاستعمار وبقائه سجناً في زمن الاستقلال إلى أيامنا».
التأريخ للسجن منذ نشأته نقرأ عنه في رواية العيسة وتغير السجان من سجان غازٍ إلى سجان وطني نقرأ عنه في قصة هنية، وإن قدم الأمر على أنه ليس كما يتخيله السجين وإنما هو من باب الحرص عليه، وفي القصة يستشهدان معاً.
سجن الحراش سجن أقامه الفرنسيون «ومر به مناضلون وطنيون أشداء في الأربعينيات والخمسينيات وفي ما بعد الاستقلال وفي التسعينيات وقبل الحراك وخلاله اليوم. ولكني لم أتوقع قط أن يأمر بوضعي فيه من كنت رفيقاً له في السلاح» (١٥٤) يقول منصور الشملول المجاهد القديم المعروف بسي الخضر الذي قبع في الزنزانة ٥٤ التي قبع فيها قبل ٨٣ عاماً أيقونات حزب التحرير. ويضيف ابنه الحسين الذي ثأر لمقتل أخيه محمود، فزج به فيه وكاد يغتصب من سجين شاذ، مخاطباً أخاه الصحافي فيصل:
«ولكني لا أحب لك أن تسمع صراخ السجناء الأقل مقاومة ممن يطالهم الاغتصاب من الذين هم أقوى منهم. إنهم أخطر المجرمين والقتلة، ولا أن تصلك همهمات المهووسين بالعادة السرية وتحرقاتهم. الليالي في سجن الحراش تتحول إلى حشر قيامة بحلول ساعة النوم. جهنم أرحم. في جحيم إلهنا أنت لا تغتصب، ولا تجبر تحت التهديد بالقتل على استعمال فمك لتلبية حاجة أحد الشواذ. في السجن الكل يتحول إلى مهووس أو شاذ، بشكل أو بآخر» (١٢٧).
السجن الذي بناه المستعمر لم يغد متحفاً أو مشفى. لقد بقي سجناً.
مكون عنوان الرواية هو مكون شخصي ومكاني معاً، فالنزلاء هم الشخوص الذين زج بهم والحراش هو المكان الذي زجوا به. النزلاء متغيرون في الزمان، والمكان هو نفسه في الأزمنة المتغيرة؛ زمن الاستعمار وزمن الاستقلال.
في زمن الاستعمار زج الفرنسيون في السجن بالمقاومين، وفي زمن الاستقلال زج به بعض من كانوا أمس إخوة ورفاق درب من اختلفوا مع نهجهم، وفي فترات لاحقة زج به مرتكبو الجنح الأخلاقية، وفي حراك شباط ٢٠١٩ زج به النشيطون، ورئيسا وزراء ووزراء ورجال أعمال ومقاولون اتهموا بالفساد والرشوة ونهب المال العام، وهو ما يقوله عموماً عنوان الفصل الثالث «نزلاء بمقام شخصيات فوق العادة» ويفصله الفصل الرابع «ما يشبه باروديا» حيث يزج بصمد بويعلي وعبد الرازق كلال رئيسي وزراء في الحراش كنزيلين فوق العادة، وبالعودة إلى ما شهدته الجزائر في حراك ٢٠١٩ فقد تم بالفعل الزج برئيسي الوزراء أحمد أويحيى وعبد المالك سلال بالسجن وتمت محاكمتهما بتهمة الفساد.
في صفحة ١٥٨ يرد التساؤل الآتي:
«كيف لم يرمم هذا السجن، الشاهد على عار استعماري شنيع ارتكب بحق إنسان هذه الأرض، ولم يحول إلى متحف ذاكرة ومركز تاريخي للحركة الوطنية وحزب التحرير بالمجسمات والصور واللوحات… ؟».