حسين عبروس - بيت الطفولة

البيت هو ذلك المكان الذي تولد فيه مشاعر الطفولة، تلك المشاعر التي تبعث فينا دفء اللحظات الجميلة، وتؤسس فينا حقيقة الوجود وسط الأسرة الصغيرة التي تتشكل من الاب والأم والإخوة والأخوات، والأسرة الكبيرة التي تتوسّع لتشمل الأصول والفروع، وتظلّ صورة البيت تتراءى لنا وسط تلك البيوت المحيطة بنا من كلّ جهة .إنّنا نحفـظ جيدا ملامـح المكان، وأصحـابه، ونحن ندرج خارج جدران ذلك البيت لتتسع الدائرة في الشوارع المؤدية الى الفسيح من المكان وسط تلك الأزقة والأحياء، والبساتين والحقول، ومهما حاولنا نسيان تلـك الأمكنه والوجوه التي ألفناها، كما لا يمكننا نسيان البيت الأول الذي ظلّلنا بالمحـبة وسط سرب من أسراب طيور كنا نراها الأهل والسند الوحيد في طفـولتنا، ولكن كلّ امتدّ بنا العمر نتذكر تلك الثقافة نتذكر تلك الثقافة المحليّة التي نهلنا منها داخل جدران البيت العتيق لتسلمنا إلى معارف ومفاهيم جديدة تؤسس فينا روح الإنسان المعاصر الذي يحلم بثقافة كونيّة، ويطمح إلى عوالم شتّى كبقـية كل أبناء العالم. من خلال ما تقدّمه الفضائيات، ووسائل التواصل الإجتماعي، ومن خلال ما تجود به علينا المدارس والمعاهد والمؤسسات الثقافية التي تنتشر في كل المدن. لكن للأسف لم يعد للبيت القديم من معنى عند جيل لم يعرف صورة للجد أو للجدة، ولم يحفظ لهما من الملامح غير ما رأته العين من تلك الصوّر التي علقت بالذاكرة، وقد يستثنى من هـذا الحكم كلّ الأطفال الذين ولدوا في حضن البيت القديم، البيت الذي تحكمه قواعد أسرية فروع من الأبناء والأحفاد. تلك صورة يحدّدها المكان، ويقرّ بوجودها الزمن في دفئها العائلي، رغم قسـاوة الطبيعة، وشدّة البرودة من صقيع وثلج. دفء معنوي يوقد حرارة النفوس في كل جانب، ويظلّ البيت القديم مركز الرعاية والحماية والأمن لكلّ الصغار من بنين وبنات، رغم أنه بيت من طوب، أو حجارة وسقفه من أخشاب وقرميد، أو قش وتراب. كلّ الأطفال يحلمون ببيت جديد فاخر العدّة والأثاث من أفرشة وأسرّة ولوازم حصارية، وطعام شهيّ لكنهم يظلون يحتفظون بتلك الصورة الرائعة للبيت القديم في بساطتها ودعـة صفائها، وينفرون من ضجيج المـدن الكـبرى، ومـن تعقيـدات الحـياة فيها، وهم طيّ الحنيـن الى الماضي بكل ما فـيه من محاسن ومساوئ، وبكلّ ما فيه من بساطة، فالطفل الذي يظل مدى العمر يشده الحنين إلى المكان، ويظل وفيّا لسكان ذلك المكان، ووفيّا لقيم ومبادئ ذلك المجتمع ،وهو يبدع أروع وأجمـل صورة لذلـك الوطـن الذي نسمـيه مجازا البيت القديم..

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
أماكن نسكنها.. وأمكنة تسكننا (شعرية المكان)
المشاهدات
486
آخر تحديث
أعلى