أبو الطيّب المتنبّي( ٣٠٣- ٣٥٤ هجريّة) صِنو الشعر العربيّ ؛ فما أنْ يُذكَر هذا الشعر إلّا ويُذكَر اسم هذا الشاعر الخالد .
لعلّ أوّل ما يتبادر إلى الذّهن حال سماع هذا الاسم إنّما هو الفخر والمديح والحكمة ؛ فالشاعر شديد الاعتداد بنفسه ، إذ تتضخّم (الأنا ) عند المتنبّي لتبلغ حدّ النرجسيّة المفرِطة ، إن لم نقُل المرَضيّة . استمع إليه يقول ، وقد بلغ بالكبرياء والعنجهيّة أقصاها :
إنْ أكنْ معجَبَاً فعُجبُ عجيب لم يجدْ فوق نفسه مِنْ مَزيدِ
أو استمعْ إليه إذا شئْت متحدّثاً عن قومه ، ولعلّه لا يريد إلّا ذاته ؛ إذ كان مطعوناً في نسبه :
وإني لَمِنْ قوم كأنَّ نفوسهم بها أَنَفٌ أنْ تسكنَ اللحم والعظما
أمّا في ( المديح) فقصائده المشهورة في ( سيف الدولة الحمداني) - وما أكثرها - لَخيرُ دليل على ماذهبنا إليه مِن غلبة المدح الممزوج بالفخر على شعره . أمّا( الحكمة) فهي
مبثوثة في تضاعيف شعره ، بل لا تكاد قصيدة من قصائده
تخلو منها .
غيرأنّ شاعرنا قد عُرِف أيضاً بلون من الغَزَل قد برع فيه ، وأعني به " التشبيب بالأَعرابيّات" ؛ أي التغزّل بنساء البادية ووصف ملاحتِهِنّ .
وفي ظنّي أنّ ذلك يعود في بعض أسبابه إلى كون المتنبي من شعراء المعنى ؛ إذ يأتي اللفظ عنده لخدمة المعنى ، وهذه النزعة إلى تقديم( المعنى ) على ( اللفظ ) ذات صلة لا تخفى
بتمييز الفلسفة بين ( الجوهر) و ( العَرَض) وفي مثل ذلك قال نقّادنا القدماء : " المتنبّي والمعرّي حكيمان ، إنّما الشاعر البحتُريّ " .
أقول إنّ اهتمام المتنبّي وتميّزه في التشبيب بالأعرابيات إنما
يتلاقى مع نظرته العميقة إلى الكون والإنسان والأشياء ؛ فهو
إذاً يرى الحُسن والجمال الأصيل البريء من الطِلاء والتجميل
الظاهريّ المصطنع لدى ( الأعرابيات) بخلاف النساء ( الحضريات) .
أنصتْ إليه يصف إحدى مغامراته الليليّة في مضارب البدو،
حيث يتّخذ الليل جُنّةً للوصول إلى مبتغاه ، فيشير إلى مجاورتهم لبقر الوحش ، وكيف يقوم رجالهم بنهب الأموال
في حين تستحوذ الأعرابيات على قلوب الرجال، ثمّ ينتقل إلى التّغزّل بحسن البدويّات ، مقارناً ما يتحلّينَ به من جمال
فطريّ طبيعيّ بجمال نساء الحضر المصطنع" المجلوب" حَسبَ
تعبيره .
- كم زورةٍ لكَ في الأعراب خافيةٍ
أدهى، وقد رقدوا- مِنْ زورة الذِّيبِ
- أزورهم وسواد الليل يشفعُ لي
وأنثني وبياضُ الصّبح يُغري بي
- قد وافقوا الوحشَ في سُكنى مراتعها
وخالفوها بتقويض وتطنيبِ
-فؤادُ كلّ مُحِبٍّ في بيوتهمِ
ومالُ كلّ أخيذِ المالِ محروبِ (١)
- ما أوجه الحضرِ المستحسناتِ بهِ
كأوجه البدويّات الرَّعابيبِ (٢)
- حسنُ الحضارة مجلوبٌ بتطريةٍ
وفي البداوة حسنٌ غيرُ مجلوبِ
- أين المعيزُ من الآرام ناظرةً
وغير ناظرةٍ، في الحسنِ والطِّيبِ ؟ (٣)
- أفدي ظِباءَ فلاة ما عرفنَ بها
مضغ الكلام ، ولا صبغ الحواجيبِ .
- ولا برزنَ منَ الحمَّام ، بارزةً
أوراكُهُنَّ، صقيلاتِ العراقيبِ
- ومِنْ هوى كلِّ مَنْ ليستْ مموَّهةً
تركتُ لونَ شيبي غيرَ مخضوبِ
- ومِنْ هوى الصّدق في قولي وعادتهِ
رغبْتُ عن شعرٍ في الرأسِ مكذوبِ
*
١- أخيذ على وزن( فَعيل) بمعنى ( مفعول) أي مأخوذ .
المحروب : الذي أُخِذَ جميع ماله .
٢- الرّعابيب: جمع رُعبوبة ، وهي الطويلة الممتلئة .
٣- المعيز: جماعة المعزى، فهو يشبّه نساء الحضر بالمعيز،
ونساء البدو بالظباء .
دكتور زياد العوف
لعلّ أوّل ما يتبادر إلى الذّهن حال سماع هذا الاسم إنّما هو الفخر والمديح والحكمة ؛ فالشاعر شديد الاعتداد بنفسه ، إذ تتضخّم (الأنا ) عند المتنبّي لتبلغ حدّ النرجسيّة المفرِطة ، إن لم نقُل المرَضيّة . استمع إليه يقول ، وقد بلغ بالكبرياء والعنجهيّة أقصاها :
إنْ أكنْ معجَبَاً فعُجبُ عجيب لم يجدْ فوق نفسه مِنْ مَزيدِ
أو استمعْ إليه إذا شئْت متحدّثاً عن قومه ، ولعلّه لا يريد إلّا ذاته ؛ إذ كان مطعوناً في نسبه :
وإني لَمِنْ قوم كأنَّ نفوسهم بها أَنَفٌ أنْ تسكنَ اللحم والعظما
أمّا في ( المديح) فقصائده المشهورة في ( سيف الدولة الحمداني) - وما أكثرها - لَخيرُ دليل على ماذهبنا إليه مِن غلبة المدح الممزوج بالفخر على شعره . أمّا( الحكمة) فهي
مبثوثة في تضاعيف شعره ، بل لا تكاد قصيدة من قصائده
تخلو منها .
غيرأنّ شاعرنا قد عُرِف أيضاً بلون من الغَزَل قد برع فيه ، وأعني به " التشبيب بالأَعرابيّات" ؛ أي التغزّل بنساء البادية ووصف ملاحتِهِنّ .
وفي ظنّي أنّ ذلك يعود في بعض أسبابه إلى كون المتنبي من شعراء المعنى ؛ إذ يأتي اللفظ عنده لخدمة المعنى ، وهذه النزعة إلى تقديم( المعنى ) على ( اللفظ ) ذات صلة لا تخفى
بتمييز الفلسفة بين ( الجوهر) و ( العَرَض) وفي مثل ذلك قال نقّادنا القدماء : " المتنبّي والمعرّي حكيمان ، إنّما الشاعر البحتُريّ " .
أقول إنّ اهتمام المتنبّي وتميّزه في التشبيب بالأعرابيات إنما
يتلاقى مع نظرته العميقة إلى الكون والإنسان والأشياء ؛ فهو
إذاً يرى الحُسن والجمال الأصيل البريء من الطِلاء والتجميل
الظاهريّ المصطنع لدى ( الأعرابيات) بخلاف النساء ( الحضريات) .
أنصتْ إليه يصف إحدى مغامراته الليليّة في مضارب البدو،
حيث يتّخذ الليل جُنّةً للوصول إلى مبتغاه ، فيشير إلى مجاورتهم لبقر الوحش ، وكيف يقوم رجالهم بنهب الأموال
في حين تستحوذ الأعرابيات على قلوب الرجال، ثمّ ينتقل إلى التّغزّل بحسن البدويّات ، مقارناً ما يتحلّينَ به من جمال
فطريّ طبيعيّ بجمال نساء الحضر المصطنع" المجلوب" حَسبَ
تعبيره .
- كم زورةٍ لكَ في الأعراب خافيةٍ
أدهى، وقد رقدوا- مِنْ زورة الذِّيبِ
- أزورهم وسواد الليل يشفعُ لي
وأنثني وبياضُ الصّبح يُغري بي
- قد وافقوا الوحشَ في سُكنى مراتعها
وخالفوها بتقويض وتطنيبِ
-فؤادُ كلّ مُحِبٍّ في بيوتهمِ
ومالُ كلّ أخيذِ المالِ محروبِ (١)
- ما أوجه الحضرِ المستحسناتِ بهِ
كأوجه البدويّات الرَّعابيبِ (٢)
- حسنُ الحضارة مجلوبٌ بتطريةٍ
وفي البداوة حسنٌ غيرُ مجلوبِ
- أين المعيزُ من الآرام ناظرةً
وغير ناظرةٍ، في الحسنِ والطِّيبِ ؟ (٣)
- أفدي ظِباءَ فلاة ما عرفنَ بها
مضغ الكلام ، ولا صبغ الحواجيبِ .
- ولا برزنَ منَ الحمَّام ، بارزةً
أوراكُهُنَّ، صقيلاتِ العراقيبِ
- ومِنْ هوى كلِّ مَنْ ليستْ مموَّهةً
تركتُ لونَ شيبي غيرَ مخضوبِ
- ومِنْ هوى الصّدق في قولي وعادتهِ
رغبْتُ عن شعرٍ في الرأسِ مكذوبِ
*
١- أخيذ على وزن( فَعيل) بمعنى ( مفعول) أي مأخوذ .
المحروب : الذي أُخِذَ جميع ماله .
٢- الرّعابيب: جمع رُعبوبة ، وهي الطويلة الممتلئة .
٣- المعيز: جماعة المعزى، فهو يشبّه نساء الحضر بالمعيز،
ونساء البدو بالظباء .
دكتور زياد العوف