أ. د. لطفي مَنْصور - مَعَ أَبي عَلِيٍّ الْقالِي في كِتابٍهِ "الْأَمالي"

هُوَ إسْماعيلُ بْنُ الْقاسِمِ الْقالِي، نِسْبَةً إلَى قالي قَلا، مِنْ أَعٍمالِ أَرْمِينِيَّةَ، وَكانَتْ ثَغْرًا مِنْ ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ، أَقامَ بِها الْمُرابِطُونَ. كانَ جَدُّهُ سَلْمانُ مِنْ مَوالِي الٍخَلِيفَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ ابْنِ مَرْوانَ.
وُلِدَ أَبُو عَلِيٍّ سَنَةَ (٢٨٨ هج) وَانْتَقَلَ في صِباهُ إلَى الْمَوْصِلِ لِيَسْمَعَ الْحَدِيثَ، ثُمَّ سارَ إلَى بَغْدادَ وَدَخَلَها سَنَةَ (٣٠٥ هج)، وَأَخَذَ عَنْ كِبارِ عُلَمائِها كَابْنِ دُرَيْدٍ الْأَزْدِيِّ صاحِبِ مُعْجَمِ "جَمْهَرَةِ اللُّغَةِ، وَمَقْصُورَتِهِ المَشْهورَةِ الََتي اسْتَوْعَبَ فيها جَميعَ الْأَساءِ الْمَقْصُورَةِ في اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ؛ وَأَخَذَ عَنْ نَفْطوَيْهِ النَّحْويِّ، وَسَمِعَ كَتابَ سِيبَوَيْهِ عَنِ ابٍنِ دَرَسْتَوَيْهِ. وغَيْرِهِمْ من كبارِ عُلَماءِ بَغْدادَ في الْقَرٍنِ الرّابِعِ الْهِجْرِي الْعَصْرِ الذَّهَبي لِلْحَضارَةِ الْإسْلامِيَّةِ.
أقامَ أَبُو عَلِيٍّ الْقالِي في بَغْدادَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَأَصْبَحَ مِنْ عُلَمائِها الْكِبارِ، حَتَّى قالَ عَنْهُ ابْنُ خَلِّكانَ صاحِبُ مَوْسوعَةِ "وَفَياتُ الْأَعْيانِ": كانَ أَحْفَظَ أَهْلِ زَمانِهِ لِلُّغَةِ وَالشِّعْرِ وَنَحْوِ الْبَصْرِيِّينَ.
ثُمَّ دَعاهُ الْخَليفَةُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الثّالِثُ (٩١٢-٩٦١م) إلَى الْأَنْدَلُس، فَلَبَّى طلَبَهُ، وَوَصَلَها سَنَةَ (٣٣٠ هج) فَأَفْضَلَ عليهِ الْخَليفَةُ، وَأَكْرَمَهُ، وَجَهَّزَ مَوْكٍبًا لِمُلاقاتِهِ، والِاحْتِفاءِ بِهِ بِرِئاسَةِ الشّاعِرِ ابْنِ عَمّارٍ فيما أَظُنُّ. وكانَ هذا الشَّاعِرُ يَحْسُدُ أبا عَلِيٍّ عَلَى هذا الْإكْرامِ. فَأَخَذا يَتَناشَدانِ الأَشْعارَ في طَريقِهِما إلَى قُرْطُبَةَ، فَسَأَلَ أَبُو عَلِيٍّ رَفيقَهُ عَنْ خَيْرِ الْمَناديلِ ؟ فَقالَ مَنادِيلُ خُراسانَ، وَرَفَضَ أَبُو عَلِيٍّ إجاباتِ رَفيقِهِ كُلُّها، فَقالَ الشّاعِرُ: ضَيْفُنا الْعالِمُ أَعْلَمُ. فَقالَ أبو عَلِيٍّ: مَناديلُ امْرِئِ الْقَيْسِ الَّذي يَقْولُ بَعْدَ أنْ فَرَغَ هُوَ وَرِجالُهُ مِنْ طَعامِ شِواءِ الصَّيْدِ: مِنَ البسيط
ثَمَّتَ قُمْنا إلَى جُرْدٍ مُسَوَّمَةٍ
أَعْرافُهُنَّ لِأَيْدِينا مَناديلُ
وَأَعْرافُ الخَيلِ : الشَّعْرُ الطَّويلُ الَّذي يَعْلُو عُنُقَ الْفَرَسِ . وَهَذا مِثالٌ لِلْعِزَّةِ وَالْفُروسِيَّةِ.
اسْتَغَلَّ ابْنُ عَمّار هذا الْبَيْتَ لِيوقِعَ أَبا عَلِيٍّ في الْخَطَأِ، فَحَرَّفَ كَلِمَةَ "أَعْرافِهِنَّ" إلَى أعْرافِها لِيَخْتَلَّ الْوَزْنُ، وَاتَّهَمَ أبا عَلِيٍّ أَنَّهُ لا يَسْتَطيعُ إقامَةَ بَيْتٍ مِنَ الشِّعْرِ.
ثُمَّ أَشاعَ تُهْمَةً أُخْرَى لِيُبْعِدَ عُلَماءَ الْأَنْدَلُسِ عَنِ الْأَخْذ مِنْ عِلْمِ الْقالي الْبَغْدادِيِّ، هَكَذا كانُوا يَدْعُونَهُ. واتَّهَمَهُ أَيْضًا بِأَنَّهُ أُرْتِجَ عَلَيْهِ عِنْدَما كَلَّفَهُ الْحَكَمُ وَلِيُّ الْعَهْدِ أنْ يَخْطُبَ أمامَ رَسولِ مَلِكِ الرُّومِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ لِهَوْلِ الْمَوْقِف أنْ يَفُوهَ بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ.
لَمْ يَأْبَهْ أَبُو عَلِيِّ لِتُهَمِ مُسْتَقْبِلِهِ، فَاسْتَوْطَنَ قُرْطُبَةَ وَحَفَّ بِهِ عُلَماؤُها وَأُدَباؤُها، وَأَمْلَى عَلَيْهِمْ كِتابَهُ “الْأَمالي والنَّوادِرُ” في ثَمانينَ مَجْلِسًا مِنْ حِفْظِهِ، كانَ يَعْقِدُها في أَيَّامِ الْخَمِيسِ مِنْ كُلِّ أُسْبوعٍ .
اِسْتَفادَ مِنْهُ عُلَماءُ الْأَنْدَلُسِ ، وَاتَّخَذوهُ حُجَّةً فيما يَنْقُلُهُ. وَكانَتْ كُتُبُهُ في غايَةِ الْإتْقانِ وَالتَّقْيِّيدِ وَالضَّبْطِ. وَظَلَّ الْقالي في قُرْطُبَةَ في رِعايَةِ الْحَكَمِ الَّذِي كانَ مُولَعًا بِالْعِلْمِ وَالْأَدَبِ وَالشِّعْرِ، وَاستَمَرَّ في التَّأْليفِ. فَوَضَعَ مُعْجَمَ “الْبارِعَ” وَهُوَ أكْبَرُ مُعْجَمٍ لِلُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، يَقَعُ في خمسةِ آلافِ وَرَقَةٍ مَخْطوطَةٍ. طُبِعَ قِسْمٌ مِنْهُ وَنُشِرَ في مَكْتَبِةِ النَّهْضَةِ في بَغْدادَ. لَيْتَ أصْدِقائِي في مَجَلَّةِ رَحيقِ الْأَرْواحِ يُوافوني بِمَعلوماتٍ أكْثَرَ عَنِ الْمَطْبوعِ والنَّشْرِ.
وَلَهُ كِتابُ الْمَمْدُودُ وَالْمَقْصُور، وهوَ زينَةُ مكتَبَتِي بِجانِبِ كتابِ الْأَمالي. وَلَهُ كُتُبٌ أُخْرَى لا حاجَةَ لِذِكْرِها لِأَنِّي لا أَعْرِفُ عَنْها أَكْثَرَ مِنْ عُنْوانِها.
كِتابُ الْأَمالي لِأَبي عَلِيٍّ الْقالي أَحَدُ كُتُبِ الْأدَبِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرَها ابنْ خَلْدُونٍ في الْمُقَدِّمَةِ، وَالْكُتُبُ الثّلاثَةُ الْأُخْرَى هِيَ: كِتابُ الْبَيانِ والتَّبْيِّينِ لِلْجاحِظ (ت ٢٥٥ خج)؛ وَكِتابُ “الْكامِلُ في الْأدَبِ” لمحمَّد بنِ يَزِيدَ الْمُبَرِّدِ (ت ٢٨٦ هج)؛ وَكِتابُ “أَدَبُ الْكاتِبِ” لِابْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيِّ (ت ٢٧٦ هج).
قالَ ابْنُ خَلْدون: “وباقي كُتُبُ الْأَدَبِ عالَةٌ عَلَيْها”.
وَأنا أقُولُ كُلُّ مَنْ يَعْمَلُ في تَدْريسِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ في الثّانَوِيّاتِ وَالْكُلِّياتِ والْجامِعاتِ وَلا يَعْرِفُ هَذِهِ الْكُتُبَ الْأرْبَعَةَ مَعْرِفَةً أَساسِيَّةً عَمِيقَةً فَلْيَخْجَلْ مِنْ نَفْسِهِ، حَتَّى لَوِ امْتَلَكَ أَعْلَى الشَّهاداتِ الْأَكاديمِيَّةِ.
وَقامَ أَبو عِبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ الْأَنْدَلُسِي (ت٤٨٧هج)
صاحِبُ “مُعْجَم ما استَعْجَم” بِشَرْحِ أمالي الْقالي، وَقَدْ طُبِع كِتابُهُ بِتَحْقيقِ الْعَلّامَةِ عَبْدِ العزيز الْمَيْمَنِي، وَصَدَرَ بِمُجَلَّدَيْنِ ضَخْمَيْنِ عَنْ لَجْنَةِ التَّأْليفُ وَالتَّرْجَمَةِ وَالنَّشْرِ، القاهِرَةُ ١٩٣٦.
تُوُفِّيَ أبو عَلِيٍّ الْقالي في قُرْطُبَة سَنَةَ (٣٥٦ خج)
مَلْحوظَةٌ: مَهْما أَسْهَبْتُ في الْوَصْفِ وَالتَّحليلِ لشخصِيَّةِأبي عَلِيٍّ الْقالي وذِكْرِ مُؤَلَّفاتِهِ لا يُغْنِي قِراءَةَ ساعَةٍ مُتَأَنِّيَةٍ في أَمالي أبي عَلِيٍّ الْقالي، فَهُناكَ الْعَجَبُ الْعُجابِ.
إلَى هُنا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى