صوفي عبد الله - المومس في أدب نجيب محفوظ

حين يكون الأديب مصور حياة واقعي الأسلوب على نحو ما يصورها نجيب محفوظ، فلا بد أن يكون للحضيض في صور عالمه -المريض منها على الخصوص- مكان فسيح.
وأنا أعني “الحضيض” هنا بمعانيه الإنسانية كلها، وفي مقدمتها الحضيض النفسي، والحضيض الاجتماعي حيث تتراكم النفايات، بحكم الغرائز تارة، وبحكم النظام الاجتماعي أو الاقتصادي تارة أخرى. وحيث يكون الحضيض النفسي والاجتماعي لا بد أن يوجد رجال ونساء فاسقون، بعضهم فسدوا من الداخل، وبعضهم فسدوا من الخارج، وبعضهم نخر الفساد فيهم ظاهر وباطنا.
دائما نوعا ما من النساء يطلقون عليهن اسم “المومسات” أولئك اللاتي يتخذن أجسادهن تجارة يتكسبن منها، وككل تجارة على الإطلاق، يوجد هنا أيضا الاتجار بقصد الثراء العريض، والاتجار بقصد الحصول على القوت الكفاف، سواء في متجر صغير أو ربما بغير متجر.. ففي هذه المهنة أيضا ما أكثر التاجرات المتجولات، وبعضهن يقفن -كبائعة الخيار والتين الشوكي فوق عربات اليد- تحت عمود نور معين في الشارع العمومي، وبعضهن الآخر يتجولن في المنعطفات المظلمة التماسا لأسباب الرزق.
ومن يمعن النظر في أدب نجيب محفوظ لا بد أن يعثر للمومس فيه على مكان ملحوظ، فحتى قصصه القصيرة التي يغوص فيها إلى أعماق الناس والمجتمع نجده يصور لنا فيها حضيضا بأسلوب يبرز المومس ليرينا إياها في ضوء واحد مع غيرها من زملائها في البشرية، تخضع للعوامل التي تحركهم بلا فرق، وتؤكد لنا أن تكوينها النفسي – تحت قشرة مهنتها الخارجية- شبيه بتكوين كثيرين غيرها ممن لا يخطر ببال أحد من يعقد مقارنة بينهم وبين محترفات بيع أجسادهن.
“المومس بشر” فالمومس مثلنا في كل شيء إذا أردنا حقيقتها الباطنة، ليست شرا من أكثرنا “وليس أكثرنا خيرا منها”.
هذه “قضية” المومس كما يجلوها لنا أدب نجيب محفوظ، في معرض لوحاته على تباين أساليبه الفنية من أول “بداية ونهاية”.. حتى “الطريق” في أعماله الطويلة، وفي قصصه القصيرة كذللك.
يقولها بإصرار وبكل طريقة من طرق الأنا والتعبير.
وأبدأ بنموذج للمومس رأيته يومض داخل إطار دقيق يضم لوحة صغيرة.. في قصة لنجيب القصيرة “الجامع والدرب”.. من مجموعته القصصية “دنيا الله”.
والدرب هنا هو درب كان معروفا على عهد البغاء الرسمي في بعض منعطفات شارع كلوت بك التي لم تزل قائمة إلى الآن بدروبها، يرتاع إليها السائر بسلالم من حجارة الأرصفة السوداء المتكسرة من كثرة ما وظئتها الأقدام منذ مائة سنة أو أكثر.
في هذه القصة القصيرة نجد شيخ الجامع الذي يقع – على حد تعبير نجيب- “عند ملتقى دربين: درب الفساد الشهير” لعله درب طياب، ودرب آخر بمثابة “عباءة للقوادين والبرمجية ومروجي المخدرات”.
موقع ممتاز لرسم المفارقة بين الجامع والدرب، تلك المفارقة التي يريد منها نجيب أن ينفذ إلى مفارقة أهم بين موقف معين للشيخ الإمام وبين ساكنات الحي، مفارقة قد تكون خفية، ملفوفة، ولكنها تعبير فني في المقام الأول من الأهمية فالأمام – في القصة- مطلوب منه أن ينافق القصر وحكومة صدقي ويقوم بدعاية لهما في خطبة الجمعة مخالف ضميره، والشرع، فيرضخ لهذا، ويناجر برأيه ومركزه الديني تجارة غير شريفة خوفا على لقمة عيشه الكفاف التي لا يملك لها مصدرا إلا الأمانة، ويضغط على ضميره ويغالطه في سبيل معدته ومعدة أولاده وفي ساعة خطبة الجمعة ينطلق صوته بذلك النفاق عاليا، ويصل الصوت المجلجل إلى أهل الدرب، وهنا يرسم نجيب صورة “سمارة، ليقول بالحرف الواحد:
“وفي أثناء ذلك كانت حجرة بالبيت الثاني عل اليسار من الدرب تضم سمارة وزبونا جديدا” “جلست سمارة على حافة السرير نصف عارية” ” وتناولت خيارة من قدح مملوءإلى نصفه بالماء وراحت تأكلها” وعلى كرسي أمام الفراش جلس الزبون خالعا جاكتته وهو يجرع الكونياك من الزجاجة.. وقرعت التلاوة الآتية من الجامع أذنيه، فارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة لا تكاد ترى، ونظر إلى الأرض، وتمتم في امتعاض:
– لماذا يبنون جامعا في هذا المكان؟
هل ضاقت بهم الدنيا؟
فقالت سمارة دون أن تتوقف عن قضم الخيارة:
– هذا المكان من الدنيا كبقية الأماكن.
وهذا الحوار القصير الذي يبدو عابرا ليس عابرا في الواقع. فإنه مدلول أساسي على عنصر هام من عناصر مشكلة المومس، أي مومس: فسمارة بردها المقتضب تؤكد أن درب المومسات مثل أي مكان في الدنيا وليس مكانا دنسا!؟ أنه “محلعملط ويزيد على هذا ” الرأي أن الرجل يعود فيسألها بعد ذلك مباشرة ” وهو يتفحص وجهها:
– ألا تخافين الله؟
فقالت بشيء من الضج:
– ربنا يتوب علينا..
أرأيت؟ أن زبونها -الذي يمثل المعسكر الآخر- يسألها بفضول واستغراب ألا ترى أن مهنتها تستوجب غضب الله وعقابه، ويأتيه ردها بدلالته العميقة جدا رغم ظاهره العابر: إن الله يستطيع أن يتوب عليها من هذه المهنة التي تغضبه لتستطيع العيش بوسيلة أخرى.
هذا الجواب الذي تلقيه سمارة ” بشيء من الضجر” تلقي به مسؤولية وضعها على قوة أضخم منها كانت تستطيع إنقاذها.
فمن السخافة في نظرها أن يحدثها أحد عن مسؤوليتها فيما لا حيلة لها – هي الضعيفة- فيه. ولذا فهي تمضي في طريقها المرسوم -أو المقسوم- تاركة التغيير والتدبير لمن يملك التغيير والتدبير.
وبعد هذه اللمحة مباشرة يمضي نجيب خطوة أخرى في المقارنة بين سمارة ساكنة الدرب والشيخ الإمام عبد ربه.
“وفي تلك اللحظة كان عبد ربه يلقي خطبته فمضى الزبون يتابعه برأس متأرجح ثم ابتسم ساخرا وهو يقول:
– المنافق!.. اسمعي ما يقول المنافق!
وجال عيناه في الحجرة حتى استقرتا على صورة لسعد زغلول قد بهتت من القدم، فتساءل وهو يشير إليها:
– هل تعرفين هذا؟
– ومن لا يعرفه؟!
فأفرغ بقية الزجاجة في جوفه وقال بلسان ثقيل:
– سمارة وطنية وشيخ منافق!
وهي جملة واضحة جدا في دلالتها على المقارنة. ولكن تعليق المومس سمارة يؤكد للمقارنة معنى آخر أيضا.
فقالت متنهدة:
– يا بخته، “بكلمتين يربح الذهب”، ونحن لا نستحق قرشا إلا بعرق جسمنا كله”..
هذا رأي المومس سمارة. ولكن نجيب لا يسكت، بل يعلق تعليقا أشد صراحة وشمولا للموقف كله، على لسان ذلك الزبون الذي يقول على الأثر ممعنا في السخرية:
– “ثمة رجال محترمون لا يختلفون عنك في شيء، ولكن من يجد الشجاعة ليقول ذلك؟”.
أليس معنى هذا بصراحة أن المومس بشر مثلنا، وأن أكثر “المحترمين” بمقاييس العرف ليسوا خيرا منها في شيء…؟ فهي طالبة قوت “ومضطرة” ومسحوقة، ومسكينة، ونحن نظلمها بغباء.
ونعود إلى الوراء بضع سنوات، إلى ما قبل نشر “الجامع والدرب” بمدة طويلة، لنفتح قصة نجيب الطويلة الشهيرة الأشقاء الثلاثة حسن وحسين وحسنين فمن نوع مختلف ليس فيه بساطة الصراحة بل فيه تعقيد التركيب النفسي المتناقض، لأن “الضرورة التي ألقت بنفيسة إلى البغاء ليست كلها ضرورة مادية، فالضغط النفسي والجنس هنا ذو أثر كبير، فهي دميمة ولكنها فائرة الجسد، ومن بيئة مفرطة في المحافظة ولكنها مهددة بالجوع، لا سبيل لها إلى الزواج من شخص يضاهي المرحوم أباها الموظف أو أخويها المثقفين، وهي تعمل خياطة لتعول الأسرة. ومن هنا يطمع فيها سلمان جابر ابن القال الدميم الحقير الجبان يمنيها بالزواج ويستدرجها إلى بيئة في الظلام. ويظل يمهلها إلى أن يموت أبوه البخيل الثري المستبد، وهي تتظاهر بالتصديق تارة وتمني النفس بصدته تارة أخرى لأنها باتت لا تطيق عنه صبرا فهو “فتى رائع حار العاطفة شديد الانكباب عليها، ولهذا تحبه من أعماقها بل هي مجنونة به”. ثم تدرج إلى ابتزاز الشلنات منها لينفق على نزهاتهما لأن أباه أبى أن يعطيه مصروفا، والشلن يعني عندها جزءا كبيرا من أجرها اليومي، وجزءا كبيرا من ميزانية قوت أسرتها المحتاجة لكل مليم، وفي هذه الفترة انبرى لها محمد الفل، صاحب الجراج الصغير وبالسيارة العتيقة التي تشبه الكراكة, وفي وضوح يصور لنا نجيب موقف نفيسة في حوار داخلي:
“إني أدرك لماذا يدعوني لسيارته. إنه لا يحاول خداعي كما فعل غيره. فالأمر واضح فهل أقدم على هذا؟ لماذا يتعلق بي؟ لست جميلة، وهيهات أن يغير هذا الزواق من الحقيقةشيئا، ولكن الدمامة نفسها سلعة لا بأس بها في سوق الخلاعة وعشاق اللذة -أو بعذهم- لا يرعوون عن مطلب. هذه هي الحقيقة الزواج أمر مختلف. أما الذة فلا اختلاف عليها. هل أدع نفسي تهوى؟ ولماذا أمنعها؟ لن أخسر جديدا. ليس ثمة ما أخاف عليه.. ثم أن هناك هذه الرغبة التي تشتعل في دمها ولا حيلة فيها، وكلما استنامت إلى قبضة اليأس شكتها في الأعماق كشوكة مستعرة. هذه الرغبة وحدها تأبى عليها أن تعتزل الحياة وتتوارى حتى كرهتها فيما تكره من حياتها.. بيد أنها تعترف بها أمام شعورها وأنكرتها، وقالت لنفسها أنها ترضى “الهوان”.. “أي البغاء” في سبيل النقود التي تمس حاجة أسرتها إليها.. وسرَّها -إن كان ثمة سرور- أن تبدو لعيني نفسها شهيدة وضحية لليأس والفقر.. ثم ما ألذ الغزل ولو كذبا. “حال مخزية ولكنها ترد إليها اعتبارها وكرامتها كأنثى مهيضة الجناح”.
وبهذا الوضوح الشديد أقبلت نفيسة مفتوحة العينين، على مغامرة نظير أج، وهي توهم نفسها أنها تفعل ذلك لمجرد التوسعة على أسرتها، وهي في الواقع تتذرع بهذه الحجة لتستر موقفها أمام نفسها، لأنها أنّا تلتمس منفسا لطاقتها المكبوتة ورد اعتبار أنوثتها المهيضة الجناح لدمامتها. لقد كان أجرها القليل من الخياطة يدفع غائلة الجوع بالفعل عن أسرتها. ولكن الضرورة النفسية والجسدية منا فعلت فعلها، واضطرت تحت ضغط العرف “والبيئة المحافظة” إلى التماس قناع تتنكر تحته للوصول إلى هدفها ولكن هذه الضرورة النفسية والجسدية ما لبثت أن أخلت معظم الطريق لتيار الاحتراف الأساسي بعد ما ازدادت مطالب الشقيق حسنين الطالب بالحربية وتطلعاته الطبقية المظهرية المسرفة، ووجدت نفسها تتناقلها الأحضان بابتذال سافر ولكنها لم تزل متمسكة بقناع التستر إبقاء على قيمة ضخمة لديها هي “اسم الأسرة” وشرفها ومكانتها.. وهكذا وعرفت طريقها إلى بيوت البغاء السري، وهناك ضبطها بوليس الآداب في إحدى كبساته.. فكانت النهاية.
هذه المومس ماذا تحترم من القيم الإنسانية بعد أن احترفت البغاء في الخفاء؟
إنها تمثل صفة الرحم، صلة الأسرة والحنان الأخوي الشديد. وتمثل فدائية وبطولة من نوع سمين. وهي ترد على ظلم القدر حين جعلها دميمة باثبات أنها مرغوبة بأي شكل. وترد على ظلم المجتمع لأسرتها بالفقر بأنها قادرة على الكسب، وحين يهينها زبون سافل وغد ويرمي لها نصف الريال على الطوار “خطر لها خاطر فباخ غضبها وخمد، وحل محله خجل وخيبة، أجل، ألا يجوز “أنها لم ترق له ولم تعجب! هذا محتمل، هذا مرجح، هذا مؤكد!. وامضها شعور أليم بالحزن والقهر، ثم تنبهت لموقفها من الطوار فهمت بمغادرته ولكنها تذكرت القطعة الملقاة عند قدمها فنظرت إيها بغرابة دون أن تدري ما هي فاعلة. ثم، فأي شيء ثمة يدعوها لتركها؟!.
وفي نص ” الص والكلاب” نلتقي بنور.. وهو اسم مرادف في معناه -كما ذكرنا من قبل- لإسم سناء صاحبة حسن التي صارت له زوجة ” في كل شيء إلا العقد” وامتزجت حياتها بحياته في ارتباط شديد على الخير والشر.
ونور أيضا نراها الملاذ الوحيد لسعيد مهران حين يطارده الجميع ويتهدده حبل المشنقة. وتعلم أنه لا يحبها بل يحب امرأته السابقة الخائنة نبوية التي باعته لتتزوج تايعه السابق وهو سجين. ومع هذا تبذل له من نفسها وتتعرض على يد البوليس ولا تعترف عليه، وهي فعلا دقيقة كالنور، مضيئة في حياته المظلمة كالأمل. إلا أنه أعمى لا يرى نورها الذي يمثل الأمل. قلبه متحجر لا يرى إلا انتقام. وهي تتعب طول النهار والليل مع “زبائن” من كل صنف لتأتيه بالكباب والخمر والفطائر والثياب والسجائر، ومنهم شبان لعلهم طلبة. ضربوها ضربا مميتا لأنها طالبتهم بالحساب، “وكل الذي أحزنها وهي نصف ميتة من الألم والقيء أنها، لن تروق في عينيه الليلة”… ولم تنس أنتروي له ما قالته ضاربة الودع التي استشارته في طالعه: “سيجيء الأمان والإطمئنان”.
ثم تلخص نور آمالها في الحياة:
-أريد نومة مطمئنة وصحوة هنية وجلسة وديعة. هل يتعذر ذلك على رافع السموات السبع؟!.
نور هذه هي التي حدثته عن حبها للكلاب.
– ولم يخل بيتي منها أبدا حتى شهدت موت آخر واحدة وبكيت كثيرا فصممت ألا أعاشرها مرة أخرى.
فقال ساخرا:
ينبغي أن نتجنب الحب إذا توعدنا بالتعب…
– أنت لا تفهمني ولا تحبني.
نعم هو لا يفهمها ولا يحبها. فهو طالب انتقام وانتصار. أما نور المومس فامرأة شديدة التعلق بالعشرة الهنية وبالكلاب وقلبها الرقيق لا يتحمل فجائع فراق اأحبة من الكلاب ومن البشر على السواء. إنها تقدس الألفة وتفي لها قبل كل شيء، وتفتديها بكل ما في يدها.. وهي التي تقول لسعيد باكية:
– أنت لا تحبني ولكنك أعز عليّ من النفس والحياة.
وتقول له أيضا:
– أنت أقسى مما أتصور. لا أفهمك، ولكن بالله اقتلني رحمة بي.
-اجلسي لنتحدث في هدوء.
– أنت ما زلت تحب زوجتك، تلك الخائنة، لكنك تعذبني أنا.
وصمتت متأثرة بتوجعه الذي لم تره من قبل ثم قالت بحزن شديد:
– إني أشعر بأن أعز ما في حياتي يحتضر..
وإزاء هذا الوفاء الشديد – في مقابل خيانة الزوجة أم ابنته- لم يستطع سعيد مهران نفسه إلا أن يشعر لها بأقصى ما يستطيع من التأثر:
“ومال نحوها فجذبها من يدها، ولعق جبينها حتى امتلأ أنفه برائحة الخمر والعرق، ولم يتقزز.. بل قبلها بحنان صادق”.
في عالم الكلاب امرأة واحدة لم تكن كلبة. امرأة واحدة لها قلب. تلك هي المومس نور كما رسمها نجيب محفوظ، تحترف البغاء، ولكن البغاء لا يستعرقها.
دجاجة أخرى تلتقط رزقها من بين النفايات ولكن حياتها كلها ليست هذه النفايات.
وفي السمان والخريف نلتقي بنموذج آخر للمومس، فتاة الريف الطائشة التي سرقتها غرائزها وهي ظفلة ثم هربت مع رجل أغواها إلى الإسكندرية، وهناك صارت قطة من قطط الكورنيش التي ترابط بين الإبراهيمية وكامب شميزار. وتتخذ لها اسما مناسبا لوضعها الجديد:
“زيزي”.
في البداية كانت طفلة أدركتها الأنوثة قبل الأوان، وجرفتها، وعاشت بهذه الأنوثة في كنف من أغواها، قاطعة كل صلة بأسرتها في الريف فلو عادت بعدها أن هجرها لقتلوها. وبأنوثتها عاشت كما تعيش القطط الضالة.”دجاجة أخرى تلتقط رزقها من بين القاذورات”.
وفي هذه الظروف -ظروف الضياع وانقطاع الصلات جميعا في بحر الحياة المتلاطمة- التقت بعيسى السياسي السابق الضائع الذي تحطمت سفينته هو الآخر وعليه أن يسبح وحده في الظلام واالبرد.
ورآها ذات ليلة على الكورنيش “فوضح له شبابها ووسامة لا بأس بها في عارضها وابتذال نظرتها وجو التأهب لتلبية الإشارة كأنها كلب مهجور يلتمس عابرا يتبعه.
وفي الصباح أراد أن يتخلص منها بسرعة ولكنها أقبلت على مسكنه تنظغه وقالت له “في حياء حقيقي”:
– قلت لنفسي ربما كان في حاجة إلى أنس وخدمة.. فقال بدهشة:
– شكرا، لست في حاجة إلى شيء من هذا، أليس لك بيت؟
– كلا.
-أين كنت تعيشين؟
فقالت بهوان:
– عند صاحبة القهوة أحيانا، وأحيانا أبيت في القهوة.. ونحن لا نجد عملا في الشتاء وكان الصيف الماضي كالشتاء.. وأنا لم أدخر شيئا للشتاء، وأنت في حاجة إلى خدمة.
وقال في ضجر وقد ندم على الاسترسال في الحديث:
– من فضلك، وقتي ضيق..
وخرجت وخرج، ولكن عندما عاد في منتصف الليل وجدها قرب مدخل العمارة وقالت وهي تتأبط ذراعه بعد أن سبقته إلى داخلها:
– كنت أنتظرك، قلت لنفسي سيكون من حسن حظي إذا جاء وحيدا..
فقد كان لا بد للغارقة أن تتعلق بطوق في البحر الها\ج. وكان عيسى هذا الطوق. أخلدت إليه وأخلصت الخدمة والعشرة ولم تتقاضى شيئا سوى لقمتها وما كان يكسوها به، وخنعت لما حرمه عليها من التردد العافي إليه أو استعمال التعبيرات العذبة. في شتاء الإسكندرية الغائم صار يقضي معها الأيام المتعاقبة في صحبة كان من الممكن أن تكون بأنوسة لولا جفوة قلبه وفظاظة طبعه، فهو غريق مثلها ولكنه لا يرى فيها طوقا يعصمه من الهلاك.
وعندما اكتشفت أنها حامل طردها بوحشية. توسلت إليه فلم يسمع، ولما قابلها بعد أسابيع في محطة الرمل وحيته تجاهلها وأصر على أن لا يعرفها، وعاملها بازدراء صارم وتمر ست سنوات يعود فيها إلى القاهرة ويتزوج مطلقة غنية تطعمه وتعوله وهو عاطل مكتف بمعاشه الضئيل بعد إخراجه في التطهير. وتمضي أيامه وهو بلا نسل. وفي أحد أيام الصيف يراها جالسة على خزانة مطعم فول على الكورنيش تديره بمقدرة وحزم. ويرى طفلة في السادسة تجلس على حجرها بعض الوقت. عندئذ يثور شكه ويسأل ماسح أحذية فيخبره أن زيزي صارت زوجة لصاحب المطعم العجوز الذي أحبها وكتب الفتاة على اسمه، وهي مخلصة لهذا الزوج الذي دخل السجن في قضية مخدرات.. وتنتظر خروجه وهي في أشرف سيرة.
ويحاول أن يتحدث إلى زيزي فتتجاهله، ويكاد يجن لأنه يريد التمتع بابنته – وقد ثبت له من مضاهاة التاريخ أنها هي وزاد يقينه بشبهها الشديد بأخواته البنات – ولكن زيزي تصر. ويمنيها بالزواج إن طلقت السجين. ولكنها ترد بازدراء.
لقد كانت مومسا وهي غريقة. رضيت بطوق هزيل ولكنه أباه عليها، ووجدت العيش، “كتف زوج فلم تعد تطيق حياتها الأولى، لقد وجدت شط الأمان، قارب لها في البحر المتلاطم مرة أخرى.
لقد وجدت الدجاجة عشا نظيفا، فلم تعد ترضى لنفسها ما يذكرها بالنفايات”.
ويرى الضائعة التقت بعيسى الضائع بنفس الوقت. ولكنها أرادت النجاة وبحثت عنها ولم تفلتها حين وجدتها. وهذا ما لم يستطعه هو.. فمومس الضرورة والحاجة كانت في أعماقها شيئا آخر: كانت امرأة تقدس البيت، لا تبدل بالعيش الهادئ الأمين شيا.


صوفي عبد الله
مجلة الهلال رقم العدد: 11
تاريخ الإصدار:1 نوفمبر 1965



أعلى