د. أحمد الحطاب - هل هناك شيء يمنع غَيرَ المتديِّنِ أن يكونَ رحيما؟

ما دفعني أن أتطرَّقَ لهذا الموضوع هو ما قرأتُه وما أقرؤه، باستغرابٍ كبيرٍ، في مواقع التَّواصل الاجتماعي وما سمِعتُه وأسمعُه من حينٍ لآخر من بعض الأشخاص الذين يظنون، بل أحيانا، بعضُهم يجزمون أن الرَّحمةَ صفةٌ حصريةٌ للمتديِّنين. وما يثيرُ الدَّهشةَ، هو أن البعضَ يعتقد، اعتقادا راسخاً، أن الرحمةَ تنطبق فقط وحصريا على مَن هو مسلمٌ. وكأن الإنسانَ، إن لم يكن متديِّنا، يفقد إنسانيتَه!

في هذه المقالة، ما أقصده ب"مُتديِّن" هو الشخصُ الذي يدينُ بأحد الأديان السماوية التي أنزلها اللهُ على رُسُله ليُيلِّغوا محتواها إلى البشر. و ما أقصد ب"غير المُتديِّنِ" هو كل شخصٍ لا يدين بأحد الأديان السماوية المنزَّلة على الرُّسُل و الأنبياء. أما الرحمة، فتدلُّ على الرِّقَّة والشفقة والخير والنِّعمة والتَّعاطف واللطف والرأفة والمودة… كما تدلُّ على طلب المغقرة والعفو حين نقول مثلا "رحمَ اللهُ فلانا (حيا أو ميِّتا)". والرحمة صفة من صفات الله سبحانه وتعالى، وقد وردت في القرآن الكريم، في صِيَغٍ مختلفة، في العشرات من الآيات (نحو مائتي آية). ونجدها تتصدَّر كلَّ سُوَرِ القرآن الكريم، ما عدا سورة التوبة، على شكل ما يُسمَّى البسملة التي تتضمَّن صفتين من صفات الله عزَّ وجلَّ ألا وهما الرحمان الرحيم. وتِكرارُ هاتين الصفتين في البسملة تذكيرٌ بأن هذه الرحمة تشمل العبادَ وكلَّ ما خلقه الله فوق الأرض مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ" (الأنعام، 54).

بعد هذا التَّوضيح، هناك سؤالٌ لا بد من طرحِه : "هل، ليكونَ الإنسانُ رحيما، من المفروض أن يكونَ مُتديِّنا؟" أو، بعبارة أخرى، هل الرحمة مرتبطة بالإنسان كإنسان أم هي مرتبطةٌ حصريا بالأديان المنزَّلة؟

ما تجب الإشارةُ إليه، هو أن الواقعَ، وبكل وضوح، يُبيِّن لنا أن الإنسانَ، ليكون رحيما، ليس من الضروري أن يكونَ متديِّنا. كما أن هذا الواقعَ يُبيِّن لنا كذلك أن الأديان المُنزَّلة على الأنبياء والرسل، وعلى رأسِها الإسلامُ، تحثُّ البشر على أن يتَّصفوا بالرحمة والتَّعاطف والمودة والرِّقة...

إذا كانت الرحمةُ مقترنةً، حتما، بالأديان المنزَّلة، فهذا معناه أن أكثر من نصف البشرية لا رحمةَ في قلوبهم ولا في تصرُّفاتهم وأفعالهم… بينما الواقع يُبيِّن العكس علما أن هذا النصفَ من البشرية لا يدين (بل لا يعترف) بأحد الأديان السماوية. فمن بين هؤلاء البشر، هناك مَن يعبُدُ إلاها أو عدَّة آلِهة معنويين، وهناك مَن يُقدِّس بشرا مثلهم وهناك مَن يُعطي للأشياء روحا ولو كانت هذه الأشياءُ جامِدةً animisme، وهناك مَن يعبد الأصنام أو بعضَ الحيوانات…

وإذا كانت الرحمةُ مقترنةً، حتما، بالأديان المنزلة، فهذا معناه كذلك أن الناسَ لن يستطيعوا أن يبنوا مجتمعات بشرية علما أن هذه المجتمعات، بدون رحمة، تفقد أهم القيم الإنسانية من تعايش وتسامح وتضامن وتعاون وتكامل وتكافل…

وهذا يعني أن الإنسانَ يبقى إنسانا، سواءً كان متديِّنا أو غيرَ متديِّن، وإنسانيتُه هي التي تدفعه ليكونَ رحيما. والتَّديُّن، في هذه الحالة، وسيلةٌ أرادها اللهُ لعباده ليُدعِّموا بها ومن خلالها إنسانيتَهم، وبالتالي، ليكونوا رُحماء فيما بينهم.

انطلاقا من هذه الاعتبارات واستشهادا بالواقع، يمكننا أن نقولَ أنه لا شيءَ يمنع غيرَ المتديِّن أن يكونَ رحيما! وخير مثال يمكن سياقُه في هذا الصدد، هو مثال المهاتما غاندي Mahatma Ghandi، الزعيم السياسي والفيلسوف الهندي الذي كان يدين بالهندوسية hindouisme وهي الديانة التي تعترف بتعدُّد الآلِهة. ديانة تضرب جذورُها في أعماق الماضي وهي من صُنع الإنسان. بل إنها ديانة أقدم من الأديان المنزَّلة (اليهودية، المسيحية والإسلام). المهاتما غاندي كان معروفا بنبذه للعُنف. ونبذ العنف يعني تبَنِّي مواقف والقيام بأعمال مبنية على الرحمة والرِّقة والرأفة… وبنبذه للعُنف، استطاع المهاتما غاندي أن يُحرِّرَ بلادَه، الهِند، من استعمار الامبراطورية البريطانية سنة 1947. لا شيءَ كان يمنع المهاتما غاندي، رغم عدم انتمائه لأحد الأديان المنزَّلة، أن يكون رحيما.

ما يمكن استخلاصُه من ما سبق هو أن هناك خلطا، عند الكثير من الناس، بين الإنسانية والتَّديُّن. والإنسانية قديمة قِدَمَ البشر فوق الأرض. ولولا الرحمة التي تُمليها هذه الإنسانيةُ على الناس، لما استطاع بنو آدم، منذ ظهورهم على وجه الأرض إلى يومنا هذا، الصمودَ أمام أهواء وشر وظُلم وطغيان واستبداد وتسلًّط و… أندادهم. والتَّديُّن (تبني الأديان المنزلة) هو وسيلةٌ جاءت لتُعزِّزَ الإنسانيةَ وتُقوِّيها وتنشرَ ما استطاعت من خيرٍ بين الناس.

أقول : "ما استطاعت من خيرٍ بين الناس" لأن الرحمةَ اقتحمتها السياسة السياسوية والمصالح الفردية وقد تُصبح، في يوم من الأيام، سِلعةً تُباع وتُشترى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى