مساء الثلاثاء ١٧/ ١٠/ ٢٠٢٣ قصفت الطائرات الإسرائيلية مشفى المعمداني في غزة. أسفر القصف عن مقتل وجرح المئات من المرضى والمستجيرين بالمشفى من المدنيين الذين يبحثون عن مأوى آمن بعد أن دمرت منازلهم ومحيت أحياء بكاملها. هذا المحو وهذه الإبادة عبر عنهما (ليبرمان) الذي أراد الانضمام إلى حكومة الطوارئ الإسرائيلية، فقال، "إنها حرب إبادة. إما أن نبيدهم أو يبيدونا".
أغلب الظن أن قوله تعبير عما يكمن في اللاوعي الإسرائيلي الذي قام عليه المشروع الصهيوني وهو طرد السكان الفلسطينيين من فلسطين وإقامة الدولة العبرية اليهودية، وما يجري هو انتصار للتيار الصهيوني الدموي الذي رأى أن إقامة الدولة يتم بالسيف والنار، لا بالتضييق على السكان، من أجل أن يرحلوا؛ التضييق كان الخيار الذي عملت به تيارات صهيونية أقل دموية.
كان الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان المتوفى في العام ١٩٤١ تنبه مبكرا إلى سياسة الانتداب البريطاني والعصابات الصهيونية وعبر عنها بقوله:
"أجلاء عن البلاد تريدون فنجلو أم محونا والإزالة؟"
وقوله:
"أمامك أيها العربي يوم تشيب لهوله سود النواصي
مناهج للإبادة واضحات وبالحسنى تنفذ والرصاص"
وهذا ما تنبه له أيضا لاحقا الأدباء الفلسطينيون، في المنفى وفي الأرض المحتلة، ووقفوا في وجهه بالحث على البقاء في الأرض وعدم مغادرتها لأن الحياة في المنفى فيها من القسوة والإهانة والذل ما فيها.
عبر أدباء المنفى عن قسوته وذل الإقامة بعيدا عن فلسطين وفضلوا الموت على الحياة في بلدان الشتات. من سميرة عزام إلى غسان كنفاني فمحمود درويش فأحمد دحبور، على لسان شخصياتهم وعلى لسانهم هم أيضا.
وفي الحرب الدائرة بدأ الحديث، منذ بدء قصف أحياء سكنية على رؤوس سكانها، عن ترحيل الفلسطينيين، ورأى أحد الإسرائيليين أن هذا ممكن بناء على تجارب سابقة، فالأردن مثلا أقام مخيمات للاجئين السوريين ومن قبل استقبل عراقيين ولبنانيين، وهذا تناغم مع ما قاله نتنياهو في بداية الحرب، إذ قال، إن ما بعد ٧/ ١٠ لن يعود إلى ما كان عليه قبلها وأن الحرب ستغير خارطة الشرق الأوسط كله.
في غزة، نشط ناشطو وسائل التواصل الاجتماعي في حض الناس على مقاومة السياسة الإسرائيلية، مبينين قسوة حياة اللجوء ومذكرين بما حدث في العام ١٩٤٨، ودعا هؤلاء الناشطون إلى ضرورة البقاء حتى لو أسفر عن موت محتم.
إن ما يطرح الآن من مشاريع للتهجير وتوطين المهجرين في سيناء أو في البلدان العربية هو مشروع قديم كانت بداياته الفعلية في ١٩٤٨ وأراد الأميركان والإسرائيليون تكراره في العام ١٩٥٥خلال فترة حكم الرئيس الأميركي (أيزنهاور)، وقد تصدى له أهل غزة وتظاهروا ضده وافشلوه وكتب عن هذا في الأدب معين بسيسو في كتابه "دفاتر فلسطينية":
"كتبوا مشروع سيناء بالحبر
وسنمحو مشروع سيناء بالدم"
"ولا توطين ولا إسكان يا عملاء الأمريكان"
ومنذ النكبة، تعززت الكتابة عن المنفى وقسوة الحياة فيه والحنين إلى الوطن السليب وتصويره على أنه الجنة المفقودة التي يتطلع إليها كل فلسطيني طرد من أرضه أو ولد في مخيمات اللجوء، وتعززت الكتابة في الأدب الفلسطيني في الأرض المحتلة نفسها عن البقاء والصمود ورفض فكرة الرحيل.
منذ سميرة عزام رائدة القصة القصيرة الفلسطينية بدأنا نقرأ عن ذل حياة المنفى وقسوته، حيث فقد الفلسطيني بفقدانه أرضه كرامته وتحول إلى لص وقواد وبغي ومخبر صار الكل يتجرأ عليه حتى الجرذان.
وفي رواية كنفاني "رجال في الشمس" يتذكر أبو قيس وهو ذاهب إلى الكويت الأستاذ سليم الذي مات في قريته قبل سقوطها بليلة واحدة ويغبطه أنه دفن في تراب بلده: "يا رحمة الله عليك يا أستاذ سليم! يا رحمة الله عليك! لا شك أنك كنت ذا حظوة عند الله حين جعلك تموت قبل ليلة واحدة من سقوط القرية المسكينة في أيدي اليهود... يا الله! أتوجد نعمة إلهية أكبر من هذه؟... وفرت على نفسك الذل والمسكنة وأنقذت شيخوختك من العار".
أحمد دحبور الذي كان عمره عامين قبل النكبة تمنى لو أن أباه طلب ذبح ابنه ولم يرحل:
"ليته قال: اذبحوا طفلي/ ولم يرحل".
وماذا عن أدباء الأرض المحتلة من توفيق زياد واميل حبيبي ومحمود درويش وغيرهم وغيرهم؟
اشتهرت قصيدة الأول "هنا باقون" وذاع صيتها وغناها المغنون وصارت أيقونة لدى كثيرين، ومثلها أيضا قصيدته "أناديكم". في القصيدتين يفضل زياد الحياة في الوطن على حياة المنفى حتى لو كان نادلا في المطعم يغسل الصحون، وبإباء وعزة وشموخ يقول، إن هذا لا ينتقص من كرامته "أنا ما هنت في وطني". أما حبيبي ففضل البقاء في حيفا على الرغم مما قدمه من تنازلات رأى أنه إنما قدمها حتى لا تصبح فلسطين أندلسا ثانية، فحافظ بذلك على عروبة قسم من فلسطين وعلى لغتها العربية وكلنا يعرف وصيته الداعية إلى كتابة عبارة "باق في حيفا" على شاهد قبره.
هل اختلف محمود درويش؟
وهو في الوطن قبل هجرته حث على البقاء وحين هاجر ندم ندما شديدا عبر عنه في ديوانه "محاولة رقم ٧" وفي كتابه النثري الأخير "في حضرة الغياب":
"- لماذا نزلت عن الكرمل؟"
في الحرب الدائرة حاليا، تمارس إسرائيل إبادة أهل غزة، بل ومحوهم، ويا لك يا إبراهيم طوقان من شاعر.
"أجلاء عن البلاد تريدون فنجلو أم محونا والإزالة".
ونتمنى أن نموت مثل الأستاذ سليم في رواية "رجال في الشمس" على أن نرحل.
عادل الأسطة
2023-10-22
أغلب الظن أن قوله تعبير عما يكمن في اللاوعي الإسرائيلي الذي قام عليه المشروع الصهيوني وهو طرد السكان الفلسطينيين من فلسطين وإقامة الدولة العبرية اليهودية، وما يجري هو انتصار للتيار الصهيوني الدموي الذي رأى أن إقامة الدولة يتم بالسيف والنار، لا بالتضييق على السكان، من أجل أن يرحلوا؛ التضييق كان الخيار الذي عملت به تيارات صهيونية أقل دموية.
كان الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان المتوفى في العام ١٩٤١ تنبه مبكرا إلى سياسة الانتداب البريطاني والعصابات الصهيونية وعبر عنها بقوله:
"أجلاء عن البلاد تريدون فنجلو أم محونا والإزالة؟"
وقوله:
"أمامك أيها العربي يوم تشيب لهوله سود النواصي
مناهج للإبادة واضحات وبالحسنى تنفذ والرصاص"
وهذا ما تنبه له أيضا لاحقا الأدباء الفلسطينيون، في المنفى وفي الأرض المحتلة، ووقفوا في وجهه بالحث على البقاء في الأرض وعدم مغادرتها لأن الحياة في المنفى فيها من القسوة والإهانة والذل ما فيها.
عبر أدباء المنفى عن قسوته وذل الإقامة بعيدا عن فلسطين وفضلوا الموت على الحياة في بلدان الشتات. من سميرة عزام إلى غسان كنفاني فمحمود درويش فأحمد دحبور، على لسان شخصياتهم وعلى لسانهم هم أيضا.
وفي الحرب الدائرة بدأ الحديث، منذ بدء قصف أحياء سكنية على رؤوس سكانها، عن ترحيل الفلسطينيين، ورأى أحد الإسرائيليين أن هذا ممكن بناء على تجارب سابقة، فالأردن مثلا أقام مخيمات للاجئين السوريين ومن قبل استقبل عراقيين ولبنانيين، وهذا تناغم مع ما قاله نتنياهو في بداية الحرب، إذ قال، إن ما بعد ٧/ ١٠ لن يعود إلى ما كان عليه قبلها وأن الحرب ستغير خارطة الشرق الأوسط كله.
في غزة، نشط ناشطو وسائل التواصل الاجتماعي في حض الناس على مقاومة السياسة الإسرائيلية، مبينين قسوة حياة اللجوء ومذكرين بما حدث في العام ١٩٤٨، ودعا هؤلاء الناشطون إلى ضرورة البقاء حتى لو أسفر عن موت محتم.
إن ما يطرح الآن من مشاريع للتهجير وتوطين المهجرين في سيناء أو في البلدان العربية هو مشروع قديم كانت بداياته الفعلية في ١٩٤٨ وأراد الأميركان والإسرائيليون تكراره في العام ١٩٥٥خلال فترة حكم الرئيس الأميركي (أيزنهاور)، وقد تصدى له أهل غزة وتظاهروا ضده وافشلوه وكتب عن هذا في الأدب معين بسيسو في كتابه "دفاتر فلسطينية":
"كتبوا مشروع سيناء بالحبر
وسنمحو مشروع سيناء بالدم"
"ولا توطين ولا إسكان يا عملاء الأمريكان"
ومنذ النكبة، تعززت الكتابة عن المنفى وقسوة الحياة فيه والحنين إلى الوطن السليب وتصويره على أنه الجنة المفقودة التي يتطلع إليها كل فلسطيني طرد من أرضه أو ولد في مخيمات اللجوء، وتعززت الكتابة في الأدب الفلسطيني في الأرض المحتلة نفسها عن البقاء والصمود ورفض فكرة الرحيل.
منذ سميرة عزام رائدة القصة القصيرة الفلسطينية بدأنا نقرأ عن ذل حياة المنفى وقسوته، حيث فقد الفلسطيني بفقدانه أرضه كرامته وتحول إلى لص وقواد وبغي ومخبر صار الكل يتجرأ عليه حتى الجرذان.
وفي رواية كنفاني "رجال في الشمس" يتذكر أبو قيس وهو ذاهب إلى الكويت الأستاذ سليم الذي مات في قريته قبل سقوطها بليلة واحدة ويغبطه أنه دفن في تراب بلده: "يا رحمة الله عليك يا أستاذ سليم! يا رحمة الله عليك! لا شك أنك كنت ذا حظوة عند الله حين جعلك تموت قبل ليلة واحدة من سقوط القرية المسكينة في أيدي اليهود... يا الله! أتوجد نعمة إلهية أكبر من هذه؟... وفرت على نفسك الذل والمسكنة وأنقذت شيخوختك من العار".
أحمد دحبور الذي كان عمره عامين قبل النكبة تمنى لو أن أباه طلب ذبح ابنه ولم يرحل:
"ليته قال: اذبحوا طفلي/ ولم يرحل".
وماذا عن أدباء الأرض المحتلة من توفيق زياد واميل حبيبي ومحمود درويش وغيرهم وغيرهم؟
اشتهرت قصيدة الأول "هنا باقون" وذاع صيتها وغناها المغنون وصارت أيقونة لدى كثيرين، ومثلها أيضا قصيدته "أناديكم". في القصيدتين يفضل زياد الحياة في الوطن على حياة المنفى حتى لو كان نادلا في المطعم يغسل الصحون، وبإباء وعزة وشموخ يقول، إن هذا لا ينتقص من كرامته "أنا ما هنت في وطني". أما حبيبي ففضل البقاء في حيفا على الرغم مما قدمه من تنازلات رأى أنه إنما قدمها حتى لا تصبح فلسطين أندلسا ثانية، فحافظ بذلك على عروبة قسم من فلسطين وعلى لغتها العربية وكلنا يعرف وصيته الداعية إلى كتابة عبارة "باق في حيفا" على شاهد قبره.
هل اختلف محمود درويش؟
وهو في الوطن قبل هجرته حث على البقاء وحين هاجر ندم ندما شديدا عبر عنه في ديوانه "محاولة رقم ٧" وفي كتابه النثري الأخير "في حضرة الغياب":
"- لماذا نزلت عن الكرمل؟"
في الحرب الدائرة حاليا، تمارس إسرائيل إبادة أهل غزة، بل ومحوهم، ويا لك يا إبراهيم طوقان من شاعر.
"أجلاء عن البلاد تريدون فنجلو أم محونا والإزالة".
ونتمنى أن نموت مثل الأستاذ سليم في رواية "رجال في الشمس" على أن نرحل.
عادل الأسطة
2023-10-22