نعيم شريف - النهايات الشعرية للشعراء.. هل ثمّة شكلٌ من أشكال الموت يليقُ بالشعراء ؟

موتٌ فيه نسبةٌ لاحدَّ لها من المأساوية ، موتُ الفجاءة ، يكون فيه الشاعر في وحدةٌ مطلقةٌ هي أقربُ الى وحدة الفيلسوف، منها الى وحدة انسان عادي ، مكانٌ معزول عن صخب الإيقاع العادي للأيام ، ونهايةٌ مؤثثةٌ تُناسبُ الأبدية ، سيكون ، حينها ، هدفاً مغرياً للملاك الذي يأخذ الحيوات من الأجساد ، ولا يُخلِّفُ سوى دهشةٍ مسكينة لكائن رقيق وأعزل.
بعد وصولي بشهرين ، وفي الثالث من آب أغسطس من العام 1999، يموتُ الشاعر عبد الوهاب البياتي ، كان الرجلُ السبعيني قد غادر عمّان وجاء الى دمشق ليكون بجوار "شيخه " محي الدين بن عربي ، عاش وحيداً في شقةٍ في أحد أحياء دمشق.
يُحكى عنه قُبيل وفاته بأنّهُ صارَ أقربُ الى الشاعر الساكن منه الى الشاعر الصاخب ، بدا هادئاً وأكثرُ حكمةً، لقد غادرتهُ حدة الوصف القاسي للآخرين ، صار طيفاً خفيف الحضور وخفيف الغياب ، وفي صبيحة الثالث من آب أغسطس ظلّت مُدبَّرة المنزل تضغطُ على جرس باب شقته ، وليس من مجيب ، حين كُسرَ الباب وجدوا الشاعر جالساً على كرسيه وسط الصالة ، ينظرُ الى شيء ما ، كان موتهُ أنيقاً ، تماماً مثل نمط حياته .
في منفاه الهولندي ، كان الشاعر كمال سبتي ، يعيش وحدته الثلجية النموذجية ، فالسماء الرمادية لمعظم أيام السنة ، تطفىء ضوء الروح ، خاصة للكائنات الشمسية لشخص جاء من الناصرية حيث تنام الشمس مع البشر في بيوتهم ، أتذكَرُ كمالاً بحماسه السائح القادم من هولندا الى مقهى الروضة في دمشق ، حيث عرّفني عليه الشاعر محمد مظلوم ، هل نسيت أن أقول : أن محمداً الشاعر قد لازم البياتي حتى النهاية الشعرية للأخير ، وأنّهُ كان مساعده ومرافقه ، ولعلي قد أخذت معلوماتي عن موت البياتي منه ، فقد أجريت معه لقاء مُطوّلاً لجريدة " التخطي "؟ .
كان كمال برفقة طفلة شقراء هي ابنة أخيه الذي يقيم في أمريكا ، وكان سعيداً برفقتها ،وشرح لنا مأزقه وهو يريدُ ايصال فكرة قداسة السيّدة زينب الى هذه الطفلة ، لا أدري مالسؤال الذي سألته له وكان حاداً في الإجابة عنه ، رمقته بغضب وسكت ، بعد دقائق لاحظ إنني لم أعد أشارك في الحديث ، فبادر بطيبة أخجلتني : ها حبيبي نعيم أنت ساكن بالسيّدة مو بالشام ؟
بعد سنوات قليلة من لقائنا في دمشق ، أقرأ في موقع كيكا عن موت الشاعر كمال سبتي وحيداً في شقته ، السيناريو نفسه ، يُطرقُ على باب شقته وليس من مجيب ، فيعمدون الى فتح الباب عنوةً ، ليجدوا الشاعر جالساً على كرسيه وفي عينيه نظرةٌ خرساء لخواء هذا العالم . وكأنني عرفته من زمن طويل ، آلمني موت كمال سبتي بشكلٍ موجع ، أحسست بحزنٍ فادح وأن أقيم في مدينة ثلجية في شمال أمريكا تُشبه تلك التي مات فيها كمال سبتي .
اختار صديقي كزار حنتوش أن يموت بين الجمهور ، أراد أن يكون موته آخر قصيدة للعامة من شعبه ، كان خبر موته تايتلاً في قناة العراقية وأنا في غربتي الغريبة ، وكان قاسياً موت الصديق ، فقد كان بيننا خصامٌ على ضعف بشري أصابه حين كتب قصائد للدكتاتور ، وكان ذلك مؤذٍياً لي ، لكنه كزار صديقي الذي كتب عني أجمل الأشياء ، دون أن يخبرني بذلك .
كيف مات الشاعر عقيل علي ، هل حقّاً وجدوه مُتخشِّباً في شارع من شوارع بغداد ؟
تربطني بالشاعر علي الشباني صداقة حميمة ، كان علي شفافاً ونبيلاً ، لكنني كنتُ أرى موتهُ المؤجل رأي العين ، كان لقاؤنا الأخير في مقهى العزيز في شارع سينما الثورة في الديوانية ، كان ساخراً حينها ومسكوناً بكآبة تجعله كائناً زائراً يريد الرحيل على عجل ، وقد كان ، مات الشباني " زعلاناً " على العالم ، تماماً مثل موتٍ شبيه ٍلشاعر من مدينته هو صاحب الضويري ،صاحب الذي أراد الموت انتحاراً ، فلم يُفلح ، كان يؤملُ نهايةً شعرية بوصفها قصيدتهُ الأخيرة .

نعيم شريف



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى