رؤوف حدو - قراءة نقدية لنص "مواويل آدم" لـ صديقة علي

آدم أول الخلق أب البشر، من ضلعه خلقت حواء فكان حاميها، تساءلت وأنا أنهي القصة ماذا لو كان أهل القرية كلهم نسخا من آدم وليسوا مجرد أسماء تطلق على الأبناء منهم تيمنا بأسطورة آدم؟ هل كان الرجل الغريب سيفعل ما فعله؟
في قصة سره الباتع ليوسف إدريس تحول الجميع لحامد حين داهم الخطر القرية؛ لتبقى الأسطورة بعد ذلك راسخة مع أن لا أحد يتذكر تفاصيلها، في قرية ماركيز تحولت استيبان رمز الشمس بفعل رجل واحد "أجمل غريق".
واقع هذه القرية الأنموذج: أسطورة ومواويل، البكاء على مافات والخضوع لحاضر يرسمه المعتدي الذي سرق الحكايا وخطط ودبر ونفذ وأهل القرية نيام.
تستفتح الكاتبة القصة على مشهد النهاية، مشهد الخراب، أين تحولت القرية الآمنة" الغافلة" إلى فوهة مصنع، وأضحى العرق الذي لم سال من قبل ليحييهم يسيل الآن ليصنع أسلحة ويقتلهم، ولماذا قرر آدم الابن الرحيل، هل هو رحيل من دون رجعة؟ فلماذا استفزته أمه وهي تقول هم لا يغنون لك بل لآدم الأسطورة، هل أرادت أن تقول له: ارحل وعد أقوى لتستحق اسم آدم؟
يد واحدة لا تصفق، كذا الأمر بالنسبة لديمومة أي عز وعيش رغيد لابد لها من عمل، والاتكال على عنصر واحد هو نوم وغفلة، كما فعل الرجل الغريب المستعمر الذي عرف أين يوجد وتر أخيل فبتره.
لكن عوض أن تقوم للقرية قائمة وأن تحاول النهوض من جديد غرقت في بكاء على الأطلال، وهل هناك من هو أضعف من حزين لا يتجاوز حزن ماضيه ليبني بهجة غده، استسلمت لأنها كانت غافلة ولم تكن شيئا من دون آدم، غفلت عن الخطر الداهم بها برغم تحذيرات القلة، فأصبحت تشتري خبزها وحليبها من الغريب المحتل
إذن هما ضدان: الزراعة والصناعة، الأولى رمز الحياة والأمن،والثانية رمز المرض
والموت.
ثم جعلت الكاتبة النسيان كسم يرتشفه الجيل الجديد الذي لم يدرك آدم الذي كان يحمل الشمس فوق ظهره كشف بعد موته عري القرية وظلامها، بعد أن مات العواجيز حسرة. وهم يغنون المواويل التي تخلد ذكراه.
قصة أتت لتقول: أن الأرض وإن كانت خصبة والبذرة وإن كانت سليمة لابد من يتعهدها لكي تنمو وتكبر وتثمر غلة، ولابد لمن يتعهدها أن يملك يدين لاواحدة، والبكاء على الأطلال هو أسلوب الضعفاء.
بورك قلم الأستاذة صديقة علي.


================

القصة
مواويل آدم
صديقة علي

لفحتني نسائم الوادي، المحمّلة بما تردّده الجبال من صدى أصوات رفاقي وهم ينشدون:
(حنّي... حنّي يا كمشة التراب
عصدر البطل إلّلي مفارق الحباب
أمّي يا أمّي قومي طلعي ع الباب
وودعي آدم زينة الشباب)
جلست على صخرة أشيّع قريتي، التي اقتلعت منها للتّو، وأتأمل بيوتها الغارقة في وادي البؤس، المتكئة على ويلاتها، راح نظري يسبح بأسى على الدرب المتعرجة، التي انتهيت منها قبل قليل.
استقرّ نظري على بيتنا المغلق، بدا من علٍ كأنه حبّة عدس، أبخرة المصنع تشوش الرؤية، تغطّي البيدر بكامله. رحت أستذكر أمي، علّي أشفى تماما من الذكريات. صوتها في أذني يوخز الوجع في قلبي.
قالت لي قبيل رحيلها:
(هم لا يغنون لك يا بني، بل لآدم الأسطورة.
عندما خلع آدم سترته أشاح بنظره عن عرييّ، فارتديتها بلهفة، وكادت أن تغطيني حتى الكاحل كان الملثم قد نال من ثيابي ومن كتفي بأنيابه البغيضة فتبقعت السترة بدمي، وكان سلاحي الوحيد أمام رقة جسدي هو صراخ يهزّ الجبال من حولي أغاثني آدم دون أن أصرخ باسمه، سمعني لقرب مسكنه إلى أرض البيدر، فهرع إليّ قبل أن يمزّقني ذلك الوحش، لم يتطلب الأمر من آدم سوى أصابع كالكلّاب قوية تمسكه برقبته وترميه كقطعة خشب مهترئة، ثم يعاجل رأسه بالرفش.
آنذاه كانت قريتنا تفتقد للسلاح لا تجد فيها لبندقية واحدة، كل هذا والقرية غافلة عما حدث إلى أن لملمني آدم بعطف لا مثيل له وحملني إلى مشارف القرية.
كانت رائحته مزيجا من أشجار الغار سنابل القمح، والتراب المشمّس
حدث ذلك بعد وصول السيد الغريب إلى قريتنا بعدة أيام؛ يتنقل من بيت لبيت؛ يلمّ الحكايات ومن ضمنها اسطورة آدم حارس البيدر.
غادر الغريب لفترة سارقا حكايانا؛ ليرسم مصائرنا فيها. كان آدم يحمل الشمس في ظهره يعمل طوال النهار، ويحرس البيدر طوال الليل، فغلالنا مكشوفة للسماء.
لا يحتاجه أحد في القرية إلا ويجده. ينقل الحطب وأكياس القمح، يحمل الجرار عن فتيات القرية، (يركش) الحواكير الصغيرة، يحل محل البغال أحيانا في جرّ درّاسة القمح، بنيته الضخمة ونشاطه جعلنا نعتقد بأنه لا يتعب، يعمل بصمت وبالمجان، لكن ما كان يناله من تقدير واهتمام أثمن من أجره بكثير، فكل امرأة عائدة بخبزها عن التنور لابد أن تقصد دار آدم الطيني المشرع بابه، وكل سلة عنب وتين لابد أن تكون طافحة بحصة آدم، كل جرة حليب ولبن لا بد أن تصل بيته قبل أصحابها.
كنت أشعر بشغفه بي، وكان هذا يرضيني، ويشعرني بالأمان فآدم يحمل كلّ الأعباء عني، وكثيرا ما جمعت الحطب فأعجز عن حمله، ليُظهر ساعديه المفتولين دون موعد، يهديني ابتسامة ملؤها الحنان، من وجه شديد السمرة قاس عصي على السنين.
كان آدم في آخر النهار يستحمّ بماء النبع، ويعود لبيته، ولا يستجيب بعدها لأحد، الليل ملكه، يغني مواويله، وتنام القرية بأمان على أصداء صوته.
لم نفكر يوما بوالدي آدم، فهو هكذا، كطبيعة قريتنا، وجد فقط دون مبررات وحيداً بعيداً نائياً
ذات فجر عاصف، استيقظ أهل القرية على نباح كلابها، قادتهم إلى جثة آدم الضخمة، الممددة على البيدر بدون رأس.
عاشت القرية حداداً طويل الأمد، واقتصرت أفراحها على مواويل حزينة.
منذ ذلك الوقت، وأرض البيدر تنهشها الشائعات، كما فعلت بي، حملّوني وزر ما حصل، دون أن يفكروا بما يفعله السيد الغريب، ورجله الملثّم لطالما قلت لهم بأن الغريب عينه على البيدر، لم يصدقونني، فبتنا نخاف الذهاب إلى البيدر، وانقطع القمح عن حقولنا، ماتت أفراحنا، وأغنيات الحصاد، حتى عندما تزوجت من أبيك لم يقيموا لي عرسا، وكم كانت فرحتي كبيرة عندما رزقت بك واقترح والدك اسم آدم.
وها هي اللعنة، تحلّ من جديد بعودة السيد الغريب، لم يجرؤ أحد على سؤاله عن اسمه، تمدد حضوره في القرية، وطغى بماله، أقام حظيرة للأبقار بعد أن اشترى كل أبقار القرية، باعنا الحليب، وباعنا طحيناً أبيض، فبتنا نخبز من طحين الغريب، وها نحن المسنون نموت ببطء، من جراء تسمم ماء النبع؛ لذلك كنت أجمع لك ماء المطر، مع أنهم قالوا لنا إن السمّ لا يميت الشباب، بل يمرضهم، ويتعافون ما داموا ينعمون بالنسيان.
علمت الآن يا ولدي لِمَ أوصيك بالهروب، فأنت موسوم باسم آدم، والآن ملاحق بأسطورته ...
سرحت أمّي بعينيها، صوب أرض البيدر الفاقدة ملامحها، والتي كانت تضم رفات آدم، تهمس بصوت واهن:
حنّي... حنّي يا (كمشة) التراب بخطواتي المبللة، غادرت صخرتي، وأدرت ظهري للقرية، متابعا هروبي... والموال يحاصرني، أركض نحو سرابي النقي من تلوث قريتي؛ لأجدني في حضن أكثر اتساخاً، فرحت أسأل آن صحوتي عن أخبار الموت في الوادي، أجمع المعلومات علّني أصيح من جديد بمواويل آدم.
من فوق صخرتي الشاهدة، رأيت شاحنات الأسلحة المصنّعة في بيدرنا وهي تتلوى على الدروب، وعلمت أن السيد الغريب قد حرّم عليهم الغناء، وألبسهم ثيابا من سكوت، جعلتهم ينتظرون عند كل غروب ذيفاناً يشلّ حناجرهم، ذيفاناً مستخَلصاً من عرقهم المهدور في معمله...).
.
5/4/2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى