د. مصطفى شعبان - ظاهرة الإشعار في اللسان العربي

تعد ظاهرة الإشعار من الظواهر اللغوية البارزة في اللسان العربي، وتنبني على نظام من الأحكام المحدودة، ويندرج تحتها ما لا ينحصر من الجزئيات التي تراها مبثوثة في الكلام العربي، وتلك الظاهرة باب واسع من أبواب العربية، ونظام مَرِنٌ من أنظمتها، وقانون عام من قوانينها التي تحكم أنظمتها اللغوية والنحوية والصرفية والصوتية والبلاغية. وعلى الرغم من ضرورة هذه الظاهرة وأهميتها وشيوعها في كلام العرب، فإن الكلام عنها في حيز الدراسات النحوية الحديثة يكاد يكون منعدمًا، على الرغم من ورودها في كلام القدامى متناثرًا في دواوينهم اللغوية والنحوية والصرفية.
وتنطلق تلك الدراسة من مبدأ عام معلوم من اللغة بالضرورة، وهو أن اللسان العربي أوسع الألسنة ألفاظًا وأغزره عبارات، وأن اللغة العربية لغة موحية تتوخى الوضوح وتنشد البيان؛ إما منطوقًا وإما مدلولًا، وكل لغة لابد أن تحكمها مجموعة من القوانين الحاكمة، وهذه القوانين الحاكمة للغة «تكاد ترقى إلى مكانة القوانين الطبيعية ثباتًا وقوةً ولا يعني جهلنا لهذه القوانين في بعض الأحيان أنها غير موجودة، ومهمة العلم البحث عن هذه القوانين يكتشفها ولا يخترعها، يميط اللثام عنها ولا يتحكم فيها».
والعرب حين ينطقون بلفظ طرأ عليه نوع تغير في بنيته يراعون في صورته الجديدة الإشعارَ بما طرأ عليه من تصرُّفات، والإشارة إلى ما حدث فيه من تحوُّلات من حركة أو حذف أو زيادة أو إعلال ونحوه؛ بيد أن لهم طرقًا شتى لهذا الإشعار، والعجيب أنهم قد يُشعرون بطريق من الطرق في موضع، وبعكسه في موضع آخر، فقد يُشعرون بطريق الإعلال في موضع وبطريق التصحيح في موضع آخر، وقد يُشعرون بطريق الحذف في موضع وبطريق الإثبات في موضع آخر، وقد يشعرون بطريق إخلاص الحركات في موضع وبطريق تخفيفها أو تضعيفها في موضع آخر،كما أنهم ربما حذفوا الشيء اعتباطًا لغير علة تصريفية، وربما حذفوه عن صنعة وتطرُّقٍ، وما كل ذلك إلا من ضروب اتساع اللغة وصروفها ومرونتها.
ومن خلال استقراء الظاهرة ألفيتُ أنها سائرة في دماء العربية على خمسة أنحاءٍ: الإشعار بطريق صوتي. والإشعار بطريق الإبدال أو التصحيح. والإشعار بطريق الحذف أو الزيادة. والإشعار بطريق الإلحاق. والإشعار بطريق الصيغة.
أما عن تأصيل مصطلح الإشعار ومفهومه: فالإشعار في اللغة: فنستنتج من تناول اللغويين أن الفعل(أَشْعَرَ) فعل ذو خصائص متعددة من حيث التعدي والاستعمال:
أما من حيث التعدي: فالفعل (شَعَرَ)إذا دخلت عليه همزة التعدية تعدَّى إلى مفعولين تارةً بنفسه وتارة بالباء، وهو الأكثر، لقولهم: شَعَرَ بهِ دون: شَعَرَهُ، كما أنه قد يتعدَّى إلى مفعول واحدٍ أيضًا.
وأما الاستعمال فإن موارد الفعل(أشْعَرَ) تدور بين معنيين: أولهما: الإعلام والإيذان والإطْلاع. وثانيهما: الإلصاق والمخالطة والغشيان.
أما الاستعمال الأول وهو: الإعلام والإيذان، فيأتي في صور؛ مثل قولهم: (أشْعَرَهُ الأمرَ) أي: أعلمه إياه، و(أشْعَرَهُ بالأمر) يعني: أعلمه به، و(أشعره) يعني: أعلمه وأدراه، و(أَشْعَرَ بالأمرِ): أطْلعَ عليه. وجاء في الذكر الحكيم: (وما يُشْعِرُكُمْ أنَّها إذا جاءَتْ لا يؤمنون) أي: وما يُدْرِيكُمْ.
وأما الاستعمال الثاني فهو: الإلصاق والمخالطة والغشيان وجعل شيء علمًا وعلامةً على شيءٍ، فيأتي في صور؛ مثل قولهم:(أشعرَ الشيءُ الشيءَ) يعني: لصق به أو خالطه، و(أشعرَ فلانٌ الشيءَ) يعني: ألصق به علامة، وقولهم:(أشعره الشيءُ شيئًا) يعني: غَشِيَهُ به.
ومن خلال هذا العرض نخلُصُ إلى أنَّ مصطلح (الإشعار)الذي نعنيه هنا يُراد به في المفهوم اللُّغويّ: مزيجٌ من شيئين:(إعلام المخاطب بشيء وإيذانه بتحققه وإشعاره بوجوده)، و(إلصاق علامة باللفظ لتكون دليلًا على شيء ما).
قال ابن الطيب الفاسي: «إِشْعَار: بكسر الهمزة، مصدر "أشعره بالشيء" أعلمه به، فـ "الإشعار" كـ "الإعلام" وزنًا ومعنًى، على ما ذكره أئمة اللغة قاطبة، والمصنفون يستعملونه لما ليس بصريحٍ فهو عندهم كالإيماء والإشارة، فكأنه في اصطلاحهم من "أَشْعَرَ الهَدْيَ" إذا جعل فيه علامة فهو استعارة مشهورة بمنزلة الحقيقة».
وبناء على هذا المفهوم يمكننا تعريف مصطلح (الإشعار) في تلك الظاهرة النحوية اصطلاحًا بأنه: دلالة تُفهم مِنْ كُلِّ ما يُحدثه العربُ باللفظ من علامات، وما ينطقون باللفظ عليه من هيئة؛ إيذانًا بالصيغة أو بالمعنى الأصليِّ لذلك اللفظ.
فالإشعار لا يجري على ألسنة النحاة اعتباطًا؛ بل هو نظام ضارب في جذور العربية لاهجٌ بعنايتها بالصناعة اللفظية والدلالية، موحٍ باهتمام العربية بالعلة وقرائنها المُشعرة بها، فيمكن عدُّه من العلل التي انفرد بها اللغويون والنحاة؛ كالعلل التعليمية والقياسية والجدلية. وقد تحدث السيوطي في معرض الحديث عن أقسام العلل عند النحويين عن "علة الإشعار"، وسلكها ضمن العلل التي تطرد على كلام العرب وتنساق إلى قانون لغتهم، وأردف هذا بأن العرب لتلك العلل أكثر استعمالًا، وأشد تداولًا، وأنها واسعة الشعب، إلا أن مدار المشهورة منها على أربعة وعشرين نوعًا، ذكر منها "علة الإشعار".
وفي التفصيل التالي أشرح بالأمثلة أنحاء سريان هذه الظاهرة في دماء العربية على نهج مُحكم سبيكٍ عجيب.
النحو الأول: الإشعار بطريق صوتي:
ومن طرق هذا النحو:
الإشعار بإخلاص الحركات: ونعني بهذا النوع الإشعار بالأصل بطريق إحداث حركة خالصة أو إبقاء حركة خالصة في أحد حروف بنية الكلمة يكون الغرض منها إما الإشارة إلى أصل الحرف المحذوف نفسه أو حركته، وإما الإشارة إلى أصل الحرف في بعض أحوال اللفظ وظيفةً أو جنسًا أو حركةً، وإما الإشارة إلى دلالة أصلية تُراد في اللفظ:
-فمما جاء من الإشعار بالحرف المحذوف نفسه:
جمع الاسم المقصور جمع تصحيح: فإن العرب لما أرادوا جمع الاسم المقصور جمعَ المذكَّرِ السالم حذفوا ألفه هربًا من التقاء الساكنين ألف المقصور وواو الجمع ويائه، وأبقوا على الفتحة لتُشعر بالألف المحذوفة وتدل عليها، فقالوا في "مصطفَى":"مصطفَونَ" رفعًا، و"مصطفَينَ" جرًّا ونصبًا بفتح الفاء. قال ابن مالك: «وأما المقصور فتحذف ألفه في جمع التذكير وتلي الواو والياء الفتحةُ، ويستوي في ذلك ما ألفه منقلبة عن أصل كـ(الأعْلَى)،وما ألفه زائدة كـ(حُبْلى)- اسم رجل- فيقال: جاء الأعلَوْن والحُبْلَون، ومررت بالأعلَيْن والحبلَين. هذا مذهب البصريين.
وأما الكوفيون فيحذفون الألف الزائدة، ويضمون ما قبلها مع الواو ويكسرونه مع الياء، فيقولون: جاء الحبلُون ومررت بالحبلِين، فإن كان المقصور أعجميًّا أجازوا فيه الوجهين لاحتمال الزيادة وعدمها».
وقد أشار ابن مالك إلى تلك القاعدة في ألفيته بقوله:
*والفتحَ أبقِ مُشْعِرًا بما حُذِفْ *
قال السيوطي في مَعْرِض حصره لأنواع العلل المطردة في كلام العرب: «وعِلَّةُ إشعارٍ: كقولهم في جمع موسى: مُوسَوْنَ، بفتح ما قبل الواو؛ إشعارًا بأن المحذوف ألفٌ».
فعُلم من هذا أن العرب لما أبقوا على الفتحة قد راعوا الأصل، وأشعروا بصورة اللفظ الأصلية، ومراعاة الأصل مركوزة في كلام العرب، وفي هذا تقوية لمذهب البصريين الذين فرقوا بين المقصور والمنقوص في جمع المذكر السالم مراعاة لأصل كل منهما، بينما أجرى الكوفيون المقصور مجرى المنقوص فضمُّوا ما قبل الواو فقالوا: "مصطفُون" مثلًا وكسروا ما قبل الياء فقالوا: "مصطفِين" حملًا له على السالم مطلقًا، وفيه إغفال لقضية مراعاة الأصل وإنْ كانوا لاحظوا قضية الحمل على أصل الباب في أن جمع المذكر السالم يُضمُّ ما قبل واوه ويُكسر ما قبل يائه.
النحو الثاني: الإشعار بطريق الإبدال أو التصحيح
أ- الإشعار بطريق الإبدال:
والإبدال: أن تقيم حرفًا مكان حرف إما ضرورة وإما صنعة واستحسانًا، وبصيغة أخرى: هو إحلال صوت محل آخر، ليكون الحالُّ مجانسًا للمجاور أو قريبًا منه أو أكثر وضوحًا في السمع، أو مساعدًا على تقوية النبر.
وقد يكون الإبدال طريقًا للإشعار، فيُغير الحرف إلى حرف آخر ليُحدث دلالة لولا هذا التغيير لما حدثت تلك الدلالة ولا وُجِد في صورة اللفظ ما يدل عليها، وفيه صور منها:
الإبدال في(إذَنْ): فإنهم يبدلون نونها في الوقف ألفًا، وقد أجمع القراء السبعة على الوقف على (إذنْ)بالألف، ورُسِمَت كذلك في المصحف الإمام بالألف، وإنما كُتِبَتْ بالألف إشعارًا بصورة الوقف عليها فإنه لا يوقف عليها إلا بالألف في المصحف إجماعًا، أما في غير القرآن فيرى البصريون والجمهور الوقف عليها بالألف لِشَبَهِها بالمنوَّنِ المنصوب، ويرى فريق آخر أنها يوقف عليها بالنون؛ لأنها بمنزلة (أنْ) و(لنْ).
ب-الإشعار بطريق التصحيح:
والتصحيح المعنِيُّ هنا: هو تركُ قلب حروف العلة في الكلمة مع وجود داعي القلب لِعِلَّةٍ تصريفية مَّا جعلتهم ينزِعون إلى تصحيحها. وقد تنبه الصرفيون إلى أن علة الإشعار قد تتحقق في تصحيح الكلمة، ليكون الإشعار بذلك سبيلًا للدلالة على القلب الطارئ عليها، بل إنهم جعلوا ذلك من الأشياء التي يُعرف بها القلبُ، فذكروا مما يُعْلَمُ به القلب في الكلمة :
تصحيح العين في "أَيِسَ": ذكر الصرفيون من الأشياء التي يُعرف بها القلب في الكلمة: أن يكون أحد النَّظْمَينِ حكمٌ هو الآخر في الأصل،فيدلُّ وجوده فيه على أنه مقلوب مما ذلك الحكم له في الأصل؛ نحو "أَيِسَ"، فإنه مقلوب من "يَئِسَ"، ولذلك صحَّ كما صحَّ يَئِسَ.
قال ابن جني في معرض استدلاله على أن "أَيِسَ" مقلوبٌ من "يَئِسَ" نقلًا عن شيخه أبي علي: «والآخر صحة العين في "أَيِسَ"، ولو لم يكن مقلوبًا لوجب فيه إعلالها وأن يقال: آسَ وإِسْتُ كهَابَ وهِبْتُ، وكان يلزم في مضارعه: أآسُ كأَهَابُ، فتقلب الفاء لتحركها وانفتاحها واوًا؛ ..فصارت صحة الياء في "أَيِسَ" دليلًا على أنها مقلوبة من "يَئِسَ"».
وتفسير هذا التقرير أن القلب يُعرف بصحة حروف العلة مع تحركها وانفتاح ما قبلها، نحو: "أَيِسَ يأْيَسُ"، فإنه مقلوب من "يَئِسَ"؛ لأنه لو كان "أَيِسَ" هو الأصل لوجب أن يقال: آس؛ لتحرك الياء وانفتاح ما قبلها،ولما لم يُقَلْ كذلك عُلِمَ أن "أَيِسَ" مقلوب من "يَئِسَ"؛ فوزن "أَيِسَ" عَفِلَ لا فَعِلَ.
وبناء عليه صرح ابن سيده بوجود علة الإشعار في هذه الصورة قائلًا: «فإن قيل: ولِمَ صَحَّتْ العينُ في "أَيِسْتُ"حتى دعا ذلك إلى تصحيحها في "آيِسٍ". فالجواب: أن "أَيِسْتُ" مقلوب على ما تقدم من "يَئِسْتُ"، فكما صحت فاء "يَئِسْت" صححوا عين "أَيِسْتُ" إِشْعارًا بالقلب عنها».
النحو الثالث: الإشعار بطريق الحذف أو الزيادة:
أ-الإشعار بطريق الحذف:
والحذف يعتري الجملة والمفرد والحرف والحركة، وليس شيء من ذلك إلا عن دليل يدل عليه، وأن المحذوف إذا دلت الدلالة عليه كان في حكم الملفوظ به إلا أن يعترض هناك من صناعة اللفظ ما يمنع منه. والإشعار بطريق الحذف يأتي في صور متنوعة، فقد يُعرَفُ بالحذف نفسه أو بما يطرأ على التركيب بعد الحذف:
فمن أمثلة الإشعار بطريق الحذف نفسه:
حذف (أنْ) بعد (كاد) وإبقاء عملها:أنشد سيبويه:
فَلَمْ أَرَ مِثْلَهَا خُبَاسَةَ وَاحِدٍ ونَهْنَهْتُ نَفْسِي بعدَمَا كِدْتُ أَفْعَلَهْ
وذهب في تأويل هذا البيت إلى أن الشاعر أراد: بَعْدَ مَا كِدْتُ أنْ أَفْعَلَهْ، فحذف (أنْ) وأبقى عملها. ونص كلامه: «فحملوه على (أَنْ)؛ لأن الشعراء قد يستعملون (أنْ) ههنا مضطرين كثيرًا». قال الأعلم: «الشاهد فيه نصب (أَفْعَلَه) بإضمار(أَنْ) ضرورة، ودخول (أَنْ) على (كاد) لا يُستعمل في الكلام، فإذا اضطر الشاعر أدخلها عليها تشبيهًا لها بـ(عسى)؛ لاشتراكهما في معنى المقاربة، فلما أدخلوها بعد (كاد) في الشعر ضرورة توهمها هذا الشاعر مستعملة، ثم حذفها ضرورة، هذا تقدير سيبويه». وفي نص تخريج سيبويه ما يوحي بأمرين: أحدهما: أن استعمال الشعراء لـ(أنْ) في خبر (كاد) كثيرًا يخرجه من إطار الاضطرار إلى الاختيار، ويجعل الحكم عليه بالضرورة أمرًا يحتاج إلى نظر، لاسيما إذا وجدنا شواهد من غير الشعر تدخل فيها (أن) على خبر( كاد)، ومنه: قول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- للنبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق: ((ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب)). وقوله صلى الله عليه وسلم : ((كاد الفقر أن يكون كفرًا)).
وحديث البخاري: ((كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم)). فالاقتران لم يرد في الشعر باطراد فحسب، بل ورد كما سلف في الحديث الشريف والنثر أيضًا، فالحكم على اقتران خبر (كاد) بـ(أن) واختصاصه بضرورة الشعر كما ذهب المبرد والأندلسيون غير سديد، ويكون الحكم عليه بالقلة إلغاءً لهذا التراث الضخم الوارد بكثرته واطراده. والأمر الآخر: الذي يبدو لي أن بعض متأخري النحاة قد استوحاه من تخريج سيبويه: وهو أن حذف الحرف العامل في الفعل وإبقاء عمله -عند من يجيز حذفه وإبقاء عمله- يُشعِرُ باطراد ثبوته؛ لأن ما كان هذا شأنه من الحروف العاملة لا تُحذف ويبقى عملها إلا إذا كان ثبوتها في حكم الاطراد، وهو ما حققه الأشموني بقوله: «وفيه إشعارٌ باطراد اقتران خبر(كَادَ) بـ(أَنْ)؛ لأن العامل لا يحذف ويبقى عمله إلا إذا اطرد ثبوته». فحذف الحرف العامل (أنْ) بعد (كاد) للضرورة مع إبقاء نصبه للمضارع فيه إشعارٌ باطراد اقتران خبر (كاد) به في مقام الاختيار.
ب-الإشعار بطريق الزيادة:
وقد يُشعِرون بطريق الزيادة، فيزيدون شيئًا يكون مُنبِّهًا على معنًى ما، وتتنوع هذه الزيادة فتارة تكون حرفًا وتارة تكون فعلًا : أما الحرف المزيد للإشعار فقد يكون حرف مبنى أو حرف معنًى:
فمثال زيادة حرف المبنى:
-ما جاء من زيادات في رسم المصحف مما يُنْقادُ إليه اتباعًا للسلف ولا يقاس عليه؛ لأنه لا يتعدى موضعه، ويُكتب لو كُتِبَ في غير المصحف بدون هذه الزيادات؛ ومنه:
1-زيادة الألف في (الرِّبوا) [سورة البقرة: 175]: وكان حقُّها أن لا تثبت، بل يُكتب هكذا (الرِّبا)؛ لأن ألفه عن واوٍ فهو من رَبَا يرْبُو، ولذلك رُسِمَت بالواو في رسم المصحف مراعاة لهذا الأصل، ولكن زادوا الألف إذا كتبوها بالواو (الربوا) إشعارًا بأن الأصل أن تُكتب هذه الواو ألفًا، فزيادة الألف جاءت تنبيهًا على هذا الأصل ومراعاة للفظ.
2-ونحوه زيادة الياء في: (نَبإى) [سورة الأنعام: ٣٤]: إشعارًا بجواز إبدال الهمزة ياءً في الوقف، فتُكتب بالألف على التحقيق، وبالياء على التخفيف، ليُعلم جواز القراءة بهما، وقد وقف بالياء جماعة في قراءة حمزة.
النحو الرابع: الإشعار بطريق الإلحاق:
ونعني بالإلحاق هنا ما يزاد على بنية الكلمة للدلالة على غاية معنوية أو لفظية:
ومثال ما لَحِقَ للإشعار بغاية معنوية: (هاء) المبالغة: وهي الهاء الداخلة على صفات المذكَّر التي على زِنة (فعَّال) و(فَاعِل) و(مِفْعَال) و(فَعُول)،نحو قولك: رجلٌ علَّامَةٌ، ونَسَّابَةٌ، وداهِيَةٌ، وفَرُوقَة، ومِعْزَابَة،..ووصفهم المذكر بما فيه هاء التأنيث إنما هو لشدة المبالغة، وهم إذا أرادوا شدة المبالغة في الكلمة فمما يُخرجونها عن أصلها، فهذه الهاء تلحق صفات المذكر للدلالة على شدة المبالغة في النَّعت، وعبر بعضهم عن الغرض من هذه الهاء بقوله: تأنيث الغاية، قال ابن سيده: «ورجلٌ فَرِقٌ-الجبان كثير الخوف من كل شيء-،وفَرُقٌ، وفَرُوقٌ، وفَرُوقَةٌ، وفَرُّوقٌ، وفَرُّوقة، وفاروق، وفاروقة: شديد الفَرَقِ، الهاء في كل ذلك لغير تأنيث الموصوف بما هي فيه، إنما هي إشعارٌ بما أريد من تأنيث الغاية والمبالغة».
وحاصل ذلك أنهم إذا قصدوا أن المذكر قد بلغ الغايةَ في ذلك الوصف أنثوه فقالوا (فاعِلَة) كـ(راوِية، وداهِيَة) والغاية مؤنثة، فإن قصدوا تأكيد المبالغة الحاصلة بغير التاء في الصفة على (فَعَّال أو مِفْعال أو فَعُول)-لأن هذه الصفات تفيد المبالغة بنفسها- أدخلوا التاء لتأكيد هذه المبالغة في هذه النعوت، فقالوا (فعَّالة) كـ(علَّامَةٍ، ونَسَّابَةٍ)،و(فَعُولة) كـ( فَرُوقَةٍ، ومَلُولَةٍ)،و(مِفْعَالة) كـ(مِعْزَابَةٍ، ومِطْرَابَةٍ).
ومثال ما لَحِقَ للإشعار بغاية لفظية: (تاء) العُجْمة: وهي تاء التأنيث تلحق الاسم الرباعيَّ الأعجمي بعد جمعه جمع تكسير إشعارًا بالعجمة فيه؛ مثل: "مَوْزَج" (الخُفُّ:فارسي مُعَرَّب)، فتقول فيه: مَوَازِجَة، والقياس مَوَازِج، ومثله: "جَوْرَب" وجَوَارِبَة، و"صَوْلَج" وصَوَالِجَة (الصَّولجان: فارسي معرب)، والقياس جَوَارِب وصَوَالِج، فجِيءَ بالتاء في الجمع للدلالة على أن أصل الكلمة غير عربي، وقد عُرِّبَتْ بإدخال شيء من التغيير في صيغتها، وهكذا أكثر هذا الضرب الأعجمي تلحق الهاءُ تكسيرَه إشعارًا بالعجمة. قال ابن يعيش: «إذا كان الاسم رباعيًّا أعجميًّا أو منسوبًا فإنه يُجمع على ما تقدم من جمع الرباعي، إلا أنك تُلحِق جمعه(الهاء)في الأكثر، قالوا: مَوْزَج ومَوَازِجَة، جَوْرَب وجوارِبَة، وكلاهما فارسي مُعرَّب، ودخلت الهاء لتأكيد تأنيث الجمع؛ لأنه مكسَّرٌ على حدِّ دخولها في حَجَرٍ وحجارة، وذكر وذكارة، وللإيذان بالعُجْمة فيها». فعلامة التأنيث لحِقَت بالاسم الرباعي الأعجمي المجموع هنا بعد تعريبه إشارة إلى كون واحده مُعرَّبًا، وإيماءً إلى أصل العُجْمَة والتعريب فيه.
النحو الخامس: الإشعار بطريق الصيغة:
ونعني به ما يتبادر إلى الذهن بمجرد اللفظ بالصيغة من دلالة توحي بالفاعلية أو بالنوعية، أو نحوهما:
أما إشعار الصيغة بالفاعل: فنحو وجوب استتار الضمير في "أَفْعَلُ"، و"نَفْعَلُ"" لدلالة صيغة الفعل المضارع على الفاعل المستتر: قال الرضي: «فلم يبرز الضمير في: "أَفْعَلُ"، و"نَفْعَلُ"؛ لإشعار حرف المضارعة بالفاعل؛ لأن "أَفْعَلُ" مُشعِرٌ بأن فاعله "أنا"، و"نَفْعَلُ" مشعر بـ "نَحن"، الهمزة بالهمزة، والنون بالنون». يعني أنهم أوجبوا استتار الضمير في صيغة المضارع للواحد المتكلم (أَفْعَلُ)، ولجماعة المتكلمين (نَفْعَلُ) ولم يحتاجوا إلى إبرازه لإشعار صيغة الفعل في كلٍّ منهما بالفاعل المستتر، فالهمزة وحدها في (أفعل) تُشعر بأن فاعله هو الضمير (أنا)، والنون في (نفعل) تُشعر بأن فاعله (نحن)، فلا يُحتاج في هذه الصيغ إلى العدول عن الاستتار الخفيف والإتيان بالضمير البارز.
وأما إشعار الصيغة بالنوع: فنحو الصِّفات المختصة بالإناث: فجميع ما كان للإناث خاصة من الصفات التي قُصِدَ بها النَّسب؛ أي أُرِيدَ بها أن المرأة ذاتُ أهلية بها دون الرجل، ولم يريدوا معنى الفعل، نحو: "حَائِض، وطَامِث، ومُرضِع، ومُطْفِل"، فإنهم لم يُدخلوا فيها هاء التأنيث، لاستغنائها عن التاء؛ «لأن مجرَّد لفظها مُشْعِرٌ بالتأنيث إشعارًا لا احتمال فيه». فالإشعار بالنوع هنا حاصلٌ بمجرد اللفظ والصيغة بالكيفية المذكورة.
وختام القول: لا أزعم أنني قد استجمعت كل مواقع الظاهرة في الدرس اللغوي، بيدَ أنني أزعم أن النظام الذي يحكم هذه الظاهرة لا يخرج في أشكاله وطرقه عن الأنحاء الخمسة التي درستُ خلالها تلك الظاهرة، وأستطيع القول إن ظاهرة الإشعار تمثلت في واقع اللغة العربية بشكل واضح الملامح في مستويات اللغة المختلفة، وقد نضجت قواعد الظاهرة واكتملت نظريتها في أذهان القدماء وانسالت في قرائحهم حتى استوت على هذه الصورة جليَّة المعالم، وفي رأيي أن الإشعار من أهم الظواهر التي أثَّرت في منطق النحو والصرف وربما في غيرهما من علوم اللغة، ولعل الأيام تهدي مِنَ الدارسين مَن يُفرغ في تلك الظاهرة مجهوده، ويوسع دائرة التناول فيها لتشمل جوانب أخرى ربما ذهل بحثي عنها، ليخرج لنا نظرية مكتملة في قابل الأيام.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى