كانت نيابة الدخيلة عامرة بالمُستغرَب من الحوادث، كانت لا تمُر بي إلا تاركة في نفسي ووجداني أثرًا، لم تستطع الأيام أن تمحوه، ومنها أن أُنيط بي حضور تنفيذ حكم إعدام، وقضاء بعض الوقت في غرفة الإعدام.
تلك المناسبة، كان بطلها شابًّا طُموحاتِه واسعة، لا حُدودَ لها، بل كانت تَفوق في سِعتِها خَياله اللامُتناهي وحُلمهُ الكبير في أن يُصبحَ واحدًا من كبار الأثرياء، وضاقت رأسه وقريته الصغيرة بهذه الأحلام والتطلعات.
وبينما كان هذا الشابُ أسيرَ هذه الأحلام الكبيرة والآمال العريضة تَصادَف أن التَقى بواحدٍ من أصدقائه، نزح إلى الساحل الشمالي بحثًا عن الرِّزق، راح الصديق يُعدِّد له ما يدور في هذا الساحل العَجيب من مظاهر التَّرف والبَذَخ والثراء والإسراف أيضًا، وما يُنفَقُ فيه من أموالٍ، لا حدودَ لها في التشييد والبناء واللهو والسَّمَر والجِد والعبَث.
كان الشابُ حتى هذه اللحظة لم يَهدِهِ تفكيره بَعد إلى نقطة البداية في مشوار تحقيق أحلامه، وهنا شَعَرَ أن هذا الصديق، هو بشير ذلك الهاتف الذي طالما ألحَّ في أعماقه بأنَّ شيئًا خَطيرًا سوف يحدثُ في حياته؛ لمَعَت عيناهُ من شِدَّة الفرح، وانفرَجَت أساريرُ وجهه، وقرر على الفور أن يَنزح إلى هذا الساحل العجيب.
تَراقصَت خيالات الحُلم أمام عينيه، وارتسمَت صُور الثراء الذي يَحلمُ به في مخيلته وطلَبَ من صديقه أن يَطيرَ به فورًا إلى هناك.
وما أن وطِئَت قدماه قرية مارينا السياحية الشهيرة حتى كاد يُغشَى عليه؛ إنَّ القرية بما فيها، وما حولها تبدو كقطعة من أوروبا. لقد تلقَى تعليمه الجامعي بالقاهرة، ورأى غرائبها وعَجائبها وجمالها، ولكنه لم يَتخيل أبدًا ما وقَعَت عليه عيناه في هذا المكان السَاحر العجيب؛ انبهرَ الشابُ بما رأى، وشَرَدَ بذهنه شُرودًا عميقًا، لم يستطع صديقه أن يَجدَ له تفسيرًا، ولم يُجب هو عن سبب هذا الشرود، حين سأله الصديق عما بدا على ملامحه من انفعالاتٍ متناقضة، بل أومَأَ برأسه أنْ لا شيء، وظل ساعتها شاردًا مبَهورًا.
تَعرَّف الشابُ على سُبُل العِمالةِ في القرية، ولكنه لم يَرضخ لأي عمل يُقابله كغيره من الشباب؛ نَفَرَ من العمل في المعمار بجميع مجالاته، واستاءَ من حِرفة عمال الأمن الخصوصيين بمداخل القرى ومخارجها، أو على المحلات التي فيها، وأبَى أن يكون بائعًا في حانوت.
وذات ليلةٍ من ليالي الصَيف الناعمة النسمات جلس يَحتسِى فنجانًا من القهوة في رُكنٍ خافت الأضواءِ بأحد المقاهي الفاخرة ثم أشعلَ سيجارته، وشَرَدَ يَنظرُ في لا شيء بين سحاباتِ الدخان الذي يَنفثهُ في الهواء، وراحت صُور الثراءِ الذي يَحلمُ به تتراقص أمام عينيه من جديد فقد كان مقتنعًا بما قاله صديق له:
- اِظهر بمظهر الأغنياء، وإن اقترضتَ مالا، حتى تجد عملا.
وبينما كانت تلك الخيالات تدور برأسه، وهو على هذه الحالة من الشرود؛ حتى فوجئ بمن يحدثه، رجلٌ أنيقٌ، يرتدى حُلةً فاخرة، وتبدو على ملامحه مَظاهر الثراء، كان هذا الرجل قد جلسَ منذ قليل قريبًا منه، لكنه من فَرْطِ شُرودِهِ لم يشعر به إلا وهو يُحدثه.
سأله الرجل من أي البلاد هو؟ وعن سبب وجوده في القرية. قال الشاب في أدبٍ جَمٍّ وتواضُع ملحوظ إنه يسعى إلى الرزق؛ لأن "القُوَى العاملة" لن تنظرَ في أمر أمثالهِ من الخِرِّيجينَ قبل أعوام وأعوام، وربما لا تنظرُ في أمرهم أبدًا، واستمر الحوار بينهما بعضًا من الوقت.
تَوسَّم الرجل في ترتيب كلماته وفى الحَدِّ المعقول الذي يُحافظ به على مَظهره أن يكونَ الشاب من المقبلين على العَمَل، فعرَض عليه أن يَعملَ معه، وأنه إذا استطاع إثبات أمانتهِ وإخلاصِهِ والدِّقةَ في الأداء فلسوف يكون له شأن عظيم، فهو مُستثمر كبير، جاء إلى هذا المكان لاستثمارِ أمواله وتنميتها ويُحب التفاني في العَمل والإخلاصَ فيه إلى أبعَد الحدود.
استَفسَرَ منه الشاب عن ماهية العمل الذي يضطلع به، وفرحَ كثيرا حين أخبره الرجل عن حاجته إلى شخص أمين مُتَّقد النشاط، يُشرف على مواقع العمل، ويُقدِّم له تقريرًا يوميًا وافيًا ودقيقًا عما ينجزونه من أعمال، وما يَراه من ملاحظات، وأنه سيُخصِّصُ له سيارة من أجل هذا الغرض.
شَعَرَ الشابُ أَّن ليلة القدر قد فتحت له أبوابها، لا سيما حين أردفَ الرجل، يقول إنه سَيُسلمه مفتاح الشاليه الخاص به ليَتخذه مسكنًا.
بدأ الشابُ العملَ، وانتظمَ فيه، وأبلى بلاءً حسنًا على نحو نال إعجابَ الرجل، فأجزَلَ له العَطاء، حتى بلغ مُجمل دَخلِهِ رقمًا، لم يكن يحلم به على الإطلاق، وشيئًا فشيئًا تجاوَزت العلاقة بينهما حُدودَ العامل وربِّ العمل، فكان يَصحبهُ معه في كل أسفاره، ويُشركهُ في تفكيره ومشروعاته وأعماله، مُعجبًا بآرائه، وسرعان ما تطورت العلاقة بينهما رُويدًا رُويدًا إلى علاقة صديقين حميمين، فتعرَّف الشابُ على أسرة الرجل، وعَرَفَ كل أسراره، ومستودع هذه الأسرار، بل الأموال.
ولكن الشاب لم يَقنَع بالخير الوفير الذي راح يجنيه في كل يوم حَلالاً طيبًا، وحَدَّثه شيطانه بأنَّ الطريق إلى بلوغ غايته بهذا الشكل، سيظلُ بعيدًا بعيدًا، فدارَت برأسه الوساوس والشُرور؛ لماذا يكون تابعًا لهذا الرجل؟ لماذا لا يكون مَتبوعًا مثله، ويكون في خدمته عشرات من أمثاله من الشباب؟ ووقر في ذهنه أمر كان مفعولا.
لقد أبصَر الشابُ الخزينة الخاصة بالرجل التي يحتفظ بها في مسكن آخر مستقل، فكم من مرَّة ذهبَ معه لنقل مبالغ مالية كبيرة منها وإليها لإنجاز أعماله، ومن هنا فقد عرف حجم ما فيها من مبالغ سائلة، كان شيطانه لم يزل يوسوس له، إنها فرصة والفرصة لا تأتى إلا مَرَّة واحدة، لا مَفرَّ إذن من قتله، والأمر لا صُعوبة فيه، فمفتاح الخزينة ضِمن مفاتيح السيارة، راقت له الفكرة واختَمَرت في رأسه، وراح يَتحيَّن الفرصة لتنفيذها.
وفى الليلةِ المحتومةِ كان الرجل في مَعيته بالشاليه، وبعد أن قضيا سهرتهما في حديث أخوي رقيق، آوى الرجل إلى فراشه في الحجرة الخاصة به داخل الشاليه، وما أن لامسَت رأسه وسادة سريره حتى راح من شِدة الإرهاق في نومٍ عميق، بينما ظل الشاب مُستيقظا يَدفعه شيطانه دفعًا إلى تنفيذ جُرمه، ثم كانت الجريمة.
قام الشاب إلى حجرة الرجل، وقد حَمَلَ حَجرًا كبيرًا كان قد أعدَّه لهذا الغرض، وهوَى به فوق رأسه فجأة، فانفَجَرَ الدمُ من الرأس المغدور به، ثم عاد، وضرَبه بذات الحَجَر ضربةً أخرى قوية قاصدًا إزهاق روحه، فخارت قُواه رويداً رويدًا بَيْدَ أن أنفاسه كانت لم تزل تَتردد بين جوانحه، أسرع إلى المطبخ، واستلَّ سِكينًا كبيرًا، وراح يَطعنه به بلا شفقة ولا رحمة طعنات مُتوالياتٍ قاسياتٍ في بطنهِ وصـدرهِ ورقبتهِ، ثم لم يكتفِ بكل هذه الخسَّة وهذا الغدر، فجاء بسلكٍ كهربائيٍّ رَبطهُ في قدَميه وأوصله بالتيار، ففاضت الروح إلى بارئها، لا راضيةً، ولا مرضية، وإنما شاكية له غدر الإنسان بالإنسان.
كان الليل لم يَزل يُرخِى سُدُوله على الكون، رَبَطَ الشابُ حَبلاً غليظًا في الجثة، وجرَّها دون رحمة، وألقَى بها في بالوعةٍ للصرف الصِحي تحت الإنشاء، ثم تَخلَّص من آثار جريمته في الشاليه، فأزالَ آثارَ الدماءِ، وفى الصباح تَوجَّهَ مُسرعًا إلى المدينة الكائن بها الخزينة، ونَهَبَ منها ما نَهَبَ من أموال.
وكانت عدالة السماء له بالمرصاد، انكشَفَ أمرُ الواقعة، ولم يَجد الشاب مَناصًا من الاعتراف بجُرمه اعترافًا تفصيليًا، لم تَشبهُ شائبة، فيُسَاقُ إلى محكمة الجنايات؛ لتقضى بمعاقبته بالإعدام، وتأيد الحكم، وصَدَّق عليه رئيس الجمهورية.
وهنا جاء دَوري، ولكنه في هذه القضية كان مُتأخرًا، لم أكن مُحققًا، ولا مُترافعًا فيها، وإنما أُنيطَ بيَ مُهمة أثقل من ذلك بكثير، هي حُضور تنفيذ الحكم الصادر بالإعدام، يا لها من مهمةٍ شاقة وقاسية؛ فمتى صار الحكم بالإعدام نهائيًا وجَبَ رفع أوراق الدعوى فورًا إلى السيد رئيس الجمهورية، يرفعها إليه السيد وزير العدل، ويُنفَّذ الحكم إذا لم يصدر الأمر بالعفو، أو بإبدال العقوبة في ظرف أربعة عشر يومًا.
وفى تمام الساعة السابعة صباحًا كنتُ في ديوان سجن الاستئناف بالإسكندرية؛ فإن تنفيذ الحكم قد تَحدد له الساعة الثامنة صباحًا، جلستُ ومَن في مَعيَّتي ننتظرُ مُرور الوقت، كانت الدقائق تمر ثقيلة ثقيلة.
دارَ أمامي شَريط الأحداث، تذكرتُ قول المتهم، وهو يُحدث نفسه حين راح يَصفُ لصاحبه طُمُوحاته:
بأنَّ "هاتفًا كان يُلحُّ عليه في أعماقه أنَّ شيئًا خطيرًا سوفَ يحدثُ في حياته".
نعَم. إنَّ شيئًا خطيرًا سيحدث اليوم - حقًا - في حياته؛ لقد صَدَقَ حَدْسُه.
ثم كان المشهد الأخير من سيناريو قصة هذا الحُلم، ففي الثامنة إلا خمس دقائق خرجنا من مكتب المأمور إلى فِناء السجن، واتخذنا من أمام غرفة الإعدام مَوقعًا، وأحضر "عشماوي" ومساعدوه والحراس الشابَ من مَحبسه، وكان قد أسْلَمَ لهم القِيادَ، فسارَ في مَعيَّتهم مٌستسلمًا صاغرًا، يَرفلُ في حُلته الحمراءَ المقرر ارتداؤها لأمثاله؛ ليتذكروا دائمًا لون الدم الذي سفكوه كان رابط الجأش متماسكا لا أدرى هل فقدَ من هول هذه اللحظات العَصيبة إحساسه بالمكان والزمان؟ أو أنه امتثلَ لقضاء الله راضيًا تائبًا؛ كي يَتطهر بهذا القصاص؟
أوقَفوه في المكان ذاته، أمسكوا بذراعيه في رفقٍ، وغَلُّوهما خلف ظهره، وأوثقوهما برباط، ووقف أحدهم من خلفه، واثنان عن اليمين وعن الشمال، ثم تَلاَ مأمور السجن من الحكم الصادر بالإعدام منطوقه، والتهمة المحكوم عليه من أجلها على مَسمع من الحضور، ثم لقَّنه واعظ السجن الشهادتين، وجَعله يُردِّد من خلفه دعاء الاستتابة.
و"عشماوى" - هذا - ليس اسمًا لوظيفة مَن يقوم بتنفيذ حكم الإعدام، ولكنه ارتبطَ في مصرَ بلقب ذلك الشخص الذي كان مَنوطًا به هذا العمل منذ زمنٍ بعيد، فأصبح اسم عَلَم يُطلق على كل مَن يُنفذ الإعدام شَنقًا في مصر.
أما غُرفة الإعدام فهي غرفة صغيرة، توجد في كل سجن استئناف، ولا تحتوي الا على المَشنقة ونَقالة كائنة في أحد جوانبها، وأرضية هذه الحجرة التي يقف عليها المحكوم عليه طبلية من الخشب، مُكونة من ضَلفتين، وتفتح من المنتصف إلى أسفل بفَرملة عندما يَجذب عشماوي يَد المقصلة، ومن أسفل هذه الطبلية بئر عُمقها أربعة أمتار.
وفى يوم الإعدام، يَتولى عشماوي مُعاينة الغرفة؛ ليتأكد من صلاحيتها لتنفيذ الحكم، وعندما يدخل المحكوم عليه رُفقة المسئولين عن التنفيذ، يبدأ في ضَبط حبل المشنقة الذي يَتحدد طوله وصلابته حسَب طول المحكوم عليه ووزنه، بحيث لا تُلامِس قدماه أرض البئر عندما يهَوى إليها.
وعندما تحين لحظة القصاص، يَسحب عشماوي يد المقصلة، فتنفتح ضَلفتا الطبلية التي يقفُ عليها المحكوم عليه في سرعة فائقة، فيهوى الجسدُ في لمح البصر إلى البئر، وهنا يحدث كسر في فقرات الرقبة، وتهتك في النخاع الشوكي، فيموت على إثرها في خلال فترة زمنية، لا تُجاوز دقائق مَعدودة، تتفاوت من شخص إلى آخر، ثم ينزل الطبيب الشرعي المرافق إلى البئر؛ ليَجِسَّ النبض، ويُحدد الساعة واللحظة التي خرجت فيها الروح إلى بارئها، ويُثبت وكيل النيابة هذه اللحظة في محضر إجراءات تنفيذ الحكم.
وفى تمام الثامنة صباحًا، ولما صِرنا في قلب هذه الغرفة المفزعة تَولَّى عشماوي ومساعدوه أعمالهم؛ سَحبوا الشاب برفقٍ، وأوقفوه في منتصف الحجرة فوق هذه الطبلية أسفل الحبل المتدلي من المقصلة، وألبسوه طاقية حمراء أسدلوها على عينيه، وأوثقوا رجليه برباطٍ من فوق القدمين، ثم طوَّقه عشماوي بالحبل وضَبَطَ اتساعه حول رقبته، ثم أخذ موقعه هناك إلى جوار الحائط حيث يد المقصلة، وفي الساعة المحددة في أمر التنفيذ جذبَ عشماوي اليد، فأحدثَت دَويًا رهيبًا مُرعبًا هو صوتُ انهيار الطبلية من تحت قدَمَيه، فهوَى الشاب إلى البئر في لمح البَصَر.
وهنا، أُسدِلَ الستارُ على قصة هذا الحلم، ذَهَبَ هذا المجرم إلى لقاءِ ربه، ولكن بَقيَ التساؤل الأبدي، ما الذي يُريده الإنسان؟ مأكلٌ طيب، ومَلبسٌ طيب، وبَدنٌ مُعافًى، ثم يَنعدمُ الرضا، وتُسفَكُ الدماء، لماذا؟ وما هو المطلوب؟ رُحماكَ يا ربِّى!
تلك المناسبة، كان بطلها شابًّا طُموحاتِه واسعة، لا حُدودَ لها، بل كانت تَفوق في سِعتِها خَياله اللامُتناهي وحُلمهُ الكبير في أن يُصبحَ واحدًا من كبار الأثرياء، وضاقت رأسه وقريته الصغيرة بهذه الأحلام والتطلعات.
وبينما كان هذا الشابُ أسيرَ هذه الأحلام الكبيرة والآمال العريضة تَصادَف أن التَقى بواحدٍ من أصدقائه، نزح إلى الساحل الشمالي بحثًا عن الرِّزق، راح الصديق يُعدِّد له ما يدور في هذا الساحل العَجيب من مظاهر التَّرف والبَذَخ والثراء والإسراف أيضًا، وما يُنفَقُ فيه من أموالٍ، لا حدودَ لها في التشييد والبناء واللهو والسَّمَر والجِد والعبَث.
كان الشابُ حتى هذه اللحظة لم يَهدِهِ تفكيره بَعد إلى نقطة البداية في مشوار تحقيق أحلامه، وهنا شَعَرَ أن هذا الصديق، هو بشير ذلك الهاتف الذي طالما ألحَّ في أعماقه بأنَّ شيئًا خَطيرًا سوف يحدثُ في حياته؛ لمَعَت عيناهُ من شِدَّة الفرح، وانفرَجَت أساريرُ وجهه، وقرر على الفور أن يَنزح إلى هذا الساحل العجيب.
تَراقصَت خيالات الحُلم أمام عينيه، وارتسمَت صُور الثراء الذي يَحلمُ به في مخيلته وطلَبَ من صديقه أن يَطيرَ به فورًا إلى هناك.
وما أن وطِئَت قدماه قرية مارينا السياحية الشهيرة حتى كاد يُغشَى عليه؛ إنَّ القرية بما فيها، وما حولها تبدو كقطعة من أوروبا. لقد تلقَى تعليمه الجامعي بالقاهرة، ورأى غرائبها وعَجائبها وجمالها، ولكنه لم يَتخيل أبدًا ما وقَعَت عليه عيناه في هذا المكان السَاحر العجيب؛ انبهرَ الشابُ بما رأى، وشَرَدَ بذهنه شُرودًا عميقًا، لم يستطع صديقه أن يَجدَ له تفسيرًا، ولم يُجب هو عن سبب هذا الشرود، حين سأله الصديق عما بدا على ملامحه من انفعالاتٍ متناقضة، بل أومَأَ برأسه أنْ لا شيء، وظل ساعتها شاردًا مبَهورًا.
تَعرَّف الشابُ على سُبُل العِمالةِ في القرية، ولكنه لم يَرضخ لأي عمل يُقابله كغيره من الشباب؛ نَفَرَ من العمل في المعمار بجميع مجالاته، واستاءَ من حِرفة عمال الأمن الخصوصيين بمداخل القرى ومخارجها، أو على المحلات التي فيها، وأبَى أن يكون بائعًا في حانوت.
وذات ليلةٍ من ليالي الصَيف الناعمة النسمات جلس يَحتسِى فنجانًا من القهوة في رُكنٍ خافت الأضواءِ بأحد المقاهي الفاخرة ثم أشعلَ سيجارته، وشَرَدَ يَنظرُ في لا شيء بين سحاباتِ الدخان الذي يَنفثهُ في الهواء، وراحت صُور الثراءِ الذي يَحلمُ به تتراقص أمام عينيه من جديد فقد كان مقتنعًا بما قاله صديق له:
- اِظهر بمظهر الأغنياء، وإن اقترضتَ مالا، حتى تجد عملا.
وبينما كانت تلك الخيالات تدور برأسه، وهو على هذه الحالة من الشرود؛ حتى فوجئ بمن يحدثه، رجلٌ أنيقٌ، يرتدى حُلةً فاخرة، وتبدو على ملامحه مَظاهر الثراء، كان هذا الرجل قد جلسَ منذ قليل قريبًا منه، لكنه من فَرْطِ شُرودِهِ لم يشعر به إلا وهو يُحدثه.
سأله الرجل من أي البلاد هو؟ وعن سبب وجوده في القرية. قال الشاب في أدبٍ جَمٍّ وتواضُع ملحوظ إنه يسعى إلى الرزق؛ لأن "القُوَى العاملة" لن تنظرَ في أمر أمثالهِ من الخِرِّيجينَ قبل أعوام وأعوام، وربما لا تنظرُ في أمرهم أبدًا، واستمر الحوار بينهما بعضًا من الوقت.
تَوسَّم الرجل في ترتيب كلماته وفى الحَدِّ المعقول الذي يُحافظ به على مَظهره أن يكونَ الشاب من المقبلين على العَمَل، فعرَض عليه أن يَعملَ معه، وأنه إذا استطاع إثبات أمانتهِ وإخلاصِهِ والدِّقةَ في الأداء فلسوف يكون له شأن عظيم، فهو مُستثمر كبير، جاء إلى هذا المكان لاستثمارِ أمواله وتنميتها ويُحب التفاني في العَمل والإخلاصَ فيه إلى أبعَد الحدود.
استَفسَرَ منه الشاب عن ماهية العمل الذي يضطلع به، وفرحَ كثيرا حين أخبره الرجل عن حاجته إلى شخص أمين مُتَّقد النشاط، يُشرف على مواقع العمل، ويُقدِّم له تقريرًا يوميًا وافيًا ودقيقًا عما ينجزونه من أعمال، وما يَراه من ملاحظات، وأنه سيُخصِّصُ له سيارة من أجل هذا الغرض.
شَعَرَ الشابُ أَّن ليلة القدر قد فتحت له أبوابها، لا سيما حين أردفَ الرجل، يقول إنه سَيُسلمه مفتاح الشاليه الخاص به ليَتخذه مسكنًا.
بدأ الشابُ العملَ، وانتظمَ فيه، وأبلى بلاءً حسنًا على نحو نال إعجابَ الرجل، فأجزَلَ له العَطاء، حتى بلغ مُجمل دَخلِهِ رقمًا، لم يكن يحلم به على الإطلاق، وشيئًا فشيئًا تجاوَزت العلاقة بينهما حُدودَ العامل وربِّ العمل، فكان يَصحبهُ معه في كل أسفاره، ويُشركهُ في تفكيره ومشروعاته وأعماله، مُعجبًا بآرائه، وسرعان ما تطورت العلاقة بينهما رُويدًا رُويدًا إلى علاقة صديقين حميمين، فتعرَّف الشابُ على أسرة الرجل، وعَرَفَ كل أسراره، ومستودع هذه الأسرار، بل الأموال.
ولكن الشاب لم يَقنَع بالخير الوفير الذي راح يجنيه في كل يوم حَلالاً طيبًا، وحَدَّثه شيطانه بأنَّ الطريق إلى بلوغ غايته بهذا الشكل، سيظلُ بعيدًا بعيدًا، فدارَت برأسه الوساوس والشُرور؛ لماذا يكون تابعًا لهذا الرجل؟ لماذا لا يكون مَتبوعًا مثله، ويكون في خدمته عشرات من أمثاله من الشباب؟ ووقر في ذهنه أمر كان مفعولا.
لقد أبصَر الشابُ الخزينة الخاصة بالرجل التي يحتفظ بها في مسكن آخر مستقل، فكم من مرَّة ذهبَ معه لنقل مبالغ مالية كبيرة منها وإليها لإنجاز أعماله، ومن هنا فقد عرف حجم ما فيها من مبالغ سائلة، كان شيطانه لم يزل يوسوس له، إنها فرصة والفرصة لا تأتى إلا مَرَّة واحدة، لا مَفرَّ إذن من قتله، والأمر لا صُعوبة فيه، فمفتاح الخزينة ضِمن مفاتيح السيارة، راقت له الفكرة واختَمَرت في رأسه، وراح يَتحيَّن الفرصة لتنفيذها.
وفى الليلةِ المحتومةِ كان الرجل في مَعيته بالشاليه، وبعد أن قضيا سهرتهما في حديث أخوي رقيق، آوى الرجل إلى فراشه في الحجرة الخاصة به داخل الشاليه، وما أن لامسَت رأسه وسادة سريره حتى راح من شِدة الإرهاق في نومٍ عميق، بينما ظل الشاب مُستيقظا يَدفعه شيطانه دفعًا إلى تنفيذ جُرمه، ثم كانت الجريمة.
قام الشاب إلى حجرة الرجل، وقد حَمَلَ حَجرًا كبيرًا كان قد أعدَّه لهذا الغرض، وهوَى به فوق رأسه فجأة، فانفَجَرَ الدمُ من الرأس المغدور به، ثم عاد، وضرَبه بذات الحَجَر ضربةً أخرى قوية قاصدًا إزهاق روحه، فخارت قُواه رويداً رويدًا بَيْدَ أن أنفاسه كانت لم تزل تَتردد بين جوانحه، أسرع إلى المطبخ، واستلَّ سِكينًا كبيرًا، وراح يَطعنه به بلا شفقة ولا رحمة طعنات مُتوالياتٍ قاسياتٍ في بطنهِ وصـدرهِ ورقبتهِ، ثم لم يكتفِ بكل هذه الخسَّة وهذا الغدر، فجاء بسلكٍ كهربائيٍّ رَبطهُ في قدَميه وأوصله بالتيار، ففاضت الروح إلى بارئها، لا راضيةً، ولا مرضية، وإنما شاكية له غدر الإنسان بالإنسان.
كان الليل لم يَزل يُرخِى سُدُوله على الكون، رَبَطَ الشابُ حَبلاً غليظًا في الجثة، وجرَّها دون رحمة، وألقَى بها في بالوعةٍ للصرف الصِحي تحت الإنشاء، ثم تَخلَّص من آثار جريمته في الشاليه، فأزالَ آثارَ الدماءِ، وفى الصباح تَوجَّهَ مُسرعًا إلى المدينة الكائن بها الخزينة، ونَهَبَ منها ما نَهَبَ من أموال.
وكانت عدالة السماء له بالمرصاد، انكشَفَ أمرُ الواقعة، ولم يَجد الشاب مَناصًا من الاعتراف بجُرمه اعترافًا تفصيليًا، لم تَشبهُ شائبة، فيُسَاقُ إلى محكمة الجنايات؛ لتقضى بمعاقبته بالإعدام، وتأيد الحكم، وصَدَّق عليه رئيس الجمهورية.
وهنا جاء دَوري، ولكنه في هذه القضية كان مُتأخرًا، لم أكن مُحققًا، ولا مُترافعًا فيها، وإنما أُنيطَ بيَ مُهمة أثقل من ذلك بكثير، هي حُضور تنفيذ الحكم الصادر بالإعدام، يا لها من مهمةٍ شاقة وقاسية؛ فمتى صار الحكم بالإعدام نهائيًا وجَبَ رفع أوراق الدعوى فورًا إلى السيد رئيس الجمهورية، يرفعها إليه السيد وزير العدل، ويُنفَّذ الحكم إذا لم يصدر الأمر بالعفو، أو بإبدال العقوبة في ظرف أربعة عشر يومًا.
وفى تمام الساعة السابعة صباحًا كنتُ في ديوان سجن الاستئناف بالإسكندرية؛ فإن تنفيذ الحكم قد تَحدد له الساعة الثامنة صباحًا، جلستُ ومَن في مَعيَّتي ننتظرُ مُرور الوقت، كانت الدقائق تمر ثقيلة ثقيلة.
دارَ أمامي شَريط الأحداث، تذكرتُ قول المتهم، وهو يُحدث نفسه حين راح يَصفُ لصاحبه طُمُوحاته:
بأنَّ "هاتفًا كان يُلحُّ عليه في أعماقه أنَّ شيئًا خطيرًا سوفَ يحدثُ في حياته".
نعَم. إنَّ شيئًا خطيرًا سيحدث اليوم - حقًا - في حياته؛ لقد صَدَقَ حَدْسُه.
ثم كان المشهد الأخير من سيناريو قصة هذا الحُلم، ففي الثامنة إلا خمس دقائق خرجنا من مكتب المأمور إلى فِناء السجن، واتخذنا من أمام غرفة الإعدام مَوقعًا، وأحضر "عشماوي" ومساعدوه والحراس الشابَ من مَحبسه، وكان قد أسْلَمَ لهم القِيادَ، فسارَ في مَعيَّتهم مٌستسلمًا صاغرًا، يَرفلُ في حُلته الحمراءَ المقرر ارتداؤها لأمثاله؛ ليتذكروا دائمًا لون الدم الذي سفكوه كان رابط الجأش متماسكا لا أدرى هل فقدَ من هول هذه اللحظات العَصيبة إحساسه بالمكان والزمان؟ أو أنه امتثلَ لقضاء الله راضيًا تائبًا؛ كي يَتطهر بهذا القصاص؟
أوقَفوه في المكان ذاته، أمسكوا بذراعيه في رفقٍ، وغَلُّوهما خلف ظهره، وأوثقوهما برباط، ووقف أحدهم من خلفه، واثنان عن اليمين وعن الشمال، ثم تَلاَ مأمور السجن من الحكم الصادر بالإعدام منطوقه، والتهمة المحكوم عليه من أجلها على مَسمع من الحضور، ثم لقَّنه واعظ السجن الشهادتين، وجَعله يُردِّد من خلفه دعاء الاستتابة.
و"عشماوى" - هذا - ليس اسمًا لوظيفة مَن يقوم بتنفيذ حكم الإعدام، ولكنه ارتبطَ في مصرَ بلقب ذلك الشخص الذي كان مَنوطًا به هذا العمل منذ زمنٍ بعيد، فأصبح اسم عَلَم يُطلق على كل مَن يُنفذ الإعدام شَنقًا في مصر.
أما غُرفة الإعدام فهي غرفة صغيرة، توجد في كل سجن استئناف، ولا تحتوي الا على المَشنقة ونَقالة كائنة في أحد جوانبها، وأرضية هذه الحجرة التي يقف عليها المحكوم عليه طبلية من الخشب، مُكونة من ضَلفتين، وتفتح من المنتصف إلى أسفل بفَرملة عندما يَجذب عشماوي يَد المقصلة، ومن أسفل هذه الطبلية بئر عُمقها أربعة أمتار.
وفى يوم الإعدام، يَتولى عشماوي مُعاينة الغرفة؛ ليتأكد من صلاحيتها لتنفيذ الحكم، وعندما يدخل المحكوم عليه رُفقة المسئولين عن التنفيذ، يبدأ في ضَبط حبل المشنقة الذي يَتحدد طوله وصلابته حسَب طول المحكوم عليه ووزنه، بحيث لا تُلامِس قدماه أرض البئر عندما يهَوى إليها.
وعندما تحين لحظة القصاص، يَسحب عشماوي يد المقصلة، فتنفتح ضَلفتا الطبلية التي يقفُ عليها المحكوم عليه في سرعة فائقة، فيهوى الجسدُ في لمح البصر إلى البئر، وهنا يحدث كسر في فقرات الرقبة، وتهتك في النخاع الشوكي، فيموت على إثرها في خلال فترة زمنية، لا تُجاوز دقائق مَعدودة، تتفاوت من شخص إلى آخر، ثم ينزل الطبيب الشرعي المرافق إلى البئر؛ ليَجِسَّ النبض، ويُحدد الساعة واللحظة التي خرجت فيها الروح إلى بارئها، ويُثبت وكيل النيابة هذه اللحظة في محضر إجراءات تنفيذ الحكم.
وفى تمام الثامنة صباحًا، ولما صِرنا في قلب هذه الغرفة المفزعة تَولَّى عشماوي ومساعدوه أعمالهم؛ سَحبوا الشاب برفقٍ، وأوقفوه في منتصف الحجرة فوق هذه الطبلية أسفل الحبل المتدلي من المقصلة، وألبسوه طاقية حمراء أسدلوها على عينيه، وأوثقوا رجليه برباطٍ من فوق القدمين، ثم طوَّقه عشماوي بالحبل وضَبَطَ اتساعه حول رقبته، ثم أخذ موقعه هناك إلى جوار الحائط حيث يد المقصلة، وفي الساعة المحددة في أمر التنفيذ جذبَ عشماوي اليد، فأحدثَت دَويًا رهيبًا مُرعبًا هو صوتُ انهيار الطبلية من تحت قدَمَيه، فهوَى الشاب إلى البئر في لمح البَصَر.
وهنا، أُسدِلَ الستارُ على قصة هذا الحلم، ذَهَبَ هذا المجرم إلى لقاءِ ربه، ولكن بَقيَ التساؤل الأبدي، ما الذي يُريده الإنسان؟ مأكلٌ طيب، ومَلبسٌ طيب، وبَدنٌ مُعافًى، ثم يَنعدمُ الرضا، وتُسفَكُ الدماء، لماذا؟ وما هو المطلوب؟ رُحماكَ يا ربِّى!
بهاء المري
بهاء المري is on Facebook. Join Facebook to connect with بهاء المري and others you may know. Facebook gives people the power to share and makes the world more open and connected.
www.facebook.com