لحسن أوزين - قراءة في كتاب حسام الدين درويش: في فلسفة الاعتراف وسياسات الهوية

يمكن اعتبار هذا الكتاب بمثابة بحث نقدي في العلاقة بين العدالة والاعتراف،منطلقا في ذلك من دراسة دقيقة للمفهومين، حيث حاول بداية تناول مفهوم العدالة في غناه وتعدده كمفهوم مضياف للكثير من المفاهيم التي تدل صراحة على شكل من العلاقة بالآخر، التي قد تتجاوز العدالة الحقوقية والواجباتية الى عدالة التسامح التي انفتح أفقها في العقود الأخيرة مع الحديث عن عدالة عالمية، و هي في حقيقتها علاقة أخلاقية تؤسسها عالمية الأخلاق. وفي سياق هذا التجاور والارتباط تناول حسام الدين درويش بشكل دقيق، الى حد ما، مفهوم المساواة في علاقته بشكل أو بآخر بمفهوم العدالة، حيث أثار سؤال العدالة الكثير من التساؤلات التي تطال مفهوم المساواة في النوع والدرجة والمضامين، وفي مختلف أشكال التعامل المتساوي مع المتساوين وغير المتساوين. وإزاء هذه التساؤلات قدم المؤلف إجابة كل من أفلاطون الذي رأى بأن المساواة لا تطبق إلا داخل كل طبقة على حدة. بينما ميز أرسطو بين العدالة التوزيعية القائمة على الجدارة، والعدالة التعويضية المتمثلة في المساواة القانونية والقضائية.ويزداد مفهوم المساواة تعقدا وتوترا في نظريات العدالة في علاقته بالحرية، ولنا في التاريخ الحديث أكبر دليل على الشد والجذب بين الانتصار للحريات الفردية "الغرب"، في مقابل أنصار العدالة الاجتماعية "الشرق".
وتناسلت الكثير من النقاشات في علاقة المساواة بالحرية فيما يخص الصيغتين" لكل حسب عمله أو جدارته"و " لكل حسب حاجته". إلا أن نظرية العدالة عند رولز حاولت التوفيق بين الحرية والمساواة والحاجة، حيث تكون الأولوية للمساواة في الحريات الأساسية، دون قبول اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية. وهذا ما يجعلنا أمام مفهوم العدالة كإنصاف. هكذا تجد كل نظرية للعدالة نفسها ملزمة بتوضيح علاقاتها بالكثير من المفاهيم، كمفهوم الحق والقانون ومفهوم الخير، مثيرة في هذا مجموعة من الأسئلة التي تتناولها الفلسفة المعاصرة من زاوية مفهوم الاعتراف. وهذا الربط بين مفهومي العدالة والاعتراف ليس وليد الجهد الفكري والفلسفي للعقود الأخيرة، بل ينطلق من روسو وفيشته مرورا بهيغل. وقد عرف هذا المفهوم في سيرورة نشأته وتكونه وتطوره درجة من النماء والتعقد والثراء والعمق والسعة سمحت ببروز فلسفة الاعتراف. لذلك كان من المطلوب علميا ومنهجيا ومعرفيا توضيح الدلالات اللغوية والاصطلاحية الأولية لهذا المفهوم الذي يتميز بكونه اعترافا بالذنب أو بفضل الآخر، إنه علاقة بينذواتية تأخذ معنى الاعتراف الى الاخر بذنب ما، أو تحمل معنى الاعتراف بالآخر بشكل متبادل أو أحادي.
والمنظور الأخلاقي الى فعل الاعتراف يعطيه بعدا إيجابيا لكونه يتضمن فعالية محمودة في التحرر من سطوة الذنب، أو تقديرا بفضل الاخر كاعتراف بالمعروف. وهذه الفعالية الأخلاقية المتضمنة في الاعتراف تجد أساسها في القدرة على تحمل عناء مشقة ممارسة الاعتراف بمناطق ظلنا وهشاشتنا، أي تعرية الذات لما يشكل أرضية لبناء مناعتها بدل الخوف من رعب الجرح النرجسي.
والاعتراف يتسع لمعاني كثيرة نذكر منها الاعتراف بوجود الاخر وقيمته، حسب وضعيات تكون فيها للاعتراف معاني التميز أو تعيين الهوية، والاقرار، والقبول، أو التقبل والتقدير أو التقييم المعياري. وإذا كان هذا حال المعاني الأولية اللغوية والاصطلاحية في اللغة العربية، فإنها تتميز بالتعدد والغموض الى حد الالتباس في اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وهذا ما يؤدي الى استخدام مختلف لمفهوم الاعتراف في نظريات الاعتراف المعاصرة بين كونه من جهة معرفة سابقة ذات أبعاد قيمية معيارية، ومن جهة أخرى له معاني الخلق وإحداث وجود مشروط بهذا الاعتراف.
وقد بين بول ريكور التعدد الدلالي لكلمة اعتراف مع وجود فجوات دلالية بين معاني هذه الكلمة أو قيمها الاستعمالية. وهي فجوات تعبر عن المسكوت عنه الذي " يشكل في الدلالة المعجمية أحد منابع أو بواعث التأسيس الفلسفي للاعتراف ولدلالته الاصطلاحية المتميزة جزئيا ونسبيا عن دلالته المعجمية."43 ومع بول ريكور تم التعرف على التحول من فاعلية الاعتراف الى طلب الاعتراف، أي من الاعتراف بوصفه واجبا الى الاعتراف بوصفه حقا " ويتجاوز هذا الانتقال من أخلاق الاعتراف الى سياسة الاعتراف الدلالة المعجمية للاعتراف، ويتأسس بوصفه دلالة فلسفية أو اصطلاحية متميزة ومستقلة نسبيا."43
وقد خلص ريكور نتيجة تتبعه لمفهوم الاعتراف في تاريخ الفلسفة الى ثلاثة محاور، يمثل فيها المحور الثالث الاعتراف بوصفه عملية تبادلية، وتفاعلا إيجابيا مشتركا بين الأشخاص، نواة فلسفة الاعتراف المعاصرة.
واعتمادا على تحليل كل من إيكاهيمو وليتنين وباتشن ماركل يبين حسام الدين التمييز الحاصل بين الموقف الاعترافي من جهة، وتحديد الهوية والتعرف أو الإقرار من جهة أخرى. وفي هذا السياق تفهم فكرة ماركل في معالجة الظلمبأخذ طرق نمذجة العالم وتنظيمه بعين الاعتبار أكثر من الاهتمام " بالمعرفة وبالاعتراف بخصائص الاخر وهويته وخصوصيته".47 كما أن ماركل يطرح أربع سمات تميز الإقرار عن الاعتراف ليؤكد على أن مفهوم الإقرار لا يختلف عن مفهوم الاعتراف. وتوضيحا للعلاقة المعقدة والاختلافية بين الاعتراف والاقرار قامإيكاهيمو وليتنينبتحليل الاعتراف من خلال لغة الموقف. الشيء الذي يسمح بالتمييز بين التصور المونولوجي والحواري للاعتراف، وبين الاعتراف ذي البعد الواحد، والاعتراف المتعدد الابعاد، وبين أنواع الاعتراف وسياقات أو مجالات تطبيقه، أو أن يسمح بالحصول على مكانة أو وضعية قيمية واعتبارية.
وتبعا لنظرته التوحيدية نظر إيكاهيموالى الاعتراف كمفهوم موحد، كما أكد بإمكانية التوفيق بين الرؤيتين الأخلاقية والانطولوجية، حيث يخلص الى " أن الاعتراف هو العامل الأكثر أساسية في الاحكام المتعلقة بالخاصية الأخلاقية للأفعال، والأشخاص، والعلاقات بين الأشخاص، والحياة الاجتماعية، بشكل عام"51
وتطرق حسام الدينأيضا الى التناول النفسي الذي أنجزه تودوروف لمفهوم الاعتراف في كتابه " الحياة المشتركة" الذي ميز فيه بين اعتراف المطابقة، واعتراف التمايز أو الاختلاف. كما شدد على الاختلاف بين الاعتراف بوصفه حكم وجود، وبوصفه حكم قيمة. وفي هذا السياق تحدث تودوروف عن الاعتراف المباشر وما يمكن أن ينتج عنه من اعتراف غير مباشر، كنوع من الاعتراف الحواري.
ومع الباحثان كريستيان لازوري و ألان كاييه نتعرف على المجالات الثلاث الأساسية للاعتراف: مجال المهارة والكفاءة، مجال المواطنة أو الانتماء المدني، و مجال الحب. وقد عمل المؤلف على شرح هذه المجالات بشكل واضح ،من خلال أعمال رولز وهابرماس وفيليب بتيت وبورديو، فبسط أمامنا الكثير من المعطيات المعرفية التي تخص نظريات الاعتراف المعاصرة، مما يدل على نوع من التجاوز الذي حققته نظريات الاعتراف في مجال الفلسفة السياسية والأخلاقية، وكذلك في النظرية الاجتماعية النقدية.
يختلف الأستاذ حسام مع ريكور القائل : لا وجود لنظرية الاعتراف. لكنه يتفق مع القائلين بهذه النظرية التي هي في أساسها نماء للذات في علاقتها مع نفسها ومع الاخرين. وبناء على هذا يمكن الحديث عن العدالة بوصفها اعترافا، كنوع من التلازم البنيوي الجدلي بينهما.
وفي محاولة التأسيس الفلسفي لنظريات الاعتراف خالف حسام الدين الاتجاهين السائدين، الاول الذي يرى بدايتها مع المثالية الألمانية، والثاني الذي يعود بها الى الفلسفة اليونانية. فهو يقترح أطروحة تربط بدايتها مع جان جاك روسو، دون أن يعني ذلك أكثر من محاولة تمهيدية لبحث نظرية الاعتراف الروسوية، من زاوية التحليل والنقاش الفكري الذي يرى حضور فكرة الاعتراف في فلسفة روسو بمعزل عن وجود المفهوم لغة واصطلاحا. " ويأتي قولنا بريادة روسو، في ميدان فلسفة الاعتراف، في إطار الاهتمام بتاريخ فكرة الاعتراف، وليس بتاريخ المصطلح المعاصر الذي يبين أسبقية فيشته، ومن بعده هيغل."73 وبعبارة أخرى ينصب اهتمام الباحث على المعنى وليس على المبنى، دافعا جملة من الاعتراضات التي قد تقف في وجه أطروحته، مبينا كيف أن فكرة الرغبة في الاعتراف ( الحب الشخصي) قد نالت اهتماما خاصا وأساسيا من طرف روسو الى حد أنها شكلت المحور الرئيس لفلسفته في ارتباطها الوثيق بفكرة العدالة بوصفها اعترافا وإنصافا، كماهو الشأن في كل نظريات الاعتراف المعاصرة." لهذا نعتقدبإمكانية قراءة العدالة بوصفها اعترافا عند روسو، من خلال الثالوث الهيغلي-الهونيتي ( التقدير والاحترام والحب)."77
هكذا يطرح الأستاذ حسام من خلال تحليل منهجي إمكانية دراسة فكرتي العدالة والاعتراف عند روسو، انطلاقا من مفاهيم وإشكاليات معاصرة، وذلك وفق رؤية للعلاقة الجدلية بين الماضي والحاضر، بين الذات والموضوع. وبالتالي إمكانية دراسة مدى حضور أفكار روسو عن الاعتراف والعدالة، عند الفلاسفة الذين قدموا الكثير لفلسفة الاعتراف. كما هو الشأن عند آدم سميت، ايريس ماريون يونغ وتشارلز تايلور. وتكمن جدية وجدة بحث حسام الدين في كون الذين تناولوا الأفكار المحورية في فلسفة روسو، مثل نيكولاس دينت الذي اهتم " بالحب الشخصي" في أنه لم ينجز بحثه هذا من منظور يربطه بشكل شامل بفلسفة روسو. وهذا ما يحاول حسام تجاوزه من منظور فكرة الاعتراف كإضافة وإغناء لما قدمه فريدريك نيوهوسير، في تناول فكرة الاعتراف، في علاقتها بفكرة العدالة عند روسو، مع ربط هذا التناول بفلسفة الاعتراف المعاصرة، ومدى حضور تأثيره عند كل من تايلور ويونغ.
وعن حضور أفكار روسو في الفكر العربي الحديث، والمعاصر، ومدى راهنيته بالنسبة للفكر والواقع العربيين، ينطلق حسام الدين من البعد الفلسفي الكوني، الفائض المعنى الذي تتميز به أفكار روسو، في مناقشته للكثير من الأسئلة الطبيعية والاجتماعية التي تخص التاريخ البشري في أفق الاعتراف والعدالة. وكان لحضور الهاجس السياسي في الفكر العربي فضل في حدوث هذا اللقاء مع أفكار روسو، سواء بشكل إيجابي إيديولوجي، أي خلوه من البعد النقدي، المؤسس للفكر الفلسفي لقيم فكر التنوير. مثلما هو الأمر عند حسين هيكل وفرنسيس مراش وفرح أنطوان...، أو بطريقة سلبية كما هو واضح في أعمال جمال الدين الافغاني، وحسن حنفي الذي تغلبت عليه نزعته السلفية في تجذير السؤال النقدي، الذي يمكنه أن يطال الواقع،و الفكر العربي الإسلامي في حدوده ومحدوديته.
وفي محاولة تجاوز هذا القصور النقدي يحاول حسام الدين الإسهام في ذلك من خلال بحثه هذا. لذلك ناقش وجهة نظر عبد الله العروي في مدى راهنية فكر روسو للفكر والواقع العربيين، حيث نلاحظ نوعا من الارتباط بين مشروع العروي الفكري، ومشروع روسو. وفي سياق هواجس الراهنية هذه أشار سريعا الى بعض أراء عبد العزيز لبيب.
وفي سياق إغناء مقاربة الاعتراف يناقش حسام الدين فكرة التسامح من زاوية نقدية تعمل على اثراء المقاربة الدعوية. وتحقيقا لهذا الهدف قام بتحليل نقدي للمفارقات التي تتضمنها فكرة التسامح وما تخفيه من تناقضات نفسية معرفية وأخلاقية وقيمية. تطالها النظرة التحليلية بالنقد والسؤال التفكيكي، لما وراء التقبل والقبول بالآخر في التساوي في المعاملة، وصولا الى لا أخلاقية التسامح، ومرورا بالتشكيك في أخلاقيته. مع الإشارة أيضا الى حدود التسامح التي تسمح بالحديث عن التسامح المحدود والتسامح اللامحدود، والتسامح الأخلاقي، واللاأخلاقي وغير الأخلاقي. لكن هذا التناول يتم وفق أسسه وأسبابه وغاياته وسياقاته العملية التي تكون جد معقدة. وإذا كان التسامح المعرفي يقر بالوجوه المتعددة، وبالمنظور الشامل لرؤية الحقائق، فإن التسامح الأخلاقي العملي يفتح أفقا نحو الاعتراف، كتسامح حق وعادل، بكل حقوق الاخرين في الوجود والكينونة بصورة مختلفة. ولم يكن هذا ليتحقق إلا عبر سيرورة تاريخية لجدل التسامح /اللاتسامح، تورط فيه مفكرون وفلاسفة بخلفيات سياسية، وليست دينية مثل لوك وروسو وكارل بوبر وبول ريكور. " فالتسامح مع المتعصبين/ اللامتسامحين يمنحهم الفرصة لممارسة تعصبهم ولازدهار هذا التعصب.و بالتالي سيسمح لهم بالهيمنة والقضاء على التسامح وإقصاء المتسامحين.
في المقابل، إن اللاتسامح مع اللاتسامح يعني حضور اللاتسامح، ويمكن أن يفضي الى هيمنته، والى غياب أو تغييب التسامح، لدرجة أو لأخرى."132إلا أن جون رولز لا يفكر بهذه الطريقة الحدية، حيث يجعل من التسامح موقفا مبدئيا لدى الدولة والمجتمع والافراد تجاه اللاتسامح. والاحتكام الى البحث العلمي العقلاني للحسم في ذلك، في إطار الالتزام بمبادئ العدالة والحريات المتساوية، وذلك بما يسمح بجعل حدود التسامح تحريرا له من قيم اللاتسامح.
ومن زاوية تحليلية مفاهيمية تناول حسام الدين مفهوم التسامح في تعريفه ومعانيه وتعدد أنواعه، باعتباره مفهوما غامضا شائكا ومعقدا في مفارقاته وتناقضاته، مع التفكير في علاقاته بمفاهيم الحرية والعدالة والاعتراف.هكذا يمكن الحديث مع إليزابيتا غاليوتي عن " التسامح بوصفه اعترافا انطلاقا من ثلاث تصورات: قياسي سلبي، سياسي إيجابي، واعترافي بشرعية الحق في الوجود الاختلافي.
وانطلاقا من التصورات التي يضعها راينر فورست للتسامح يتبين مدى حضور فلسفة الاعتراف، في تصنيفه القائم في حده الأدنى على التسامح بوصفه إعطاء إذن. وفي مستواه الأقصى على التسامح بوصفه تقديرا متخطيا القبول والتقبل للممارسات والاعتقادات التي لدينا اعتراض مبدئي عليها.ويكتسب التسامح قيمته الأخلاقية من خلال ارتباطه البنيوي بمجموعة من القيم الأخلاقية الأساس: الحرية، المساواة، والعدل، والاحترام والتقدير، التي تجعله جديرا حقا باستحقاق فضيلة التسامح.
وعلى أساس هذا الفهم والتحليل لمفهوم التسامح بوصفه تقديرا واعترافا بالاختلافات، يمكننا في اطار اختلاف الأديان، فهم ضرورة تجاوز الفكر الانغلاقي، الذي تؤسسه التحيزات الأيديولوجية التي تفتقر للقيم الإنسانية العالمية، و للخلفيات المعرفية العلمية والأخلاقية، نحو تأسيس علاقات التفاعل و الحوار المتسامح بين مختلف الأديان. وذلك من خلال الانطلاق من القواسم الأخلاقية الإنسانية المشتركة، التي تجد أرضيتها في مبادئ حقوق الانسان، بوصفه شخصا وفردا مستقلا قادرا على بكل حرية على بناء وإنجاز هويته، وانتمائه الإنساني، على أسس معرفية دقيقة وفضائل أخلاقية مناسبة تسمح بالتفاعل والاقرار بكل الاختلافات.
بناء على هذا الوعي بالاعتراف تناول حسام الدين بالتحليل والنقد من زاوية مفاهيمية، بعض المنطلقات الفكرية والأدوات المفاهيمية والآليات المنهجية، التي تفرض نفسها عند تناول ظواهر العصبيات الطائفية والدينية والإثنية، التي يمكن أن تؤطر وجهة نظرنا في سياق الإقرار والاعتراف بمسؤوليتنا، في إنتاج وتكريس ومعاودة انتاج هذه الظواهر العنصرية والطائفية. ويعتمد هذا الاعتراف النقد المزدوج الذي يشمل بشكل تفاعلي جدلي الذات والأخر. دون السقوط في محراب التبرير والتسويغ أو جلد الذات، البعيد كليا عن ممارسة الاقرار و الاعتراف، الهادف الى الفضح وانتهاك المحظور، ثم التجاوز، انطلاقا من أرضية القبول والتقبل للذات والأخر، على قاعدة الانتقاد والنقد لهما معا. وذلك من خلال القدرة على تعرية الذات، بالموازاة مع تعرية الاخر، دون التنصل من مصادر أنفسنا، بل من خلال النقد والنقد الذاتي البناء الذي يعمل على نماء وتنمية دوائر الهوية والانتماء اللاإرادي والإرادي، بشكل يتوافق مع فكرة الاختلاف، التي تعترف بإنسانية الانسان. تبعا لما تنص عليه منظومة حقوق الانسان في الحرية والكرامة والحقوق الأساسية...، تفادياللسقوط في التراتبية القيمية المولدة لعنصريتنا الإثنو- دينية.
وانسجاما مع الخلفيات الفلسفية والمعرفية لنظرية الاعتراف يناقش حسام الدين بطريقة تحليلية نقدية خطورة ما تخفيه الواجهة الزائفة، التي تتغنى بالديمقراطية والمواطنة،لبعض الرؤى الاستشراقية الأقرب الى الانثروبولوجية والسوسيولوجية الكولونيالية. في صورتها السلبية، التي تكرس النزعات الطائفية والاثنية والدينية، وهي تنظر الى التنوع والتعدد والاختلاف بين المكونات الثقافية والسوسيولوجية لمجتمعاتنا، كعامل للتمزق والتشرذم والانقسام، ككيانات سياسية. وليس كثراء مجتمعي يؤسس للوحدة والبناء والنماء، في إطار سياسة الاعتراف المتبادلة التقدير والاحترام، للاختلافات الموجودة بين كل المكونات. بناء على أرضية القيم الإنسانية والأخلاقية المشتركة، ذات الأفق الإنساني.
هكذا يمكن مناقشة كل الطابوات التي تحفل بها مجتمعاتنا، وتعرية الصندوق الأسود للعنصرية الاثنو-دينية والطائفية، بدل الاسهام، من حيث لا ندري، وبدون وعي معرفي وسياسي أخلاقي، في صناعة الطوائف والأديان والاثنيات، بالمعنى السياسي المدمر للبعد الوطني في شعار " الشعب يريد".
وانطلاقا من هذا الوعي الحقوقي القانوني والسياسي للأفراد والجماعات بصورة لا تقبل البتر والانتقاء والتجزيء، والتبريرات الظرفية و المرحلية والمؤقتة، وما شابه ذلك من المسوغات الالتفافية على حقوق بعض الفئات المجتمعية، يتناول حسام الدين طابوات المثلية الجنسية وسياسة الهوية والاعتراف، بشكل صريح يزيل الغموض والالتباس الذي تتقنع به الكثير من الآراء المجتمعية المعادية للمثليين، من خلال تبريرات واهية تفتقر الى رؤية شمولية لحقوق الانسان في حريته وكرامته وحقوقه الأساسية التي لا تقبل الانتقاص أو التأجيل، مهما كانت شخصيته وفرديته المختلفة مبدئيا وأخلاقيا وسياسيا...
لاشيء يشرعن المساومة في المساواة بين الناس، أو قبول وتقبل التنازل عن القيمة الإنسانية أمام الاعتراف بالإنسان أولا قبل أي شيء آخر، والاقرار بحقه في ممارسة حريته، كنمط حياة وصيغة وجود، في الضوء، بعيدا عن ظلال وعتمة العزل والنبذ والاقصاء، أو التحفظ والتسويف والمماطلة في الاعتراف بإنسانية الفرد والجماعات. مهما كانت الاختلافات الثقافية والدينية والسوسيولوجية والاثنية و الميولات الشخصية كالمثلية الجنسية.
وينتقد حسام بشدة المبررات العلمية والدينية التي يؤسس عليها المعادون، في المجتمعات العربية الإسلامية، للمثلية والمثليين، وجهة نظرهم، خاصة النخبة المتعلمة والمثقفة التي تعتبر نفسها من كبار المختصين في الشؤون المرضية والنفسية والعلمية. وهي نخبة تعزز وتدعم القمع القانوني والسياسي الذي يطال بشدة هذه الفئة من المجتمع في عيش نمط حياتها الخاص.سلوكيدل صراحة على الاعتداء على حقوق الانسان، باسم التحيزات العلمية والدينية والسياسية العدائية للإنسان، وليس فقط للمثليين الجنسيين. إن الامر لا يتعلق بدعوة للتمييز الإيجابي، بقدر ما ينبغي أن تتركز الجهود للتغلب على التمييز السلبي، بالاعتراف بحقوقهم قانونيا وواقعيا وأخلاقيا، بشكل يتجاوز بُعدهم الهووي كمثليين الى الاعتراف بأساسهم البشري الإنساني، في ممارسة أسلوب حياتهم، ونمطهم الوجودي، في ظل واقع اجتماعي سياسي ديمقراطي تعددي، وثقافي تربوي، مؤسس على منظومة حقوق الانسان، والقيم الديمقراطية، والحرية والمساواة...
تبعا لهذا التحليل النقدي بمنظوره الشامل للحقوقي الإنساني، و للثقافي والسياسي الاقتصادي يقوم حسام الدين بتفكيك نقدي للمقاربة الثقافوية العلمانية والدينية مبينا ما تخفيه هذه المقاربة من هشاشة فلسفية وفكرية وسياسية، سواء في هروبها الى الأمام بلغة الانحدار في الزمان الى المتخيل الماضوي في رفض ونقد ما هو سائد سياسيا وثقافيا، أو في قبولها وتقبلها الأيديولوجي السياسي للاستبداد السياسي في نوع من السقوط في الممارسة السياسية للاستبداد الذي يحتقر شعبه ويقلل من قيمته الإنسانية والسياسية، بحرمانه وقمعه وعدائه لمختلف أشكال الفعل السياسي والاجتماعي والثقافي المدني. فارضا نوعا من التسلط باسم تربية الشعب المتخلف في دينه و تصوراته ومعتقداته. والمتأخر في وعيه، قصد تأهيله ليكون جديرا بمنحه حقوقه الأساسية وحرياته الديمقراطية. على هذه التربة الأيديولوجية تؤسس الثقافوية العلمانوية نقدها للمجتمع والثقافة في نوع من التبرير والتسويغ للنتائج السياسية للاستبداد. في الوقت الذي كان عليها أن تستقل في رؤيتها السياسية والثقافية الفكرية وفق منظور شامل يدرك أهمية جدل التفاعل التكاملي بين السياسي والثقافي، حتى تكتمل وتتحقق المصداقية النقدية الثقافية الفكرية، والمعرفية الأخلاقية، والسياسية الواقعية.من خلال أخذها بعين الاعتبار الواقع السياسي الاستبدادي، المولد لكل مظاهر التخلف والانحطاط الفكري والديني والطائفي، والسياسي الاقتصادي.
المقاربة الثقافوية العلمانية مطلوبة في توجهها الثقافي النقدي، لكنها ضعيفة في رؤيتها السياسية حين تنطلق من الأرضية الأيديولوجية الاستبدادية، وهي في ذلك أقرب الى الاستشراق السلبي في رؤيته للمجتمعات والثقافات العربية والإسلامية.
وفي سياق هذا النقد للمقاربة الثقافوية في صورتها العلمانوية تم تناول بالتحليل النقدي مقالة "نموذجية" لهذا التيار الذين ينطلق من أحكام معيارية مسبقة للتبخيس والتقليل من قيمة الثورات العربية الى درجة رؤية استحالة قدرتها على التغيير والثورة، بذريعة ثقافتها الرجعية المحافظة المضادة لقيم الثورة في الحرية والديمقراطية. وبين حسام الدين بتفكيك نقدي لهذه الاطروحة عن مدى سقوطها معرفيا ومنهجيا وأخلاقيا، في الفخ الاستبدادي في تعزيز ودعم ثقافته السياسية، المناهضة للديمقراطية التي تحملها الحداثة السياسية، والقامعة لأبسط الحريات الفردية والجماعية والحقوق الأساسية...
وهذا يعني منع الأرضية السياسية الديمقراطية، كمؤسسات وهياكل في الدولة والسلطة السياسية التي يمكن على أساسها أن يتبلور الفعل السياسي، بين مختلف المكونات المجتمعية والسياسية. ويتم تدبير الاختلاف بناء على الثقافة السياسية التي تأسس على المساواة والمواطنة والحريات الديمقراطية. فمن هذه الزاوية النقدية يمكن النظر النقدي الى الثقافة السياسية السائدة المسيطرة، والمسؤولة الى حد كبير عن إنتاج مظاهر مختلفة من الوعي الثقافوي في الرؤية والتفكير، لدى أغلب مختلف فئات الشعب في محاولاتهم الإجابة عن الأسئلة المستعصية والمتحدية للرغبة الذاتية في نجاح الثورة. بحيث ينقلب النقد الى نوع من جلد الذات في طبيعتها الجوهرانية المزعومة كقدر يصعب تخطيه. وفي ذلك إشارة مضمرة عند هذا التيار الى متلازمة عقدة المقدس الديني، الذي يقف في وجه التغيير والثورة.
لذلك فالمعركة سياسية، وليست ثقافوية بهذا المعنى الاستبدادي في احتقار الشعوب وإصدار أحكام جزافية ومعيارية، منطلقها حساسية مفرطة تجاه كل ما هو ديني، في الوقت الذي ينبغي فهم الصراع السياسي بين المكونات الديمقراطية والنظام السياسي المعادي للديمقراطية بغض النظرعن الخلفيات الفلسفية والمعرفية والدينية التي يستقي منها كل تيار مرجعيته الفكرية السياسية، سواء كانواعلمانيين أو إسلاميين.
هكذا يمكن للوعي بالاعتراف بالحق في الديمقراطية للآخر، وفي ممارستها بشكل ديمقراطي، كمنظومة متكاملة فلسفياوسياسيا ومؤسساتيا وقانونيا وحقوقيا...، أن تكشف الهشاشة المعرفية والسياسية والاخلاقية للمعادين لها سواء كانوا علمانيين أو إسلاميين. وهم لا يرون فيها إلا وسيلة انتخابية للغزو والسيطرة، وفرض الغلبة التكفيرية الدينية، أوالاقصائية العلمانوية. وعلى أرضية هذا التفكير والممارسة الديمقراطية بمنطلقاتها الفكرية والسياسية، وقيمها ومبادئها المسنودة بمنظومة حقوق الانسان، يتم استيعاب وتخطي عقبات الصراعات الايديولوجيةحول العلمانية والدولة المدنية.
وتعميقا للتفكير النقدي للمقاربة الثقافوية يقدم حسام الدين وجهة نظر جان فيليب بلاتو من خلال كتابه" استخدام الإسلام كأداة: الدين والسياسة في منظور تاريخي" مفندا كل المزاعم الثقافوية التي ترى في الدين مشكلة استبدادية المجتمعات الإسلامية، أو حل لمشكلة الاستبداد السياسي، التي تعيشها هذه المجتمعات سياسيا واقتصاديا. وفي هذا السياق أثبت هشاشة أطروحة كل من فيبر وبرنارد لويس، مبينا أن التغيير السياسي للحداثة هو الذي أدى الى الإصلاح الديني وليس العكس. لهذا يشدد بلاتو على أن الوقع السياسي الاستبدادي، والاقتصادي الاجتماعي المتخلف والمأزوم، هو المسؤول عن ولادة نزعات التشدد والتطرف الديني، بعيدا عن طبيعة أو جوهرانية إسلامية. فمجتمعات الاستبداد السياسي،والتخلف الاقتصادي تفسر عقائدها بشكل استبدادي متخلف، كيف ما كانت ديانتها توحيدية أو غير توحيدية. وجميعها تتضمن العنف الهمجي المتوحش، وليس فقط الحركات الإسلامية. لذلك يوجه بلاتو نقده للاتجاهات الثقافوية التي تمجد المسيحية كعامل أساس للحداثة السياسية، بينما تجعل من الإسلام عقبة رئيسية في وجه التحديث والمجتمع الديمقراطي الحداثي. وكل دعوة للإصلاح الديني دون الانتباه أولا الى ضرورة التغيير السياسي تكرس الاستبداد وتعمل على تأبيده. وإغناء لهذا التصور يؤكد المؤلف على ضرورة التحليل المفاهيمي والنقدي لكل من:الفلسفة ، العلمانية، الديمقراطية والإسلام، مع بحث نوع العلاقات القائمة بينها، وذلك تفاديا للكثير من الرؤى والممارسات المغلوطة معرفيا وسياسيا التي تسقط في الأيديولوجية الاقصائية، سواء من العلمانويين، أو الاسلامويين.
فالمشهد السياسييسع الجميع كلما تم الإقرار والاعتراف بالأرضية الديمقراطية كبنى سياسية ثقافية تضبط وتؤطر مختلف ممارسات الفاعلين الاجتماعيين، بمختلف مرجعياتهم الفكرية والسياسية والدينية...، في إطار الاعتراف والاحترام لمنظومة حقوق الانسان، وفي ظل أسس مؤسساتية وقانونية للفعل السياسي الديمقراطي، ولأخلاقيات البحث الفلسفي العلمي، في إطار أخلاقيات التواصل والاشتغال كفريق.

وإغناء لهذا الأفق الذي سلكه المؤلف في الاسهام في فلسفة الاعتراف تضمن الكتاب بابا رابعا، تضمن بعض المقالات التي تجسد مدى وعيه النقدي بضرورة الاعتراف من زاوية القدرة النقدية على طرح الأوجه السلبية والايجابية، دون التعصب للذات من منطلقات الثقافوية في الرؤية والتعامل مع الاخر. وهذا ما يتضح من خلال تعرية ما تخفيه الأفكار الجاهزة والمعيارية في نظرتها للآخر( اللاجئ) كمشكلة، دون أن تقوى على النظر الى المشكلات التي أكرهته على الخروج من بلده. لهذا تتعامل معه كفرد غير مستعد ولا متعود على الثقافة السياسية والقانونية والديمقراطية والحقوقية للمجتمع الحداثي، بمبررات ثقافوية دينية.
وقد يبدو للقارئ أن هناك نوع من التعسف في إنزال مقاربة الاعتراف فيما يخص ما يسميه حسام الدين المسألة الإسرائيلية/ اليهودية في خلط بين الصهيونية التي ناقشها يهود( أسيدون، السرفاتي،إيلان بابه...) بوصفها حركة عنصرية استعمارية استيطانية، وبين المسألة اليهودية التي هي مشكلة ألمانية وأوربية بالأساس، دون أن يعني ذلك نفي كونها مسألة إنسانية شبيهة بما يحدث اليوم للفلسطيني من قبل الصهيونية التي تتقنع بالمظلومية اليهودية، في الوقت الذي تكرر الإبادة والتطهير العرقي.
وبالتالي فإن المقاربات البعيدة عن ثقافة الاعتراف بالآخر التي تناولها نقديا حسام، لا يمكن طرحها بطريقة بعيدة عن أننا أمام المسألة الصهيونية التي تستغل أخلاقيا وسياسيا المسألة اليهودية وتسيء الى اليهود، بالقدر نفسه من الإساءة الحاضرة في الثقافة العربية الإسلامية، قديما وحديثا. لذلك نستغرب تحفظه الكبير على تسمية الصهيونية باسمها الحقيقي اللاإنساني أخلاقيا وسياسيا.

الهامش
حسام الدين درويش في فلسفة الاعتراف وسياسات الهوية(الناشر مؤمنون بلا حدود ط1س2023)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى