تصاعدت منذ بديات القرن العشرين صيحات الرجوع إلى الماضي لاصطناع هويات وطنية افترض أصحابها أنها دائمة متواصلة نقية لا يشوبها كدر, وعليه فقد علت أصوات سريانية في الشام, وبابلية في العراق, وفرعونية في مصر, وما إلى ذلك ؛ ربما كان ذلك بدافع عاطفي مشوب بالانبهار بالماضي السحيق, وربما كان لعلة في أنفس يعاقبة خططوا لشكل محدد تكون عليه خارطة المنطقة غير مكتفين بتفتيتها إداريا وإنما كرسوا لفصمها عن بعضها بالكلية ومن جذور الجذور.
في الحقيقة فإن المجتمعات البشرية كلها تحتفظ -و لا ريب- بمورثات من تقاليد وعادات وأفكار تمتد قدما حتى العصر الحجري و ماقبله, ومن الطبيعي أن تتبقى بعض التأثيرات السريانية أو البابلية أو المصرية بشكل غائم سارية في روح المجتمعات كبعض المفردات العامية وطقوس الأفراح والمآتم وبعض الأعياد الشعبية خاصة التي ترتبط بالفصول كعيد النيروز في العراق وشم النسيم في مصر وغيرها من موروثات نعتز بعراقتها, ولكننا لا بد أن نعي في هذا السياق نقاطا بالغة الأهميةمنها
أولا .. إن معرفتنا بتواريخ حضارات المنطقة حديثة جدا بدأت مع استكشافات الأوروبيين حديثا في القرن التاسع عشر أما قبل ذلك فكان تاريخ مصر القديمة مثلا غارقا فى الاساطير والحكايات يكاد لا يعرف منه المصري الحديث الا ما ورد في العهد القديم من ذكر, بينما بدت الكتابة المسمارية كما لو كانت نقوشا لا معنى لها .
ثانيا .. اندثار اللغة المصرية القديمة منذ قرون طويلةعمق القطيعة بين المصري الحديث وبين الحضارة العظيمة القديمة التي انتهت منذ عهد بعيد.
ثالثا .. كما اي دولة قوية وحضارة متحققة تؤول في نهايتها الى الضعف وفي حالة مصر القديمة؛ لو استمرت الدولة نفسها ضعيفة أو حتى انقسمت إلى دويلاتلكان من الممكن أن تترك أثرا أكبر في أجيال المصريين اللاحقة؛ لكن ما حدث كان خلاف ذلك .
لقد ترافق غروب شمس الحضارة المصرية القديمة مع حلول حضارات بديلة محلها آشورية وفارسية ثم كان الاستيطان اليوناني بعد فتح الاسكندر عام 332 قبل الميلاد فاتحة انقلاب كامل في نسيج الشعب وطبيعة حضارته حيث تأسست سلالة بطليموس الحاكمة التي استمرت حوالي ثلاثة قرون, ونحن إذ نشير لمحورية الوجود اليوناني وأهميته بالنسبة لما سبقه فإن ذلك يعود لتأثيره في تغيير اللغة المصرية القديمة بدرجة أو باخري, و بحلول اللغة اليونانية كلغة رسمية للبلاد, كما أن العهد اليوناني شهد طروء تغييرات على طبيعة الديانات المصرية القديمة نفسها فتهلينت آلهة مصرية, وتمصرت آلهة يونانية, وحدث مزج لآلهة آخرى فضلا عن تغير الأنماط المعمارية والفنية والثقافية وغير ذلك .
رابعا .. مع هزيمة الأسطول البطلمي أمام الرومان عام 31 م دخل الرومان مصر وضموها إلى امبراطوريتهم كبداية لعهد طويل سيصل إلى ستمائة عام , اكتمل فيها تبدد الديانات المصرية القديمة –مثلها مثل باقي ديانات العالم القديم- وظل الفضاء الثقافي في عموم الولايات الرومانية يونانيا من حيث الفكر والفن تأثيراتهما بالإضافة إلى مؤثرات القوانين والتنظيمات الرومانية القوية , ومع بزوغ المسيحية بدأت تجد لها في مصر أفقا مناسبا ربما لملء الفراغ الذي تركته الديانات القديمة المتآكلة, ولا يغيب عنا أن المسيحية هي بنت الفضاء الثقافي الهلينستي من وجوه عده ليس مقام رصدها الآن.
خامسا .. مع الفتح العربي لمصر في القرن السابع الميلادي تدفقت هجرات القبائل العربية بكثرة للاستيطان؛ وخاصة في مناطق شرق النيل , وهي المناطق التي كان فيها بالفعل وجود عربي ذكره هيرودوت في تاريخه حيث اعتبر شرق النيل محلا لسكنى العرب و هو ما يتوافق مع الامتداد التاريخي المرصود قبيل الاسلام لامتداد قبائل لخم وجذام في جنوبي الشام وسيناء وشرق الدلتا؛ لكن مع تحول السلطة في مصر من رومانية إلى عربية تضاعفت الهجرات وحركة الاستيطان, وشرعت مصر في تغيير دينها ولغتها مجددا.
سادسا .. مع الفتح الفاطمي لمصر تدفقت قبائل الأمازيج الكبرى كصنهاجة وكتامة إلى مصر للاستيطان ذلك لأنها كان الدعامة الأساسية للدولة الفاطمية وقت بزوغها فى إفريقية, وسكنت معظمها القاهرة (المدينة التي بناها الفاطميون) وكذلك غرب الدلتا وامتد وجودهم إلى الصعيد.
سابعا .. مع سقوط الدولة الفاطمية على يد الأيوبيين تضاعف أعداد المماليك المستجلبين من أواسط اسيا, و تكرس تقليد الاعتماد عليهم كقوات محاربة؛ الأمر الذي تفاقم حتى سيطر هؤلاء المماليك أنفسهم على مقاليد الحكم في البلاد منذ عام 1250 ميلادية, وغني عن الذكر أنهم لم يخرجوا من البلاد بعد ذلك لأنهم كانو عبيدا مستجلبين, و تكاثروا في مصر فصارت أجيالهم التالية مصرية بطبيعة الحال, ورغم أنهم حكموا البلاد قرابة ثلاثة قرون حتى مجىء العثمانيين 1517 م إلا أنهم ظلو فى مناصب السلطة و الإدارة تحت وجود عثماني رمزي يتمثل في الوالي وحامية القلعة .
ثامنا .. تغيرت اللغة بعد دخول العرب بقرون إلى العربية , وتغيرت ديانة أغلب الشعب , ودخلت فى معينه الجيني نسب معتبرة من المماليك ( أصولهم تركية وبعضهم فارسية) و الأمازيج فضلا عن يونان الأمس وعرب اليوم .
مع تغير اللغة (مرتين) والديانة (مرتين) وتعاقب الهجرات الكبيرة من شعوب لها ثقافاتها الخاصة , انقطعت تقريبا العلاقة مع التراث المصري القديم والذي صرنا لا نتعرف عليه إلا من قراءتنا للمستكشفين والباحثين , ولذلك نجد مصر مثلا هي واحة تلاوة القرآن العربي المبين , ومجلى العمارة التركية والفارسية في مساجدها الكبيرة , كما نجد أبطالها الشعبيين عنترة , و أبا زيد الهلالي من نجد, وسيف بن ذي يزن من اليمن؛ بل والظاهر بيبرس السلطان المملوكي الذي تعود أصوله إلى جورجيا .
نرى في هذا التنوع ثراء باذخا , ونرى فيه تجميعا لا تفريقا , فتمازج الأعراق واختلاط الثقافات سنة التاريخ الجارية على كل الشعوب والعبرة كل العبرة في قدرة الشعوب على الاستيعاب والهضم وإعادة الإنتاج, وليس كمثل الشعب المصري العظيم وأرض مصر الخالدة الجامعة خزان ثقافي بالغ الرحابة بالغ الحيوية في آن .
أحمد الزلوعي
في الحقيقة فإن المجتمعات البشرية كلها تحتفظ -و لا ريب- بمورثات من تقاليد وعادات وأفكار تمتد قدما حتى العصر الحجري و ماقبله, ومن الطبيعي أن تتبقى بعض التأثيرات السريانية أو البابلية أو المصرية بشكل غائم سارية في روح المجتمعات كبعض المفردات العامية وطقوس الأفراح والمآتم وبعض الأعياد الشعبية خاصة التي ترتبط بالفصول كعيد النيروز في العراق وشم النسيم في مصر وغيرها من موروثات نعتز بعراقتها, ولكننا لا بد أن نعي في هذا السياق نقاطا بالغة الأهميةمنها
أولا .. إن معرفتنا بتواريخ حضارات المنطقة حديثة جدا بدأت مع استكشافات الأوروبيين حديثا في القرن التاسع عشر أما قبل ذلك فكان تاريخ مصر القديمة مثلا غارقا فى الاساطير والحكايات يكاد لا يعرف منه المصري الحديث الا ما ورد في العهد القديم من ذكر, بينما بدت الكتابة المسمارية كما لو كانت نقوشا لا معنى لها .
ثانيا .. اندثار اللغة المصرية القديمة منذ قرون طويلةعمق القطيعة بين المصري الحديث وبين الحضارة العظيمة القديمة التي انتهت منذ عهد بعيد.
ثالثا .. كما اي دولة قوية وحضارة متحققة تؤول في نهايتها الى الضعف وفي حالة مصر القديمة؛ لو استمرت الدولة نفسها ضعيفة أو حتى انقسمت إلى دويلاتلكان من الممكن أن تترك أثرا أكبر في أجيال المصريين اللاحقة؛ لكن ما حدث كان خلاف ذلك .
لقد ترافق غروب شمس الحضارة المصرية القديمة مع حلول حضارات بديلة محلها آشورية وفارسية ثم كان الاستيطان اليوناني بعد فتح الاسكندر عام 332 قبل الميلاد فاتحة انقلاب كامل في نسيج الشعب وطبيعة حضارته حيث تأسست سلالة بطليموس الحاكمة التي استمرت حوالي ثلاثة قرون, ونحن إذ نشير لمحورية الوجود اليوناني وأهميته بالنسبة لما سبقه فإن ذلك يعود لتأثيره في تغيير اللغة المصرية القديمة بدرجة أو باخري, و بحلول اللغة اليونانية كلغة رسمية للبلاد, كما أن العهد اليوناني شهد طروء تغييرات على طبيعة الديانات المصرية القديمة نفسها فتهلينت آلهة مصرية, وتمصرت آلهة يونانية, وحدث مزج لآلهة آخرى فضلا عن تغير الأنماط المعمارية والفنية والثقافية وغير ذلك .
رابعا .. مع هزيمة الأسطول البطلمي أمام الرومان عام 31 م دخل الرومان مصر وضموها إلى امبراطوريتهم كبداية لعهد طويل سيصل إلى ستمائة عام , اكتمل فيها تبدد الديانات المصرية القديمة –مثلها مثل باقي ديانات العالم القديم- وظل الفضاء الثقافي في عموم الولايات الرومانية يونانيا من حيث الفكر والفن تأثيراتهما بالإضافة إلى مؤثرات القوانين والتنظيمات الرومانية القوية , ومع بزوغ المسيحية بدأت تجد لها في مصر أفقا مناسبا ربما لملء الفراغ الذي تركته الديانات القديمة المتآكلة, ولا يغيب عنا أن المسيحية هي بنت الفضاء الثقافي الهلينستي من وجوه عده ليس مقام رصدها الآن.
خامسا .. مع الفتح العربي لمصر في القرن السابع الميلادي تدفقت هجرات القبائل العربية بكثرة للاستيطان؛ وخاصة في مناطق شرق النيل , وهي المناطق التي كان فيها بالفعل وجود عربي ذكره هيرودوت في تاريخه حيث اعتبر شرق النيل محلا لسكنى العرب و هو ما يتوافق مع الامتداد التاريخي المرصود قبيل الاسلام لامتداد قبائل لخم وجذام في جنوبي الشام وسيناء وشرق الدلتا؛ لكن مع تحول السلطة في مصر من رومانية إلى عربية تضاعفت الهجرات وحركة الاستيطان, وشرعت مصر في تغيير دينها ولغتها مجددا.
سادسا .. مع الفتح الفاطمي لمصر تدفقت قبائل الأمازيج الكبرى كصنهاجة وكتامة إلى مصر للاستيطان ذلك لأنها كان الدعامة الأساسية للدولة الفاطمية وقت بزوغها فى إفريقية, وسكنت معظمها القاهرة (المدينة التي بناها الفاطميون) وكذلك غرب الدلتا وامتد وجودهم إلى الصعيد.
سابعا .. مع سقوط الدولة الفاطمية على يد الأيوبيين تضاعف أعداد المماليك المستجلبين من أواسط اسيا, و تكرس تقليد الاعتماد عليهم كقوات محاربة؛ الأمر الذي تفاقم حتى سيطر هؤلاء المماليك أنفسهم على مقاليد الحكم في البلاد منذ عام 1250 ميلادية, وغني عن الذكر أنهم لم يخرجوا من البلاد بعد ذلك لأنهم كانو عبيدا مستجلبين, و تكاثروا في مصر فصارت أجيالهم التالية مصرية بطبيعة الحال, ورغم أنهم حكموا البلاد قرابة ثلاثة قرون حتى مجىء العثمانيين 1517 م إلا أنهم ظلو فى مناصب السلطة و الإدارة تحت وجود عثماني رمزي يتمثل في الوالي وحامية القلعة .
ثامنا .. تغيرت اللغة بعد دخول العرب بقرون إلى العربية , وتغيرت ديانة أغلب الشعب , ودخلت فى معينه الجيني نسب معتبرة من المماليك ( أصولهم تركية وبعضهم فارسية) و الأمازيج فضلا عن يونان الأمس وعرب اليوم .
مع تغير اللغة (مرتين) والديانة (مرتين) وتعاقب الهجرات الكبيرة من شعوب لها ثقافاتها الخاصة , انقطعت تقريبا العلاقة مع التراث المصري القديم والذي صرنا لا نتعرف عليه إلا من قراءتنا للمستكشفين والباحثين , ولذلك نجد مصر مثلا هي واحة تلاوة القرآن العربي المبين , ومجلى العمارة التركية والفارسية في مساجدها الكبيرة , كما نجد أبطالها الشعبيين عنترة , و أبا زيد الهلالي من نجد, وسيف بن ذي يزن من اليمن؛ بل والظاهر بيبرس السلطان المملوكي الذي تعود أصوله إلى جورجيا .
نرى في هذا التنوع ثراء باذخا , ونرى فيه تجميعا لا تفريقا , فتمازج الأعراق واختلاط الثقافات سنة التاريخ الجارية على كل الشعوب والعبرة كل العبرة في قدرة الشعوب على الاستيعاب والهضم وإعادة الإنتاج, وليس كمثل الشعب المصري العظيم وأرض مصر الخالدة الجامعة خزان ثقافي بالغ الرحابة بالغ الحيوية في آن .
أحمد الزلوعي