نتحدَّثُ عن التَّخويف عندما يُمارِس شخصٌ على شخصٍ آخرضَغطاً أو عُنفاً لفظياً، معنويا أو جسديا لإرغام هذا الأخير على قبول أفكارٍ أو تبنِّي سلوكٍ معيَّنٍ أو القيام بعملٍ تحت الإكراه… أو، بصفةٍ عامَّةٍ، التَّخويف يتمثل في الرضوخ الأعمى لإرادة مَن يُمارسُه. والتَّخويف هنا عُنصرٌ من العناصر المترسِّخة في الثقافة العربية، الاجتماعية والدينية، على الخصوص، وبصفة عامة، في المجتمعات المُحافِظة و المُتشبِّثة بالأعراف والعادات والتَّقاليد التي سارَ عليها الآباءُ والأجدادُ.
أما التَّنويٍرُ، فهو كل ما يقوم به الأشخاصَ، أفرادا أوجماعات، من أجل أن يُصبحوا متفتِّحين فكريا ومُتحرِّرين اجتماعيا. والتَّّنويرُ يمكن أن يسعى إليه الأشخاص أنفسُهم كما يمكن أن تقومَ به جهات أو مؤسسات معيَّنة كالأسرة والمدرسة. وهنا، لا بدَّ من التَّذكير أن كل شخصٍ له طريقتُه الخاصة في التَّفكير. غيرَ أن هذا التَّفكيرَ، ليكونَ نافِعا، يجب أن يكونَ بنَّاءً وخلاَّقاً ومُعتمِدا أساساً على الفكر النَّقذي وعلى استفلالية الرأي. ويجب كذلك أن يُسفرَ عن سلوكات و كفاءات تساعد الفردَ على العيش في المجتمع وعلى تقويةِ شخصيته. ولا داعيَ للقول أن التّفكيرَ، إن لم يمكِّن صاحبَه من اتِّخاذ مسافة من الأوضاع والأحداث التي يُصادفها في حياته اليومية، فهو تفكيرٌ غير نافعٍ. لأن العالمَ يتغيَّرُ بسرعة و الفكرُ النَّقدي هو الوسيلة التي، بواسطتها، يُواجَه هذا التَّغيير الذي يحدثُ يوميا في الأمور الاجتماعية، الثقافية، الاقتصادية، التِّكنولوجية… وعندما نقول أن فلاناً متحرِّرٌ اجتماعيا، فهذا يعني أن هذا الأخيرَ تحرَّرَ من الخرافات و الأساطير والقيل والقال ومن النمطية الاجتماعية وأصبح يعتمد في تفكيره على العقلانية وبُعد النظر.
التخويفُ والتَّنويرُ كلمتان متضادتان ومتنافرتان كقطبي المغناطيس. الأولى تُرعِب والثانية تسُرُّ وترتاح لها النفوس. الاولى تجر وراءها المصائب والشقاء والثانية تحمل في طياتها الأملَ والتَّفاءلَ والانشراح. الأولى نابعة من الجهل وتُكرِّس هذا الجهل والثانية تُنير العقولَ وترقى بها إلى أنفع درجات الفكر والتَّفكير.
يقول اللهُ سبحانه وتعالى في كتابه العزيز : "...الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ…" (إبراهيم، 1). ويقول كذلك الحقُّ سبحانه وتعالى : "هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَ إِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (الحديد، 9). من خلال هاتين الآيتين الكريمتين، يتبيَّن لنا أن الظلمات هي الجهلُ والنور هو العلم والمعرفة. كما يتبيَّن لنا أن التَّخويف مصدرُه الإنسان و التَّنوير هو لُطفٌ ورحمةٌ ورأفةٌ من الله على عباده.
ورجوعاً إلى التَّخويفُ، فالملاحظُ أنه لا يزال، بصفة عامة، طاغياً في معاملات الناس فيما بينهم إذ نجدُه مُمارساً، على الخصوص، في التَّربية والتَّعليم، في الدين، في السياسة، في العلاقات الاجتماعية… علما أن هذا التَّخويفَ، في المجتمعات المحافظة، يكاد يكون دائما مقترِناً بالعقوبات الجسدية عندما يتعلَّق الأمر بالأطفال على الخصوص. ولا داعيَ للقول أن التَّخويفَ له انعكاسات سلبية على الأشخاص الذين يُعانون منه، سواءً كانوا صِغارا أو كِبارا. من بين هذه الانعكاسات، أذكرُ على سبيل المثال :
1.فُقدان الثقة في النفس، الناتج عن كَبح قدرة التَّعلُّم سواءً تعلَّق الأمرُ بالتَّعلُّم من الحياة أو من مؤسَّستي الأسرة والمدرسة. ومَن يفقد الثقةَ في نفسِه قد لا يجرُأ على مواجهة الحياة وقد لا يستسيغ التَّعلُّمات الصادرة عن الأسرة والمدرسة في جو يسود فيه التَّرعيبُ.
2.مَن يُمارسُ عليه التَّخويفُ قد يفقِد مَلَكةَ الفضول وجُرأة التَّكلُّم مع الغير. عادةً، يكون التَّعلُّمُ مقترنا بالفضول وذلك لأن التَّعلُّمَ لا يتوقَّف في سنٍّ معيَّنة. فما دام الناسُ أحياءً ويتحرَّكون في المجتمعات، إلا ويتعلَّمون من الحياة أو من مصادر المعرفة بجميع أنواعها. فبفضل الفضول، يتفاعل الناسُ مع مُحيطُهم ليكتشفوا ما يتوفَّر عليه من أشياء وما تدور فيه من أحداث. فإذا تمَّ كَبتُ الفضولِ في النفوسِ، قد يقود هذا الكبتُ إلى عدم التَّكلُّم مع الآخرين مخافةَ السُّقوطِ في الخطأ من جديد.
3.عدم التَّحلِّي بالفكر النَّقدي، الذي هو عنصرٌ أساسي في بناء شخصية الأفراد. وهذا البناء يجب أن لا يتوقَّفَ عند الصَّغار والكِبار. وهنا، تجدر الإشارةُ إلى أن الفكرَ النَّقدي يُساعد، بالتَّدريج، على بناء مواقف خاصة بكل فردٍ إزاء الأشياء والأحداث المُحيطة به. يقول المَثَلُ : "رأسٌ جيِّدة التَّركيب أحسن من رأس مملوءة بدون جدوى". وهذا يعني أن تكوينَ الفكر أحسن بكثير من حشو الأدمغة تحت الضَّغط والتَّخويف. ولا داعيَ للقول أن الفكرَ النقدي سلاحٌ مهمٌّ يُقوِّي شخصيةَ الفرد ويجعلُه لا يقبل أيَّ شيءٍ إلا بعد قناعة واقتناع.
4.مَن يُمارَسُ عليه التَّخويفُ قد يفقد استقلاليةَ الفكر والذات. وهذا يعني أن فِكرَ ضحايا التَّخويف ليس ملكاً لهم. بل يحتاجون إلى الآخرين ليفكِّروا عوضاً عنهم وبالتالي، لا يأخذون المبادرة عند الضرورة، أي أنهم يعتمدون على الغير لمواجهة أمور الحياة.
عادةً وما يفرضُه العقلُ، الأفراد هم الذين يختارون نمطَ عيشهم وفكرِهم ونِطاقَ حريتهم. فهم الذين، بحُكم وجودهم في المجتمع، يضعون هذا النمطَ وهذا الفكرَ وهذه الحرية في الميزان ليختاروا القيمَ والأخلاقَ والسلوكات والأعمال التي تُناسبهم. غير أن هذا التَّوجُّهَ، نادرا ما يحدثُ في مجتمعاتنا إذ نجد التَّخويفَ مُمارساً، كما سبق الذكرُ، في عِدة مجالات، سأكتفي بذكرِ مثالين جاري بهما العملُ، الأول في مجال الدين والثاني له علاقة بالمدرسة:
-فيما يخصُّ الدين، خير مثال أسوقُه في هذا الصدد، يتعلَّق بالتربية الدينية. كثيرٌ من الأسر يلجأ إلى التَّخويف لتربية الأطفال دينيا. فيُقال للطفل مثلا، إذا فعلتَ هذا أو إذا لم تفعل هذا، فسيُعاقِبك الله. والطامة الكبرى تحدثُ عندما يقترن التَّحديرُ بالجنة وجهنم علما أن الطفلَ، في سنٍّ مبكرة، يعيش بعفوية كبيرة في عالمٍ تقوده داخلَه تمثلاتٌ خاصة به. عالمٌ خيطُه الناظم هو اللعب. وطامة الطامات هو أن الأطفالَ يثقون ثقةً عمياء في الكِبار ويعتبرون أن كلَّ ما يصدر عن هؤلاء الكِبار من كلام، صحيح ولا غبارَ عليه. بينما هذا النوع من الكبار، هو نفسُه، في حاجة إلى تصحيح ما يعتقد أنه دين. لماذا؟ لأن الكبارَ لا علمَ لهم بالغيب وبالتالي، من غير المعقول أن ينطقوا بعبارة "سيعاقبُك الله". وعوضَ أن يُدخِلوا الأطفالَ في دوَّأمة من الرُّعب، فمن الأنفع والأفضل للطفل أن يُستغَلَّ ميولُه للعب والتسلية لتمرير تربية دينية يقبلها هذا الطفلُ عن طواعيةٍ وقناعة واقتناع. وطُرقُ الوصول إلى هذا الهدف، في هذا الصدد، كثيرة : منها القصة، الصور، الفيديوهات، المحاكاة، تقليد الكبار…
فيما يخصُّ المدرسةَ، ما يجب الانتباهُ إليه، هو أن الطفلَ لا يذهب إلى المدرسة بدماغ فارغة. لا، أبدا. قبل التحاقه بهذه المدرسة، قام ببناء تمثُّلات عفوية représentations spontanées يعتمد عليها للتَّفاعل مع الوسط الذي يعيش فيه ومع الأسرة ومع أنداده ومع الآخرين. فما هو دور المدرسة إذن؟ دورُ المدرسة، التي هي مؤسسة اجتماعية، هو، إضافةً إلى أدوارٍ أخرى، تحويل الطفلِ من شخصٍ يعتمد في حياته على العفوية spontanéité إلى شخصٍ يعتمد على العقلانية. أو بعبارة أخرى،تحويلُه من مرحلة العفوية إلى مرحلة عالم المعرفة المُنظَّمة علما أن المدرسةَ نادرا ما تقوم بهذا الدور، وفي أحسن الأحوال، فإنها تُعطي الوَقْتَ لِلوَقْتِ ليقومَ بهذا الدور. أما الطامة الكبرى، فإنها مُلخَّصةٌ في المقولة المتداولة المشهورة : "انْتَ دْبْحْ ونا نْسْلَخِ". فهل هناك تخويفٌ أفظع من هذا؟ والكارثة العظمى هي أن المدرسةَ، في مخيال الأمهات والآباء، عبارة عن مكانٍ يتطلَّبُ من الطفلِ أن يكونَ بارعاً في الحِفظ والاستظهار ولا شيءَ غير الحِفظ و الاستظهار! والدليل على ذلك، عندما يكون الطفلُ بالمنزل ويريد الوالِدان تنبيهَه لدروسِه، يقولون له : "واشْ حْفظْتِ"، "نوض تِحِفَظْ"، "بَرَكَ مْنْ اللعِبْ ونوض تْحْفَظِ"... ولهذا، فالطفلُ مُخَوَّف وهو في المدرسة مخافةَ أن يُعاقبَه المدرِّسُ أو أن يصِفَه وصفا يدمِّرُ شخصيتَهة أو نفسيتَه. وهو كذلك مُخوّفٌ وهو في المنزل مخافةً من عقاب والديه. أما التَّخويفُ الناتج عن الامتحانات، فحدِّثْ ولا حرج. أين هو التَّنويرُ الذي، من المفروض، أن يكونَ الأطفالُ حقولاً تزرعُه فيهم المدرسةُ؟
الطامة الكبرى في بلداننا هي أن الدين يُسْتعمل رسميا من طرف الدول كوسيلة لتجمبد العقول و تخويفها و جعلها تخضع لسيطرة أقلية على أغلبية الناس. بينما الدين يجب أن يُتْرَكَ كأمر بين الخالق والمخلوق لأن الله سبحانه و تعالى لا يُحاسب المؤسسات لكن الأشخاص. و النجاح الذي عرفته وتعرفه الدول الغربية ناتج عن الفصل بين السياسة و الدين و بمعنى آخر، تَرْكُ الأمور الدينية للخالق والمخلوق. أضف إلى هذا أن العديد من الناس، بما فيهم بعض الفقهاء لا يفقهون في الدين إلا ما يتماشى مع أهوائهم و توجهاتهم. و لهذا قلتُ في تعليقي السابق إن الإسلام الحق هو الذي في طور النشأة في بلدان المهجر التي تقدر الإنسان بغض النظر عن كل الاعتبارات بما فيها الانتماء الديني. والدليل على ذلك أن الأوساط الرسمية، باستثناء التطرف، لا تحارب الدين الإسلامي لأن ما يهمها هو الإنسان، الإنسان المتشبع بالقيم الإنسانية التي تُبْنَى عليها التنمية والحضارة. فلا غرابةَ أن يكون الدين في البلدان العربية والإسلامية عائقا لكل شيء. و السؤال المطروح هو : "لماذا لم يكن الدين عائقا للبلدان الإسلامية التي كانت مهدا للتقدم و الازدهار و العلم والتكنولوجيا بين القرن الثامن والثالث عشر؟
أما التَّنويٍرُ، فهو كل ما يقوم به الأشخاصَ، أفرادا أوجماعات، من أجل أن يُصبحوا متفتِّحين فكريا ومُتحرِّرين اجتماعيا. والتَّّنويرُ يمكن أن يسعى إليه الأشخاص أنفسُهم كما يمكن أن تقومَ به جهات أو مؤسسات معيَّنة كالأسرة والمدرسة. وهنا، لا بدَّ من التَّذكير أن كل شخصٍ له طريقتُه الخاصة في التَّفكير. غيرَ أن هذا التَّفكيرَ، ليكونَ نافِعا، يجب أن يكونَ بنَّاءً وخلاَّقاً ومُعتمِدا أساساً على الفكر النَّقذي وعلى استفلالية الرأي. ويجب كذلك أن يُسفرَ عن سلوكات و كفاءات تساعد الفردَ على العيش في المجتمع وعلى تقويةِ شخصيته. ولا داعيَ للقول أن التّفكيرَ، إن لم يمكِّن صاحبَه من اتِّخاذ مسافة من الأوضاع والأحداث التي يُصادفها في حياته اليومية، فهو تفكيرٌ غير نافعٍ. لأن العالمَ يتغيَّرُ بسرعة و الفكرُ النَّقدي هو الوسيلة التي، بواسطتها، يُواجَه هذا التَّغيير الذي يحدثُ يوميا في الأمور الاجتماعية، الثقافية، الاقتصادية، التِّكنولوجية… وعندما نقول أن فلاناً متحرِّرٌ اجتماعيا، فهذا يعني أن هذا الأخيرَ تحرَّرَ من الخرافات و الأساطير والقيل والقال ومن النمطية الاجتماعية وأصبح يعتمد في تفكيره على العقلانية وبُعد النظر.
التخويفُ والتَّنويرُ كلمتان متضادتان ومتنافرتان كقطبي المغناطيس. الأولى تُرعِب والثانية تسُرُّ وترتاح لها النفوس. الاولى تجر وراءها المصائب والشقاء والثانية تحمل في طياتها الأملَ والتَّفاءلَ والانشراح. الأولى نابعة من الجهل وتُكرِّس هذا الجهل والثانية تُنير العقولَ وترقى بها إلى أنفع درجات الفكر والتَّفكير.
يقول اللهُ سبحانه وتعالى في كتابه العزيز : "...الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ…" (إبراهيم، 1). ويقول كذلك الحقُّ سبحانه وتعالى : "هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَ إِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (الحديد، 9). من خلال هاتين الآيتين الكريمتين، يتبيَّن لنا أن الظلمات هي الجهلُ والنور هو العلم والمعرفة. كما يتبيَّن لنا أن التَّخويف مصدرُه الإنسان و التَّنوير هو لُطفٌ ورحمةٌ ورأفةٌ من الله على عباده.
ورجوعاً إلى التَّخويفُ، فالملاحظُ أنه لا يزال، بصفة عامة، طاغياً في معاملات الناس فيما بينهم إذ نجدُه مُمارساً، على الخصوص، في التَّربية والتَّعليم، في الدين، في السياسة، في العلاقات الاجتماعية… علما أن هذا التَّخويفَ، في المجتمعات المحافظة، يكاد يكون دائما مقترِناً بالعقوبات الجسدية عندما يتعلَّق الأمر بالأطفال على الخصوص. ولا داعيَ للقول أن التَّخويفَ له انعكاسات سلبية على الأشخاص الذين يُعانون منه، سواءً كانوا صِغارا أو كِبارا. من بين هذه الانعكاسات، أذكرُ على سبيل المثال :
1.فُقدان الثقة في النفس، الناتج عن كَبح قدرة التَّعلُّم سواءً تعلَّق الأمرُ بالتَّعلُّم من الحياة أو من مؤسَّستي الأسرة والمدرسة. ومَن يفقد الثقةَ في نفسِه قد لا يجرُأ على مواجهة الحياة وقد لا يستسيغ التَّعلُّمات الصادرة عن الأسرة والمدرسة في جو يسود فيه التَّرعيبُ.
2.مَن يُمارسُ عليه التَّخويفُ قد يفقِد مَلَكةَ الفضول وجُرأة التَّكلُّم مع الغير. عادةً، يكون التَّعلُّمُ مقترنا بالفضول وذلك لأن التَّعلُّمَ لا يتوقَّف في سنٍّ معيَّنة. فما دام الناسُ أحياءً ويتحرَّكون في المجتمعات، إلا ويتعلَّمون من الحياة أو من مصادر المعرفة بجميع أنواعها. فبفضل الفضول، يتفاعل الناسُ مع مُحيطُهم ليكتشفوا ما يتوفَّر عليه من أشياء وما تدور فيه من أحداث. فإذا تمَّ كَبتُ الفضولِ في النفوسِ، قد يقود هذا الكبتُ إلى عدم التَّكلُّم مع الآخرين مخافةَ السُّقوطِ في الخطأ من جديد.
3.عدم التَّحلِّي بالفكر النَّقدي، الذي هو عنصرٌ أساسي في بناء شخصية الأفراد. وهذا البناء يجب أن لا يتوقَّفَ عند الصَّغار والكِبار. وهنا، تجدر الإشارةُ إلى أن الفكرَ النَّقدي يُساعد، بالتَّدريج، على بناء مواقف خاصة بكل فردٍ إزاء الأشياء والأحداث المُحيطة به. يقول المَثَلُ : "رأسٌ جيِّدة التَّركيب أحسن من رأس مملوءة بدون جدوى". وهذا يعني أن تكوينَ الفكر أحسن بكثير من حشو الأدمغة تحت الضَّغط والتَّخويف. ولا داعيَ للقول أن الفكرَ النقدي سلاحٌ مهمٌّ يُقوِّي شخصيةَ الفرد ويجعلُه لا يقبل أيَّ شيءٍ إلا بعد قناعة واقتناع.
4.مَن يُمارَسُ عليه التَّخويفُ قد يفقد استقلاليةَ الفكر والذات. وهذا يعني أن فِكرَ ضحايا التَّخويف ليس ملكاً لهم. بل يحتاجون إلى الآخرين ليفكِّروا عوضاً عنهم وبالتالي، لا يأخذون المبادرة عند الضرورة، أي أنهم يعتمدون على الغير لمواجهة أمور الحياة.
عادةً وما يفرضُه العقلُ، الأفراد هم الذين يختارون نمطَ عيشهم وفكرِهم ونِطاقَ حريتهم. فهم الذين، بحُكم وجودهم في المجتمع، يضعون هذا النمطَ وهذا الفكرَ وهذه الحرية في الميزان ليختاروا القيمَ والأخلاقَ والسلوكات والأعمال التي تُناسبهم. غير أن هذا التَّوجُّهَ، نادرا ما يحدثُ في مجتمعاتنا إذ نجد التَّخويفَ مُمارساً، كما سبق الذكرُ، في عِدة مجالات، سأكتفي بذكرِ مثالين جاري بهما العملُ، الأول في مجال الدين والثاني له علاقة بالمدرسة:
-فيما يخصُّ الدين، خير مثال أسوقُه في هذا الصدد، يتعلَّق بالتربية الدينية. كثيرٌ من الأسر يلجأ إلى التَّخويف لتربية الأطفال دينيا. فيُقال للطفل مثلا، إذا فعلتَ هذا أو إذا لم تفعل هذا، فسيُعاقِبك الله. والطامة الكبرى تحدثُ عندما يقترن التَّحديرُ بالجنة وجهنم علما أن الطفلَ، في سنٍّ مبكرة، يعيش بعفوية كبيرة في عالمٍ تقوده داخلَه تمثلاتٌ خاصة به. عالمٌ خيطُه الناظم هو اللعب. وطامة الطامات هو أن الأطفالَ يثقون ثقةً عمياء في الكِبار ويعتبرون أن كلَّ ما يصدر عن هؤلاء الكِبار من كلام، صحيح ولا غبارَ عليه. بينما هذا النوع من الكبار، هو نفسُه، في حاجة إلى تصحيح ما يعتقد أنه دين. لماذا؟ لأن الكبارَ لا علمَ لهم بالغيب وبالتالي، من غير المعقول أن ينطقوا بعبارة "سيعاقبُك الله". وعوضَ أن يُدخِلوا الأطفالَ في دوَّأمة من الرُّعب، فمن الأنفع والأفضل للطفل أن يُستغَلَّ ميولُه للعب والتسلية لتمرير تربية دينية يقبلها هذا الطفلُ عن طواعيةٍ وقناعة واقتناع. وطُرقُ الوصول إلى هذا الهدف، في هذا الصدد، كثيرة : منها القصة، الصور، الفيديوهات، المحاكاة، تقليد الكبار…
فيما يخصُّ المدرسةَ، ما يجب الانتباهُ إليه، هو أن الطفلَ لا يذهب إلى المدرسة بدماغ فارغة. لا، أبدا. قبل التحاقه بهذه المدرسة، قام ببناء تمثُّلات عفوية représentations spontanées يعتمد عليها للتَّفاعل مع الوسط الذي يعيش فيه ومع الأسرة ومع أنداده ومع الآخرين. فما هو دور المدرسة إذن؟ دورُ المدرسة، التي هي مؤسسة اجتماعية، هو، إضافةً إلى أدوارٍ أخرى، تحويل الطفلِ من شخصٍ يعتمد في حياته على العفوية spontanéité إلى شخصٍ يعتمد على العقلانية. أو بعبارة أخرى،تحويلُه من مرحلة العفوية إلى مرحلة عالم المعرفة المُنظَّمة علما أن المدرسةَ نادرا ما تقوم بهذا الدور، وفي أحسن الأحوال، فإنها تُعطي الوَقْتَ لِلوَقْتِ ليقومَ بهذا الدور. أما الطامة الكبرى، فإنها مُلخَّصةٌ في المقولة المتداولة المشهورة : "انْتَ دْبْحْ ونا نْسْلَخِ". فهل هناك تخويفٌ أفظع من هذا؟ والكارثة العظمى هي أن المدرسةَ، في مخيال الأمهات والآباء، عبارة عن مكانٍ يتطلَّبُ من الطفلِ أن يكونَ بارعاً في الحِفظ والاستظهار ولا شيءَ غير الحِفظ و الاستظهار! والدليل على ذلك، عندما يكون الطفلُ بالمنزل ويريد الوالِدان تنبيهَه لدروسِه، يقولون له : "واشْ حْفظْتِ"، "نوض تِحِفَظْ"، "بَرَكَ مْنْ اللعِبْ ونوض تْحْفَظِ"... ولهذا، فالطفلُ مُخَوَّف وهو في المدرسة مخافةَ أن يُعاقبَه المدرِّسُ أو أن يصِفَه وصفا يدمِّرُ شخصيتَهة أو نفسيتَه. وهو كذلك مُخوّفٌ وهو في المنزل مخافةً من عقاب والديه. أما التَّخويفُ الناتج عن الامتحانات، فحدِّثْ ولا حرج. أين هو التَّنويرُ الذي، من المفروض، أن يكونَ الأطفالُ حقولاً تزرعُه فيهم المدرسةُ؟
الطامة الكبرى في بلداننا هي أن الدين يُسْتعمل رسميا من طرف الدول كوسيلة لتجمبد العقول و تخويفها و جعلها تخضع لسيطرة أقلية على أغلبية الناس. بينما الدين يجب أن يُتْرَكَ كأمر بين الخالق والمخلوق لأن الله سبحانه و تعالى لا يُحاسب المؤسسات لكن الأشخاص. و النجاح الذي عرفته وتعرفه الدول الغربية ناتج عن الفصل بين السياسة و الدين و بمعنى آخر، تَرْكُ الأمور الدينية للخالق والمخلوق. أضف إلى هذا أن العديد من الناس، بما فيهم بعض الفقهاء لا يفقهون في الدين إلا ما يتماشى مع أهوائهم و توجهاتهم. و لهذا قلتُ في تعليقي السابق إن الإسلام الحق هو الذي في طور النشأة في بلدان المهجر التي تقدر الإنسان بغض النظر عن كل الاعتبارات بما فيها الانتماء الديني. والدليل على ذلك أن الأوساط الرسمية، باستثناء التطرف، لا تحارب الدين الإسلامي لأن ما يهمها هو الإنسان، الإنسان المتشبع بالقيم الإنسانية التي تُبْنَى عليها التنمية والحضارة. فلا غرابةَ أن يكون الدين في البلدان العربية والإسلامية عائقا لكل شيء. و السؤال المطروح هو : "لماذا لم يكن الدين عائقا للبلدان الإسلامية التي كانت مهدا للتقدم و الازدهار و العلم والتكنولوجيا بين القرن الثامن والثالث عشر؟