د. محمد عباس محمد عرابي - من الجوانب البلاغية في نونية البستي "عنوان الحكم "(1) (الإنشاء أنموذجا)

الشاعر أبو الفتح على بن محمد الكاتب البستي المتوفى في بخارى (ت 400 هـ) من أشهر أدباء القرن الرابع الهجري ولد بلدة ( بست ) في بلاد الأفغان (330هـ- 942هـ)، كان معلماً للصبيان في بلده ،له العديد من الأعمال الإبداعية الأدبية: شعرا ونثرا ،ومعظم شعره مقطعات أبياتها قليلة ،وأطول قصائده هذه القصيدة النونية التي ذاعت وانتشرت ويعرفها القاصي والداني ويحفظها الصغار والكبار وأهل الأدب ومحبوه وقد تضمن شعره الكثير من الحكم ،وله ديوان شعري مطبوع ،وله كتاب (شرح مختصر الجويني) في المذهب الشافعي ،وتميز نثره بالإبداع والتجنيس ،وله عدة أقوال حكيمة منها : من أطاع غضبه، أضاع أدبه، وفيما يلي نص قصيدة "عنوان الحكم " التي يقول فيها :
زيـادة الـمرء فـي دُنياه نقصانُ *** وربـحه غير محضِ الخير خسرانُ
أحـسن إلـى الناسِ تَستعبد قلوبهم *** فـطالما اسـتعبدَ الإنـسان إحسان
يـا خـادمَ الجسم كم تَسعى لخدمتَهِ *** أتـطلب الـربحَ مما فيه خسران ؟
أقـبل على النفس واستكمل فضائلها *** فـأنت بـالنفس لا بـالجسم إنسان
وكـن عـلى الدهر مِعواناً لذي أملٍ *** يـرجو نـداك فـإن الـحرّ مِعوان
واشـدد يـديك بـحبلِ الله معتصما *** فـإنه الـركن إن خـانتك أركـان
مـن يَـتّقِ الله يُـحمد فـي عواقبهِ *** ويـكفهِ شـرّ من عَزٌّوا ومن هانوا
مـن اسـتعانَ بـغير الله في طلبٍ *** فــإن نـاصرَه عَـجزٌ وخـذلان
مـن كـان لـلخير مَناعاً فليسَ له *** عـلـى الـحقيقة خـلان وأخـدان
مـن جـادَ بالمال جاد الناس قاطبة *** إلـيـه، والـمال للإنسان فـتّان
مَـن سـالم الناس يَسلم من غوائلهم *** وعـاشَ وهـو قرير العين حذلان
مـن يزرع الشرّ يحصد في عواقبه *** نـدامة، ولـحصدِ الـزّرع إبـان
مـن اسـتنامَ إلى الأشرار نام وفي *** رِدائــه مـنـهمُ صـلٌ وثـعبان
كـن ريّـق الـبشرِ إن الحرّ همته *** صـحيفةٌ وعـليها الـبشرُ عـنوان
ورافـق الـرّفق في كل الأمور فلم *** يـندم رفـيق ولـم يـذممه إنسان
ولا يـغـرّنك حـظ جـره خـرق فـالخُرق *** هـدمٌ ورفقُ المرء بنيان
أحـسن إذا كـان إمـكان ومـقدرة *** فـلن يـدومَ عـلى الإحسان إمكان
فـالروض يـزدان بالأنوار فاغمهِ *** والـحر بـالعدلِ والإحـسان يزدان
صـن حـر وجهك لا تهتك غلالته *** فـكل حـر لـحر الـوجه صوّان
دع الـتكاسل فـي الخيرات تطلبُها *** فـليس يـسعد بـالخيرات كـسلان
لا ظـلّ للمرء يعرى من نهى وتقى *** وإن أظـلـتـهُ أوراقٌ وأفــنـان
والـناس أعـوانُ مـن والتهُ دولته *** وهــم عـليه إذا عـادته أعـوان
(سحبانُ) من غير مال باقلُ حصر *** و(بـاقلٌ) فـي ثَـراءِ المال سحبان
لا تـودِع الـسر وشّـاء بـه مذلاً *** فـما رعـى غنماً في الدّو سرحان
لا تـستشير غـير ندبٍ، حازم *** يقظ قـد اسـتوى فـيه إسرار وإعلان
فـلـلتدابير فـرسان إذا ركـضوا *** فـيها أبـرٌّوا كـما للحرب فرسان
ولـلأمـور مـواقـيتٌ مُـقـدرةٌ *** وكــل أمـر لـه حـدٌ ومـيزان
فـلا تـكن عـجلاً في الأمر تطلبه *** فـليس يُـحمد قـبل النضج بحران
كـفى من العيش ما قد سدّ من عوز *** فـفـيه لـلـحُر قـنيان وغـنيان
وذو الـقناعةِ راض مـن مـعيشته *** وصاحبُ الحرص إن أثرى فغضبان
حـسب الـفتى عـقله خلاً يُعاشره *** إذا تـحـاماه إخــوان وخُــلاّن
إذا نَـبـا بـكـريمٍ, مـوطنٌ فـله *** وراءه فـي بـسيط الأرض أوطان
يـا ظـالماً فـرحاً بـالعزّ ساعده *** إن كـنت فـي سنةٍ, فالدهر يقظان
يـا أيـها الـعالم المرضيّ سيرته *** أبـشر فـأنت بـغير الـماء ريّان
ويا أخا الجهل لو أصبحت في لجج *** فـأنت مـا بـينها لا شـكّ ظمآن
لا تـحسبن سـروراً دائـماً أبـداً *** مـن سـرّه زمـنٌ سـاءته أزمان
وكـلّ كـسر فـإن الـدين يجبره *** ومـا لـكسر قـناةِ الـدين جبران
إذا جَفاكَ خليلٌ كنتَ تألفُهُ**فاطلُبْ سِواهُ فَكُلُّ النَّاسِ إخوانُ
وإن نّبَتْ بِكَ أوطانٌ نَشَأُتَ بها**فارحَلْ فكلُّ بِلادِ اللهِ أوطانُ
والصّداِقُ البرُّ في الدُّنيا مُسَيْلمَةٌ**والأحَمَقُ الغُرُّ في النَّعْماءِ لُقمانُ
فأكْيَسُ النّاسِ مَنْ في كيسِهِ كِسَرٌ**لا مَنْ يُمَدُّ له في الفَضلِ مَيْدانُ
النّاسُ هَضْبُ شِمامٍ حَيْثُ مَيْسَرَةٌ**لَكِنَّهُمْ حَيْثُ مالَ المالُ أإصانُ
كُنّا نرى إنّما الإحسانُ مَكْرُمَةٌ**فاليَوْمَ مَنْ لا يَضُرُّ النَّاسَ مِحْسانُ
خُذْها سوائِرَ أمثالٍ مُهَذَّبَةٍ**فيها لِمَنْ يَبْتَغي التِّبيانَ تِبيانُ
ما ضَرّ حَسّاَنها والطَّبعُ صائَغُها**إنْ يقُلْها قَريعُ الشَّعرِ حَسّانُ
وقفة مع القصيدة :
تعد قصيدة نونية البستي "عنوان الحكم من درر القصائد لما تضمنته من حكم ونصائح قيمة ،ولقد كانت القصيدة مجالًا خصبا للشراح من المتخصصين ومحبي الأدب حيث وجدنا عشرات الشروح لها ،وفيما يلي شرح موجز لها : (2)
يبين البستي أنه بمرور الأيام تنقضي الأعمار ،والذكي الأريب أن يحسن إلى الناس ،حيث يقول :
زيـادة الـمرء فـي دُنياه نقصانُ *** وربـحه غير محضِ الخير خسرانُ
أحـسن إلـى الناسِ تَستعبد قلوبهم *** فـطالما اسـتعبدَ الإنـسان إحسان
يـا خـادمَ الجسم كم تَسعى لخدمتَهِ *** أتـطلب الـربحَ مما فيه خسران ؟
يحث البستي على تهذيب النفس ،وأن يتحلى الإنسان بمكارم الأخلاق ،لأن الله (تعالى )ميز الإنسان عن جميع المخلوقات ،بمكارم الأخلاق ،وأن يستعين بالله في كل أموره حيث يقول :
أقـبل على النفس واستكمل فضائلها *** فـأنت بـالنفس لا بـالجسم إنسان
وعلى المرء أن يتعاون مع الناس ،وأن يعتصم بالله ويتقيه حيث يقول :
وكـن عـلى الدهر مِعواناً لذي أملٍ *** يـرجو نـداك فـإن الـحرّ مِعوان
واشـدد يـديك بـحبلِ الله معتصما *** فـإنه الـركن إن خـانتك أركـان
مـن يَـتّقِ الله يُـحمد فـي عواقبهِ *** ويـكفهِ شـرّ من عَزٌّوا ومن هانوا
مـن اسـتعانَ بـغير الله في طلبٍ, *** فــإن نـاصرَه عَـجزٌ وخـذلان
كما إنه على المرء ألا يمنع الخير عن الآخرين ،وأن يجود بماله على الناس ،وأن يسالمهم ،وفي ذلك يقول البستي :
مـن كـان لـلخير مَناعاً فليسَ له *** عـلـى الـحقيقة خـلان وأخـدان
مـن جـادَ بالمال جاد الناس قاطبة *** إلـيـه، والـمال للإنسان فـتّان
مَـن سـالم الناس يَسلم من غوائلهم *** وعـاشَ وهـو قرير العين حذلان
ويبين أن كل إنسان مجزي على عمله فالخسارة والندامة لمن يفعل الشر حيث يقول :
مـن يزرع الشرّ يحصد في عواقبه *** نـدامة، ولـحصدِ الـزّرع إبـان
مـن اسـتنامَ إلى الأشرار نام وفي *** رِدائــه مـنـهمُ صـلٌ وثـعبان
كـن ريّـق الـبشرِ إن الحرّ همته *** صـحيفةٌ وعـليها الـبشرُ عـنوان
ويحث على ضرورة التعامل برفق في كل الأمور، فمن يتعامل برفق لا يعاب ولا يهان:
ورافـق الـرّفق في كل الأمور فلم *** يـندم رفـيق ولـم يـذممه إنسان
ويحث على الإحسان لجميع الناس، ويضرب أمثلة على ذلك حيث يقول:
ولا يـغـرّنك حـظ جـره خـرق فـالخُرق *** هـدمٌ ورفقُ المرء بنيان
أحـسن إذا كـان إمـكان ومـقدرة *** فـلن يـدومَ عـلى الإحسان إمكان
فـالروض يـزدان بالأنوار فاغمهِ *** والـحر بـالعدلِ والإحـسان يزدان
ويحث كل إنسان أن يحفظ كرامته ،وينرك الكسل ،وأن يكون جوادا كريمًا حيث يقول :
صـن حـر وجهك لا تهتك غلالته *** فـكل حـر لـحر الـوجه صوّان
دع الـتكاسل فـي الخيرات تطلبُها *** فـليس يـسعد بـالخيرات كـسلان
لا ظـلّ للمرء يعرى من نهى وتقى *** وإن أظـلـتـهُ أوراقٌ وأفــنـان
والـناس أعـوانُ مـن والتهُ دولته *** وهــم عـليه إذا عـادته أعـوان
(سحبانُ) من غير مال باقلُ حصر *** و(بـاقلٌ) فـي ثَـراءِ المال سحبان
ثم ينصح البستي الإنسان بألا يودع سره أحدا، ولا يستشير غـير الأمناء الناصحين
لا تـودِع الـسر وشّـاء بـه مذلاً *** فـما رعـى غنماً في الدّو سرحان
لا تـستشير غـير ندبٍ، حازم *** يقظ قـد اسـتوى فـيه إسرار وإعلان
فـلـلتدابير فـرسان إذا ركـضوا *** فـيها أبـرٌّوا كـما للحرب فرسان
ويوصي بالتأني وعدم العجلة ،ويوصي بالقناعة حيث يقول :
ولـلأمـور مـواقـيتٌ مُـقـدرةٌ *** وكــل أمـر لـه حـدٌ ومـيزان
فـلا تـكن عـجلاً في الأمر تطلبه *** فـليس يُـحمد قـبل النضج بحران
كـفى من العيش ما قد سدّ من عوز *** فـفـيه لـلـحُر قـنيان وغـنيان
وذو الـقناعةِ راض مـن مـعيشته *** وصاحبُ الحرص إن أثرى فغضبان
وينصح الشباب بالنحلي بالعقل ،ويحذر من الظلم ،ويمدح ذوي العلم وينفر من الجهل حيث يقول :
حـسب الـفتى عـقله خلاً يُعاشره *** إذا تـحـاماه إخــوان وخُــلاّن
إذا نَـبـا بـكـريمٍ, مـوطنٌ فـله *** وراءه فـي بـسيط الأرض أوطان
يـا ظـالماً فـرحاً بـالعزّ ساعده *** إن كـنت فـي سنةٍ، فالدهر يقظان
يـا أيـها الـعالم المرضيّ سيرته *** أبـشر فـأنت بـغير الـماء ريّان
ويا أخا الجهل لو أصبحت في لجج *** فـأنت مـا بـينها لا شـكّ ظمآن
ويوضح أن الحياة ليست نعيما على الدوام ،فالسرور لا يبقى فالحياة أحداثها متقلبة ،لذا يجب عدم الغرور بالدنيا ،والصبر على الصعاب وما يسوء
لا تـحسبن سـروراً دائـماً أبـداً *** مـن سـرّه زمـنٌ سـاءته أزمان
وكـلّ كـسر فـإن الـدين يجبره *** ومـا لـكسر قـناةِ الـدين جبران
إذا جَفاكَ خليلٌ كنتَ تألفُهُ**فاطلُبْ سِواهُ فَكُلُّ النَّاسِ إخوانُ
وإن نّبَتْ بِكَ أوطانٌ نَشَأُتَ بها**فارحَلْ فكلُّ بِلادِ اللهِ أوطانُ
والصّداِقُ البرُّ في الدُّنيا مُسَيْلمَةٌ**والأحَمَقُ الغُرُّ في النَّعْماءِ لُقمانُ
فأكْيَسُ النّاسِ مَنْ في كيسِهِ كِسَرٌ**لا مَنْ يُمَدُّ له في الفَضلِ مَيْدانُ
النّاسُ هَضْبُ شِمامٍ حَيْثُ مَيْسَرَةٌ**لَكِنَّهُمْ حَيْثُ مالَ المالُ أإصانُ
كُنّا نرى إنّما الإحسانُ مَكْرُمَةٌ**فاليَوْمَ مَنْ لا يَضُرُّ النَّاسَ مِحْسانُ
خُذْها سوائِرَ أمثالٍ مُهَذَّبَةٍ**فيها لِمَنْ يَبْتَغي التِّبيانَ تِبيانُ
ما ضَرّ حَسّاَنها والطَّبعُ صائَغُها**إنْ يقُلْها قَريعُ الشَّعرِ حَسّانُ
من الجوانب البلاغية في نونية البستي "عنوان الحكم ":
نذكر منها على سبيل المثال ما يلي :
الإنشاء : أكثر الشاعر من الإنشاء في قصيدته ،ومن شواهد ذلك ما يلي :
الأمر :
في الغالب غرض الأمر :النصح والإرشاد، ولما كانت هذه القصيدة من شعر الحكم؛ لذا وجدنا ورود الأمر فيها بكثرة
أحسن إلى الناس : أسلوب أمر غرضه النصح للإحسان إلى الناس.
استعبد الإنسان إحسان : تعبير جميل شبه الإحسان بإنسان يتملك من يقدم إليه.
أقبل على النفس واستكمل فضائلها : أسلوب أمر غرضه حث الإنسان على استكمال فضائل نفسه.
دع التكاسل : أسلوب أمر غرضه النصح والحث على النشاط وترك الكسل.
اشدد يدك بحبل الله معتصماً : تعبير جميل شبه دين الله بالحبل الذي يجب على الإنسان التمسك به للنجاة ، وأيضاً هو أسلوب أمر غرضه الحث على التمسك بالإسلام.
النهي :
لا تـستشير غـير ندبٍ: أسلوب نهي غرضه التحذير .
لا تـحسبن سـروراً دائـماً أبـداً أسلوب نهي غرضه التحذير .
فـلا تـكن عـجلاً في الأمر تطلبه *** فـليس يُـحمد قـبل النضج بحران. أسلوب نهي غرضه التحذير من العجلة والتسرع في طلب الأمر .
ولا يـغـرّنك حـظ جـره خـرق فـالخُرق *** هـدمٌ ورفقُ المرء بنيان أسلوب نهي غرضه التحذيرمن الاغترار من الحظ الخرق .
النداء
يا خادم الجسم : أسلوب نداء غرضه التنبيه.
الاستفهام :
أتطلب الربح مما فيه خسران ؟ : أسلوب استفهام غرضه التعجب.
ومن الجوانب البلاغية الأخرى في القصيدة :
التضاد والترادف :
الربح / خسران : بينهما تضاد يوضح المعنى.
صفح /الغفران :ترادف يؤكد المعنى
يزرع / يحصد : بينها تضاد يوضح المعنى
سره /ساءته : بينها تضاد يوضح المعنى ،ويوضح ويبرز الفكرة .
التعابير الجميلة :
يزرع الشر : تعبير جميل شبه الشر بنبات نزرعه.
يحصد في عواقبه : تعبير جميل شبه العواقب (الندامة )بالنبات وقت حصاده.(المحصول ).
في قميصه منهم صل وثعبان: تعبير جميل شبه الأصحاب الأشرار بالثعابين السامة.
إن الحر معوان: أسلوب مؤكد بإن، وجاء معوان صيغة مبالغة للدلالة على كثرة العون والمساعدة للآخرين.
وخلاصة القول :لقد تميزت القصيدة بالحكم ،فكتب الله القبول والانتشار ،رحم الله البستي ،وأسكنه فسيح جناته آمين

(1)
(2)رجع الباحث إلى شرح أبو غدة (رحمه الله )في شرحه للقصيدة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى