د. أحمد الحطاب - ما قيمة التطوُّر التكنولوجي إذا كان يُلغي القيم؟

كل شيء يتطور إنْ سلبا أو إيجابا. و ما هو سلبي بالنسبة لجيل من الأجيال قد يُعَدُّ إيجابيا بالنسبة للجيل الذي يليه و العكس.
المجتمع يتغيَّر باستمرار و أهم تغيير طرأ عليه كونيا هو سهولة التواصل عبر التكنولوجيات الحديثة. وهذه الأخيرة غيّرت وجهَ المجتمعات. فهي كالميدالية لها وجه لامع و وجه خافت و غير مرئي.
الوجه اللامع سهَّل الحياة و قرَّب المسافات و لطَّف ما هو شاق و اختصر الزمان، الخ. أما الوجه غير المرئي (الخافت)، فأهم تأثيراتِه على المجتمع هو تهميشُه للقِيم الإنسانية التي هي آخذة باستمرار في التراجع لاغيةً إلى حد كبير التواصلَ الإنساني المباشر، الحميمي، الوَدود، الدافئ، العطوف و الظريف.
كل شيء، بفضل الذكاء الاصطناعي، يمكن القيامُ به عن بُعد أو توكيلُه لآلة أو حاسوبٍ لإنجازه. و في هذا الصدد، لا داعيَ للتذكير بالعدد الهائل و الخيالي للتَّطبيقات applications التي أصبحت تعتمد عليها الحياة بجميع تجلياتِها الاجتماعية، الاقتصادية، الإنتاحية، الفلاحية، الصناعية، الثقافية، الترفيهية، الفنية، الصحية...
و هنا تكمُن الطامة الكبرى. حتى صلة الرًّحِم دخلتْ في هذا الإطار إذ أصبحت هي الأخرى لاسلكية أو افتراضية. هل باستطاعة التكنولوجيات الحديثة تجسيدُ المشاعر و الأحاسيس كالحنان، الرحمة، الرأفة، المحبّة، المودة، اللُّطف، الرقة... في أشكالها العفوية، النابعة من حميمية اللقاءات؟ لا أبدا! ما يمكن تأكيدُه هو أن الإنسان (L’Homme avec un grand H) لا معنى له بدون إنسانيته.
و عندما نتحدَّث عن الإنسانية، لا يمكن فصلُها عن القيم الإنسانية علما أن هذه الأخيرة هي المُحرِّك الأساسي للتَّعايُش و التَّساكُن داخل المجتمعات. بل إن القيم الإنسانية تنظِّمُ العلاقات البشرية المبنية مثلا على الصداقة و الأُخُوة و التضامن و التسامح و الإحساس بالآخر، التفاهم، الاستقامة، احترام الغير، المساواة، الإنصاف...
فكيف للتكنولوجيا أن تُجسِّدَ هذه القيم و هي عبارة عن آلات و أساليب و خوارِزمِيات و ذكاء اصطناعي لا إحساسَ لها و لا يمكن أن تبكي و تفرح و تتألَّم مثلَ ما يفعلُه هذا الكائن الحي المدعو الإنسان؟ بل إن التكنولوجيا هي التي دفعت الإنسانَ للعيش في عصر لا يعترف إلا بالماديات، لكن الماديات الوحشية التي قد تُجمِّد الفكرَ و تحُطُّ من قيمة الثقافة. ماديات محصورة بكيفية ميكانيكية في الجري وراء المال، و في غالب الأحيان بطُرقٍ غير مشروعة، و بالتأكيد، على حساب القيم الإنسانية.
و هذا يعني أن التقدُّمَ التكنولوجي ليس مُقترنا حتما و دائما بسعادة الأفراد و الجماعات. بل إن هذا التقدُّمَ قد يقود إلى استهلاك غير مُعقلنٍ و مُفرطٍ. و هو الشيء الذي قد تكون له عواقبٌ سلبية على تردِّي أوساط عيش الإنسان.

أليس التقدم التكنولوجي هو الذي، فعلاً، يُسيء للعلاقات الأسرِية، بصفة خاصة، و الاجتماعية بصفة عامة؟ أليس التَّقدُّمُ التكنولوجي هو الذي تسبَّبَ و يتسبَّبُ في تغيُّر المناخ و ما له من انعكاسات بيئية و صحية على البشرية جمعاء؟ أليس التَّقدُّم التكنولوجي هو الذي يخلق البطالة أو يزيد من تفاقهما؟ أليس التقدُّم التِّكنولوجي هو الذي أدى إلى التلوث، إلى خراب بعض الأوساط الطبيعية، إلى تراجع التنوُّع البيولوجي...؟

فكلما زادت التكنولوجيا تقدُّما، كلما تجنَّدت لوبيات الإشهار و التجارة لدَفع الناس إلى إقتنائها و استهلاكِها من أجل الاستهلاك. و هذا يعني أن الماديات، المتمثلة في تراكُم مختلف أنواع التكنولوجيات، ستغزو حياةَ الناس علما أن العديد من هذه التكنولوجيات يُعتبَرُ رفاها luxe يمكن الاستغناء عنه بدون أدنى مشكل.

لقد أصبحنا نعيشُ في عالمٍ يسيِّره الاستهلاكُ و الاستهلاك المفرط بل، و كما سبق الذكرُ، الاستهلاك من أجل الاستهلاك. و ما زاد و يزيد في الطين بلَّةً هو أن هذا الاستهلاكَ أصبح منتشِراً بين فئاتٍ عريضةً من الناس بفضل تعميم تكنولوجيات التواصل و سهولة استعمالِها و على رأسها شبكات التواصل الاجتماعي.

إلى أن أصبح همُّ الكثير من الناس هو الحصول على أكبر قدرٍ من الماديات في غيابٍ تام و مقلقٍ للروحانيات. الروحانيات التي تسمو بالنفس البشرية إلى عالم النُّبل و الصفاء و مكارم الأخلاق.

بل إن الكثيرَ من الناس أصبحوا يتفاخرون ويتباهون بامتلاكِهم لهذه الماديات. و قد يصل الأمر، عند هؤلاء الناس، إلى ربط هذه الماديات بنوع من التَّحضُّر و التَّمدُّن إن لم نقل الحداثة. بينما التَّحضُّرُ و الحداثة لا معنى لهما في غياب القيم الإنسانية. التَّحضُّرُ و الحداثةُ فكرُ و سلوكٌ و نمَطُ عيش له مُحدِّداتُه النظرية، الفلسفية، الاجتماعية و الثقافية. و جعلُ التَّحضُّر مقترنا بالاستهلاك المُفرط يجرِّد الإنسانَ من إنسانيتِه و تطغى عليه الغريزةُ أكثر من العقل و يصبحُ مستلباً فكريا و ثقافيا.

و لا داغيَ للتذكير، في هذا الشأن، أن حياةَ البشر أصبحت، في عصرنا هذا، رهينةً إلى حدٍّ كبير باستعمال واسعٍ للعديد من أنواع التكنولوجيات. و بالطبع، هذا شيء جميل ما دامت هذه التكنولوجيات تنفع الناس و تقدِّمُ لهم خدماتٍ كانت في الماضي تتطلَّبُ انفاقَ جهدٍ كبيرٍ و وقتٍ طويل وأحيانا صرفَ مالٍ كثيرٍ.

غير أن هذه التكنولوجيات قد تصبح آفةً لا تُحمد عقباها إن لم يتحكَّم الإنسان، عقلانيةً و اجتماعياً، في مكانتها في حياتِه. و أن يميِّز بين ما هو ضروري منها وبين ما هو سطحي و يمكن الاستغناء عنه. كما يجب على الإنسان أن يعيَ أن بعض التكنولوجيات ضَررُها أكثر من نفعِها. و الضرر يمكن أن يكونَ ماديا و يمكن أن يكونَ معنويا و كلاهما يسيئان لحياة البشر.

و لعلَّ أكبر ضررٍ على المستوى المعنوي، هو أن يجدَ الإنسان نفسَه سجيناً لهذه التِّكنولوجيات، خصوصا، عندما تصبحُ هي التي تُفكِّرُ عوضاً عنه. و أكثر من هذا و ذاك، يجب على الإنسان أن يُدركَ أن سعادتَه لا تكمن حصرياً في إنتاجِ المزيد من التكنولوجيات. بل سعادتُه تكمن فيما ستُتيحُه هذه الأخيرة من تقويةٍ و انتشارٍ للقيم الإنسانية.

و في هذا الصدد، هناك تساؤلات عديدة تفرض نفسَها:

-فهل تنوُّعُ التكنولوجيات هو الذي سيضمن للناس راحة النفس؟

-فهل غزو التكنولوجيات للحياة البشرية هو الذي سيضمن العيشَ في أوساطٍ يسود فيها الأمان و الطمأنينة و السلام؟

-فهل وجود التكنولوجيات في جميع مناحي حياة الإنسان من شأنه أن يقضيَ، في الوقت الراهن، على الفقر و الهشاشة و الإقصاء و العنصرية...؟

-فهل انتشار التكنولوجيات بجميع أشكالِها سيضمن توريثَ القيم الإنسانية للأجيال المقبلة أم تناغُم و تناسُق التعايش و التساكن هما الضمانات لهذا التوريث؟

-فهل حضور التكنولوجيات في مجرى الحياة اليومية ستًعزِّزُ السٍِلمَ على المستوى العالمي و الحيلولة دون وقوع الحروب؟

-فهل تعميمُ التكنولوجيات في المجتمعات سيضمن التّمتُّعَ بالحريات الفردية أم أنها ستُستعملُ من طرف الحكومات و اللوبيات لبسط سيطرتِها على المواطنين و حرمانهم من حقوقهم المضمونة دستوريا، أخلاقيا و إنسانيا؟...

لا أظنُّ. لأنه، إلى حدِّ الآن، ما هو مؤكَّدٌ هو أن العديد من التكنولوجيات الحالية، هي مصدرُ قلقٍ و خوفٍ و توجُّسٍٍ و على رأسِها، تلك التي تسيء للبيئة و لصحة الإنسان و الكائنات الحية الأخرى، إضافةً إلى تلك المستعملة في الحروب، حروبٌ يمكن القيام بها عن بُعد.

و ما هو مؤكَّدٌ كذلك، هو أن العصرَ الحالي، عصر تكنولوجي بامتياز. عصرٌ جَرَفَ كلَّ القيم و كلَّ ما فيها من نُبل و سُموّ و روحانية…

يا له من زمان! زمان أصبح فيه الإنسان غير الإنسان! زمان أصبحَ خاليا من الإنسان رغم وجوده في كل مكان!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى