سيد الوكيل - أفق المعنى واتساع الدلالة في (حينما يأتي الموعد) لمرفت يس.

ما زلت اتحفظ على الفصل التعسفي بين الرواية والقصة القصيرة، فهو فصل نظري، لا يتجاوز المعنى الاصطلاحي، فيما لا نجد ما يؤكده، في بنية القصة والرواية على السواء.

ففي حين تسرد الرواية فضاء متسعا ومفتوحا على أزمنة وأمكنة وشخصيات وأحداث، نرى القصة تضم قبضتها على كل هذا. وهو ما يحتاج حرفية، وذكاء في إدارة سردها، أكثر من ذلك الذي نبذله في الرواية، فالفضاء الواسع للرواية، يمكنه أن يتغاضى عن هنات، وفوائض، لا تسمح القصة بها. فما نعنيه بقبضة القصة، هو قدرتها على احتواء كل عناصر السرد بحكنة، حتى أن أي هنة أو فائض في القصة، لا يمكنه أن يتوارى عن عين القارئ الخبير. هذا يؤكد قدرتها على حشد العلامات الدالة على نحو أكثر كثافة وعمقا، لمقتضي الحيز البنائي للسرد. نتيجة لهذا، تكتسب القصة طاقة شعرية لا تطالها الرواية، وكلما اتسعت مساحة السرد فيها، تتضاءل طاقتها الشعرية، ويظهر هذا حليا في الروايات البدينة، بينما تحتفظ النوفيلا بأفق شعري مناسب. دعونا نمثل لهذا، بعالم بيولوجي يعكف على دراسة تشريحية لحيوان ما، وآخر يضع خلية وحيدة تحت المجهر. إن الطاقة الشعرية للقصة القصيرة، منتجة عبر الرؤية الثاقبة والدقيقة لكل عناصرها السردية.

الرؤية هنا معنى وجودي مرتبط بالذات، بمعنى اضمحلال المسافة الفاصلة بين الذات والموضوع، وهو ما يؤكد عليه (جاك لاكان) في إشارته إلى مرحلة المرآة حيث لا يكتمل وعي الإنسان إلا بالمرو عليها في طفولته، ويطلق عليها لحظة (التقاء الذات بالموضوع) وهي المسئولة عن تشكيل الخيال، وهكذا فالقصة هي مرحلة المرآه للمبدع، التي تضعه على عتبات النضج الفني. ينبغي الانتباه إلى أن الشعر هو رؤية وجودية تعبر عن الذات الشاعرة. الشعر إذاً.. ليس مجرد تراكيب لغوية وإيقاعية. إن العلاقة الحميمة والمحبة، بين الذات والموضوع تحقق نوعا من التفاعل والتصالح بينهما، وهي غاية تبدو مستحيلة في الأعمال ذات الموتيفات الجاهزة، فتظل تعيش حالة أقرب للفصام، كذلك الذي قد يعانيه الإنسان ما لم يمر في طفولته بنقطة الالتقاء بين الذات والموضوع.

ما نعنيه بالذات الساردة، هو سياق تفاعلي بين خبرات الكاتب الشخصية، ونصه. وهذا ما يتحقق في مجموعة (ألوفيرا) للكاتبة مرفت يس، لكن الخبرات لا تعني بالضرورة التجارب الشخصية، بقدر ما هي خبرات معرفية تشكلت بوعي كاتبتها، فنراها هنا مرتبطة بوعي أنثوي، دونما التورط في خطابات نسوية مؤدلجة. أو تخضع لاستراتيجية سردية جاهزة، فالقصة صنو الحلم، مخيال يفرض نفسه بعكس الرواية التي تخضع لأسبقية التصميم. ففي قصة (حينما يأتي الموعد) تحتل المشاعر الأنثوية، برصيدها المأسوي بؤرة السرد، في مقابل غيابها عند الرجال ( الطبيب، المريض، الأخ ) فالطبيب لا ملامح له، فقط وجه يحتفظ بابتسامة واحدة، يمنحها لجميع المرضى، لتومئ بغياب مشاعرة، لكنها في نفس الوقت تحرك مشاعر بطلة القصة وراويتها فتقول: ” كيف يمتلك الطبيب الجرأة على أن يبتسم، ويضحك في الوجوه التي يترقبها ملك الموت ). هكذا تنتج الابتسامة بوصفها علامة وليست شعورا. علامة دلالتها الموت الذي يمثل أفق الدلالة الكلية للنص، على نحو ما سوف نرى، فالطبيب بلا مشاعر، والمريض بلا أمل، والأخ بلا عاطفة. وعلى الرغم من أن بطلة القصة ميتة جسديا، إلا أن مشاعرها وحواسها، يقظة حتى أنها تستنكر ابتسامة الطبيب التي تشبه ابتسامة (ربوت آلي). وتتذكر تفاصيل اغتصاب الحاج بطران لها، وكأنه يحدث الآن. وتقبع في نفق الموت في انتظار موته.

يكتسب ( نفق الموت ) بعدا رمزيا في الثقافة العالمية، فكل روايات العائدين من الموت، تتحدث عن نفق بلا نهاية. إنه النفق الذي قبعت فيه (بطلة القصة) طوال سنوات موتها وكأنها (ماعت) تمسك بمفتاح الحياة بين يديها. وطوال هذه السنوات، ظلت تحتفظ بتفاصيل مأساتها في انتظار أن (يحين الموعد) وتلتقي بمغتصبها لتحقق العدل. وفي سياق آخر يظهر الأخ بوصفه رمزا لملك الموت، إذ عقد صفقة مع الحاج بطران لوأد اخته بحجة محو العار، وهو يعلم أن الحاج بطران هو المغتصب. تماما كما عقد الطبيب صفقة مع ملك الموت ضد بطران. وبهذا الترابط بين سياقين، تتحق عدالة (ماعت) لتبدو هي أيضا رمزا أنثويا يحيل إلى بطلة القصة. بهذا نجحت الكاتبة، في خلق مجموعة من الروابط والرموز، وسبكها في سياق كلي، مفعم بالخيال، لكنه خيال يحلنا إلى رؤية كاشفة لواقعنا الذي لم يتخلص حتى الآن ممارسات سلطوية عتيقة. لتاريخ غامض واسطوري، حملت فيه حواء خطيئة البشرية.

ولا شك أن الترابط بوصفة تقنية، نجح في تشكيل شبكة واسعة من العلامات والرموز الدالة، تمنح القارئ الخبير فضاء تأويليا بلا حدود، يتجاوز مساحة السرد المحدود لقصة قصيرة، لندرك إن قبضة القصة المحكمة، لا تعني غياب التفاصيل، ولا تلغي الطابع المشهدي للسرد، بل تجعله حاضرا هنا والآن، فنصبح أكثر تواصلا وتواشجا مع النص، وكأننا نعيش مع أبطاله في نفق واحد بما يتيح فرصة للقارئ، ليشارك في إعادة إنتاج النص وفقا لمعارفه وخبرات، التي تستدعي حكايات ووقائع ذات صلة، ليس بالنص فحسب، بل وبتاريخ التهميش النسوى، بدءا من اسطورة آدم وحواء.

صحيح أن السرد النسوى هو الأكثر شيوعا في المجتمعات العربية، لكن العبرة فيه، بفاعلية الخطاب. فكثير منه مؤدلج ومباشر، ويمثل هو نفسه سلطة فجة، قد تثير حنق المتلقي بدلا من أن توقظ مشاعره وعواطفة. لكننا في هذه القصة، لا نشعر بعنف الخطاب، بقدر ما نشعر بعمق الدلالة في مشهد لقاء (الجاني والمجني عليها) في نفق الموت، إنها لحظة مواجهة، تلتقي فيها الذات بالموضوع كما أسلفنا، لتبدأ المكاشفة، وتتضح الرؤية. فصورة الضحية تومض بقوة، ويستدعي الوميض تاريخا وصورا لضحايا عديدة في ذاكرة بطران. أي أن التشكيل المشهدي يمكننا من تعميق المعنى وتوسيع الدلالة، بما يعني أن جماليات الخطاب اللغوي، يضمن صدق الرسالة وقوة أثرها على نحو ما نرى في الشاهد: “تقف أمامه، تومض صورتها، وتظهر ثانية. فرك عينيه ليراها بوضوح، ملامحها تبدو مألوفة، لوجه شاهده من قبل. يفتش في ذاكرته بين مئات الوجوه… إلخ”

الجملة الأخيرة في الشاهد، إحالة هامسة، إلى تاريح القمع الذكوري، ولكنها ذكية، يتحول فيها الحج بطران من مجرد شخصية لرجل ما، إلى رمز ذكوري. بما يعني أي أن الشخصيات هنا لا تكتفي بظهور نمطي وعابر على خشبة المسرح، بقدر تترك أثرا، يوسع فضاء النص.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى