بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019؛ دوّنت على صفحتي في الفيسبوك انطباعاتي الأوليّة؛ تعاصفنا وتثاقفنا، نعم، وجدت لقائي بهم، بأفكارهم وبكتاباتهم متنفّسًا عبر القضبان.
كتب الروائي الفلسطيني مصطفى عبد الفتاح يوم 24.04.2020 في صحيفة الاتحاد الحيفاوية: "شكرًا لك صديقي على مشروعك الذي استطاع أن يضيء عتمة السجن، واستطاع أن ينير قلوبنا وعقولنا لنضيء لهم شمعة أمل، ويمكننا أن نوصل كلمة الأدب من السجن وإليه، في مشروع "لكلّ أسير كتاب" فجعلت الكلمة الحرّة منارة تضيء آخر النفق".
"الله يجيب اللّي فيه الخير"
التقيته صباح الخميس 19 تشرين الثاني في سجن "مجيدو"، قابلني بابتسامة طفوليّة تعانق السماء، هو عثمان خليل عبد القادر قطناني (مواليد 13.08.2003) شبل يقبع في زنازين الاحتلال، اعتقل في اليوم السادس لبداية السنة الدراسية، صف توجيهي في مدرسة الصلاحيّة النابلسيّة، يوم 17.08.2020 ليلحق أخاه عبد القادر ويدفع ضريبة حبّ الوطن.
سُلبت طفولته ليتعلم فنّ الطبيخ خلف القضبان فصار خبيرًا بطَهي المجدّرة والمقلوبة والمنسف، يعدّ الأيّام والساعات بين محادثة هاتفيّة يتيمة مع أهله كلّ 14 يومًا، عشر دقائق بالتمام والكمال، بحضور منظّم مسؤول وسجّانه، ضابط القسم، والمحادثة على "السبيكر" بعيدًا عن الخصوصيّة المفقودة.
رافقه في اللقاء الأسير عماد الحلبي دويكات، أسير متطوّع يرافق الأشبال ويهتم باحتياجاتهم الصغيرة/الكبيرة.
يهتم عثمان بالدراسة والتثقيف الذاتي لإكمال التوجيهي وتحقيق أحلامه والالتحاق بالجامعة ومسارها الأدبيّ، مردّدا شعاره "الله يجيب اللّي فيه الخير".
يقبع أخوه عبد القادر في نفس السجن ولكنّه محروم من لقائه، عدا زيارة أهل مشتركة و"زيارة أخوة"، فطلب منّي خجلًا إيصال سلاماته لأخيه!
تحدّثنا الكثير الكثير ومرّت ساعتان من الوقت، ترافقه الابتسامة الدائمة والضحكة أحيانًا، شبلٌ يستحقّ الحياة رغم أنّ هناك من يحاول سحقها.
لك عزيزي عثمان أحلى التحيّات، على أمل أن نلتقي قريبًا في نابلس بين أهلك.
"بدنا نعيش"
حين أنهيت لقائي بعثمان أطلّ عليّ أخوه عبد القادر خليل عبد القادر قطناني (مواليد 28.12.2000) بابتسامة عريضةـ اعتقل في اليوم الثالث لبداية سنته الدراسية الأولي في جامعة النجاح، غرافيك ديزاين، يوم 04.09.2019، ليمرّ بالتجربة الاعتقاليّة الالزاميّة لبلد المليون أسير.
بلّغته سلام أخيه عثمان الذي يقبع في زنازين السجن ذاته، وسلام متأخّر من والده حمّلني إيّاه صبيحة عيد الفطر يوم 24 أيار ودوّنت يومها على صفحتي:
"بالله عليك...سلّملي عالغالي"
اعتدت أن أسافر صباح كلّ عيد لزيارة الأهل، وأخواتي الأربع في القرية، من حيفا؛ الطريق الشرقيّة، بلد الشيخ ثمّ الجلمة باتجاه وادي عارة. على مشارف مجيدو اتصلت بصديقي د. خليل للمعايدة، سألني: وينك؟ حدّثته عن مساري ففاجأني: "بالله عيك... سلّملي عالغالي"؛ نجله يقبع في زنازين سجن مجيدو.
ركنت سيّارتي بموقف السيّارات قبالة السجن، ترجّلت ورفعت يداي ملوّحًا تجاه الزنازين وصحتُ بأعلى صوتي: عبد القادر، عبد القادر، أهلك بسلّموا عليك وبعايدوك. العيد الجاي إنشا الله بتعيّدوا سوى. فجأة تأهب السجّانون، كلّ في برج المراقبة والحراسة وأعلنوا حالة استنفار، مثل كلاب جهنّم.
يا ويلكم من الله، كلّها توصيلة سلام!" وها أنا اليوم أفي بوعدي وأوصله السلام.
يستغلّ عبد القادر وقته بالقراءة وحلقات الفكر والتثقيف، من الفِقه وأحكام الطهارة والتجويد، وسرَحات فنيّة ورسومات، ومنها على سبيل المثال مجسّم لأسلاك شائكة ومن بينها بصيص أصابع وأيادي ونظرات.
حدّثني عن الرياضة اليوميّة ولعبة "الملح"، طموحاته الفنيّة وأحلامه المهنيّة قائلًا بابتسامة ساخرة: "بدنا نعيش"!
تحدّثنا الكثير الكثير ومرّ الوقت مسرعًا وعيناه تصرخ إصرارًا وأملًا بمستقبل أفضل.
لك عزيزي عبد القادر أحلى التحيّات، على أمل أن نلتقي قريبًا في نابلس بين أهلك.
والله انسيت ملامح أبويا
صُعِقت حين شاهدت على صفحة فيسبوكيّة صورة الطفلة ريتال مُرفقة بنصّ مستفزّ: "هذا الصباح أبكت كل أخواتها ووالدتها عندما قالت فجأة: والله انسيت ملامح ابويا... فحملت صورته وبكت الصغيرة"!
غادرت حيفا الخامسة والنصف صباح الأربعاء 25 تشرين الثاني، برٍفقة الصديق مصطفى نفاع، لزيارة المعتقل محمد خليل محمد الحلبي، والد ريتال، في سجن ريمون الصحراويّ. أطلّ على غرفة المحامين منتصب القامة، التقيته للمرّة الأولى، وقفت لمصافحته عبر الحاجز الزجاجيّ الفاصل، وبادرت قائلًا: "ريتال والشباب بسملوا عليك" وفجأة كُسر ذاك الحاجز لنبدأ حديثًا مطوّلًا لساعتين من الوقت.
شغل محمد(مواليد 02.04.1978) قبيل اعتقاله يوم 15.06.2016 مديرًا لمؤسّسة الرؤية العالميّة ((World Vision في قطاع غزّة، محاكمته في مركزيّة بئر السبع ما زالت مستمرّة والجلسة القادمة (الجلسة رقم 153) عُيّنت ليوم 23.12.2020 بعيدًا عن أولاده خليل، عاصم، عمرو، ريتال وفارس!
تبادلنا الحديث فجاء مثقّفًا لأبعد الحدود، يؤلمه حال غزّة وأهلها، رفض كلّ المحاولات لابتزاز اعترافٍ ما لتحريره وصرخ في وجه المحقّقين أن لا مساومة على الحقّ، وحين "فاوضته" القاضية على إطلاق سراحه شريطة أيّ اعتراف رفض تلك المساومة البائسة التي هدفها تبييض صفحة ووجه الاحتلال وأجهزة مخابراته.
يؤمن محمد أنّ اعتقاله ومحاكمته هدفها وأد العمل الإنساني ووقف المساعدات الدوليّة التي تشكّل الرئة الوحيدة لتنفّسهم.
تحدّثنا عن "حديث الأسرى" في البوسطة والمعابر، عن التعذيب والتنكيل المتواصل، رحلات "البوسطة المقيتة، فليس صدفة أن غالبيّة جلسات المحكمة يوم الخميس أو الأحد لزيادة تعذيبه لتستمر كلّ رحلة في طريق الآلام 4-5 أيام، ناهيك عن تلك الرحلات "البوسطيّة" الإكسترا، عشرات المرّات بالغلط!
حدّثني عن الألم في عيون أولاده حين يراهم في وقفة احتجاجيّة هنا وهناك، ممّا يزيده إصرارًا وأملًا.
افترقنا قائلًا: "أنا مش رامبو"! فقط قضيّة إنسانيّة، لا غير.
لك عزيزي محمد أحلى التحيّات، على أمل باحتضان ريتالك وإخوتها قريبًا، والحريّة لك ولجميع أسرى الحريّة.
حسن عبادي
كتب الروائي الفلسطيني مصطفى عبد الفتاح يوم 24.04.2020 في صحيفة الاتحاد الحيفاوية: "شكرًا لك صديقي على مشروعك الذي استطاع أن يضيء عتمة السجن، واستطاع أن ينير قلوبنا وعقولنا لنضيء لهم شمعة أمل، ويمكننا أن نوصل كلمة الأدب من السجن وإليه، في مشروع "لكلّ أسير كتاب" فجعلت الكلمة الحرّة منارة تضيء آخر النفق".
"الله يجيب اللّي فيه الخير"
التقيته صباح الخميس 19 تشرين الثاني في سجن "مجيدو"، قابلني بابتسامة طفوليّة تعانق السماء، هو عثمان خليل عبد القادر قطناني (مواليد 13.08.2003) شبل يقبع في زنازين الاحتلال، اعتقل في اليوم السادس لبداية السنة الدراسية، صف توجيهي في مدرسة الصلاحيّة النابلسيّة، يوم 17.08.2020 ليلحق أخاه عبد القادر ويدفع ضريبة حبّ الوطن.
سُلبت طفولته ليتعلم فنّ الطبيخ خلف القضبان فصار خبيرًا بطَهي المجدّرة والمقلوبة والمنسف، يعدّ الأيّام والساعات بين محادثة هاتفيّة يتيمة مع أهله كلّ 14 يومًا، عشر دقائق بالتمام والكمال، بحضور منظّم مسؤول وسجّانه، ضابط القسم، والمحادثة على "السبيكر" بعيدًا عن الخصوصيّة المفقودة.
رافقه في اللقاء الأسير عماد الحلبي دويكات، أسير متطوّع يرافق الأشبال ويهتم باحتياجاتهم الصغيرة/الكبيرة.
يهتم عثمان بالدراسة والتثقيف الذاتي لإكمال التوجيهي وتحقيق أحلامه والالتحاق بالجامعة ومسارها الأدبيّ، مردّدا شعاره "الله يجيب اللّي فيه الخير".
يقبع أخوه عبد القادر في نفس السجن ولكنّه محروم من لقائه، عدا زيارة أهل مشتركة و"زيارة أخوة"، فطلب منّي خجلًا إيصال سلاماته لأخيه!
تحدّثنا الكثير الكثير ومرّت ساعتان من الوقت، ترافقه الابتسامة الدائمة والضحكة أحيانًا، شبلٌ يستحقّ الحياة رغم أنّ هناك من يحاول سحقها.
لك عزيزي عثمان أحلى التحيّات، على أمل أن نلتقي قريبًا في نابلس بين أهلك.
"بدنا نعيش"
حين أنهيت لقائي بعثمان أطلّ عليّ أخوه عبد القادر خليل عبد القادر قطناني (مواليد 28.12.2000) بابتسامة عريضةـ اعتقل في اليوم الثالث لبداية سنته الدراسية الأولي في جامعة النجاح، غرافيك ديزاين، يوم 04.09.2019، ليمرّ بالتجربة الاعتقاليّة الالزاميّة لبلد المليون أسير.
بلّغته سلام أخيه عثمان الذي يقبع في زنازين السجن ذاته، وسلام متأخّر من والده حمّلني إيّاه صبيحة عيد الفطر يوم 24 أيار ودوّنت يومها على صفحتي:
"بالله عليك...سلّملي عالغالي"
اعتدت أن أسافر صباح كلّ عيد لزيارة الأهل، وأخواتي الأربع في القرية، من حيفا؛ الطريق الشرقيّة، بلد الشيخ ثمّ الجلمة باتجاه وادي عارة. على مشارف مجيدو اتصلت بصديقي د. خليل للمعايدة، سألني: وينك؟ حدّثته عن مساري ففاجأني: "بالله عيك... سلّملي عالغالي"؛ نجله يقبع في زنازين سجن مجيدو.
ركنت سيّارتي بموقف السيّارات قبالة السجن، ترجّلت ورفعت يداي ملوّحًا تجاه الزنازين وصحتُ بأعلى صوتي: عبد القادر، عبد القادر، أهلك بسلّموا عليك وبعايدوك. العيد الجاي إنشا الله بتعيّدوا سوى. فجأة تأهب السجّانون، كلّ في برج المراقبة والحراسة وأعلنوا حالة استنفار، مثل كلاب جهنّم.
يا ويلكم من الله، كلّها توصيلة سلام!" وها أنا اليوم أفي بوعدي وأوصله السلام.
يستغلّ عبد القادر وقته بالقراءة وحلقات الفكر والتثقيف، من الفِقه وأحكام الطهارة والتجويد، وسرَحات فنيّة ورسومات، ومنها على سبيل المثال مجسّم لأسلاك شائكة ومن بينها بصيص أصابع وأيادي ونظرات.
حدّثني عن الرياضة اليوميّة ولعبة "الملح"، طموحاته الفنيّة وأحلامه المهنيّة قائلًا بابتسامة ساخرة: "بدنا نعيش"!
تحدّثنا الكثير الكثير ومرّ الوقت مسرعًا وعيناه تصرخ إصرارًا وأملًا بمستقبل أفضل.
لك عزيزي عبد القادر أحلى التحيّات، على أمل أن نلتقي قريبًا في نابلس بين أهلك.
والله انسيت ملامح أبويا
صُعِقت حين شاهدت على صفحة فيسبوكيّة صورة الطفلة ريتال مُرفقة بنصّ مستفزّ: "هذا الصباح أبكت كل أخواتها ووالدتها عندما قالت فجأة: والله انسيت ملامح ابويا... فحملت صورته وبكت الصغيرة"!
غادرت حيفا الخامسة والنصف صباح الأربعاء 25 تشرين الثاني، برٍفقة الصديق مصطفى نفاع، لزيارة المعتقل محمد خليل محمد الحلبي، والد ريتال، في سجن ريمون الصحراويّ. أطلّ على غرفة المحامين منتصب القامة، التقيته للمرّة الأولى، وقفت لمصافحته عبر الحاجز الزجاجيّ الفاصل، وبادرت قائلًا: "ريتال والشباب بسملوا عليك" وفجأة كُسر ذاك الحاجز لنبدأ حديثًا مطوّلًا لساعتين من الوقت.
شغل محمد(مواليد 02.04.1978) قبيل اعتقاله يوم 15.06.2016 مديرًا لمؤسّسة الرؤية العالميّة ((World Vision في قطاع غزّة، محاكمته في مركزيّة بئر السبع ما زالت مستمرّة والجلسة القادمة (الجلسة رقم 153) عُيّنت ليوم 23.12.2020 بعيدًا عن أولاده خليل، عاصم، عمرو، ريتال وفارس!
تبادلنا الحديث فجاء مثقّفًا لأبعد الحدود، يؤلمه حال غزّة وأهلها، رفض كلّ المحاولات لابتزاز اعترافٍ ما لتحريره وصرخ في وجه المحقّقين أن لا مساومة على الحقّ، وحين "فاوضته" القاضية على إطلاق سراحه شريطة أيّ اعتراف رفض تلك المساومة البائسة التي هدفها تبييض صفحة ووجه الاحتلال وأجهزة مخابراته.
يؤمن محمد أنّ اعتقاله ومحاكمته هدفها وأد العمل الإنساني ووقف المساعدات الدوليّة التي تشكّل الرئة الوحيدة لتنفّسهم.
تحدّثنا عن "حديث الأسرى" في البوسطة والمعابر، عن التعذيب والتنكيل المتواصل، رحلات "البوسطة المقيتة، فليس صدفة أن غالبيّة جلسات المحكمة يوم الخميس أو الأحد لزيادة تعذيبه لتستمر كلّ رحلة في طريق الآلام 4-5 أيام، ناهيك عن تلك الرحلات "البوسطيّة" الإكسترا، عشرات المرّات بالغلط!
حدّثني عن الألم في عيون أولاده حين يراهم في وقفة احتجاجيّة هنا وهناك، ممّا يزيده إصرارًا وأملًا.
افترقنا قائلًا: "أنا مش رامبو"! فقط قضيّة إنسانيّة، لا غير.
لك عزيزي محمد أحلى التحيّات، على أمل باحتضان ريتالك وإخوتها قريبًا، والحريّة لك ولجميع أسرى الحريّة.
حسن عبادي