أُسْعِدْتُم أوقاتاً...
في مقالهِ القيِّم المنشور في أحد أعداد مجلّة( فصول) المصريّة المعنيّة بقضايا النقد ونظريّة الأدب، والذي يحمل عنوان" التساؤل على شفا المنزَلَق" يبيّن أستاذنا الراحل البروفيسور( أنور لوقا) المخاطر الجمّة التي تعترض وتكتنف صياغة المصطلح العلميّ، وما قد يترتّب على ذلك أحياناً من عواقب وخيمة لدى العامّة على وجه الخصوص .
جاء في المقال :
" ونقول " المنزَلَق" على وزن" المُصطلَح" ، كأنّ خطر الخطأ عند الكلام داهم دائم: لا يُحدق فحسب بمبادرات الناطق أو مغامراته، الذي ينتقي الألفاظ عن وعيّ ، ويضمّ بعضها إلى بعض- وقد يجتزئها- لتكوين تراكيبه المفيدة؛ بل يكمن هذا الخطر منذ البداية في مادة اللفظ المفرَد التي لا بدّ لها من أنْ تتشكّل بأشكالها المعهودة والمحدودة كي تستطيع- صوتيّاً ونحويّاً وصرفيّاً- أنْ تحتضن المعنى، أي تنضّد عناصره الجديدة في سلكها هذا المطروق . وذلك تدخّل في نيّة الناطق أثناء ترتيبها في مدارج الإفادة( ويُقال " تقييدها")،
وتطويع للفكر حسب ما تستبقيه من مقوّمات اللغة، وما تفرضه عليه، حتّى انتهاء المطاف بالسكوت، الذي نصّت على شروط استحسانه كتب القواعد القديمة . وقد أدرك الدّارسون في عصرنا أهمّيّة تلك الظواهر والتفاعلات الدقيقة التي توجّه سريان المعنى، واستحدثوا لاستقصائها مناهج متخصصة.
وما زالت في إثرها بحوث ( اللسانيّات) و( التحليل النفسي)
تتسابق وتتلاحق؛ فبعد أنْ أفلح" فرويد" في استكشاف لا وعي الإنسان ، جاء" لاكان" فدعا إلى استكشاف لا وعي اللغة.
........ ثمّ يقول في المقال نفسه تحت عنوان"
" ديموقراطيّة" أو التعريف القاطع:
" من المفارقات المذهلة ما جرى في مطلع القرن العشرين بمصر لمثقّف كبير هو( أحمد لطفي السيّد) الذي أُطلِق عليه بحقّ لقب " أُستاذ الجيل" فلقد شارك بوصفه أديباً ملتزماً في إصلاح حياة مواطنيه، صحفيّاً ينشر" الجريدة" وجامعيّاً يدرّس الفلسفة، ومترجماً يعرّب( أرسطو) ، ثمّ وزيراً يضع يده على دفّة سياسة الدولة . ولا مندوحة عن المصطلح اللفظيّ لمفكّر مثله، ابتغى تجديد المجتمع، أي تغيير الأمور المعروفة لدى الجماهير ، ولمترجم في الوقت ذاته أمين، راح يسائل المعاجم العربيّة ويستكملها بالمفاهيم المستحدثة. وقد كان لإدخال ( لطفي السيّد) لفظة " الديموقراطيّة" في بيئة ريفيّة يغلب عليها الأميّون صدمة مؤلمة، ردّد صداها تلميذه( طه حسين) في مقال طويل هذه فاتحته:
" وقعت هذه القصّة القصيرة التي تغري بالضّحك وتغري بالتفكير العميق أيضاً .
وقعت لأستاذنا الجليل( أحمد لطفي السيّد) في بعض الانتخابات التي كانت تجري في مصر أثناء السنين الأولى من هذا القرن . ولست أذكر أكانت في انتخاب لمجلس الإقليم أم كانت في انتخاب للجمعيّة التشريعيّة حين أُنشئت ، ولكنّ المحقّق أن أستاذنا الجليل رشّح نفسه لأحد هذه الانتخابات، وكان له منافس لا يرقى إلى ثقافته ولا إلى علمه ومقامه الرفيع الممتاز في الفلسفة والأدب، بل كان أميّاً أو كالأمّي، يقرأ أو يكتب إلى حدّ متواضع جدّاً، ولكنّه كان واسع الثراء عريض الجاه .
وقد انتصر على أستاذنا في ذلك الانتخاب، وكان سبب انتصاره غريباً حقّاً؛ فقد زعم للناخبين أنّ أستاذنا رجل ديموقراطيّ، وأنّه من أجل ذلك لا يصلح لتمثيل المدينة.
فلمّا سأله الناخبون عن الرجل الديموقراطيّ ما هو، قال: هو الذي يبيح للمرأة أنْ تعدّد أزواجها كما يُباح للرجل أنْ يُعدّد زوجاته . وأنكر الناخبون هذه الديموقراطية، لأنهم لم يكونوا قدسمعوا بها، ولم يُتَح لهم أنْ يعرفوا حقائقها. فذهب فريق منهم إلى أستاذنا وسألوه: أفي الحقّ أنّك ديموقراطي كما يزعم منافسك في الانتخاب؟ قال الأستاذ مبتسماً ومغتبطاً أيضاً: أجل أنا ديموقراطي وأفخر بديموقراطيّتي . وانصرف الناخبون وقد استيقنوا أنّه يُبيح للمرأة أنْ تُعدّد أزواجها كما يُباح للرجل أنْ يعدد زوجاته. وصوّتوا جميعاً لمنافس أستاذنا الجليل".
ومن الواضح أنّ المعنيين هنا بمضمون" الديموقراطيّة" -أي الناخبين- لم يتلقّوا هذا المضمون مع اللفظ الجديد عليهم.
وظلّت" الديموقراطيّة"، برغم فخامة تعريبها بالقاف والطاء، دالّاً مستغلقاً يبحثون عن مدلوله، حتّى طلع عليهم المرشح الأميّ بتعريف صريح . واستنكر القوم ذلك المضمون الفاضح، ولكنّهم اقتنعوا بصحّة التعريف؛ إذ لم يقدّم لهم أحد بديلاً عنه. لا تكفي إذن سلامة المصطلح فنّياً ، ودقّة تخصّصه ،
وعمق جذوره الحضاريّة، إذا لم يحمل ظاهره لمَن يتلقّاه مفهوماً أو " فائدة" على حسب تعبير النّحاة والبلاغيين القدماء . والتعريف الخاطئ والوحيد معاً هو تعريف" قاطع"-
ويراودنا أن ننسب ما نستشفّه من معنى القطع في هذه الصّفة إلى القطيعة التي تعزل المصطلح عن مفهومه! ".
دكتور زياد العوف
في مقالهِ القيِّم المنشور في أحد أعداد مجلّة( فصول) المصريّة المعنيّة بقضايا النقد ونظريّة الأدب، والذي يحمل عنوان" التساؤل على شفا المنزَلَق" يبيّن أستاذنا الراحل البروفيسور( أنور لوقا) المخاطر الجمّة التي تعترض وتكتنف صياغة المصطلح العلميّ، وما قد يترتّب على ذلك أحياناً من عواقب وخيمة لدى العامّة على وجه الخصوص .
جاء في المقال :
" ونقول " المنزَلَق" على وزن" المُصطلَح" ، كأنّ خطر الخطأ عند الكلام داهم دائم: لا يُحدق فحسب بمبادرات الناطق أو مغامراته، الذي ينتقي الألفاظ عن وعيّ ، ويضمّ بعضها إلى بعض- وقد يجتزئها- لتكوين تراكيبه المفيدة؛ بل يكمن هذا الخطر منذ البداية في مادة اللفظ المفرَد التي لا بدّ لها من أنْ تتشكّل بأشكالها المعهودة والمحدودة كي تستطيع- صوتيّاً ونحويّاً وصرفيّاً- أنْ تحتضن المعنى، أي تنضّد عناصره الجديدة في سلكها هذا المطروق . وذلك تدخّل في نيّة الناطق أثناء ترتيبها في مدارج الإفادة( ويُقال " تقييدها")،
وتطويع للفكر حسب ما تستبقيه من مقوّمات اللغة، وما تفرضه عليه، حتّى انتهاء المطاف بالسكوت، الذي نصّت على شروط استحسانه كتب القواعد القديمة . وقد أدرك الدّارسون في عصرنا أهمّيّة تلك الظواهر والتفاعلات الدقيقة التي توجّه سريان المعنى، واستحدثوا لاستقصائها مناهج متخصصة.
وما زالت في إثرها بحوث ( اللسانيّات) و( التحليل النفسي)
تتسابق وتتلاحق؛ فبعد أنْ أفلح" فرويد" في استكشاف لا وعي الإنسان ، جاء" لاكان" فدعا إلى استكشاف لا وعي اللغة.
........ ثمّ يقول في المقال نفسه تحت عنوان"
" ديموقراطيّة" أو التعريف القاطع:
" من المفارقات المذهلة ما جرى في مطلع القرن العشرين بمصر لمثقّف كبير هو( أحمد لطفي السيّد) الذي أُطلِق عليه بحقّ لقب " أُستاذ الجيل" فلقد شارك بوصفه أديباً ملتزماً في إصلاح حياة مواطنيه، صحفيّاً ينشر" الجريدة" وجامعيّاً يدرّس الفلسفة، ومترجماً يعرّب( أرسطو) ، ثمّ وزيراً يضع يده على دفّة سياسة الدولة . ولا مندوحة عن المصطلح اللفظيّ لمفكّر مثله، ابتغى تجديد المجتمع، أي تغيير الأمور المعروفة لدى الجماهير ، ولمترجم في الوقت ذاته أمين، راح يسائل المعاجم العربيّة ويستكملها بالمفاهيم المستحدثة. وقد كان لإدخال ( لطفي السيّد) لفظة " الديموقراطيّة" في بيئة ريفيّة يغلب عليها الأميّون صدمة مؤلمة، ردّد صداها تلميذه( طه حسين) في مقال طويل هذه فاتحته:
" وقعت هذه القصّة القصيرة التي تغري بالضّحك وتغري بالتفكير العميق أيضاً .
وقعت لأستاذنا الجليل( أحمد لطفي السيّد) في بعض الانتخابات التي كانت تجري في مصر أثناء السنين الأولى من هذا القرن . ولست أذكر أكانت في انتخاب لمجلس الإقليم أم كانت في انتخاب للجمعيّة التشريعيّة حين أُنشئت ، ولكنّ المحقّق أن أستاذنا الجليل رشّح نفسه لأحد هذه الانتخابات، وكان له منافس لا يرقى إلى ثقافته ولا إلى علمه ومقامه الرفيع الممتاز في الفلسفة والأدب، بل كان أميّاً أو كالأمّي، يقرأ أو يكتب إلى حدّ متواضع جدّاً، ولكنّه كان واسع الثراء عريض الجاه .
وقد انتصر على أستاذنا في ذلك الانتخاب، وكان سبب انتصاره غريباً حقّاً؛ فقد زعم للناخبين أنّ أستاذنا رجل ديموقراطيّ، وأنّه من أجل ذلك لا يصلح لتمثيل المدينة.
فلمّا سأله الناخبون عن الرجل الديموقراطيّ ما هو، قال: هو الذي يبيح للمرأة أنْ تعدّد أزواجها كما يُباح للرجل أنْ يُعدّد زوجاته . وأنكر الناخبون هذه الديموقراطية، لأنهم لم يكونوا قدسمعوا بها، ولم يُتَح لهم أنْ يعرفوا حقائقها. فذهب فريق منهم إلى أستاذنا وسألوه: أفي الحقّ أنّك ديموقراطي كما يزعم منافسك في الانتخاب؟ قال الأستاذ مبتسماً ومغتبطاً أيضاً: أجل أنا ديموقراطي وأفخر بديموقراطيّتي . وانصرف الناخبون وقد استيقنوا أنّه يُبيح للمرأة أنْ تُعدّد أزواجها كما يُباح للرجل أنْ يعدد زوجاته. وصوّتوا جميعاً لمنافس أستاذنا الجليل".
ومن الواضح أنّ المعنيين هنا بمضمون" الديموقراطيّة" -أي الناخبين- لم يتلقّوا هذا المضمون مع اللفظ الجديد عليهم.
وظلّت" الديموقراطيّة"، برغم فخامة تعريبها بالقاف والطاء، دالّاً مستغلقاً يبحثون عن مدلوله، حتّى طلع عليهم المرشح الأميّ بتعريف صريح . واستنكر القوم ذلك المضمون الفاضح، ولكنّهم اقتنعوا بصحّة التعريف؛ إذ لم يقدّم لهم أحد بديلاً عنه. لا تكفي إذن سلامة المصطلح فنّياً ، ودقّة تخصّصه ،
وعمق جذوره الحضاريّة، إذا لم يحمل ظاهره لمَن يتلقّاه مفهوماً أو " فائدة" على حسب تعبير النّحاة والبلاغيين القدماء . والتعريف الخاطئ والوحيد معاً هو تعريف" قاطع"-
ويراودنا أن ننسب ما نستشفّه من معنى القطع في هذه الصّفة إلى القطيعة التي تعزل المصطلح عن مفهومه! ".
دكتور زياد العوف