الوشم فن بصري يدق على الجسد، إنه كتابة عليه، وهو اسم آخر له فن طوطمي، فن من علامات رأى فيه بعض أصحاب الفتاوى شراً ينبغي تحريمه، مضيفين ذلك إلى أمور كثيرة ترمي إلى كبت الجسد وقمع شكله ومظاهره.
تبدو الكتابة عبر الوشم على الجسد العربي (لباساً مكتوباً)؛ وكتابة تخلخل مفهوم الامتلاك، فتلح على أن تكون مقروءة، ومحبوبة، ومشتهاة، ضمن حركتها الأكثر إثارة وغموضاً. رأي المفكر المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي في كتابه: (الاسم العربي الجريح - دار العودة - بيروت) تفتح اليوم أبواباً عديدة للنقاش في ظل إخراج بعض الفتاوى التي تحرّم الوشم على الجسد؛ مستعينةً بأدبياتها الماضوية.
الوشم في الثقافة العربية يبدو على أطراف النص؛ لكنه في الوقت ذاته استمرار لهذه السلالة من العلامات والرموز التي تختص بها هذه المنطقة أو تلك؛ فالوشم كعلامة ورمز غير مرسوم بيد رسام - يقول الفنان التشكيلي أكسم طلاع ـ ويضيف: الوشم هو مرسوم من قبل شخص صانع للتعاويذ؛ إذ يبدو أن هؤلاء الناس الذين ينتمون إلى المجتمع الرعوي كانت لديهم مخاوف لم يتغلبوا عليها إلا بالوشم؛ ليس الموت فقط؛ بل من الغيب والجفاف والغزو؛ فهذه العلامات تحميهم من القدر القادم إليهم؛ وبالتالي المستقبل لديهم كان مفهوماً غائماً وغائباً؛ الخوف من القادم، فكل قادم كان مشكوكاً فيه في المجتمعات الرعوية الأولى؛ حيث كان يرافق هذه المجتمعات قصصاً وحكايا أزياء ووشوماً».
هذه الوشوم لم تكن موجودة على الجسد الإنساني وحسب - يعقب طلاع ـ مضيفاً: «بل كان الوشم على السلاح والمكان وعمود البيت وحتى على قطعان الماشية، فالمجتمعات البدوية كانت تخاف من اللون الأحمر في صناعة الوشوم، فهو لون الفرح الذي قد يجلب لهم كوارث، لذلك كانوا يفضلون الألوان الحيادية التي تبقيهم في أمان وسلامة كما يظنون، وأغلب الألوان التي كانوا يرتاحون لها كانت ألواناً ترابية؛ لهذا تشاهد بكثرة الوشم الأزرق على البشرة البيضاء؛ لكن أغلب الوجوه السمراء تلاحظ أن الوشم جزء من الوجه؛ فالوشم هنا لم يكن غريباً ولا طارئاً على هذا الوجه الذي يُدقُ عليه».
الوشم ليس تزيينياً؛ بل هو اسم الشخص؛ من دون أن يكون رسام هذا الوشم فناناً محترفاً؛ رسمٌ كان يستخدم فيه ثلاث إبر محماة على النار، تكوّن ما يشبه الطوطم أو هذه اللغة التي تعطيك رمزاً حركياً؛ فالوشم رمز مرئي وليس مسموعاً، يوضح طلاع، مضيفاً: «إذاً الوشم كان اسمك الحركي المرئي كي لا تنسى وكي تبقى بمنأى عما هو قادم، ويجعل منك ابن هذا المكان».
ذهنية تحريم الوشم اليوم يقرأها التشكيلي السوري - الفلسطيني في أعلى رموزها السيمولوجية التي تتعرض اليوم لنوع من القمع والتضييق فيتساءل: «من الذي يحرّم؟ من الذي يطلق نص التحريم؟ من هو؟ هل هو سياسي أم وصي؟ أم رجل دين أم نحن؟ ولماذا؟ انظر كل شيء ممنوع لنا غاية فيه، انظر إلى ثقافتنا نحن العرب أبناء الهوية والمكان؟ يبدو أن الآخرين يفضلونك ميتاً، وأن تكون بلا هوية وبلا خطيئة. الخطيئة التي ربما تكون هوية في بعض الأحيان؟ الآخر يحبك أن تكون على ما يناسبه؛ موضوع تحريم الوشم كونه اسماً لجسد هو موضوع استيلاء بشر على بشر، فنحن مجتمعات تطفو فوق بحر من الممنوعات، وفي الوقت ذاته تراها أنها ذات مظهر صوفي وباطن إيروتيكي، الوشم عنصر إيروتيكي خلاق وغير عادي؛ وليس رخيصا أو إباحيا؛ الوشم رمز له معنى عميق في الهوية، وهو عمل فني جسدي يمتد في جذوره من بداية الخليقة حتى الآن؛ حتى في منزلك أنت تعلّق نباتات يابسة، هذا عمل إيروتيكي، حتى الطعام وطريقة تذوقنا له هو فعل إيروتيكي، الوشم على الجسد هو ليس دحر رغبات لهذا الجسد، بالعكس هو تعزيز للجسد بلغة جديدة.
الجسد الممنوع
الجسد المسمّى هو جسد موشوم، وله سيمياؤه الخاصة به؛ ليس جسداً معنوياً بلا حضور مادي بل هو جسد فوق طبيعي وعابر للموت والأسئلة، جسد ملغّز، له لغة إيحاء ودائماً لغة الإيحاء هي اللغة الأعلى والأرقى، ومجتمعات الفنون والآداب والثقافة لغتها هي لغة إيحاء قبل كل شيء، وليست لغة مباشرة.
الوشم ليس لغة صورة أو أيقونة بالمعنى الأوروبي ولا هو لغة إيقاع كما هو في البلاد الأفريقية، بل هو لغة علامة تنتشر في آسيا والهند والصين كما تنتشر في العالم العربي الذي احتفى بالخط والحرف والطوطم والرمز وعبّر عنه عبر فنانيه الأميين الأوائل من خلال علاماتٍ على الجسد.
بهذا المعنى يصير الوشم لغة دلالة مثله مثل علامات الترقيم في النص المكتوب، لغة لوحتها الجسد ولونها كدمات زرقاء في الجلد؛ فما يميز الإنسان العربي والشرقي عموماً هو هذا الوشم الذي تحرّمه اليوم نصوص دينية بحجج طبية وصحية وما إلى ذلك من الحجج الرثة؛ فكل فئة من البشر لها ما يميزها عن سواها؛ من دون أن يفصلها أو يعزلها؛ بل هو يطلق بعداً سحرياً للجسد الموشوم.
برأي التشكيلي (طلاع) أن «يترك أصحاب الفتاوى تحريم الوشم وليحرّموا أشياء أخرى مثل الجهل والتخلف والتطرف والقتل؛ فإذا كان الوشم يؤثر على صحة الإنسان وينقل له الأمراض، فجدتي التي كانت مليئة بالوشوم لم تمرض يوماً، بل عاشت أكثر من مئة عام وهي في منتهى الحكمة؛ ولم تعانِ من ألم يذكر، حتى أنها لم تأخذ حبة أسبرين في حياتها، أذكر أنها كانت تكتفي إذا داهمها صداع بربط قليل من وريقات النعناع الأخضر في منديل الرأس».
التعديل الجاري اليوم على الوجه الإنساني سواء في شكل الأنف أو الوجنتين والخدود؛ هو ابتعاد كلي عن معنى الوجه كظاهرة نحتية في الفضاء؛ فما يميز الكائن الإنساني هو العلامات التي خلقها الزمن في وجهه وحفرها بأناة متناهية؛ الآن يبدو أن هذا الاجتياح على صعيد تغيير الوجه وتشويهه بإبر السيليكون وسواها جعل من الجميع رملاً متشابهاً، يشرح أكسم طلاع ويضيف: «حالة الرمل هذه جعلت من وجوه الجميع سواداً بهيمياً؛ فلم يعد هناك اختلاف قطيعي حتى في الشكل؛ وبالتالي أصبحنا أمام ثقافة التشيؤ؛ فلا قيمة لوجه أو جسد في هذا السياق من ملايين المتشابهين والمتشابهات، انظر على التلفزيون وسترى أي وجه اليوم حصلنا عليه؟ هذا الوجه الموديل هو دلالة على مجتمعات تسلخ جلودها؛ تغير ذاتها؛ وتغيير الذات سيفقد البوصلة، هذا الغزو بأدواته الجديدة في التطرف والعسكرة من فوضى خلاّقة وسواها غايتها هي تغيير الذات، بل تحطيمها ومحوها».
في الفن التشكيلي العربي استمر الوشم كعلامة؛ فلا تزال روحية الوشم موجودة عند بعض الفنانين الذين ينحون منحىً المكان، بمعناه الذهني الثقافي الروحي، فليس الوشم هو ذاك الأثر الذي تفعله في جسدك أو وجهك متقصداً إياه؛ الوشم أن تكون أنت كفنان بمثابة الزمن الذي يرسم على وجه هذه العلامة، يضيف طلاع: «بعض الأعمال التشكيلية السورية لا تجد فيها عنصر الزمن طازجاً وراهناً؛ على عكس الوشم الذي يأتي كدلالة على زمن، فاللوحة - الوشم هي لوحة مرت بعدة أجواء وتراكمات وعدة تألقات للفنان، حتى وصل إلى مزاولة عملية وشوم مستمرة؛ ليست مساحة صغيرة أو كبيرة وليست قطعاً أو لوناً».
أكثر الفنانين الرواة للوشوم كان الراحل محمد الوهيبي؛ فهو كما كان يعرف عنه كان شخصاً يعيش في وشم، يبدع طواطم لكل يوم وكل صديق. هذه العلاقة وهذا التفكير هي لشخص كان جزءاً من وشم؛ فثقافة الوشم تكون دائماً عند شخص يملك من الخيال والبصيرة والحكاية الطويلة الممتدة إلى أجيال كثيرة عاشت وماتت تاركةً لنا وشومها؛ فلغة الوشم أبعد في الزمان، لكنها في الوقت ذاته تتحقق بأدوات بسيطة للغاية ومحببة.
أوشام في لوحات
الرموز والنقوش الشعبية نجدها في أعمال الفنان الفلسطيني عبد الحي مسلّم؛ حيث نجد احتفالية بالوشم؛ لكن بأشكال بدائية وألوان بسيطة (أخضر - أحمر) ومن السوريين كان هناك فنانو البادية وأبرزهم جليدان الجاسم الفنان الذي كان يميل إلى حالة الخيمة والبداوة عبر وشم المثلث في الهلال.
لقد صمت الإسلام عن موضوع الوشم، ولكنّ حديثاً ضمنياً يقول «لُعنت الواشمة والمستوشمة»، فأصبح الوشم بمرتبة الرِّبا، لأنّ تبديل كتابة مقدّسة بكتابة بالنقط يكاد يعصف بالتراتب الإلهي للأدلّة كما يقول الكاتب المغربي عبد الكبير الخطيبي في كتابه (الاسم العربي الجريح) مضيفاً: «إنه التراتب الذي أمرت به الكتابة التي ترجع إلى قضاء إلهي، إلى حديث متعالٍ. إنّ على القراءة غير الدينية للجسم أن تخضع إذاً، أثناء تداول الأنظمة والأحاديث، إلى القانون الحمدلي، الذي له وحده القدرة على حجب الحرف المخطوف والجسم المختلّ».
إنّ الوشم كشهادةٍ على كتابة هي الآن كتابة مندثرة يثبت حضورها، بحسب تخطيط شبه جامد، يقول الكاتب التونسي شريف مبروكي مستشهداً بكلام (الخطيبي) ويضيف: «في مفارقة طال نسيانها واشتد اختصارها، مكّن النظر إلى الوشم كمجرّد تأمّل تزييني في الموت؛ فالميّت الذي وشم، هو بالفعل مكتوب بطريقة مزدوجة، بالوشم وشاهدة القبر. إنّه جسم مزيّن من خلال الموت؛ فالجسم الموشوم يستمرّ في التجلّي خلال الموت كأنّ الوشم قد سرق شاهدة القبر؛ ولا يزال الجسم العربي رهينة اللاهوت وحبيس النصّ الفقهي».
نصوص الجسد
الفنانة (إيفا إسماعيل) تقول إن الوشم رتب علاقتها بجسدها؛ فالجسد كما تراه التشكيلية السورية هو «فارغ وبلا معنى في غياب الوشم، ممتد ومتطاول؛ فمنذ عرفت الوشم؛ عرفتُ معه أن الجسد يمتثل أن يكون لوحتي الخاصة بي؛ حتى في تلك اللحظات الحالمة أمام مرآة أو رجل؛ لا بد من وشم يتجاوزني، كما يتجاوز الجسد معناه، الجسد هنا كروح وليس كما فصله الدين إلى (روح وجسد) مبقياً على الجسم في أدبياته كمقر للطهارة والنجاسة، الوشم قادر على مساعدتي بأن ألبس جسدي مرات عديدة، من دون أن يضايقني حياده عني، أو استخدامه كأداة لوظائفي البيولوجية اليومية؛ الجسد الموشوم يمكن ارتداؤه وملاحظته متمايزاً عن سواه؛ هكذا أعرف أنني امرأة تتجاوز عبر الوشم كل ماله علاقة بالشيء، فالجسد ليس شيئاً؛ في هذه الحالة فلتصمت الفتاوى، ونصوص التحريم؛ فنصوص جسدي لا يمكن لي أن أمحوها بهذه البساطة، ولا أن أودعها غسالة المحرّم؛ فجسدي مع الوشم أعتبره امتداداً لنساءٍ أخريات؛ ربما أصيرهن عندما أفرغ مني، من يدري؟».
لا بد أن المفارقة عجيبة عندما نواصل الاحتكام إلى نصوص مضى عليها أكثر من ألف عام؛ بغية اتخاذ قراراتٍ تخص حياتنا اليومية في عصر التقدم العلمي والفكري والطبي والتكنولوجي الحالي، تعقب الشاعرة عبير سليمان وتضيف: «نحن في زمن الأقمار الصناعية والمركّبات الفضائية ورغم ذلك ما زال ينتظر الراغب بصوم رمضان هلالاً يراه بالعين المجردة، كما أننا في الوقت الذي نستطيع فيه استشارة طبيب جلدي متخصص، نجد البعض مصرّين على التمسك بأحاديث مثبتة أو غير مثبتة، المهم أنّ أحد رجال الدين أراد إعادة إحيائها عبر فتوى جديدة من تلك الفتاوى الكثيرة التي صارت تمطر علينا من كل حدب وصوب؛ مستغلةً وجود أناس بسطاء قلوبهم مرتهنة للخوف؛ أكثر مما عقولهم منفتحة على التفكير والبحث والقراءة».
شخصياً لا تفضل الشاعرة السورية (سليمان) الوشم التزييني الذي تستخدم فيه الإبر ويحقن الجلد بأصبغة ملونة، إذ حدث أن أعجبني الوشم الدائم في حالاتٍ نادرة، كُتبت فيها جملة قصيرة أو كلمتين بخط عربي جميل على الذراع أو الكتف، أما عن الوشم المؤقت المرسوم بالحنة والدارج في عدد من البلاد العربية؛ حيث تنقش فيه زخرفات بديعة على الذراع أو القدم أو الساق، بين مناسبة وأخرى، فهذا فنٌّ أحبه؛ يروق للناظر ويعطي انطباعاً بأن مناسبة سعيدة كانت وراء تلك الزخرفة المبهجة، ولا أعتقد أن وشماً كهذا يخدش قدسية أي معتقد أو يؤذي أو يشوّه الجسد».
الإغواء والتحريم
أعرف الوشم الذي كانت النسوة في الأرياف والقرى يحملنه يقول الفنان بطرس المعري ويضيف: «كذلك الوشم ذو الرموز الدينية المسيحية التي كان البعض يزين به ساعده من الجانب الداخلي؛ في هاتين الحالتين أرى أن الوشم هو عادة اجتماعية أو دينية لا تدخل (الموضة) في انتشارها كالذي يحدث الآن. وإن كان البعض حالياً من جيل الشباب يلجأون إلى رموز دينية ومذهبية واضحة أصبحت من الموضة؛ فالوشم في أيامنا هذه أصبح جزءاً من (إكسسوارات) الزينة لدى الكثير من النساء، والشباب معاً، والوشم صار مرادفاً لعمليات التجميل البلاستيكية وكلاهما يتبع حالة الاهتمام بالجسد للظهور بالمظهر الجميل؛ وأيضاً كوسيلة للتواصل مع الجنس الآخر».
بدون شك إذا نظرنا إلى الأمكنة التي تشِم فيها النساء جسدها؛ نعرف لأية غاية قد وجدت، يبين الفنان بطرس المعري مضيفاً: «أما قضية التحريم أو التحليل فهي لا تعني شيئاً لأصحاب الوشم، فمن تضع وشماً لا يرى إلا من خلال خلع كثير من الثياب؛ لن تهتم للشيوخ وفتاواهم، كون وشومها غير بادية للعيان؛ فلا يستطيع أحد مساءلة الفتاة أو المرأة. أي أن الأمر الآن يتعدى تلك العادات القديمة المرتبطة بتقاليد وأفكار متوارثة لمصلحة الإغواء والأمور الحسية؛ وبالتالي لا يتطلب هذا تشريعاً أو تحليلاً. فمن تشم فراشة على صدرها، كمن تضع حلقة في سُرّتها، لا تكترث لما يقوله إمام جامع الحي».
عيون في ظهري
منذ أكثر من نصف قرن والعرب تتزين بالوشم، مع أن اسمه لم يكن وشماً آنذاك، كما يخبرنا الشاعر لؤي ماجد سلمان ويضيف: «كان يطلق على الوشم تسمية (دقة) المقتبسة من فعل (دقَّ)، وكانت تستخدم الإبرة ويتم صناعة الوشم على اليد أو الوجه ارتجالياً من دون رسمة أو تحديد أبعاد، فقط وخز بالإبر حتى ينفر الدم من الجسد، ليبدأ تلوينه بواسطة مادة عالقة في أسفل أواني الطبخ أو ما يعرف بـ(الشحار) وكان للوشم العربي مواسم تتعلق بترحال (النوَر) فهم من كانوا يصنعون الوشم حين يزورون القرى، فيقومون أيضاً بتركيب أسنان الذهب والفضة بقصد الزينة».
لم يكن الوشم أمراً خاصاً بالزينة فقط بل كان وجوده يتعلق بعلاج بعض الأمراض، لا سيما العصبية، إذ كان وخز الإبر يساعد على تخدير العصب أو قتله، يتابع الشاعر سلمان ويضيف: «الجهل وقلة الحيلة كانت تعتبر الوشم علاجاً ناجعاً؛ مبتعدين في ذلك عن فضاء الرمز واسم الدلالة الذي يجعله الوشم أيقونة خطية عابرة للموت. يحضرني هنا الوشم الصغير الذي كان في أسفل ذقن محمد الماغوط، والوشم الموجود على معصم الشاعر بندر عبد الحميد».
مع توقف الوشم أو (الدقة) حوالي ثلاثة عقود من الزمن في القرى السورية، عاد بقوة بأشكال فنية ورسومات وألوان لم تكن متوفرة سابقاً، يعقب الشاعر السوري ويضيف: «اللون الوحيد الذي كان موجوداً سابقاً هو اللون الأسود الذي كان يظهر تحت البشرة أزرقَ فاتحاً يقارب لون الوريد، ولم يكن يتمتع بأي روح فنية أو دقة، بينما الوشم اليوم يضفي إغواءاته الفنية والجسدية، كأن تشاهد عصفوراً يقف على صدر، أو فراشة على كتف أو ساق، إضافة لوشوم فيها إيحاءات عالية على باقي أنحاء الجسد المخفية أو الأعضاء الحميمة؛ صديقتي أخبرتني أنها تعتبر الوشم علامة خاصة بها تميزها عن قريناتها (باركود) فلقد صرحت بأنها ترغب برسم وشم على هيئة (عين) على ظهرها، تشتهي أن يكون لها عيون من الخلف تشاهد الناس وتعرف ماذا تتكلم عنها حين تدير ظهرها، وأخرى نقشت إكليل شوك حول سرّتها؛ معتبرة أنها استطاعت التعبير عن شيء ديني بطريقة فنية وراقية يتقبله الجميع، وأقل مباشرة من الصليب أو السيف أو الرموز الدينية التي اعتبرتها تحمل في طياتها مظاهر الحقد والتطرف».
تبدو الكتابة عبر الوشم على الجسد العربي (لباساً مكتوباً)؛ وكتابة تخلخل مفهوم الامتلاك، فتلح على أن تكون مقروءة، ومحبوبة، ومشتهاة، ضمن حركتها الأكثر إثارة وغموضاً. رأي المفكر المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي في كتابه: (الاسم العربي الجريح - دار العودة - بيروت) تفتح اليوم أبواباً عديدة للنقاش في ظل إخراج بعض الفتاوى التي تحرّم الوشم على الجسد؛ مستعينةً بأدبياتها الماضوية.
الوشم في الثقافة العربية يبدو على أطراف النص؛ لكنه في الوقت ذاته استمرار لهذه السلالة من العلامات والرموز التي تختص بها هذه المنطقة أو تلك؛ فالوشم كعلامة ورمز غير مرسوم بيد رسام - يقول الفنان التشكيلي أكسم طلاع ـ ويضيف: الوشم هو مرسوم من قبل شخص صانع للتعاويذ؛ إذ يبدو أن هؤلاء الناس الذين ينتمون إلى المجتمع الرعوي كانت لديهم مخاوف لم يتغلبوا عليها إلا بالوشم؛ ليس الموت فقط؛ بل من الغيب والجفاف والغزو؛ فهذه العلامات تحميهم من القدر القادم إليهم؛ وبالتالي المستقبل لديهم كان مفهوماً غائماً وغائباً؛ الخوف من القادم، فكل قادم كان مشكوكاً فيه في المجتمعات الرعوية الأولى؛ حيث كان يرافق هذه المجتمعات قصصاً وحكايا أزياء ووشوماً».
هذه الوشوم لم تكن موجودة على الجسد الإنساني وحسب - يعقب طلاع ـ مضيفاً: «بل كان الوشم على السلاح والمكان وعمود البيت وحتى على قطعان الماشية، فالمجتمعات البدوية كانت تخاف من اللون الأحمر في صناعة الوشوم، فهو لون الفرح الذي قد يجلب لهم كوارث، لذلك كانوا يفضلون الألوان الحيادية التي تبقيهم في أمان وسلامة كما يظنون، وأغلب الألوان التي كانوا يرتاحون لها كانت ألواناً ترابية؛ لهذا تشاهد بكثرة الوشم الأزرق على البشرة البيضاء؛ لكن أغلب الوجوه السمراء تلاحظ أن الوشم جزء من الوجه؛ فالوشم هنا لم يكن غريباً ولا طارئاً على هذا الوجه الذي يُدقُ عليه».
الوشم ليس تزيينياً؛ بل هو اسم الشخص؛ من دون أن يكون رسام هذا الوشم فناناً محترفاً؛ رسمٌ كان يستخدم فيه ثلاث إبر محماة على النار، تكوّن ما يشبه الطوطم أو هذه اللغة التي تعطيك رمزاً حركياً؛ فالوشم رمز مرئي وليس مسموعاً، يوضح طلاع، مضيفاً: «إذاً الوشم كان اسمك الحركي المرئي كي لا تنسى وكي تبقى بمنأى عما هو قادم، ويجعل منك ابن هذا المكان».
ذهنية تحريم الوشم اليوم يقرأها التشكيلي السوري - الفلسطيني في أعلى رموزها السيمولوجية التي تتعرض اليوم لنوع من القمع والتضييق فيتساءل: «من الذي يحرّم؟ من الذي يطلق نص التحريم؟ من هو؟ هل هو سياسي أم وصي؟ أم رجل دين أم نحن؟ ولماذا؟ انظر كل شيء ممنوع لنا غاية فيه، انظر إلى ثقافتنا نحن العرب أبناء الهوية والمكان؟ يبدو أن الآخرين يفضلونك ميتاً، وأن تكون بلا هوية وبلا خطيئة. الخطيئة التي ربما تكون هوية في بعض الأحيان؟ الآخر يحبك أن تكون على ما يناسبه؛ موضوع تحريم الوشم كونه اسماً لجسد هو موضوع استيلاء بشر على بشر، فنحن مجتمعات تطفو فوق بحر من الممنوعات، وفي الوقت ذاته تراها أنها ذات مظهر صوفي وباطن إيروتيكي، الوشم عنصر إيروتيكي خلاق وغير عادي؛ وليس رخيصا أو إباحيا؛ الوشم رمز له معنى عميق في الهوية، وهو عمل فني جسدي يمتد في جذوره من بداية الخليقة حتى الآن؛ حتى في منزلك أنت تعلّق نباتات يابسة، هذا عمل إيروتيكي، حتى الطعام وطريقة تذوقنا له هو فعل إيروتيكي، الوشم على الجسد هو ليس دحر رغبات لهذا الجسد، بالعكس هو تعزيز للجسد بلغة جديدة.
الجسد الممنوع
الجسد المسمّى هو جسد موشوم، وله سيمياؤه الخاصة به؛ ليس جسداً معنوياً بلا حضور مادي بل هو جسد فوق طبيعي وعابر للموت والأسئلة، جسد ملغّز، له لغة إيحاء ودائماً لغة الإيحاء هي اللغة الأعلى والأرقى، ومجتمعات الفنون والآداب والثقافة لغتها هي لغة إيحاء قبل كل شيء، وليست لغة مباشرة.
الوشم ليس لغة صورة أو أيقونة بالمعنى الأوروبي ولا هو لغة إيقاع كما هو في البلاد الأفريقية، بل هو لغة علامة تنتشر في آسيا والهند والصين كما تنتشر في العالم العربي الذي احتفى بالخط والحرف والطوطم والرمز وعبّر عنه عبر فنانيه الأميين الأوائل من خلال علاماتٍ على الجسد.
بهذا المعنى يصير الوشم لغة دلالة مثله مثل علامات الترقيم في النص المكتوب، لغة لوحتها الجسد ولونها كدمات زرقاء في الجلد؛ فما يميز الإنسان العربي والشرقي عموماً هو هذا الوشم الذي تحرّمه اليوم نصوص دينية بحجج طبية وصحية وما إلى ذلك من الحجج الرثة؛ فكل فئة من البشر لها ما يميزها عن سواها؛ من دون أن يفصلها أو يعزلها؛ بل هو يطلق بعداً سحرياً للجسد الموشوم.
برأي التشكيلي (طلاع) أن «يترك أصحاب الفتاوى تحريم الوشم وليحرّموا أشياء أخرى مثل الجهل والتخلف والتطرف والقتل؛ فإذا كان الوشم يؤثر على صحة الإنسان وينقل له الأمراض، فجدتي التي كانت مليئة بالوشوم لم تمرض يوماً، بل عاشت أكثر من مئة عام وهي في منتهى الحكمة؛ ولم تعانِ من ألم يذكر، حتى أنها لم تأخذ حبة أسبرين في حياتها، أذكر أنها كانت تكتفي إذا داهمها صداع بربط قليل من وريقات النعناع الأخضر في منديل الرأس».
التعديل الجاري اليوم على الوجه الإنساني سواء في شكل الأنف أو الوجنتين والخدود؛ هو ابتعاد كلي عن معنى الوجه كظاهرة نحتية في الفضاء؛ فما يميز الكائن الإنساني هو العلامات التي خلقها الزمن في وجهه وحفرها بأناة متناهية؛ الآن يبدو أن هذا الاجتياح على صعيد تغيير الوجه وتشويهه بإبر السيليكون وسواها جعل من الجميع رملاً متشابهاً، يشرح أكسم طلاع ويضيف: «حالة الرمل هذه جعلت من وجوه الجميع سواداً بهيمياً؛ فلم يعد هناك اختلاف قطيعي حتى في الشكل؛ وبالتالي أصبحنا أمام ثقافة التشيؤ؛ فلا قيمة لوجه أو جسد في هذا السياق من ملايين المتشابهين والمتشابهات، انظر على التلفزيون وسترى أي وجه اليوم حصلنا عليه؟ هذا الوجه الموديل هو دلالة على مجتمعات تسلخ جلودها؛ تغير ذاتها؛ وتغيير الذات سيفقد البوصلة، هذا الغزو بأدواته الجديدة في التطرف والعسكرة من فوضى خلاّقة وسواها غايتها هي تغيير الذات، بل تحطيمها ومحوها».
في الفن التشكيلي العربي استمر الوشم كعلامة؛ فلا تزال روحية الوشم موجودة عند بعض الفنانين الذين ينحون منحىً المكان، بمعناه الذهني الثقافي الروحي، فليس الوشم هو ذاك الأثر الذي تفعله في جسدك أو وجهك متقصداً إياه؛ الوشم أن تكون أنت كفنان بمثابة الزمن الذي يرسم على وجه هذه العلامة، يضيف طلاع: «بعض الأعمال التشكيلية السورية لا تجد فيها عنصر الزمن طازجاً وراهناً؛ على عكس الوشم الذي يأتي كدلالة على زمن، فاللوحة - الوشم هي لوحة مرت بعدة أجواء وتراكمات وعدة تألقات للفنان، حتى وصل إلى مزاولة عملية وشوم مستمرة؛ ليست مساحة صغيرة أو كبيرة وليست قطعاً أو لوناً».
أكثر الفنانين الرواة للوشوم كان الراحل محمد الوهيبي؛ فهو كما كان يعرف عنه كان شخصاً يعيش في وشم، يبدع طواطم لكل يوم وكل صديق. هذه العلاقة وهذا التفكير هي لشخص كان جزءاً من وشم؛ فثقافة الوشم تكون دائماً عند شخص يملك من الخيال والبصيرة والحكاية الطويلة الممتدة إلى أجيال كثيرة عاشت وماتت تاركةً لنا وشومها؛ فلغة الوشم أبعد في الزمان، لكنها في الوقت ذاته تتحقق بأدوات بسيطة للغاية ومحببة.
أوشام في لوحات
الرموز والنقوش الشعبية نجدها في أعمال الفنان الفلسطيني عبد الحي مسلّم؛ حيث نجد احتفالية بالوشم؛ لكن بأشكال بدائية وألوان بسيطة (أخضر - أحمر) ومن السوريين كان هناك فنانو البادية وأبرزهم جليدان الجاسم الفنان الذي كان يميل إلى حالة الخيمة والبداوة عبر وشم المثلث في الهلال.
لقد صمت الإسلام عن موضوع الوشم، ولكنّ حديثاً ضمنياً يقول «لُعنت الواشمة والمستوشمة»، فأصبح الوشم بمرتبة الرِّبا، لأنّ تبديل كتابة مقدّسة بكتابة بالنقط يكاد يعصف بالتراتب الإلهي للأدلّة كما يقول الكاتب المغربي عبد الكبير الخطيبي في كتابه (الاسم العربي الجريح) مضيفاً: «إنه التراتب الذي أمرت به الكتابة التي ترجع إلى قضاء إلهي، إلى حديث متعالٍ. إنّ على القراءة غير الدينية للجسم أن تخضع إذاً، أثناء تداول الأنظمة والأحاديث، إلى القانون الحمدلي، الذي له وحده القدرة على حجب الحرف المخطوف والجسم المختلّ».
إنّ الوشم كشهادةٍ على كتابة هي الآن كتابة مندثرة يثبت حضورها، بحسب تخطيط شبه جامد، يقول الكاتب التونسي شريف مبروكي مستشهداً بكلام (الخطيبي) ويضيف: «في مفارقة طال نسيانها واشتد اختصارها، مكّن النظر إلى الوشم كمجرّد تأمّل تزييني في الموت؛ فالميّت الذي وشم، هو بالفعل مكتوب بطريقة مزدوجة، بالوشم وشاهدة القبر. إنّه جسم مزيّن من خلال الموت؛ فالجسم الموشوم يستمرّ في التجلّي خلال الموت كأنّ الوشم قد سرق شاهدة القبر؛ ولا يزال الجسم العربي رهينة اللاهوت وحبيس النصّ الفقهي».
نصوص الجسد
الفنانة (إيفا إسماعيل) تقول إن الوشم رتب علاقتها بجسدها؛ فالجسد كما تراه التشكيلية السورية هو «فارغ وبلا معنى في غياب الوشم، ممتد ومتطاول؛ فمنذ عرفت الوشم؛ عرفتُ معه أن الجسد يمتثل أن يكون لوحتي الخاصة بي؛ حتى في تلك اللحظات الحالمة أمام مرآة أو رجل؛ لا بد من وشم يتجاوزني، كما يتجاوز الجسد معناه، الجسد هنا كروح وليس كما فصله الدين إلى (روح وجسد) مبقياً على الجسم في أدبياته كمقر للطهارة والنجاسة، الوشم قادر على مساعدتي بأن ألبس جسدي مرات عديدة، من دون أن يضايقني حياده عني، أو استخدامه كأداة لوظائفي البيولوجية اليومية؛ الجسد الموشوم يمكن ارتداؤه وملاحظته متمايزاً عن سواه؛ هكذا أعرف أنني امرأة تتجاوز عبر الوشم كل ماله علاقة بالشيء، فالجسد ليس شيئاً؛ في هذه الحالة فلتصمت الفتاوى، ونصوص التحريم؛ فنصوص جسدي لا يمكن لي أن أمحوها بهذه البساطة، ولا أن أودعها غسالة المحرّم؛ فجسدي مع الوشم أعتبره امتداداً لنساءٍ أخريات؛ ربما أصيرهن عندما أفرغ مني، من يدري؟».
لا بد أن المفارقة عجيبة عندما نواصل الاحتكام إلى نصوص مضى عليها أكثر من ألف عام؛ بغية اتخاذ قراراتٍ تخص حياتنا اليومية في عصر التقدم العلمي والفكري والطبي والتكنولوجي الحالي، تعقب الشاعرة عبير سليمان وتضيف: «نحن في زمن الأقمار الصناعية والمركّبات الفضائية ورغم ذلك ما زال ينتظر الراغب بصوم رمضان هلالاً يراه بالعين المجردة، كما أننا في الوقت الذي نستطيع فيه استشارة طبيب جلدي متخصص، نجد البعض مصرّين على التمسك بأحاديث مثبتة أو غير مثبتة، المهم أنّ أحد رجال الدين أراد إعادة إحيائها عبر فتوى جديدة من تلك الفتاوى الكثيرة التي صارت تمطر علينا من كل حدب وصوب؛ مستغلةً وجود أناس بسطاء قلوبهم مرتهنة للخوف؛ أكثر مما عقولهم منفتحة على التفكير والبحث والقراءة».
شخصياً لا تفضل الشاعرة السورية (سليمان) الوشم التزييني الذي تستخدم فيه الإبر ويحقن الجلد بأصبغة ملونة، إذ حدث أن أعجبني الوشم الدائم في حالاتٍ نادرة، كُتبت فيها جملة قصيرة أو كلمتين بخط عربي جميل على الذراع أو الكتف، أما عن الوشم المؤقت المرسوم بالحنة والدارج في عدد من البلاد العربية؛ حيث تنقش فيه زخرفات بديعة على الذراع أو القدم أو الساق، بين مناسبة وأخرى، فهذا فنٌّ أحبه؛ يروق للناظر ويعطي انطباعاً بأن مناسبة سعيدة كانت وراء تلك الزخرفة المبهجة، ولا أعتقد أن وشماً كهذا يخدش قدسية أي معتقد أو يؤذي أو يشوّه الجسد».
الإغواء والتحريم
أعرف الوشم الذي كانت النسوة في الأرياف والقرى يحملنه يقول الفنان بطرس المعري ويضيف: «كذلك الوشم ذو الرموز الدينية المسيحية التي كان البعض يزين به ساعده من الجانب الداخلي؛ في هاتين الحالتين أرى أن الوشم هو عادة اجتماعية أو دينية لا تدخل (الموضة) في انتشارها كالذي يحدث الآن. وإن كان البعض حالياً من جيل الشباب يلجأون إلى رموز دينية ومذهبية واضحة أصبحت من الموضة؛ فالوشم في أيامنا هذه أصبح جزءاً من (إكسسوارات) الزينة لدى الكثير من النساء، والشباب معاً، والوشم صار مرادفاً لعمليات التجميل البلاستيكية وكلاهما يتبع حالة الاهتمام بالجسد للظهور بالمظهر الجميل؛ وأيضاً كوسيلة للتواصل مع الجنس الآخر».
بدون شك إذا نظرنا إلى الأمكنة التي تشِم فيها النساء جسدها؛ نعرف لأية غاية قد وجدت، يبين الفنان بطرس المعري مضيفاً: «أما قضية التحريم أو التحليل فهي لا تعني شيئاً لأصحاب الوشم، فمن تضع وشماً لا يرى إلا من خلال خلع كثير من الثياب؛ لن تهتم للشيوخ وفتاواهم، كون وشومها غير بادية للعيان؛ فلا يستطيع أحد مساءلة الفتاة أو المرأة. أي أن الأمر الآن يتعدى تلك العادات القديمة المرتبطة بتقاليد وأفكار متوارثة لمصلحة الإغواء والأمور الحسية؛ وبالتالي لا يتطلب هذا تشريعاً أو تحليلاً. فمن تشم فراشة على صدرها، كمن تضع حلقة في سُرّتها، لا تكترث لما يقوله إمام جامع الحي».
عيون في ظهري
منذ أكثر من نصف قرن والعرب تتزين بالوشم، مع أن اسمه لم يكن وشماً آنذاك، كما يخبرنا الشاعر لؤي ماجد سلمان ويضيف: «كان يطلق على الوشم تسمية (دقة) المقتبسة من فعل (دقَّ)، وكانت تستخدم الإبرة ويتم صناعة الوشم على اليد أو الوجه ارتجالياً من دون رسمة أو تحديد أبعاد، فقط وخز بالإبر حتى ينفر الدم من الجسد، ليبدأ تلوينه بواسطة مادة عالقة في أسفل أواني الطبخ أو ما يعرف بـ(الشحار) وكان للوشم العربي مواسم تتعلق بترحال (النوَر) فهم من كانوا يصنعون الوشم حين يزورون القرى، فيقومون أيضاً بتركيب أسنان الذهب والفضة بقصد الزينة».
لم يكن الوشم أمراً خاصاً بالزينة فقط بل كان وجوده يتعلق بعلاج بعض الأمراض، لا سيما العصبية، إذ كان وخز الإبر يساعد على تخدير العصب أو قتله، يتابع الشاعر سلمان ويضيف: «الجهل وقلة الحيلة كانت تعتبر الوشم علاجاً ناجعاً؛ مبتعدين في ذلك عن فضاء الرمز واسم الدلالة الذي يجعله الوشم أيقونة خطية عابرة للموت. يحضرني هنا الوشم الصغير الذي كان في أسفل ذقن محمد الماغوط، والوشم الموجود على معصم الشاعر بندر عبد الحميد».
مع توقف الوشم أو (الدقة) حوالي ثلاثة عقود من الزمن في القرى السورية، عاد بقوة بأشكال فنية ورسومات وألوان لم تكن متوفرة سابقاً، يعقب الشاعر السوري ويضيف: «اللون الوحيد الذي كان موجوداً سابقاً هو اللون الأسود الذي كان يظهر تحت البشرة أزرقَ فاتحاً يقارب لون الوريد، ولم يكن يتمتع بأي روح فنية أو دقة، بينما الوشم اليوم يضفي إغواءاته الفنية والجسدية، كأن تشاهد عصفوراً يقف على صدر، أو فراشة على كتف أو ساق، إضافة لوشوم فيها إيحاءات عالية على باقي أنحاء الجسد المخفية أو الأعضاء الحميمة؛ صديقتي أخبرتني أنها تعتبر الوشم علامة خاصة بها تميزها عن قريناتها (باركود) فلقد صرحت بأنها ترغب برسم وشم على هيئة (عين) على ظهرها، تشتهي أن يكون لها عيون من الخلف تشاهد الناس وتعرف ماذا تتكلم عنها حين تدير ظهرها، وأخرى نقشت إكليل شوك حول سرّتها؛ معتبرة أنها استطاعت التعبير عن شيء ديني بطريقة فنية وراقية يتقبله الجميع، وأقل مباشرة من الصليب أو السيف أو الرموز الدينية التي اعتبرتها تحمل في طياتها مظاهر الحقد والتطرف».