في غمرة أحداث الكارثة التحكيمية الشعرية المشتهرة استحضرتُ ذلك المشهد الذي سَجَّلَ أبشَعَ سَقْطَةٍ تَحْكيميَّةٍ أدبيةٍ حدثَتْ في تاريخِ النُّقّادِ العربِ، حينَ اسْتُدْرِجَ سيبويه والكِسائيُّ لمناظَرَةٍ أَعِدَّ لها في بَهْوِ يَحْيى البرمكي وزير الرشيد، ودارَتَ رحاها وحَمِيَ وَطيسُها، حتى بَلَغَتْ سؤال الكِسائي سيبويه: كيف تقول: خرجتُ فإذا عبدُ اللهِ القائمَ، أو القائمُ؟ فقال: سيبويه: فإذا عبدُ اللهِ القائمُ بالرفع، ولا يجوز النصب. فردَّ الكِسائِيُّ: العربُ تَرْفع ذلك كله وتنصبه كذلك.
وهُنا اشتجرت عقابيلُ المُناظَرَةِ وعُرْقِلَتْ رَحاها وسُدَّتْ مجاريها، فعرض الكسائيُّ عليه وقتئذٍ أن يَرْجِعا إلى طائِفَةٍ من الأعراب الأقحاح الناطقين بالعربية سَليقَةً، فرحَّبَ، لكن يبدو أنَّ تَدَخُّلًا ما جرى في دهاليزِ القَصْرِ – نُبَرِّئُ مِنْهُ ساحَتَي الإمامين المبجلين سيبويه والكسائي - مِنْ وراءِ كواليسِ المُناظَرَةِ جعل أربابَهُ يُقْنِعونَ الأَعْرابَ بِدَعْمِ صَفِّ الكسائي، وكان ما كانَ وحَضَرَ الأعرابُ ومَثَلوا أمامهما، فلما سُئِلوا عَنْ صِحَّةِ القَوْلِ، كان ضَلْعُهُمْ مَع الكِسائِيِّ وميلُهُمْ إِلَيْهِ، لكن لما طلب منهم سيبويه أن يؤكدوا ذلك ويُعيدوا نطق العبارة لم تُطاوِعْهُمْ ألسنتهم ووَلَّوا الأدبارَ حَذَرًا مِنِ افْتِضاحِ تمالُئِهِمْ.
أما اليوم وفي ساحَةٍ مِنْ أَشْهَرِ ساحات التَّحْكيمِ الشِّعْرِيِّ يَنْزَلِقُ الأمر إلى هُوَّةٍ مِنَ التواضُعِ النَّقْدِيِّ والسَّطْحِيَّةِ العِلميةٍ يَصْعُبُ وَصْفُ ضَحالَتِها، وقَدْ كُنا عَهِدْنا قِبابَ التْحكيم في الجاهلية حَيْثُ "كان الشِّعْرُ عِلْمَ قَوْمٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِلْمٌ أَصَحُّ مِنْهُ" كما قال عُمَرُ رضي الله عنه، حيثُ كان سُلْطانُ الشِّعْرِ يتوارى مِنْهُ سُلْطانُ كُلِّ خِطابٍ، وكما يقول أبو عمر بن العلاء: "كان الشاعر في الجاهلية يُقَدَّمُ على الخطيب، لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يُقَيِّدُ عليهم مآثرهم ويُفَخِّمُ شأنهم، ويُهَوِّلُ على عدوهم ومَنْ غزاهم، ويُهَيِّبُ مِنْ فرسانهم، ويُخَوِّفُ من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم".
تَعَلَّمنا أنه لا يَنْقُدُ الشاعرَ إلا شاعِرٌ خبيرٌ بِضروب الشعر وصنوف النظم، مَقَدَّمٌ بينَ نُظرائهِ وقُرنائِهِ، أو ناقِدٌ عليمٌ بِمسالِكِ التَّلَقّي، ومَنْطِقِ الأشياءِ ودوافِعِ الحِسِّ وعُمْقِ الذَّائِقَةِ، وبَراعَةِ التَّعْليلِ، مَعَ جلالِ الفَصاحَةِ وبهاءِ البلاغةِ وسلامَةِ البيانِ، فأما الشاعِرُ فإمامُهُ النَّابِغَةُ الذُّبْيانِيُّ الذي كانت تُضرب له قبة حمراء من أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، وأما النَّاقِدُ فمُلْهِمَتُهُمْ أُمُّ جُنْدَبٍ الطّائيةُ التي ذاعَتْ حُكومَتُها بين امرئ القيس وعلقَمة بن عَبَدة الفَحْل.
فقد رُوي أنَّ امرأ القيس لما كان عند بني طَيءٍ زوَّجوه منهم أم جُنْدَبٍ وبقي عندهم ما شاء الله، وجَاءهُ يومًا علقمة بن عبدة التَّميمي وهو قاعدٌ في خيمته، وخلفهُ أم جندب فتذاكرَا الشعر …
– فقال امرؤ القيس: أنَا أشعرُ منك!
– وقال علقمة: بل أنَا أشعر منك!
فقال علقمة: قد رضيت بامرأتك أمّ جندب حكمًا بيني وبينك. فحكّماها؛ فقالت أم جندب لهما: قولا شعرًا تصفان فيه فرسيكما على قافية واحدة وروىّ واحد.
فقال امرؤ القيس قصيدته التي مطلعها: (بحر الطويل)
خَليلَىَّ مُرَّا بِى على أُمّ جُنْدَبِ *** نُقضِّ لُبَانَاتِ الفُؤَادِ المُعَذَّبِ
ثم قال علقمة قصيدته التي مطلعها:
ذَهبتَ منَ الهُجرانِ في غَيرِ مَذهَبِ *** ولــم يـَكُ حــقًّا كـلُّ هذا التَّجَنُّبِ
فلما فرغا من قصيدتيهما عرضاهما على الطائية امرأة امرئ القيس، فقالت: فرس ابن عبدة أجود من فرسك.
قال لها امرؤ القيس: وكيف؟
قالت: إنك زجرت، وحرّكت ساقيك، وضربت بسوطك.
وهي تعني قوله في وصف فرسه:
فللسَّوْطِ أُلْهُوبٌ ولِلساق دِرَّةٌ *** وللزَّجْرِ منه وَقْعُ أَخْرَجَ مُهْذِبِ
أما علقمة فقال:
فـأدركهُنَّ ثـانيًا مِنْ عِنانِهِ *** يَمُرُّ كَمَرِّ الرّائِحِ المُتَحَلِّبِ
ففرسه أجود من فرسك؛ لأنه قد أدرك الخيل ثانيًا من عنانه من غير أن يضربه بسوط أو يحرك ساقيه!
فغضب عليها امرؤ القيس، وقال: إنك لتبغضيننى. فطلّقها.
هذا المشهد من أوائل مشاهد التحكيم الشعري التي تدلُّكَ وتَقِفُكَ على النشأة الأولي لأدوات المُحَكِّمِ النقدية اللغوية التي كانت سائدةً آنئذٍ، التي كان مِنْ أثبَتِها وأوجبها الفصاحة العربية العذبة العالية السالمة من اللحنِ، المتجاوزة أحكامها لمرحلة الذوق الفطري غير المعلل، الجارية مع الضوابط الذَّوقية السَّائدة آنذاك.
وفي ساحَةِ اليوم شاعِرٌ فَيَّاضُ المشاعِرِ رائِقُ الحِسِّ، يُلْقي قَصيدَتَهُ، فَيَقِفُهُ أَحَدُ أَعضائها على غَيْر مَوْقِفِ ويَمْتَحِنُهُ – وهُوَ أولى بالمِحْنَةِ – ويَسْألُهُ لماذا رَفَعْتَ (سَخاؤُها) ولم تنْصِبْ؟ والشاعِرُ تُخْجِلُهُ بداهَةُ السؤالِ لكنها لم تُعْجِزْهُ عَنْ بَدارَةِ الرَّدِّ فَأجابَ عَنْ ثِقَةِ ثَباتٍ بأن (السخاء هو الذي يُعْجِبُ، أنا المفعول به، ياء المتكلم هنا مفعول به، أنا المُعْجَبُ، وهِيَ المُعْجِبَةُ.. ثم يبتسم مُتَعَجِّبًا!!!).
ويُباغِتُهُ المُحَكِّمُ ويَحْسَبُ أَنَّهُ على شيءٍ: كَيْف يَعْني؟ أنتَ الذي أُعْجِبْتَ بالسخاء؟ فيَصْعَقُهُ الشاعِرُ: لا، (أَعْجِبْتَ) مبني للمجهول، لكن(أَعْجَبَني) سخاءُ الذِّكْرياتِ.. فعل ومفعول به مقدم ثم فاعل.... وصدق الشاعر فهذا مقتضى الإعراب الذي لا يحتمل سواهُ ولا يقبلُ غيره!
ابتساماتُ اسْتِغْرابٍ مِنَ المُحَكِّمِ وزَميلَتِهِ النَّاقِدَةِ، ثم يقول: أنت عجيب.
فقال أوسَطُهُمْ – وكنتُ أظُنُّهُ سَيُنْصِفُ مِنْهما - في ضَحِكَةِ مُنْتَفِخَةٍ: هو عجيب ويُجيب.
ولا عجيب أعجبُ مِنْ رَدِّكَ والذي فطر الحَبَّ وبرأ النَّسَمَ.
ثم يُراوِدُ المُحَكِّمُ الأَوَّلُ الشَّاعِرَ عَنْ صَوابِهِ فيقول: ما رأيك بعد أن تخرج وترجع تفكر وترجع وتعترف، ما رأيك؟!
يَضْحَكُ الشاعر الحَيِيُّ ضَحِكَةً أَمَرَّ من البُكاءِ، ضَحِكَةَ المقهورِ المغلوب على أمرٍ لم يُخْطِئْ فيه قِيدَ أُنْمُلَةٍ، ويقول: لا مُشْكِلَةَ.
المُحَكِّمُ: هل مُصِرٌّ؟
الشاعر: لا لا..
الناقدةُ: هو ليسَ مُصِرْ [بتسكين الراء بغير فتح، مع أنها سخية في النصب والفتحات، فسكَّنَتْ حيث يجب النصب].. ثم لا تجد اللجنة مناصًا من إجازة النصِّ بعد هذا المشهد الكارثي.
وثَمَّ استوقفتني كلمة لشيخ العربية الأستاذ الدكتور سعد مصلوح الذي أجرى الله الحكمة على لسانه بقوله: "في مشهد حزين ألقى شاعر شاب قصيدة في برنامج مسابقات مشهور، ومن عجب أن لجنة العلماء المحكمين خطّأت الشاعر في معلوم من النحو بالضرورة (ومن أعضائها عالمة في النقد)، وأَجاءَتْهُ حياءً وقهرًا إلى التنازل عن صوابه، وهكذا يكون خطأ القوة صوابًا بالقوة".
نعم صدقتم وربي – شيخنا – حين يكون خطأ القوة صوابًا بالقوة يُخَطَّأَ المُصيبُ، ويُصَوَّبُ المُخْطِئُ، ويُوكَلُ الشَّيْءُ إلى مَنْ ليس له بأَهْلٍ، ويُوَسَّدُ الأمرُ إلى غَيْرِ أهله، ويا ليتَ المُحكِّمَ اعتذر عن سَقْطَتِهِ لَكِنَّهَ أَتى بِضِغْثٍ على إِبَّالَةٍ، وجاءَ بِحَشَفٍ وسوءِ كَيْلَةٍ حين تعلل بأن الجميع يعرف قول الله تعالى: (وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ) لكن مقتضى المسابقة أن يأتي المُحَكِّمُ بما يختبر أعصاب المُحَكَّمِ، فهذا لون من ألوان اختبار الأعصاب، وليته سكت عند هذا الحد، لكنه أتى بثالثة الأثافي حين تمادى في الكَبْرِ زاعِمًا أن المسابقة لم تنجح في اختبار قدرات المتسابقين فحسب بل نجحت في اختبار قدرات المتعالمين!!!
وهُنا أقول: يَرُدُ عليه قَوْلُ الشاعِرِ المُجيدِ:
أراني من مقالته عجيبًا *** كذاك الدهر يأتي بالعجيب
مقال قال للحسرات هُبِّي *** إلى قلبي وللأحشاء ذوبي
يرى الحسنات مِنْ أردى نعالي *** وينظمهن في سلك الذنوب
رأيت السهم يخطئ من بعيد *** ولست أراه يخطئ مِنْ قريب
ومَنْ يأتي أخو الأسقام يومًا *** إذا كان السقام مِنَ الطبيب
وما أعدله الشيخ أ.د سعد مصلوح ساعة ردَّ على هذه القالة فقال:
((لكل دين خلق، وخلق الإسلام الحياء))
يا قوم! إنكم لا تخاطبون أطفالًا، فلا تراودوا الناس عن عقولهم، الأجمل بكم الاعتذار، فالسقطة كانت في غيابات جُبٍّ، لقد كانت اللجنة تلاحق الشاعر وهو خارج تطالبه بالاعتراف عند العودة بأن صوابه خطأ.
هل تكون لدى اللجنة الشجاعة لتعترف عند العودة وتقول: أصاب الشاعر وأخطأنا؟
إن خالصة قول الرجل هو: أن من لا يميز الفاعل من المفعول هو "العالم"، والذي ينبهه إلى سقطته الكارثية "متعالم".
ألا إنها لفضيحة، وكفى بالفضيحة عارًا لمن يعقل!!
ثم حان دَوْرُ النَّاقِدَةِ المَشْهورةِ فما أن نَطَقَتْ حَتّى أَتَتْ بالعَجائبِ التي لن تَسْمَعَ بِمِثْلِها في حكاياتِ اللحَّانين، ولُحونِ المُسْتَعْرِبينَ، ولَكَناتِ الأعْجَمينَ، وإذ بِها تَرْتَضِخُ لَكْنَةً عَجَمِيَّةً لا إلى العربية ولا إلى العامِّيَّةِ، وثارَتْ آذانُ النُّقّادِ مِنْ هذا النُّشوذِ المُدَّعى نَقْدًا والذي وصفه الدكتور مصلوح بقوله:
((يا قوم!! إن كان هذا نقدًا فكلام العرب باطل
حاذروا بأكفكم على بطونكم وأنتم تسمعون العربية الشريفة من هذه الكارثة الناطقة، حاملة شهادة الدكتوراه في الأدب والنقد بمرتبة الشرف الأولى، ولست أستبعد الضميمة الشهيرة "مع التوصية بطباعتها على حساب الجامعة وتبادلها مع الجامعات".
يا ويلتا!!
ألم يجدوا في مصر طولًا وعرضًا، (وفيها الأزهر الشريف وكليات اللغة العربية ودار العلوم وكليات الآداب العريقة) إلا هذه الواجهة البائسة.
لك الله يا بلد أمير الشعراء!!)).
قُلْ إي وربي... فهذه اللجنة لا تُرينا من كارثة إلا هي أكبر من أختها.
لجنة لا تعرف من العربية سوى النصب والفتح.
لا تكترث برافع ولا جار.
والله من مثلها يُستجار.
أتعجب كيف حصل أعضاؤها على أعلى شهادة علمية في اللغة العربية وقد طُعنت العربية على لسانها ألف طعنة، ورُزِئَ أمير الشعراء بها شر رزيئة، ووُئدت البلاغة وَأْدًا شرًّا من وأد الجاهلية الأولى.
ثم انْظُرَ إلى تِلكَ التَّكِئَةِ التي اتَّكأتْ عليها حيث قالت: " إنني أتفهم موقف المهاجمين لي فهم لغويون يغارون على اللغة ومن حقهم ذلك، فجميعنا يحترم صحة اللغة الفصحى.. هناك أخطاء لغوية حدثت في النطق؛ فأنا لست درعمية أو أزهرية حيث سلاسة اللغة وانسيابها، أتحدث لغتنا ولهجتنا القاهرية المصرية وأرها حيوية وموصلة".
أَيُّها العُقلاءُ!!
الفصاحة في النطق لا تحتاج أن تكون أزهريًّا ولا درعميًّا.. تحتاج أن تتشبع سليقتك بجمال العربية شعرًا ونثرًا قراءة وكتابة واطلاعًا وأن تتعاهد آيات القرآن .. فتكتسب جبلة العروبة العاربة وتذوب كلماتها المعربة على لسانك وتنخلع عليك عباءة الفصاحة وتنسال عليك بلاغتها وتنضح بها جدران وجدانك ونبضات جنانك حتى إن كنت أعجميًّا....
فإذا كنت أستاذًا جامعيًّا حاملًا العالمية في العربية وآدابها متضلعا فيها بحثًا وكتابة وتأليفًا صار النطق بالفصاحة حينما تطلبك مجالسها وأنديتها فرضَ عين عليك لا عذر لك في اللحن بلهَ اللحون، لاسيما إذا كان مستبشعًا لا يقع فيه الصبيان... فإن عجزت فتكلم العامية الصرفة ولا تأت بخليط من الكلام (المعجون) فتمجه الأسماع وتتقلب منه الأمعاء.
ثم كان الأمرُ المتوَقَّعُ والنَّتيجَةُ المُنْتَظَرَةُ، حيث أَقْصَتِ اللجْنَةُ الشاعر مِنَ المُسابَقَةِ وأهالتِ على قصيدته التُّرابَ، وأسدلت على نفسها الستارَ كأسوأ لجْنَةٍ عَرَفَها تاريخُ السباق الشعري!
وهُنا يستحضر الشيخ الدكتور مصلوح هذه الحكايةَ التاريخية الصادقة التي دارت بين الحجاج ويحيى بن يعمر، وفيها: قال الحجاج ليحيى بن يعمر: أتجدني ألحنُ؟
قال يحيى: مثل الأمير لا يلحن.
قال الحجاج: عزمت عليك إلا صَدَقْتني!
قال يحيى: نعم!
قال الحجاج: وفي أي شيء ألحن؟
قال يحيى: في كتاب الله.
قال الحجاج: وهذه أشنع. وفي أية آية؟
فذكر له يحيى لفظًا في آية كان الحجاج يرفعه، وحقه النصب.
فما كان من الحجاج إلا أن قال: والله لا تسمعني ألحن بعد اليوم!
وأقصاه إلى خراسان.
[الإقصــــــاء هو الحــــــــل]
وهُنا سَكَتَ الكلامُ فاستَنْطَقُ المتنبي رحمه الله ما في الأحشاء من أسًى باكٍ بقوله:
وأعظمُ ما تُكلّفني الليالي *** سُكوتٌ عندما يجبُ الكلام
فالله الله في العربية
بقلم د. مصطفى شعبان
وهُنا اشتجرت عقابيلُ المُناظَرَةِ وعُرْقِلَتْ رَحاها وسُدَّتْ مجاريها، فعرض الكسائيُّ عليه وقتئذٍ أن يَرْجِعا إلى طائِفَةٍ من الأعراب الأقحاح الناطقين بالعربية سَليقَةً، فرحَّبَ، لكن يبدو أنَّ تَدَخُّلًا ما جرى في دهاليزِ القَصْرِ – نُبَرِّئُ مِنْهُ ساحَتَي الإمامين المبجلين سيبويه والكسائي - مِنْ وراءِ كواليسِ المُناظَرَةِ جعل أربابَهُ يُقْنِعونَ الأَعْرابَ بِدَعْمِ صَفِّ الكسائي، وكان ما كانَ وحَضَرَ الأعرابُ ومَثَلوا أمامهما، فلما سُئِلوا عَنْ صِحَّةِ القَوْلِ، كان ضَلْعُهُمْ مَع الكِسائِيِّ وميلُهُمْ إِلَيْهِ، لكن لما طلب منهم سيبويه أن يؤكدوا ذلك ويُعيدوا نطق العبارة لم تُطاوِعْهُمْ ألسنتهم ووَلَّوا الأدبارَ حَذَرًا مِنِ افْتِضاحِ تمالُئِهِمْ.
أما اليوم وفي ساحَةٍ مِنْ أَشْهَرِ ساحات التَّحْكيمِ الشِّعْرِيِّ يَنْزَلِقُ الأمر إلى هُوَّةٍ مِنَ التواضُعِ النَّقْدِيِّ والسَّطْحِيَّةِ العِلميةٍ يَصْعُبُ وَصْفُ ضَحالَتِها، وقَدْ كُنا عَهِدْنا قِبابَ التْحكيم في الجاهلية حَيْثُ "كان الشِّعْرُ عِلْمَ قَوْمٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِلْمٌ أَصَحُّ مِنْهُ" كما قال عُمَرُ رضي الله عنه، حيثُ كان سُلْطانُ الشِّعْرِ يتوارى مِنْهُ سُلْطانُ كُلِّ خِطابٍ، وكما يقول أبو عمر بن العلاء: "كان الشاعر في الجاهلية يُقَدَّمُ على الخطيب، لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يُقَيِّدُ عليهم مآثرهم ويُفَخِّمُ شأنهم، ويُهَوِّلُ على عدوهم ومَنْ غزاهم، ويُهَيِّبُ مِنْ فرسانهم، ويُخَوِّفُ من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم".
تَعَلَّمنا أنه لا يَنْقُدُ الشاعرَ إلا شاعِرٌ خبيرٌ بِضروب الشعر وصنوف النظم، مَقَدَّمٌ بينَ نُظرائهِ وقُرنائِهِ، أو ناقِدٌ عليمٌ بِمسالِكِ التَّلَقّي، ومَنْطِقِ الأشياءِ ودوافِعِ الحِسِّ وعُمْقِ الذَّائِقَةِ، وبَراعَةِ التَّعْليلِ، مَعَ جلالِ الفَصاحَةِ وبهاءِ البلاغةِ وسلامَةِ البيانِ، فأما الشاعِرُ فإمامُهُ النَّابِغَةُ الذُّبْيانِيُّ الذي كانت تُضرب له قبة حمراء من أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، وأما النَّاقِدُ فمُلْهِمَتُهُمْ أُمُّ جُنْدَبٍ الطّائيةُ التي ذاعَتْ حُكومَتُها بين امرئ القيس وعلقَمة بن عَبَدة الفَحْل.
فقد رُوي أنَّ امرأ القيس لما كان عند بني طَيءٍ زوَّجوه منهم أم جُنْدَبٍ وبقي عندهم ما شاء الله، وجَاءهُ يومًا علقمة بن عبدة التَّميمي وهو قاعدٌ في خيمته، وخلفهُ أم جندب فتذاكرَا الشعر …
– فقال امرؤ القيس: أنَا أشعرُ منك!
– وقال علقمة: بل أنَا أشعر منك!
فقال علقمة: قد رضيت بامرأتك أمّ جندب حكمًا بيني وبينك. فحكّماها؛ فقالت أم جندب لهما: قولا شعرًا تصفان فيه فرسيكما على قافية واحدة وروىّ واحد.
فقال امرؤ القيس قصيدته التي مطلعها: (بحر الطويل)
خَليلَىَّ مُرَّا بِى على أُمّ جُنْدَبِ *** نُقضِّ لُبَانَاتِ الفُؤَادِ المُعَذَّبِ
ثم قال علقمة قصيدته التي مطلعها:
ذَهبتَ منَ الهُجرانِ في غَيرِ مَذهَبِ *** ولــم يـَكُ حــقًّا كـلُّ هذا التَّجَنُّبِ
فلما فرغا من قصيدتيهما عرضاهما على الطائية امرأة امرئ القيس، فقالت: فرس ابن عبدة أجود من فرسك.
قال لها امرؤ القيس: وكيف؟
قالت: إنك زجرت، وحرّكت ساقيك، وضربت بسوطك.
وهي تعني قوله في وصف فرسه:
فللسَّوْطِ أُلْهُوبٌ ولِلساق دِرَّةٌ *** وللزَّجْرِ منه وَقْعُ أَخْرَجَ مُهْذِبِ
أما علقمة فقال:
فـأدركهُنَّ ثـانيًا مِنْ عِنانِهِ *** يَمُرُّ كَمَرِّ الرّائِحِ المُتَحَلِّبِ
ففرسه أجود من فرسك؛ لأنه قد أدرك الخيل ثانيًا من عنانه من غير أن يضربه بسوط أو يحرك ساقيه!
فغضب عليها امرؤ القيس، وقال: إنك لتبغضيننى. فطلّقها.
هذا المشهد من أوائل مشاهد التحكيم الشعري التي تدلُّكَ وتَقِفُكَ على النشأة الأولي لأدوات المُحَكِّمِ النقدية اللغوية التي كانت سائدةً آنئذٍ، التي كان مِنْ أثبَتِها وأوجبها الفصاحة العربية العذبة العالية السالمة من اللحنِ، المتجاوزة أحكامها لمرحلة الذوق الفطري غير المعلل، الجارية مع الضوابط الذَّوقية السَّائدة آنذاك.
وفي ساحَةِ اليوم شاعِرٌ فَيَّاضُ المشاعِرِ رائِقُ الحِسِّ، يُلْقي قَصيدَتَهُ، فَيَقِفُهُ أَحَدُ أَعضائها على غَيْر مَوْقِفِ ويَمْتَحِنُهُ – وهُوَ أولى بالمِحْنَةِ – ويَسْألُهُ لماذا رَفَعْتَ (سَخاؤُها) ولم تنْصِبْ؟ والشاعِرُ تُخْجِلُهُ بداهَةُ السؤالِ لكنها لم تُعْجِزْهُ عَنْ بَدارَةِ الرَّدِّ فَأجابَ عَنْ ثِقَةِ ثَباتٍ بأن (السخاء هو الذي يُعْجِبُ، أنا المفعول به، ياء المتكلم هنا مفعول به، أنا المُعْجَبُ، وهِيَ المُعْجِبَةُ.. ثم يبتسم مُتَعَجِّبًا!!!).
ويُباغِتُهُ المُحَكِّمُ ويَحْسَبُ أَنَّهُ على شيءٍ: كَيْف يَعْني؟ أنتَ الذي أُعْجِبْتَ بالسخاء؟ فيَصْعَقُهُ الشاعِرُ: لا، (أَعْجِبْتَ) مبني للمجهول، لكن(أَعْجَبَني) سخاءُ الذِّكْرياتِ.. فعل ومفعول به مقدم ثم فاعل.... وصدق الشاعر فهذا مقتضى الإعراب الذي لا يحتمل سواهُ ولا يقبلُ غيره!
ابتساماتُ اسْتِغْرابٍ مِنَ المُحَكِّمِ وزَميلَتِهِ النَّاقِدَةِ، ثم يقول: أنت عجيب.
فقال أوسَطُهُمْ – وكنتُ أظُنُّهُ سَيُنْصِفُ مِنْهما - في ضَحِكَةِ مُنْتَفِخَةٍ: هو عجيب ويُجيب.
ولا عجيب أعجبُ مِنْ رَدِّكَ والذي فطر الحَبَّ وبرأ النَّسَمَ.
ثم يُراوِدُ المُحَكِّمُ الأَوَّلُ الشَّاعِرَ عَنْ صَوابِهِ فيقول: ما رأيك بعد أن تخرج وترجع تفكر وترجع وتعترف، ما رأيك؟!
يَضْحَكُ الشاعر الحَيِيُّ ضَحِكَةً أَمَرَّ من البُكاءِ، ضَحِكَةَ المقهورِ المغلوب على أمرٍ لم يُخْطِئْ فيه قِيدَ أُنْمُلَةٍ، ويقول: لا مُشْكِلَةَ.
المُحَكِّمُ: هل مُصِرٌّ؟
الشاعر: لا لا..
الناقدةُ: هو ليسَ مُصِرْ [بتسكين الراء بغير فتح، مع أنها سخية في النصب والفتحات، فسكَّنَتْ حيث يجب النصب].. ثم لا تجد اللجنة مناصًا من إجازة النصِّ بعد هذا المشهد الكارثي.
وثَمَّ استوقفتني كلمة لشيخ العربية الأستاذ الدكتور سعد مصلوح الذي أجرى الله الحكمة على لسانه بقوله: "في مشهد حزين ألقى شاعر شاب قصيدة في برنامج مسابقات مشهور، ومن عجب أن لجنة العلماء المحكمين خطّأت الشاعر في معلوم من النحو بالضرورة (ومن أعضائها عالمة في النقد)، وأَجاءَتْهُ حياءً وقهرًا إلى التنازل عن صوابه، وهكذا يكون خطأ القوة صوابًا بالقوة".
نعم صدقتم وربي – شيخنا – حين يكون خطأ القوة صوابًا بالقوة يُخَطَّأَ المُصيبُ، ويُصَوَّبُ المُخْطِئُ، ويُوكَلُ الشَّيْءُ إلى مَنْ ليس له بأَهْلٍ، ويُوَسَّدُ الأمرُ إلى غَيْرِ أهله، ويا ليتَ المُحكِّمَ اعتذر عن سَقْطَتِهِ لَكِنَّهَ أَتى بِضِغْثٍ على إِبَّالَةٍ، وجاءَ بِحَشَفٍ وسوءِ كَيْلَةٍ حين تعلل بأن الجميع يعرف قول الله تعالى: (وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ) لكن مقتضى المسابقة أن يأتي المُحَكِّمُ بما يختبر أعصاب المُحَكَّمِ، فهذا لون من ألوان اختبار الأعصاب، وليته سكت عند هذا الحد، لكنه أتى بثالثة الأثافي حين تمادى في الكَبْرِ زاعِمًا أن المسابقة لم تنجح في اختبار قدرات المتسابقين فحسب بل نجحت في اختبار قدرات المتعالمين!!!
وهُنا أقول: يَرُدُ عليه قَوْلُ الشاعِرِ المُجيدِ:
أراني من مقالته عجيبًا *** كذاك الدهر يأتي بالعجيب
مقال قال للحسرات هُبِّي *** إلى قلبي وللأحشاء ذوبي
يرى الحسنات مِنْ أردى نعالي *** وينظمهن في سلك الذنوب
رأيت السهم يخطئ من بعيد *** ولست أراه يخطئ مِنْ قريب
ومَنْ يأتي أخو الأسقام يومًا *** إذا كان السقام مِنَ الطبيب
وما أعدله الشيخ أ.د سعد مصلوح ساعة ردَّ على هذه القالة فقال:
((لكل دين خلق، وخلق الإسلام الحياء))
يا قوم! إنكم لا تخاطبون أطفالًا، فلا تراودوا الناس عن عقولهم، الأجمل بكم الاعتذار، فالسقطة كانت في غيابات جُبٍّ، لقد كانت اللجنة تلاحق الشاعر وهو خارج تطالبه بالاعتراف عند العودة بأن صوابه خطأ.
هل تكون لدى اللجنة الشجاعة لتعترف عند العودة وتقول: أصاب الشاعر وأخطأنا؟
إن خالصة قول الرجل هو: أن من لا يميز الفاعل من المفعول هو "العالم"، والذي ينبهه إلى سقطته الكارثية "متعالم".
ألا إنها لفضيحة، وكفى بالفضيحة عارًا لمن يعقل!!
ثم حان دَوْرُ النَّاقِدَةِ المَشْهورةِ فما أن نَطَقَتْ حَتّى أَتَتْ بالعَجائبِ التي لن تَسْمَعَ بِمِثْلِها في حكاياتِ اللحَّانين، ولُحونِ المُسْتَعْرِبينَ، ولَكَناتِ الأعْجَمينَ، وإذ بِها تَرْتَضِخُ لَكْنَةً عَجَمِيَّةً لا إلى العربية ولا إلى العامِّيَّةِ، وثارَتْ آذانُ النُّقّادِ مِنْ هذا النُّشوذِ المُدَّعى نَقْدًا والذي وصفه الدكتور مصلوح بقوله:
((يا قوم!! إن كان هذا نقدًا فكلام العرب باطل
حاذروا بأكفكم على بطونكم وأنتم تسمعون العربية الشريفة من هذه الكارثة الناطقة، حاملة شهادة الدكتوراه في الأدب والنقد بمرتبة الشرف الأولى، ولست أستبعد الضميمة الشهيرة "مع التوصية بطباعتها على حساب الجامعة وتبادلها مع الجامعات".
يا ويلتا!!
ألم يجدوا في مصر طولًا وعرضًا، (وفيها الأزهر الشريف وكليات اللغة العربية ودار العلوم وكليات الآداب العريقة) إلا هذه الواجهة البائسة.
لك الله يا بلد أمير الشعراء!!)).
قُلْ إي وربي... فهذه اللجنة لا تُرينا من كارثة إلا هي أكبر من أختها.
لجنة لا تعرف من العربية سوى النصب والفتح.
لا تكترث برافع ولا جار.
والله من مثلها يُستجار.
أتعجب كيف حصل أعضاؤها على أعلى شهادة علمية في اللغة العربية وقد طُعنت العربية على لسانها ألف طعنة، ورُزِئَ أمير الشعراء بها شر رزيئة، ووُئدت البلاغة وَأْدًا شرًّا من وأد الجاهلية الأولى.
ثم انْظُرَ إلى تِلكَ التَّكِئَةِ التي اتَّكأتْ عليها حيث قالت: " إنني أتفهم موقف المهاجمين لي فهم لغويون يغارون على اللغة ومن حقهم ذلك، فجميعنا يحترم صحة اللغة الفصحى.. هناك أخطاء لغوية حدثت في النطق؛ فأنا لست درعمية أو أزهرية حيث سلاسة اللغة وانسيابها، أتحدث لغتنا ولهجتنا القاهرية المصرية وأرها حيوية وموصلة".
أَيُّها العُقلاءُ!!
الفصاحة في النطق لا تحتاج أن تكون أزهريًّا ولا درعميًّا.. تحتاج أن تتشبع سليقتك بجمال العربية شعرًا ونثرًا قراءة وكتابة واطلاعًا وأن تتعاهد آيات القرآن .. فتكتسب جبلة العروبة العاربة وتذوب كلماتها المعربة على لسانك وتنخلع عليك عباءة الفصاحة وتنسال عليك بلاغتها وتنضح بها جدران وجدانك ونبضات جنانك حتى إن كنت أعجميًّا....
فإذا كنت أستاذًا جامعيًّا حاملًا العالمية في العربية وآدابها متضلعا فيها بحثًا وكتابة وتأليفًا صار النطق بالفصاحة حينما تطلبك مجالسها وأنديتها فرضَ عين عليك لا عذر لك في اللحن بلهَ اللحون، لاسيما إذا كان مستبشعًا لا يقع فيه الصبيان... فإن عجزت فتكلم العامية الصرفة ولا تأت بخليط من الكلام (المعجون) فتمجه الأسماع وتتقلب منه الأمعاء.
ثم كان الأمرُ المتوَقَّعُ والنَّتيجَةُ المُنْتَظَرَةُ، حيث أَقْصَتِ اللجْنَةُ الشاعر مِنَ المُسابَقَةِ وأهالتِ على قصيدته التُّرابَ، وأسدلت على نفسها الستارَ كأسوأ لجْنَةٍ عَرَفَها تاريخُ السباق الشعري!
وهُنا يستحضر الشيخ الدكتور مصلوح هذه الحكايةَ التاريخية الصادقة التي دارت بين الحجاج ويحيى بن يعمر، وفيها: قال الحجاج ليحيى بن يعمر: أتجدني ألحنُ؟
قال يحيى: مثل الأمير لا يلحن.
قال الحجاج: عزمت عليك إلا صَدَقْتني!
قال يحيى: نعم!
قال الحجاج: وفي أي شيء ألحن؟
قال يحيى: في كتاب الله.
قال الحجاج: وهذه أشنع. وفي أية آية؟
فذكر له يحيى لفظًا في آية كان الحجاج يرفعه، وحقه النصب.
فما كان من الحجاج إلا أن قال: والله لا تسمعني ألحن بعد اليوم!
وأقصاه إلى خراسان.
[الإقصــــــاء هو الحــــــــل]
وهُنا سَكَتَ الكلامُ فاستَنْطَقُ المتنبي رحمه الله ما في الأحشاء من أسًى باكٍ بقوله:
وأعظمُ ما تُكلّفني الليالي *** سُكوتٌ عندما يجبُ الكلام
فالله الله في العربية
بقلم د. مصطفى شعبان
د. مصطفى شعبان
د. مصطفى شعبان is on Facebook. Join Facebook to connect with د. مصطفى شعبان and others you may know. Facebook gives people the power to share and makes the world more open and connected.
www.facebook.com