الماضوية passéisme يمكن تلخيصُها في التَّشبُّث، المبالغ فيه، بالماضي، بعاداته وقِيَمِه.
قبل أن أدخلَ في صُلب الموضوع، أريد أن أقدِّمَ للقارىء بعضَ التَّوضيحات التي ستُمكِّنه من فهمِ ما سأكتبه في الفقرات الموالية.
كل تفسيرٍ وكل تأويلٍ للواقع réalité (ما أقصد بالواقع هو كل الأشياء، مادية أو معنوية، التي تُحيط بنا أو نصادفها في حياتنا اليومية) رهينان بالزمان والمكان اللذان يتحرَّك فيهما الشخصُ الذي يُفسِّر أو يُؤوِّل والذي هو الإنسانُ. هذا الأخيرُ يُعدُّ جزءٌ لا يتجزَّأ، مكاناً وزماناً، من الوسط الذي يعيش فيه. "مكاناً" تعني أن فِكرَ الذي يفسِّر ويُؤوِّل موجَّهٌ أو يتَّخذ مساراً معيَّناً بحُكم انتمائه للمجتمع. و"زماناُ" تعني أن الذي يُفسِّر ويُؤوِّل عبارة عن كائن تاريخي sujet socio-historique، بمعنى أنه يجرُّ وراءه، بصفتِه عنصر مفكِّرٌ، مَعِيشاً un vécu أو تاريخاً متموقِعاً اجتماعيا. السؤال المطروح هو الآتي : "هل الشخصُ الذي يحاول أن يعرفَ، أي الشخص الذي يُفسِّر ويُؤوِّل، يمكن أن يتركَ جانبا (أن يتخلَّصَ) من انتمائه للمجتمع ومن معيشِه التاريخي لحظةَ قيامه بالبحث عن المعرفة؟". وبعبارة أخرى، هل الشخصُ الذي يُفسِّر ويُؤوِّل له القدرة على وصف الواقع بموضوعيةٍ لا جِدالَ فيها؟ وإن استطاع أن يقومَ بهذا الوصف بموضوعيةٍ لا جِدالَ فيها، فهذا معناه أن تفسيرَه أو تأويلَه للواقع مطابقٌ جُملةً وتفصيلا أو مطابقٌ مائة بالمائة لهذا الواقع أو هو صورةٌ وفيَّةٌ لهذا الواقع. أو بوضوحٍ أكثر، الشخصُ الذي يفسِّر و يُؤوِّل لم يُقحِم ذاتيتَه sa subjectivité فيما قام به من تفسير وتأويل.
غير أن الدراسات والأبحاث التي تمَّت في مجالي الإبستيمولوجيا épistémologie وعلم النفس الاجتماعي psychologie sociale تفيدنا بأن إنتاجَ المعارف وحتى تلك التي تُنعثُ بالعِلمية لا يمكن أن لا تتأثَّرَ بذاتية الشخص الذي يُفسِّر ويُؤوِّل الواقع علما أن هذه الذاتية تشمل المُسلَّمات postulats، اعتقادات dogmes، معتقدات croyances، أحكام مسبقة préjugés… وهو ما عبَّر عنه ابن خلدون حين قال : "الإنسان ابن بيئته"، أي أن سلوكَه وإدراكَه للأشياء وتواصلَه مع الغير مستمدون من ثقافة وعادات وقيم الوسط الذي يعيش فيه.
انطلاقا من هذه الاعتبارات، وبالأخص، من استحالة تَخلُّص مَن يُفسِّر ويُؤوِّل من ذاتيتِه أثناء التَّعامل مع الواقع، لماذا الفكرُ السلفي المتطرِّف، رغم وجوده، قلباً وقالباً في الحاضر، يرفض تفسيرَ وتأويلَ هذا الحاضر كما هو، ويُفضِّل التَّعاملَ معه بالرجوع إلى الماضي؟ وبعبارة أخرى، لماذا هذا الفكرُ مُلتصقٌ بتفسيرات وتأويلات تعود إلى الماضي لتقديم وتوصيف واقعٍ متموقعٍ في الحاضر؟
في رأيي الشخصي، هناك جوابٌ لا محيدَ عنه لهذا السؤال : يوجد وراء الالتصاق بالماضي مشروعٌ مجتمعي يريد الفكرُ السَّلفي المتطرِّف فرضَه على الآخرين. مشروع مجتمعي تكون فيه السلطة للدين كما رآه وأدركه السلفُ من فقهاء وعلماء ورجال الدين... وهذا المشروع هو الذي يدفع الفكرَ السلفي المتطرِّف إلى تجاهل، أو بالأحرى، إلى نفيِ الإطار الاجتماعي الذي يوجد عليه الواقع في الزمان الحاضر. مشروع يتنافى كليا مع معطيات وحيثيات هذا الحاضر.
ولهذا، فالفكرُ السلفي المتطرِّف يضع نفسَه، عن قصدٍ، في وضعٍ انفصامي schizophrénique سِيمتُه الأساسية هي تواجُه واقعين في إطارين مختلفين بكيفية جذرية! وعليه، فالفكرُ السَّلفي المتطرف ليس فقط انفصاميا، بل إنه كذلك يسبح في بحرٍ من النِّفاق. لماذا؟ لأن الحاملين لهذا الفكر يعرفون، عن سابق علمٍ، أن نظرتَهم للماضي لا تتلاءم مع الواقع في الزمان الحاضر.
غير أن الفكرَ السَّلفي المتطرِّف يتمادى في جحوده لأن الأمرَ، بالنسبة له، لا يتعلَّق فقط بنظرةٍ، أو بالأحرى، بانشغالٍ فكري محظ، بل الأمرُ يتعلَّق بمشروعٍ مجتمعي تكون فيه السلطةُ للدين ويطمح إلى فرضِه على الآخرين. في هذا السِّياق، فإن هذا الفكرَ يقبل كل ما يتناقض مع واقع الحاضر : الانفصام schizophrénie، النفاق hypocrisie، الذاتية subjectivité، عدم الوضوح ambiguité، عدم الملاءمة incompatibilité، التَّناقص contradiction… شريطةَ أن تساعدَه هذه الازدواجية على تحقيق مشروعه المجتمعي. ولهذا، فلا تُزعجه هذه الازدواجية ما دامت وسيلة من وسائل تحقيق مشروعِه المجتمعي.
مشروع تكون فيه، كما سبق الذكرُ، السلطةُ للدين. بل إن الفكرَ السلفي المتطرِّف ذهب بعيدا بادِّعادئه أنه يستمد هذه السلطة من الله واللهُ لا حاجةَ له بمَن يحملون هذا الفكرَ ولا بغيرهم. لأن اللهَ يفعل ما يشاء، يفعل ما يريد، إنه جبَّارٌ، إنه قهارٌ، إنه يخلق ما يشاء، يُحِيط بكل شيء علما، يُحيِي ويُمِيت وهو على كل شيء قدير… فهل تمعَّن الفكرُ السلفي المتطرِّف في كلمة "شيء"؟ "الشيء"، لغويا، يعني كل ما هو موجود على الأرض سواءً كان ماديا أو معنويا. فهل مَن له هذه الصفات في حاجةٍ إلى تفويض غيرِه ليمارس السلطةَ نيابةً عنه؟ ألم يقُل سبحانه وتعالى : "…إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ" (العنكبوت، 6)، أي لا حاجةَ له بالناس ولا بأعمالهم. فلماذا الفكر السلفي المتطرف متشبٍّثٌ بمشروعه المجتمعي علما أن اللهَ غنِيٌّ عن عباده؟ الفكر السلفي المتطرف، في الحقيقة، يريد الوصولَ إلى السلطة قبل أن يريدَ الخيرَ للبلاد والعباد! والسلطة هي التي ستمكِّنه من فرض مشروعه على الغير، أي تطبيق أفكار وقيم وعادات ونظرات الماضي… دينيا واجتماعيا وثقافيا على الحاضر. الأمثلة، في هذا الصدد، كثيرة وعلى رأسها ما يحدث في أفغانستان.
ثم إن الدينَ جاء ليُعزِّزَ الإنسانية وينشرَ الخيرَ بين البشر ويهديهم إلى ما فيه صالِحُهم. الدين عبادة ويُسرٌ واختيارٌ بين الخير والشر وبين الخبيث والطيب وبين الحق والباطل وبين الظلم والعدل… الدينُ مِلكٌ لكل واحدٍ منا وليس لجماعة دون أخرى. إنه، أولا وقبل كل شيءٍ، وسيلة للتَّقرُّب من الله. فلا يجوز أن يصبحَ وسيلةً للوصول إلى السلطة. أن تكونَ، في مجال السياسة، أحزابٌ ذات مرجعية دينية، فهذا شأنٌ يهمُّها. لكن هذه المرجعية يجب أن تكونَ حافزا قويا للسَّيرِ بالبلدان من حسنٍ إلى أحسن عوضَ أن تكونَ سببا في استبدال الحاضر بالماضي والزَّجِّ بهذه البلدان في ظلمات الجهل والتَّخلُّف الفكري والاجتماعي.
قبل أن أدخلَ في صُلب الموضوع، أريد أن أقدِّمَ للقارىء بعضَ التَّوضيحات التي ستُمكِّنه من فهمِ ما سأكتبه في الفقرات الموالية.
كل تفسيرٍ وكل تأويلٍ للواقع réalité (ما أقصد بالواقع هو كل الأشياء، مادية أو معنوية، التي تُحيط بنا أو نصادفها في حياتنا اليومية) رهينان بالزمان والمكان اللذان يتحرَّك فيهما الشخصُ الذي يُفسِّر أو يُؤوِّل والذي هو الإنسانُ. هذا الأخيرُ يُعدُّ جزءٌ لا يتجزَّأ، مكاناً وزماناً، من الوسط الذي يعيش فيه. "مكاناً" تعني أن فِكرَ الذي يفسِّر ويُؤوِّل موجَّهٌ أو يتَّخذ مساراً معيَّناً بحُكم انتمائه للمجتمع. و"زماناُ" تعني أن الذي يُفسِّر ويُؤوِّل عبارة عن كائن تاريخي sujet socio-historique، بمعنى أنه يجرُّ وراءه، بصفتِه عنصر مفكِّرٌ، مَعِيشاً un vécu أو تاريخاً متموقِعاً اجتماعيا. السؤال المطروح هو الآتي : "هل الشخصُ الذي يحاول أن يعرفَ، أي الشخص الذي يُفسِّر ويُؤوِّل، يمكن أن يتركَ جانبا (أن يتخلَّصَ) من انتمائه للمجتمع ومن معيشِه التاريخي لحظةَ قيامه بالبحث عن المعرفة؟". وبعبارة أخرى، هل الشخصُ الذي يُفسِّر ويُؤوِّل له القدرة على وصف الواقع بموضوعيةٍ لا جِدالَ فيها؟ وإن استطاع أن يقومَ بهذا الوصف بموضوعيةٍ لا جِدالَ فيها، فهذا معناه أن تفسيرَه أو تأويلَه للواقع مطابقٌ جُملةً وتفصيلا أو مطابقٌ مائة بالمائة لهذا الواقع أو هو صورةٌ وفيَّةٌ لهذا الواقع. أو بوضوحٍ أكثر، الشخصُ الذي يفسِّر و يُؤوِّل لم يُقحِم ذاتيتَه sa subjectivité فيما قام به من تفسير وتأويل.
غير أن الدراسات والأبحاث التي تمَّت في مجالي الإبستيمولوجيا épistémologie وعلم النفس الاجتماعي psychologie sociale تفيدنا بأن إنتاجَ المعارف وحتى تلك التي تُنعثُ بالعِلمية لا يمكن أن لا تتأثَّرَ بذاتية الشخص الذي يُفسِّر ويُؤوِّل الواقع علما أن هذه الذاتية تشمل المُسلَّمات postulats، اعتقادات dogmes، معتقدات croyances، أحكام مسبقة préjugés… وهو ما عبَّر عنه ابن خلدون حين قال : "الإنسان ابن بيئته"، أي أن سلوكَه وإدراكَه للأشياء وتواصلَه مع الغير مستمدون من ثقافة وعادات وقيم الوسط الذي يعيش فيه.
انطلاقا من هذه الاعتبارات، وبالأخص، من استحالة تَخلُّص مَن يُفسِّر ويُؤوِّل من ذاتيتِه أثناء التَّعامل مع الواقع، لماذا الفكرُ السلفي المتطرِّف، رغم وجوده، قلباً وقالباً في الحاضر، يرفض تفسيرَ وتأويلَ هذا الحاضر كما هو، ويُفضِّل التَّعاملَ معه بالرجوع إلى الماضي؟ وبعبارة أخرى، لماذا هذا الفكرُ مُلتصقٌ بتفسيرات وتأويلات تعود إلى الماضي لتقديم وتوصيف واقعٍ متموقعٍ في الحاضر؟
في رأيي الشخصي، هناك جوابٌ لا محيدَ عنه لهذا السؤال : يوجد وراء الالتصاق بالماضي مشروعٌ مجتمعي يريد الفكرُ السَّلفي المتطرِّف فرضَه على الآخرين. مشروع مجتمعي تكون فيه السلطة للدين كما رآه وأدركه السلفُ من فقهاء وعلماء ورجال الدين... وهذا المشروع هو الذي يدفع الفكرَ السلفي المتطرِّف إلى تجاهل، أو بالأحرى، إلى نفيِ الإطار الاجتماعي الذي يوجد عليه الواقع في الزمان الحاضر. مشروع يتنافى كليا مع معطيات وحيثيات هذا الحاضر.
ولهذا، فالفكرُ السلفي المتطرِّف يضع نفسَه، عن قصدٍ، في وضعٍ انفصامي schizophrénique سِيمتُه الأساسية هي تواجُه واقعين في إطارين مختلفين بكيفية جذرية! وعليه، فالفكرُ السَّلفي المتطرف ليس فقط انفصاميا، بل إنه كذلك يسبح في بحرٍ من النِّفاق. لماذا؟ لأن الحاملين لهذا الفكر يعرفون، عن سابق علمٍ، أن نظرتَهم للماضي لا تتلاءم مع الواقع في الزمان الحاضر.
غير أن الفكرَ السَّلفي المتطرِّف يتمادى في جحوده لأن الأمرَ، بالنسبة له، لا يتعلَّق فقط بنظرةٍ، أو بالأحرى، بانشغالٍ فكري محظ، بل الأمرُ يتعلَّق بمشروعٍ مجتمعي تكون فيه السلطةُ للدين ويطمح إلى فرضِه على الآخرين. في هذا السِّياق، فإن هذا الفكرَ يقبل كل ما يتناقض مع واقع الحاضر : الانفصام schizophrénie، النفاق hypocrisie، الذاتية subjectivité، عدم الوضوح ambiguité، عدم الملاءمة incompatibilité، التَّناقص contradiction… شريطةَ أن تساعدَه هذه الازدواجية على تحقيق مشروعه المجتمعي. ولهذا، فلا تُزعجه هذه الازدواجية ما دامت وسيلة من وسائل تحقيق مشروعِه المجتمعي.
مشروع تكون فيه، كما سبق الذكرُ، السلطةُ للدين. بل إن الفكرَ السلفي المتطرِّف ذهب بعيدا بادِّعادئه أنه يستمد هذه السلطة من الله واللهُ لا حاجةَ له بمَن يحملون هذا الفكرَ ولا بغيرهم. لأن اللهَ يفعل ما يشاء، يفعل ما يريد، إنه جبَّارٌ، إنه قهارٌ، إنه يخلق ما يشاء، يُحِيط بكل شيء علما، يُحيِي ويُمِيت وهو على كل شيء قدير… فهل تمعَّن الفكرُ السلفي المتطرِّف في كلمة "شيء"؟ "الشيء"، لغويا، يعني كل ما هو موجود على الأرض سواءً كان ماديا أو معنويا. فهل مَن له هذه الصفات في حاجةٍ إلى تفويض غيرِه ليمارس السلطةَ نيابةً عنه؟ ألم يقُل سبحانه وتعالى : "…إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ" (العنكبوت، 6)، أي لا حاجةَ له بالناس ولا بأعمالهم. فلماذا الفكر السلفي المتطرف متشبٍّثٌ بمشروعه المجتمعي علما أن اللهَ غنِيٌّ عن عباده؟ الفكر السلفي المتطرف، في الحقيقة، يريد الوصولَ إلى السلطة قبل أن يريدَ الخيرَ للبلاد والعباد! والسلطة هي التي ستمكِّنه من فرض مشروعه على الغير، أي تطبيق أفكار وقيم وعادات ونظرات الماضي… دينيا واجتماعيا وثقافيا على الحاضر. الأمثلة، في هذا الصدد، كثيرة وعلى رأسها ما يحدث في أفغانستان.
ثم إن الدينَ جاء ليُعزِّزَ الإنسانية وينشرَ الخيرَ بين البشر ويهديهم إلى ما فيه صالِحُهم. الدين عبادة ويُسرٌ واختيارٌ بين الخير والشر وبين الخبيث والطيب وبين الحق والباطل وبين الظلم والعدل… الدينُ مِلكٌ لكل واحدٍ منا وليس لجماعة دون أخرى. إنه، أولا وقبل كل شيءٍ، وسيلة للتَّقرُّب من الله. فلا يجوز أن يصبحَ وسيلةً للوصول إلى السلطة. أن تكونَ، في مجال السياسة، أحزابٌ ذات مرجعية دينية، فهذا شأنٌ يهمُّها. لكن هذه المرجعية يجب أن تكونَ حافزا قويا للسَّيرِ بالبلدان من حسنٍ إلى أحسن عوضَ أن تكونَ سببا في استبدال الحاضر بالماضي والزَّجِّ بهذه البلدان في ظلمات الجهل والتَّخلُّف الفكري والاجتماعي.