د. أحمد الحطاب - إِعْمار الأرض أساسه المعرفة

المعرفة، في الأصل، واحدة وموحَّدة حيث كانت وحدةُ هذه المعرفة عند القدماء واضحةً وضوح الشمس. كان هؤلاء القدماء علماءَ بما للكلمة من معنى بدْأً من الحضارات القديمة كالحضارة اليونانية و مرورا بالحضارة العربية الإسلامية...

كان العالِمُ يجمع بين عدَّة مجالات من المعرفة. فتجده، في آن واحد، طبيبا و فيلسوفا و عالمَ اجتماع و فيزيائيا و عالمَ فلك و عالم رياضيات...

في الحقيقة، العلوم متشابكة و مُتداخلة. الرياضيات لها علاقة بالفيزياء و الفيزياء لها علاقة بالكيمياء و البيولوجيا لها علاقة بالكيمياء و البيولوجيا لها علاقة بالأنثروبولوجيا و علم النفس و الطب و البيطرة، الخ.

و إذا رجعنا إلى القرآن الكريم، سنجد أن كلمةَ "عِلْمٍ" وردت فيه فقط على صيغة المفرد و لا يوجد فيه أثر لصيغة الجمع "علوم". و المقصود بالعلم هو العِلم الشامل الذي يتمكَّن الإنسان بواسطته من معرفة الكون بصفة عامَّة و من معرفة الأرض التي أوصى الله الإنسانَ أن يُعمِّرَها بصفةٍ خاصَّة. و لن يستطيعَ الإنسان أن يُعمِّرَها بدون معرفة، أي بدون علمٍ.

غير أن المعارف التي أنتجها الإنسان لإعمار الأرض إلى حدِّ الآن باتت مُستقلَّةً و منعزلة بعضها عن البعض الآخر و لم تَعُد تستجيب لمفهوم "العلم الشامل" science globale. بمعنى أن المحالات العلمية تمَّت إحاطتِها بحواجز تمنعها من الإطلالة و الاستفادة من المجالات الأخرى. و أخطر هذه الحواجز هي تلك التي وُضِعت بين ما يُسمَّى بالعلوم الدقيقة و العلوم الطبيعية، من جهة، و العلوم الإنسانية من جهةِ أخرى.

غير أن إعمارَ الأرض لا يمكن أن يتمَّ فقط من خلال ما أنتجته العلوم الدقيقة و العلوم الطبيعية من معارف. لأن إعمارَ الأرض هدفه الأساسي هو إسعاد البشر. و هذا يعني أن إعمارَ الأرض يجب أن لا يُلحقَ أضراراً لا بالأرض و لا بما عليها و ما فيها من مُكوِّنات حيّة و غير حيٌّة بما فيها الإنسان. فالإعمارُ له قواعده و يتطلَّبُ سلوكياتٍ و أخلاقياتٍ و قيماً معينة. فمِن أين ستأتي هذه القواعد و السلوكيات و الأخلاقيات و القيم؟ العلوم الإنسانية هي التي تُنتج المعارف التي لها علاقة بالإعمار المرغوب فيه. و هذا هو مثلا دور الفلسفة و الأنثروبولوجيا و علم الاجتماع و علم النفس و التاريخ و علوم الاقتصاد و التدبير و السياسة و البيئة و التربية، الخ.

إن إعمارَ الأرض المرغوبَ فيه يتطلَّبُ حتما تكاملَ المعارف بمعنى أن مجالا مُعيَّنا من المعرفة يجب أن ينفتحَ على المجالات الأخرى لينهلَ منها ما هو لائق لسيرورة حسنة لهذا الإعمار.

و بكل أسف، هذا الانفتاجُ يكاد يكون حاليا مُنعدما نظرا للتَّضخُّم الذي عرفته و تعرفه التخصُّصات. و لهذا، قد نجد في حياتًِنا اليومية أمهرَ و أكفأَ المهندسين و الأطباء و الفيزيائيين و علماء الفضاء و الصيدلانيين، الخ.، لكنهم، فيما يخصُّ انفتاحَهم على مجالات المعرفة الأخرى و خصوصا منها مجالات العلوم الإنسانية، يبقون سجناء تخصُّصاتهم لكون العلومَ الدقيقة علوم مجفَّفة من الأحاسيس و الوجدان و الروحانية التي بدونها قد يتجرَّد الإنسان من إنسانيته.

و خِتاما، قد لا أبالغ إذا قلتُ إن العلوم الإنسانية يجب دائما أن تسبقَ العلوم الدقيقة و الطبيعية لأنها تهُمُّ الإنسان و وجودَه على الأرض. و الإنسان هو المسئول الأول و الأخير عن إعمار الأرض، إعمارا يصون الأرضَ و ما تأويه و ما تحتويه من مُكوِّنات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى