خربطت الحرب الفلسطينية - الإسرائيلية في غزة حياتنا وقلبتها رأساً على قدم، فما قام به المقاومون الفلسطينيون في ٧ / ١٠ / ٢٠٢٣ ذكر كثيرين بحرب ١٩٧٣، ودفعهم إلى التساؤل إن كان ما يشاهدونه واقعاً أم خيالاً، والواقع والخيال وتحول أحدهما إلى الآخر شاع في الأدبيات الفلسطينية، وربما كان محمود درويش أبرز كاتب فلسطيني خاض فيه، فقد كتب في جداريته:
"فالأسطورة اتخذت مكانتها/ المكيدة في سياق الواقعي".
وفكرة الخيالي الذي يمكن أن يغدو واقعياً فكرة تأسست على أساسها دولة إسرائيل، وأول رواية صهيونية تخيلت إقامة دولة لليهود هي رواية (ثيودور هرتسل) "أرض قديمة جديدة" التي حملت عنواناً فرعياً هو "إذا أردتم فإنها ليست خرافة" (١٩٠٢)، وأظن أنها توراة اليهود المعاصرة التي ساروا عليها وما زالوا، بخصوص تهويد فلسطين كلها؛ أرضها ومدنها وعلى رأسها القدس، فالأرض تشترى من العرب والقدس تفرغ من السكان لتتحول إلى مدينة يهودية يؤمها السواح من العالم كله. وإذا ما بقي عرب فيها وأرادوا البقاء فإنهم يبيعون أرضهم برضا إلى اليهود، كما فعل رشيد بك في الرواية، ويستأجرونها منهم.
كانت رواية هرتسل بذرة لروايات صهيونية لاحقة كتبها يهود ومسيحيون أوروبيون صهيونيو التوجه مثل (ليون أوريس) صاحب رواية "اكسودس / الخروج" التي صدرت بعد تأسيس دولة إسرائيل، فصفحاتها الأخيرة تأتي على اللاجئين الفلسطينيين في غزة وتكتب عنهم، كما في القسم الرابع من الكتاب الخامس وهو الكتاب الأخير من الرواية.
في هذا القسم يكتب أوريس عن اللاجئين وينعتهم بالعجز واللصوصية والقتل والعيش عالة على صدقات الأمم المتحدة، وأنهم لا يفهمون سوى لغة القوة، ويبدو أن نتنياهو وحكومته وما يفعلونه بغزة خارج من معطف هذه الرواية. وهو ما يمكن ملاحظته في الفقرة الآتية:
"جرائم العصابات أوصلت في النهاية إلى معيار كهذا هو أن إسرائيل لم يبقَ أمامها إلا اللجوء إلى الإبادة. الجيش الإسرائيلي أوضح أنه يجب قتل عشرة عرب مقابل كل يهودي يقتل. الإبادة بدت للأسف هي اللغة الوحيدة التي فهمها العرب".
الفلسطينيون في غزة كما يكتب أوريس عنهم هم عصابات مجرمين يتسللون عبر الحدود من أجل السرقة.
إنهم عاجزون لا يفعلون ينظمهم المصريون ويرسلونهم عبر الحدود ليحرقوا الحقول ويقتلوا الإسرائيليين، ولا يكتب أوريس أن هؤلاء كانوا في أرضهم وفي مدنهم وقراهم مزارعين وحرفيين مهرة، وأن الإسرائيليين هم من جعلوا منهم متسللين لهم حق يطالبون به.
ما سبق رد عليه غسان كنفاني في روايته "عائد إلى حيفا" التي كتبت لدحض الرواية الصهيونية.
صحيح أن سعيد. س في الرواية كان، بعد ١٩٤٨، عاجزاً ولا يفعل شيئاً من أجل استرداد بيته، ولكن ابنه خالد انتمى للفدائيين ومثله سعد في رواية "أم سعد" التي تعد جزءا يكمل ما انتهت إليه "عائد إلى حيفا". الفلسطيني العاجز صار مقاتلاً.
ترى ماذا سيقول هرتسل وأوريس لو رأيا ما حدث في قطاع غزة منذ ١٩٦٧؟
الذاكرة تعيد القارئ إلى ما كتبه معين بسيسو في كتابه "يوميات غزة" (١٩٧٠) وإلى كتب أخرى كتبت في الفترة نفسها كرواية هارون هاشم رشيد "سنوات العذاب" التي كتبت عن الفدائي في أثناء احتلال قطاع غزة في العام ١٩٥٦ ومجدته باعتباره بطلاً.
ولطالما ركز بسيسو على الفلسطيني المقاوم واستحضر شخصية شمشون الإسرائيلي الذي ذلته غزة، وعلى الفلسطينية دليلة التي وقفت إلى جانب شعبها فأفشت سر زوجها شمشون ليتم أسره.
وشمشون الذي استحضره بسيسو في مسرحيته "شمشون ودليلة" وفي يومياته "يوميات غزة" حضرت الكتابة عنه في رواية أوريس باعتباره بطلاً أوقف البوابة؛ بوابة غزة، على إصبعه، وها هو الإسرائيلي الجديد يتتبع خطى سلفه القديم.
إن "يوميات غزة" يؤرخ ما شهدته غزة منذ ١٩٤٨ ويكتب عن الفلسطيني المقاوم الذي أذل شمشون وربطه وجعله يدير الطاحونة.
كان سر قوة شمشون في شعره، وأما سر قوة إسرائيل في هذه الحرب فيكمن في سلاح جوها الذي دمر مباني غزة ومسح أحياءها، لأنه لم يستوعب ما قام به المقاومون الفلسطينيون، وسواها بالأرض كما فعل في الضاحية الجنوبية لبيروت في العام ٢٠٠٦، وهو ما يذكر بما قام به الحلفاء في الحرب العالمية الثانية لكي ينهوا الحرب، إذ مسحوا مدينتين ألمانيتين عن وجه الخريطة هما (دريسدن) و (أوغسبرج) باعتبارهما مدينتين صناعيتين تصنعان السلاح الذي يمد الجيش الألماني.
كتب بسيسو في يومياته عن تحولات غزة إلى مدينة مقاومة منذ ظهور الفدائي في احتلال المدينة الأول في ١٩٥٦ وفي احتلالها الثاني في ١٩٦٧ ورأى في الفدائي "رسول الفلسطينيين الجدد.. أحفاد الفلسطينيين القدامى إلى شمشون الإسرائيلي الجديد.. إلى ذلك الوحش الذي ليست قوته في شعره، ولكن في عضلات جنازير دباباته.. لم يكن رسول غزة الجديدة هو "دليلة" ابنتهم الجميلة العذراء - بل كان رسولهم "دليلة أخرى".. هي القنبلة، إصبع الديناميت.. ومشط الرصاص".
هل اختلف الواقع بعد وفاة بسيسو في ١٩٨٤؟
منذ ١٩٨٧ والفلسطيني في غزة يقاوم الاحتلال والحصار ويواصل جيل جديد من مواليد اللجوء ما بدأه الأجداد.
في رواية يحيى السنوار "الشوك والقرنفل" (٢٠٠٤) تصوير لتحولات الطفل الفلسطيني اللاجئ أوصل إلى ما نشاهده والسبب؟؟؟
لا أظن أنه بحاجة إلى كتابة، فأهل غزة ونحن نعيشه!!
عادل الأسطة
2023-10-15
"فالأسطورة اتخذت مكانتها/ المكيدة في سياق الواقعي".
وفكرة الخيالي الذي يمكن أن يغدو واقعياً فكرة تأسست على أساسها دولة إسرائيل، وأول رواية صهيونية تخيلت إقامة دولة لليهود هي رواية (ثيودور هرتسل) "أرض قديمة جديدة" التي حملت عنواناً فرعياً هو "إذا أردتم فإنها ليست خرافة" (١٩٠٢)، وأظن أنها توراة اليهود المعاصرة التي ساروا عليها وما زالوا، بخصوص تهويد فلسطين كلها؛ أرضها ومدنها وعلى رأسها القدس، فالأرض تشترى من العرب والقدس تفرغ من السكان لتتحول إلى مدينة يهودية يؤمها السواح من العالم كله. وإذا ما بقي عرب فيها وأرادوا البقاء فإنهم يبيعون أرضهم برضا إلى اليهود، كما فعل رشيد بك في الرواية، ويستأجرونها منهم.
كانت رواية هرتسل بذرة لروايات صهيونية لاحقة كتبها يهود ومسيحيون أوروبيون صهيونيو التوجه مثل (ليون أوريس) صاحب رواية "اكسودس / الخروج" التي صدرت بعد تأسيس دولة إسرائيل، فصفحاتها الأخيرة تأتي على اللاجئين الفلسطينيين في غزة وتكتب عنهم، كما في القسم الرابع من الكتاب الخامس وهو الكتاب الأخير من الرواية.
في هذا القسم يكتب أوريس عن اللاجئين وينعتهم بالعجز واللصوصية والقتل والعيش عالة على صدقات الأمم المتحدة، وأنهم لا يفهمون سوى لغة القوة، ويبدو أن نتنياهو وحكومته وما يفعلونه بغزة خارج من معطف هذه الرواية. وهو ما يمكن ملاحظته في الفقرة الآتية:
"جرائم العصابات أوصلت في النهاية إلى معيار كهذا هو أن إسرائيل لم يبقَ أمامها إلا اللجوء إلى الإبادة. الجيش الإسرائيلي أوضح أنه يجب قتل عشرة عرب مقابل كل يهودي يقتل. الإبادة بدت للأسف هي اللغة الوحيدة التي فهمها العرب".
الفلسطينيون في غزة كما يكتب أوريس عنهم هم عصابات مجرمين يتسللون عبر الحدود من أجل السرقة.
إنهم عاجزون لا يفعلون ينظمهم المصريون ويرسلونهم عبر الحدود ليحرقوا الحقول ويقتلوا الإسرائيليين، ولا يكتب أوريس أن هؤلاء كانوا في أرضهم وفي مدنهم وقراهم مزارعين وحرفيين مهرة، وأن الإسرائيليين هم من جعلوا منهم متسللين لهم حق يطالبون به.
ما سبق رد عليه غسان كنفاني في روايته "عائد إلى حيفا" التي كتبت لدحض الرواية الصهيونية.
صحيح أن سعيد. س في الرواية كان، بعد ١٩٤٨، عاجزاً ولا يفعل شيئاً من أجل استرداد بيته، ولكن ابنه خالد انتمى للفدائيين ومثله سعد في رواية "أم سعد" التي تعد جزءا يكمل ما انتهت إليه "عائد إلى حيفا". الفلسطيني العاجز صار مقاتلاً.
ترى ماذا سيقول هرتسل وأوريس لو رأيا ما حدث في قطاع غزة منذ ١٩٦٧؟
الذاكرة تعيد القارئ إلى ما كتبه معين بسيسو في كتابه "يوميات غزة" (١٩٧٠) وإلى كتب أخرى كتبت في الفترة نفسها كرواية هارون هاشم رشيد "سنوات العذاب" التي كتبت عن الفدائي في أثناء احتلال قطاع غزة في العام ١٩٥٦ ومجدته باعتباره بطلاً.
ولطالما ركز بسيسو على الفلسطيني المقاوم واستحضر شخصية شمشون الإسرائيلي الذي ذلته غزة، وعلى الفلسطينية دليلة التي وقفت إلى جانب شعبها فأفشت سر زوجها شمشون ليتم أسره.
وشمشون الذي استحضره بسيسو في مسرحيته "شمشون ودليلة" وفي يومياته "يوميات غزة" حضرت الكتابة عنه في رواية أوريس باعتباره بطلاً أوقف البوابة؛ بوابة غزة، على إصبعه، وها هو الإسرائيلي الجديد يتتبع خطى سلفه القديم.
إن "يوميات غزة" يؤرخ ما شهدته غزة منذ ١٩٤٨ ويكتب عن الفلسطيني المقاوم الذي أذل شمشون وربطه وجعله يدير الطاحونة.
كان سر قوة شمشون في شعره، وأما سر قوة إسرائيل في هذه الحرب فيكمن في سلاح جوها الذي دمر مباني غزة ومسح أحياءها، لأنه لم يستوعب ما قام به المقاومون الفلسطينيون، وسواها بالأرض كما فعل في الضاحية الجنوبية لبيروت في العام ٢٠٠٦، وهو ما يذكر بما قام به الحلفاء في الحرب العالمية الثانية لكي ينهوا الحرب، إذ مسحوا مدينتين ألمانيتين عن وجه الخريطة هما (دريسدن) و (أوغسبرج) باعتبارهما مدينتين صناعيتين تصنعان السلاح الذي يمد الجيش الألماني.
كتب بسيسو في يومياته عن تحولات غزة إلى مدينة مقاومة منذ ظهور الفدائي في احتلال المدينة الأول في ١٩٥٦ وفي احتلالها الثاني في ١٩٦٧ ورأى في الفدائي "رسول الفلسطينيين الجدد.. أحفاد الفلسطينيين القدامى إلى شمشون الإسرائيلي الجديد.. إلى ذلك الوحش الذي ليست قوته في شعره، ولكن في عضلات جنازير دباباته.. لم يكن رسول غزة الجديدة هو "دليلة" ابنتهم الجميلة العذراء - بل كان رسولهم "دليلة أخرى".. هي القنبلة، إصبع الديناميت.. ومشط الرصاص".
هل اختلف الواقع بعد وفاة بسيسو في ١٩٨٤؟
منذ ١٩٨٧ والفلسطيني في غزة يقاوم الاحتلال والحصار ويواصل جيل جديد من مواليد اللجوء ما بدأه الأجداد.
في رواية يحيى السنوار "الشوك والقرنفل" (٢٠٠٤) تصوير لتحولات الطفل الفلسطيني اللاجئ أوصل إلى ما نشاهده والسبب؟؟؟
لا أظن أنه بحاجة إلى كتابة، فأهل غزة ونحن نعيشه!!
عادل الأسطة
2023-10-15