النقد أمر فطري في الإنسان فالإنسان يميز بفطرته بين الخير و الشر، وبين القبح والجمال، وبين اللذة والألم، وينفر من الكلمة الخشنة الجافة.
لما طرح السؤال حول البداية الأولى للنقد العربي، تعددت الإجابات وتشعبت، فالتقت حينا وتطاحنت أخرى، فاختلف الناس فيها بين قابل ورافض، ولكل واحد من الطرفين منطلق يبرر به قبوله أو رفضه. إذ كانت عناية الكتاب والدارسين منذ فجر النهضة الحديثة في الشرق العربي بالنقد الأدبي، فهبوا يتناولونه بالدرس والتحليل، متجهين فيه اتجاهين مختلفين تبعا لما أتيح لكل فريق من الثقافة ولما تيسر له من إطلاع. هكذا أثارت مرحلة البداية الأولى للنقد نقاشا محتدما بين الباحثين المحدثين الذين اختلفوا في تقويم ماأثير عن هذه المرحلة من أقوال نقدية شفاهية، وأحكام موجزة مرتجلة، ومقاييس ذوقية غير معللة.
ففريق من الباحثين يرى أن مرحلة العصر الجاهلي هي المرحلة التي تطور عنها النقد لينتهي إلى أن العرب عرفوا النقد انطلاقا من التلازم المفترض بين الشعر والنقد، فما دام لدينا شعر فلا بد أن يكون لدينا نقد، بل منهم من يذهب أبعد من ذلك حين يعتبر ن النقد أسبق إلى الوجود من تلك الفنون" وهل الأديب إلا ناقد قبل أن تأخذ أفكاره صبغتها الفنية، ويتخذ أسلوبها الجميل سبيله في الظهور شعرا ونثرا، لا أنكر أن فكرة تنشأ في نفس الأديب وقد تبقى مستقرة فيها، ولكن ما قيمتها وهي خواطر عامة في بحر خياله، قبل أن تأخذ شكلها في التأليف، بين سمو المعنى وجمال اللفظ." (1) ومن اشهر من حمل مشعل هذه الفئة: الأستاذ طه أحمد إبراهيم والأستاذ محمد زغلول سلام.
وفريق قرأ النقد العربي القديم انطلاقا من مفاهيم نقدية مستمدة من الثقافة الغربية، وانتهى برفضه للبداية الأولية للنقد، لينص أن النقد لن يظهر إلا في القرن الرابع الهجري، وقبل هذه المرحلة لا يمكن أن يعتد به. وبذلك يكون قد أعاد قراءة النقد العربي القديم من خلال تصورات ومفاهيم جديدة حول النقد، يحكمه منهج مأخوذ من ثقافة الآخر، ومن رواد هذه الفئة د. محمد مندور ابتداء من 1944 سنة تأليف كتاب " النقد المنهجي عند العرب".
وفريق ثالث نص على أن النقد العربي لن يظهر إلا بظهور الفلسفة وقد توصل لهذه النتيجة من خلال استقراء تاريخي لتاريخ النقد الأدبي في أوربا و مادامت الفلسفة قد تأخر ظهورها في الثقافة العربية، فطبيعي أن يتأخر ظهور النقد، ولن يظهر إلا مع ظهور الفكر الفلسفي على يد المعتزلة والأشاعرة و المتكلمين، وحامل مشعل هذا الطرح الدكتور محمد غنيمي هلال في مؤلفه " النقد الأدبي الحديث " الصادر سنة 1958.
وفريق رابع يجيب عن سؤال: متى نشأ النقد ؟ من خلال تاريخ النقد نفسه، مصحوبا ببعض التصورات الأوروبية، مثله مؤرخ للنقد العربي وهو الدكتور إحسان عباس سنة 1971 في مؤلفه " تاريخ النقد الأدبي".
هكذا نلاحظ أن هذا الاختلاف و التقارب بين هذه الآراء جعلها تخرج من إطار البحث عن نشأة النقد إلى البحث عن متى ينشأ النقد. هل مع الفلسفة؟ هل مع الكتابة و التدوين ؟ هل مع الشعر والأدب؟ بتعبير دقيق: هل النقد كظاهرة ثقافية يظهر بظهور ظاهرة ثقافية أخرى؟ وهل هذا التقارب بين وجهات النظر ظاهرة صحية أم ظاهرة مرضية ؟ ما هو السر الكامن من وراء هذا الاختلاف؟...
أولا: الأستاذ طه أحمد إبراهيم وقضية نشأة النقد العربي القديم.
إذا تصفحت كتاب " تاريخ النقد الأدبي عند العرب" للمرحوم طه أحمد إبراهيم تلاحظ من البدء أنه سطر مجموعة من النتائج حول البداية الفعلية للنقد العربي القديم وهي كالتالي:
أولا:عروبة النقد: فالنقد عربي المولد و التطور، انطلاقا من كون " النقد الأدبي ظهر في الشعر وظلت أكثر بحوثه في الشعر."(2) ثم هو " عربي النشأة كالشعر لم يتأثر بمؤثرات أجنبية، ولم يقم إلا على الذوق العربي السليم" (3) وقوله أيضا: " إنه عربي في أعارضه ونهجه وأغراضه وروحه" (4).
هكذا نخلص أن النقد الأدبي عند العرب نشأ عربيا، وظل عربيا صرفا، وذلك لأن أساس كل نقد هو الذوق الشخصي، تدعمه ملكة تحصل في النفس بدون ممارسة الآثار الأدبية. وهل من الخطأ أن يقال بأن النقد العربي ليس عربي النشأة فلقد وجد النقد الأدبي بصورته الأولى بعد أول مقطوعة شعرية قالها العرب، أي أنه كان ملازما للشعر، ونحن نعلم أن الشعر يثير بفضل خصائص صياغته أنواعا خاصة من الانفعالات ومن المؤكد أن تكون هناك استجابات لهذا الانفعال في بعديها السلبي والإيجابي، وعن هذه الاستجابات يصدر حكم، وهذا الحكم هو: النقد، والذي لا شك فيه أن الاستجابات لم تكن فاترة وفي أخلاقهم عنف البداوة، كما أن في شعرهم ما يحرك ضروبا من الانفعال الشخصي والقبلي.
ثانيا: نضج الشعر: فالشعر الجاهلي لم يعرف إلا ناضجا مكتملا متجاوزا مرحلة المقطعات إلى مرحلة القصيدة الكاملة ذات الروي الواحد و القافية الثابتة، " إننا لا نعرف الشعر إلا ناضجا كاملا، منسجم التفاعيل مؤتلف النظم، كما نقرأه في المعلقات وفي شعر عشرات الجاهلين الذين أدركوا الإسلام أو كادوا يدركونه "(5)
ثالثا: تثقيف الشعر: و هي عملية يقوم بها الشعراء تجاه شعرهم عن طريق الزيادة و النقضان أو التقديم والتأخير. وقد عده طه أحمد إبراهيم مظهرا من مظاهر الحس النقدي عند شعراء الجاهلية، ومنهم رواد المدرسة الأوسية الذين نعتهم الأصمعي " عبيد الشعر"، وخاصة زهير صاحب الحوليات، فالشعراء من هذا المنظور يتوجهون إلى شعرهم، فيتدارسونه ويراجعونه ويحذفونه منه، ويضيفون إليه في تبصر وعمق. وكان كل هذا ضربا من الممارسة النقدية على نصوصهم الشعرية. وفي هذا الصدد يقول طه أحمد إبراهيم:" إن هذا الشعر مر بضروب كثيرة من التهذيب حتى بلغ ذلك الاتقان الذي نجده عليه، أواخر العصر الجاهلي... فلم يكن طفرة أن يهتدي العربي لوحدة الروي في القصيدة، ولا لوحدة حركة الروي، ولا للتصريع في أولها و لا لافتتاحها بالنسب والوقوف بالأطلال، لم يكن طفرة أن يعرف العرب كل تلك الأصول الشعرية في القصيدة، وكل تلك المواصفات في ابتداءاته مثلا وإنما ذلك كله بعد تجارب، وبعد إصلاح وتهذيب. وهذا التهذيب هو النقد الأدبي."(6) ما يؤكد أن القدماء لم يقبلوا كل ما يرد على خواطرهم بل ما يزالون ينقحون حتى يظفروا بأعمال جليلة، وهي أعمال كانوا يجيلون فيها الفكر متكلفين جهودا شاقة في التماس المعنى المصيب تارة، والتماس اللفظ المتخير تارة ثانية. يقودهم في ذلك بصر محكم يميزون به المعاني والألفاظ بعضها من بعض، بحيث يصونون كلامهم عما قد يفسده أو يهجنه ومن ذلك قول عدي بن الرقاع:
وَقَصِيدَةٍ قــد بتّْْ ُأجْمعُ بينها = حـتى أُقَوِّم مَيْلـها وسِنادَهــا
نظرَ المُثقِّف في كعوبِ قناتِه = حتى يُقيم ثِقافُه مُنْـآدهــــا(6)
وقد اعتبر ابن قتيبة هذا اللون ضربا من التكلف في الشعر " فالمتكلف هو الذي قوم شعره بالثقاف، ونقحه بطول التفتيش. وأفاد فيه النظر بعد النظر، كزهير والحطيئة و كان الأصمعي يقول: زهير و الحطيئة وأشباهها(من الشعراء)عبيد الشعر لأنهم نقحوه، ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين." (7) وكان سويد بن كراع يذكر تنقيح شعره بقوله:
أبِيتُ بِأبْوابِ القوافـي كأنمـا = أُصَادي بها سِرْبا من الوحشِ نُزَّعـَا
أُكالِئها حتى أعرِّس بعدمــا = يكون سُحَيْرا وبُعَيْـَد فأهْجعـــا
إذاخفْتُ أن تُرْوىعليَّ رددْتُها = وراء التَّراقي خَشْيَة أن تطلعـــا
وجشَّمني خوفُ ابن عفان ردها = فثقَّفتها حــولا جريدا ومرْبَعــا
وقد كان في نفسي عليها زيادةً = فلم أرَ إلا أن أطيـع وأسمعـا(8)
رابعا:التلازم بين الشعر و النقد: لكي يبرهن على وجود النقد التمس الأستاذ طه أحمد إبراهيم دلائله من وجود الشعر، انطلاقا من أن النقد هو تلك المدرسة التي تعمل على إنضاج الشعر، وتخليصه من الشوائب التي علقت به لحظة ولادته وتكوينه، محاولا بذلك الرفع من مستواه، وجعله قابلا للتدوين والإعجاب، خاصة إذا علمنا أن أولية الشعر ترتكز على تصور جمالي فني محدد: " في مثل هذا العهد نعد نقدا كل ماله مساس بالأدب بنية ومعنى، وإن لم يتصل بالبحث في الجمال الفني، فذم الإقواء نقد في الجاهلية، لأنه يعيب أمرا لعله من آثار طفولة الشعر."(9).
هكذا نلاحظ من خلال النص كيف يحدد ذ. طه أحمد إبراهيم النقد في العصر الجاهلي في:
1- أنه نقد ينصب على النصوص الحديثة و المعايشة.
2- أنه نقد يهتم بالجانب الفني والمعنوي أي بالشكل و المضمون.
ونلمس وصفه للنقد بدقة حين نقرأ النص التالي:" وجد النقد الأدبي في الجاهلية ولكنه وجد هينا يسيرا، ملائما لروح العصر، ملائما للشعر العربي نفسه، فالشعر الجاهلي إحساس محض أو يكاد. والنقد كذلك كلاهما قائم على الانفعال والتأثر، فالشاعر مهتاج بما حوله من الأشياء والحوادث، و الناقد مهتاج بوقع الكلام في نفسه، وكل نقد في نشأته لا بد أن يكون قائما على الانفعال بأثر الكلام المنقود، والنقد العربي لا يشذ عن تلك القاعدة "(10) وبذلك يبقى نقد المرحلة غير خارج عن ما عهد في الأدب عامة و الشعر خاصة. إذ كان يعتمد على نفس الصفات والمقومات والركائز، ويتصف بنفس الميزات التي يتصف بها الشعر من سليقة وذوقية وعفوية وارتجال. ومن المعالم التي يركز عليها ذ.طه أحمد إبراهيم وجود النقد العربي على العهد الجاهلي:
أ- ما كان يدور في الأسواق حين كان الأدب سلعة من السلع التي تعرض فيه.
ب- المجالـس الأدبية التي عرفت مساجلات ومناقشات بين الشعراء."وهذه الأحاديث والأحكام والمآخذ هي نواة النقد العربي الأولى."(11).ومن ذلك ما نجده:
1- في سوق عكاظ: حيث كانت تضرب قبة حمراء للنابغة فيتوافد عليها الشعراء من أجل الحكم على أشعارهم. فقد جاءه مرة الأعشى والخنساء وحسان بن تابث فأنشده الأعشى قصيدته التي مطلعها:
مَا بُكَـاءُ الكَبير بِالأطـلالِ = وسـؤالِي وما تَـرُدُّ سـؤالي
وأنشده حسان بن ثابت قوله:
لنَا الجَفَنَات الغُرِّ يلمعن بالضُحَى = وأسْيَافُنَا يقطرن من نجدةِ دمَا
أما الخنساء فقد أنشدته قصيدتها في رثاء أخيها صخر:
قذىً بعينك أم بالعين عُوارُ = أَم أقْفَرتْ مُذْ خَلَتْ مِنْ أهْلِهَا الدَّارُ
وإن صَخْرًا لَتَأْتَمُّ الهُدَاةُ بِه = كأنَّـهُ عَلَــمٌ في رَأْسِهِ َنــارُ
فقال النابغة:"لولا أن أبا بصير-يعني الأعشى– أنشدني، لقلت:إنك أشعر الجن والإنس."(12)
من هذا الخبر ندرك منزلة النابغة عند معاصريه، وما احتكامهم إليه دون غيره إلا اعتراف علني بشاعر يته، وقدرته على تمييز الجيد من الرديء في الشعر، ودليل كذلك على ما كان يتمتع به من علم بصناعة الشعر ومن ملكة خاصة في النقد.
2-ما نجده في يثرب: ونأخذ فيه كنموذج ما عيب على النابغة من ارتكابه للإقواء ولم يستطع أحد أن يصارحه به حتى دخل يثرب مرة فأسمعوه إياه غناء في قوله:
أمن آل مَيَّة رائحٌ أو مُغْتدي = عَجْلان ذا زادٍ، وغير مزودِ
زعمَ البوارحُ أن رحْلتنا غدا = وبذلك خبَّرنا الغُرابُ الأسودُ
ذكر الاصفهاني أن النابغة قدم المدينة، فعيب عليه هذا الإقواء فلم يأبه حتى جاءوه بجارية فجعلت تغنيه "أمن آل مية رائح أو مغتد " وتطيل حركة الدال وتشبعها في "مغتدي" و"مزود". ثم غنت البيت الأخير فبينت الضمة في قوله "الأسود" ففطن بذلك لما يريده، فغير عروضه وجعله " وبذلك تصاب الغراب الأسود". وكان من اجل هذا يقول "وردت يثرب وفي شعري بعض العاهة فصدرت عنها و أنا اشعر الناس".(13)
والخطأ النحوي الذي ارتكبه النابغة يتمثل في كونه لم يأبه لرفع النعت، فجعله مجرورا خضوعا لقافيته، وحين تلقف الرواة البيت أعادوه إلى قاعدته النحوية ووضعوا له مصطلح "الإقواء."(14)
3-ما نجده في مكة:ومثل له طه أحمد إبراهيم بموقف طرفة بن العبد من خاله المتلمس حين أنشده قوله المشهور:
وقد أتناسى الهمَّ عند احتضارهِ = بناجٍ عليه الصَّيْعَرِيَة مُكْدمِ
قال طرفة:"استنوق الجمل".لأن "الصيعرية" صفة تكون في عنق الناقة لا في عنق البعير.
فهذا نقد يدل على بصر طرفة بمعاني الألفاظ، ومواضع استعمالها، كما يدل على ذوقه النقدي، وفطنته إلى أن مثل هذا الخطأ اللفظي مما يعيب الشعر.
خامسا:إطلاق الأحكام على الشعراء:ومن تلك الأحكام، أسماء أطلقوها على الشعراء تحوي حقائق عن فنهم الشعري، أو ما يتصل بذلك الفن من قريب أو بعيد، ومن ذلك أنهم لقبوا النمر بن ثولب"بالكيس" لحسن شعره، وسموا طفيل الغنوي بطفيل "الخيل"لشدة وصفه اياها، ودعوا قصيدة سويد بن أبي كاهل "باليتيمة" لأنها فريدة في بابها ومطلعها:
بسطت رابعة الحبل لنا = فوصلنا الحبل ما اتسع(15)
ويعلق طه أحمد إبراهيم على هذه الشواهد قائلا:"هذه الشواهد تدل على وجود صور من صور النقد الأدبي في العصر الجاهلي."(16)رغم أنها تتسم بمجموعة من المظاهر منها:
أ-التعميم في الأحكام: إذ كان النقد الجاهلي في أول مرة ساذجا سذاجة البيئة الطبيعية والاجتماعية، فكان النقاد يطلقون أحكاما متنوعة على الشعر في أيامهم، تتناول الشاعر والقصيدة جملة، وقد يكون هذا الحكم مبنيا عندهم على إعجابهم ببيت من أبيات القصيدة أو بجزء من البيت، وقد يرجع هذا الحكم إلى إعجابهم بالشاعر نفسه وبشخصيته.
ب- الذوق الفطري:لقد صدرت الأحكام النقدية الجاهلية متسمة بالذوق الفطري الذي يعتمد على إحساس الناقد المباشر بالمعنى أو الفكرة، فهو يتلقاها ويحسها بذوقه الفج، وفطرته الساذجة. ولهذا تصدر أحكامه مرتجلة نتيجة لهذا التذوق المباشر.فطرفة بن العبد وهو صبي لم يستسغ وصف الجمل بوصف الناقة فيصيح قائلا في وجه خاله المتلمس:"استنوق الجمل".والنابغة يستنكر على حسان بن ثابت استعمال القلة في مقام الفخر في قوله:
لَََنا الجفناتُ الغرِّ يلمعن بالضحى = وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
فعلق على هذا البيت أبو بكر الصولي بقوله:"فانظر إلى هذا النقد الجليل الذي يدل على نقاء كلام النابغة، وديباجة شعره، وقال له:أقللت أسيافك، لأنه قال:وأسيافنا:جمع لأدنى العدد، والكثير"سيوف"، والجفنات لأدنى العدد والكثير"جفان" (17).وقد اعتمد في ذلك على ذوقه الفطري الذي صقلته ثقافته العربية الواسعة،وأحاطته بعادات قومهم وقيمهم.
ج- الارتجال في الأحكام:وهذه السمة تتصل اتصالا مباشرا بالذوق الفطري الذي يعد أساسا هاما في صدور الأحكام النقدية، غير أن هذه الظاهرة تعد أثرا من آثار التذوق. فبعد أن يتذوق الناقد الشعر يصدر حكمه إما ارتجالا، وإما بعد إثبات وروية ودراسة موضوعية لنواحي الجودة أو الرداءة، لكن السمة الغالبة في النقد الجاهلي هي سمة الارتجال، والبعد عن الدراسة التفصيلية للقصيدة و التحليل لها.
حقا، كان من بين الشعراء مدرسة سمي أفرادها "عبيد الشعر"وكانت تبذل عناية فائقة في تفهم الشعر وتذوقه، وتجويده وتنميقه، ولكن على الرغم من ظهور رواد هذه المدرسة وهم أصحاب الحوليات، فلم يكن ذلك هو الاتجاه الغالب وإنما كان اتجاها محدودا لدى أهل المدرسة، وطابعا خاصا يميز المنتسبين إليها، أما الطابع العام فهو الاتجاه والبعد عن التحليل والتماس العلل، لأن البحث عن أسباب ظاهرة من الظواهر المادية و المعنوية، كان أبعد ما ينتظر من هذه البيئة التي فتكت بها الأحقاد، واستفحل فيها الخصام، وأصبحت مسرحا للتيارات، وميدانا للخصومات والغارات فخاصم الكرى جفون أهلها، وفقد الأمن سبيله إلى عقولهم وفكرهم، ومن تم لم تكن تفرغ للبحث في علم أو فن. كانت سمتهم الأمية، فلم يؤثر عنهم كتاب في علم من العلوم، أو مصنف في لون من ألوان التفكير، أو أثر يدل على تفوقهم في صناعة من الصناعات. فقد اشتهرت الرومان بعظمة السلطان وكثرة المدائن، واشتهرت اليونان بعملها وفلسفتها، والهند بطبها وحكمتها، و الصين بفنونها وصناعتها، وهؤلاء قد عاصروا العرب في جاهليتهم، ولم يؤثر عن العرب إلا تلك الملكة التي استطاعوا بها أن يرسلوا القول، ويصوغوا الشعر، وإلا تلك المكارم النفسية التي كانت تصدر عن سماحة طبعت عليها نفوس بعض كرامهم الذين اتصفوا: بالنجدة و البذل والتضحية... وليس في تلك اللمحات النقدية شيء غريب عن البيئة التي قيلت فيها، بل إنها أشبه ما تكون بطبيعة الجاهلين الذين لم يكن لديهم من أشياء الحضارة، وألوان الثقافة ما يسمح لهم بمحاولة تأييد الرأي بالعلة المعقولة، والدليل الواضح الذي يؤديها.
ويستمر طه أحمد إبراهيم في تأريخه للنقد العربي القديم، مسجلا سماته قائلا:"النقد الأدبي توطد واستقر في عهد الطبقات الأولى من اللغويين... وعرفت له مقاييس وأصول. وظاهر جدا أنه ليس نقد السليقة و الفطرة بل نقد المدارسة الكبيرة التي تبنى على العلم" (18). وبذلك نلاحظ أن نقد المرحلة متطور عن ما سبقها، زد على هذا أنه نقد علمي بعبيد عن الذوقية والانطباعية، وعلى هذه النتيجة يبني طه أحمد إبراهيم تصوره للبداية الفعلية للنقد حين يؤكد أن أواخر القرن الأول بداية صحيحة لظهور النقد، حيث يقول:" غير أن الحال تغيرت كثيرا في أواخر القرن الأول. تغيرت في أخريات أيام فحول الإسلاميين، فارتقى النقد الأدبي ارتقاء محمودا، وكثر الخوض فيه، وتعمق الناس في فهم الأدب، ووازنوا بين شعر وشعر، وبين شاعر وشاعر، حتى لتستطيع أن تقول:إن عهد النقد الصحيح يبتدئ من ذلك الوقت، وأن كل ما سبق لم يكن غير نواة له أو محاولات فيه". (19)
ونحن نقوم ذوق طه أحمد إبراهيم في تعامله مع المادة النقدية الموروثة عن العهد الجاهلي تزدحم في ذهننا تساؤلات عدة منها، هل بالفعل نشأ النقد بنشأة الشعر؟ هل ما ورث عن هذه المرحلة من أحكام نقدية يمكن أن نعتبره نقدا؟ ما المقدمة التي حكمت طه أحمد إبراهيم وجعلته يصل إلى هذه النتيجة؟...
ونقرر بدءا أن مرحلة الجاهلية و التي اعتبرها طه أحمد إبراهيم بداية فعليه للنقد، لم تكن بتاتا مؤهلة لنشأة النقد لأسباب ذكرت بعضا منها. وكل ما نؤكده الآن أن النقد الحقيقي، أي عهد النقد الفعلي وشروط النقد الصحيح لم تتوفر بعد في هذه الحقبة، وهي لن تتوفر إلا في مرحلة متقدمة من تطور المجتمع العربي وفي غياب الشروط الموضوعية لنشأة النقد نكون أمام نفحات وآراء لا ترقى إلى مستوى النقد. وقد أدرك ذلك ذ.طه أحمد إبراهيم نفسه حين وصل بدراسته إلى أواخر القرن الأول، إذ تملتكه صيحة الدهشة والإعجاب، فصاح قائلا:" إن عهد النقد الصحيح يبتدئ من ذلك الوقت، وأن كل ما سبق لم يكن غير نواة له أو محاولات فيه".(20) إن ما اعتبره ذ.طه أحمد إبراهيم نقدا في هذه المرحلة أملته ظروف الحياة الاجتماعية عند العرب التي كانت تقوم على النيل والتجريح والحط من الخصوم، أو الإشادة بالذكر، وهذا لا ينفي الغرض الفني منها، إذ كان يهدف الشاعر من إصدار حكم الإقرار بالمثل في الصياغة والمعاني كما هو الشأن فيما روي عن النابغة، وطرفة، وأم جندب، ورغم ما فيه من فنية فإنه لا يرقى إلى مستوى النقد الموضوعي، من تم لا يمكننا الحديث عن نقد في هذه المرحلة.
ثانيا:الدكتور محمد مندور وقضية نشأة النقد العربي القديم.
تسلح د. محمد مندور بالمنهج التاريخي ليعيد قراءة التراث العربي عامة، والنقد الأدبي منه خاصة.رفض الوقوف عند حدود ما أثير من نقد في الأسواق والمنتديات الأدبية، وأكد منذ البدء أنه سيركز على ما جاء من نقد ممنهج مع كل من الآمدي والجرجاني، باعتبارهما شكلا المحور للطرح الذي يتبناه د. محمد مندور ويعتد به، وجعله أساس ما أسماه بالنقد المنهجي:" لم نقف وقفات خاصة عند نقد الشعراء، أو محكمين في أسواق الأدب وما شاكل ذلك، مما نجد في تضاعيف كتب الأدب والرواية القديمة. وذلك لكي نظل في حدود الفكرة الأساسية التي يقوم عليها هذا الكتاب، وهي معالجة النقد المنهجي عند العرب" (21) وإن سأله سائل عن ما النقد المنهجي يجيبه بسرعة:" هو ذلك النقد الذي يقوم على منهج تدعمه أسس نظرية أو تطبيقية عامة، ويتناول بالدرس مدارس أدبية أو شعراء أو خصومات يفصل القول فيها، و يبسط عناصرها ويبصر بمواضع الجمال و القبح فيها."(22)
ينطلق د. محمد مندور لرصد تطور النقد الأدبي العربي القديم انطلاقا من تحديد مفاهيم عن الأدب والنقد، وتاريخ الأدب، ودور الذوق في العمل النقدي اعتمادا على ما جاء به الناقد الفرنسي "غوستاف لانسون G.Lanson.
1-الأدب: " هو كل المؤلفات التي تكتب لكافة المثقفين لتثير لديهم بفضل خصائص صياغتها صورا خيالية، أو انفعالات شعورية أو إحساسات فنية."(23)
2-النقد المنهجي: هو الذي يظهر تلك الخصائص ويحللها، أو هو في أدق معانيه: "فن دراسة النصوص، والتميز بين الأساليب المختلفة."(24).
ترتيبا على المفاهيم السابقة، وانطلاقا من قواعدها، يتناول د. محمد مندور إشكالية نشأة النقد، بعدما يقرر أن التاريخ الأدبي، يكون في خلقه وتطوره مؤخرا عن النقد الأدبي في ظهوره.وفي ذلك يقول:" فالنقد الأدبي سابق عند العرب عن التاريخ الأدبي " (25). بينما النقد الأدبي ينشأ ملازما للشعر، متواجدا بتواجده، متطورا بتطوره ومتعايشا بتعايشه. وكل تغير يتعرض له الشعر، إلا وتجد صداه باديا في النقد. وفي ذلك يقول:" فقد وجد النقد عند العرب ملازما للشعر".(26)
3-التاريخ الأدبي:"يجمع تلك المؤلفات تبعا لما بينها من وشائج في الموضوع والصياغة وبفضل تسلسل تلك الصياغات يضع تاريخ الفنون الأدبية، وبتسلسل الأفكار والإحساسات يضع تاريخ التيارات العقلية و الأخلاقية، وبالمشاركة في بعض الألوان، وبعض المناحي الفنية المتشابهة في الكتب التي من نوع أدبي واحد ومن تأليف نفوس مختلفة يضع تاريخ عصور الذوق ".(27).
4-الذوق الأدبي: يحدد د. محمد مندور الذوق الأدبي في العمل النقدي، اعتمادا على الأهمية التي حددها له" لانسون" حيث يقول: "إذا كانت أولى قواعد المنهج العلمي هي إخضاع نفوسنا، لموضوع دراستنا، لكي ننظم وسائل المعرفة وفقا لطبيعة الشيء الذي نريد معرفته، فإننا نكون أكثر تمشيا مع الروح العلمية بإقرارنا بوجود التأثرية في دراستنا، وتنظيم الدور الذي تلعبه فيها... وما دامت التأثرية هي المنهج الوحيد الذي يمكننا من الإحساس بقوة المؤلفات وجمالها، فلنستخدمه من ذلك صراحة ولكن لنقصره على ذلك في عزم، ولنعرف – مع احتفاظنا به- كيف نميزه ونقدره ونراجعه ونحده، وهذه هي الشروط الأربعة لاستخدامه(28).
ويخرج الدكتور محمد مندور من هذه التحديدات بمجموعة من النتائج منها:
أ-أن" النقد الأدبي نشأ عربيا، وظل عربيا صرفا، وذلك لأن أساس كل نقد هو الذوق الشخصي تدعمه ملكة تحصل في النفس بطول ممارسة الآثار الأدبية". (29)
ب- "وجد النقد الأدبي عند العرب ملازما للشعر"(30)
ج- وبعد إقراره بوجود لمحات نقدية منذ القدم لدى العرب، اعتذر عن عدم إيراد نماذج لأنه سبق في ذلك بعمل الأستاذ طه أحمد إبراهيم في مؤلفه " تاريخ النقد عند العرب " فطرح السؤال التالي:" هل من الممكن أن نسمي هذا نقدا دون أن يكون في ذلك إفساد لحقائق التاريخ أو إخلال بأصول البحث؟".(31)
فيجيب عن هذا السؤال انطلاقا من ملازمة الشعر للنقد، ومن اعتبار الذوق أساس كل عملية نقدية فيسجل بأنه " قد وجد عند الجاهليين والأمويين نقد ذوقي يقوم على إحساس فني صادق، ولقد تركزت بعض أحكامهم في جمل سارت على كافة الألسن كقولهم:" أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب" (32) غير أن هذا الذوق في النقد القديم، وانطلاقا من مفهوم "لانسون" نسجل عليه العيوب التالية:
*عدم وجود منهج: وهو شيء طبيعي في مرحلة البداوة، وهي مرحلة تطغى عليها السذاجة والفطرة والعفوية. فقد كان العربي يأخذ ويرد بناء على فطرته إذ يستطيع بإحساسه أن يبدع أجمل الشعر، دون أن يحتاج إلى عقل ناضج فكان طبيعيا أن يكون النقد غير ممنهج، وغير خاضع لنظر طويل، انطلاقا من التلازم المتواجد بين الشعر والنقد. فكان بذلك النقد جزئيا مسرفا في التعميم يحكم للشاعر له أو عليه من خلال البيت الواحد أو الشطر الواحد دون أن يكلف نفسه عناء الأخذ بالإنتاج برمته. من تم فالنقد الممنهج لن يظهر إلا مع رجل نما تفكيره، واستطاع أن يخضع ذوقه لنظر العقل.
**عدم التعليل المفصل: وهو شرط لم يكن متوفرا لعرب البداوة، إذ التعليل يعتمد العقل والتفكير العربي فطري. والتعليل يبغي وضع مبادئ عامة. والعرب لم تكون بعد مبادئ علومها اللغوية إلا مع العهد العباسي. والتعليل يأتي بعد وضع القواعد. والقواعد لم توضح في سائر العلوم إلا في القرن الثالث الهجري. والتعليل ينص على ضرورة انفصال العلوم بعضها عن الآخر، وهذا لم يتم إلا في مرحلة متأخرة من مراحل تطور الفكر عند العرب، والتعليل يبغي أولا وأخيرا التدوين – وكلنا نعلم متى ظهر التدوين – إذا، في غياب هذه المسائل الموجدة للتعليل يغيب التعليل، وفي غياب التعليل يغيب النقد الممنهج والمنظم.
وهذان العيبان واضحان في الكثير من الأحكام النقدية المروية في كتب الأدب إذ لا تعتمد تحاليل النصوص أو النظرة الشاملة فيما قال هذا الشاعر أو ذلك، وينتهي من تحليله إلى الخلاصة التالية:" فقد ظل النقد في هذه المرحلة (قبل الإسلام ) إحساسا خالصا ولم يستطع أن يصبح معرفة تصح لدى الغير، بفضل ما تستند إليه من تعليل"(33) هكذا نلاحظ أن د.محمد مندور يركز على المنهج التاريخي، فهو منهج صائب في نظره يساعد على فهم جيد النقد العربي إذ هو الذي يكشف لنا عروبة النقد. من هنا يرفض المنهج الأرسطي المبني على المنطق الصوري. وهذا دافع من الدوافع الأساسية التي دفعت د. محمد مندور إلى إقصاء ونسف محاولة قدامة بن جعفر، التي استهدفت إقامة "علم الشعر" و" علم النثر". وكذا محاولة أبي هلال العسكري التي عدت امتدادا لها فاعتبرهما محاولتين لا جدوى من ورائهما.
ثالثا: قضية نشأة النقد العربي القديم بين يدي د. محمد غنيمي هلال.
" يقوم جوهر النقد الأدبي أولا على الكشف عن جوانب – النضج الفني في النتاج الأدبي وتمييزها مما سواها عن طريق الشرح والتعليل. ثم يأتي بعد ذلك الحكم العام عليها".(34) بهذا التعريف يستهل د. محمد غنيمي هلال الحديث عن النقد. وهو لا يخرج في مجمله عن ما عهدناه من التعاريف التي تعد النقد الأدبي وليد الأدب وثمرة من ثماره، والذي يدرس تاريخه في أي لغة حية يجد أنه قد واكب أدبها في جميع عصوره، يؤثر فيه ويتأثر به، ويستمد مقوماته منه، وتتباين فيه مذاهب النقاد ومناهجهم... فالأدب هو موضوع النقد وميدانه يعمل فيه، وإذا كان الأدب بطبيعته ينزع إلى الحرية المطلقة والتجديد، واكتشاف آفاق جديدة يخلق فيها، ويعبر عنها. فإن النقد على العكس من ذلك، إنه محافظ مفيد، يقف عند حدود دراسة الأعمال الأدبية بقصد الكشف عما فيها من مواطن القوة والضعف، والحسن والقبح، وإصدار الأحكام عليها.
ولهذا فالنقد قلما أوحى إلى الأديب بتجارب جديدة أو اكتشف به أرضا وآفاقا جديدة، وإنما العبقرية الخالقة المبدعة هي التي تقدم كشفا وريادة والنقد يتبعها.
وحين تناول د. محمد غنيمي هلال قضية نشأة النقد العربي، كان يؤكدها دوما من التلازم التاريخي القائم بين الفلسفة والنقد عبر العصور. إذ في نظره أن النقد " قد ارتبط –منذ أقدم عصوره عند اليونان – بالفلسفة حتى صار فرعا من فروعها، وقد ازداد هذا الارتباط وضوحا في عصور النقد الحديثة، وبخاصة في عصرنا، إذ أصبح النقد مرتبطا كل الارتباط بعلوم الجمال التي هي من فروع الفلسفة". (35) وهذا التلازم والترابط جعل كل تقدم في النقد – في نظر د. محمد غنيمي هلال – لا ينجم إلا عن تقدم في العلوم الإنسانية، ومنها الفلسفة، فالنقد يتطور بإفادته منها ومحاكاته لمناهجها إذ أن " نهضتنا الأدبية الحديثة ترجع في أصولها إلى الأدب الغربي بحيث لا يستطيع الناقد أن يخطو فيه خطوة ذات قيمة ما لم يكن على صلة وثيقة بالآداب الغربي، وتيارات النقد فيها، وتاريخ الآداب العالمية يثبت أن عصور الانحطاط فيها هي العصور التي انطوت فيها الآداب القومية على نفسها".(36)
هكذا نجده منذ البدء يصرح بعدم اهتمامه بما نصطلح على نعته بالبداية المفترضة للنقد، وهو تلك الأحكام التي كانت تصدر عن شعراء وأدباء بأسواق الجاهلية والعصر الإسلامي. وفي ذلك يقول:" طبقا لما اتخذنا لأنفسنا من منهج، ولما عرفنا به النقد الحديث. لن نعبأ في نشأة النقد العربي بالأحكام العامة التي كان يصدرها الشعراء في القديم، بعضهم على بعض مع عدم التعليل لها: مما يروى بعضه في أسواق الجاهلية إذا افترضنا صحته وكثير منه واضح الانتحال ويلتحق بذلك ما كان يدور في نظير هذه الأسواق الجاهلية في العصر الإسلامي كسوق المربد بالبصرة."(37).
وينص د.محمد غنيمي هلال على أن هذه الأسواق قريبة الشبه بما كان من التحكيم المسرحي في العصور اليونانية، الذي كان يتم في الأعياد الدينية بمدينة آثينا."(38)
وينتقل بعد ذلك إلى العهد اليوناني في إطار عمليته التاريخية للنقد العربي القديم فيقول: "و في العصر الأموي ظهر اتجاه نقدي جديد- و إن يكن بدائيا-و لكنه كان فيه ضرب من التعليل الموضوعي، أساسه تقاليد العرب في أشعارهم و عادتهم وحياتهم العاطفية، وهو تابع للعرف اللغوي الذي أثر بخاصة في الموازنات بعد".(39) و يستمر د. محمد غنيمي هلال في ترصده للنقد العربي القديم فيصل إلى أن في العصر العباسي استجاب الأدب العربي لمطالب المجتمع الجديد بسبب اتساع الحضارة الإسلامية، و اتصال العرب بالثقافات الأخرى. و تعرفهم على حضارات الأمم الأخرى القديمة منها اليونان و الفرس على أن أهم الاتجاهات التي ظهرت في النقد في هذا العصر قد ظهر فيها أثر النقد اليوناني قليلا أو كثيرا، في حدود ما استطاع نقاد العرب فهمه، و نموذجه في ذلك قدامة بن جعفر، فهو يعتبره البداية الفعلية لظهور النقد عند العرب باعتباره أول من ظهرت لديه القواعد اليونانية مطبقة بشكل جلي في مؤلفه "نقد الشعر ". فهو بداية حقيقية لظهور النقد العربي لأنه شكل ذلك الامتزاج بين الثقافتين و في ذلك يقول:"...فمن ذلك اتجاه قدامة إلى دراسة الأجناس الأدبية تبعا لنظرة أرسطو في النظر إلى العمل الأدبي، بوصفه كلا ذا وحدة في حدود ما فهم قدامة و من سايروه".(40)
هكذا نخلص إلى أن النقد بالمعنى الدقيق لن يظهر إلا إذا قـام على أساس نظري وعلمي معـا. فهو مرتبط بالعلوم الإنسانية، وعلى رأسها الفلسفة، بل لقد تطور حتى صار فرعا من فروعها. وفي غياب الفلسفة يغيب النقد. وفي ذلك يقول:" فعلى ما يوجد من فارق هام بين الفلسفة –التي أخص خصائصها التجريد- وبين الأدب الذي جوهره التصوير الجمالي في المعنى الأشمل الأعم له، ثم النقد الذي موضوعه الأدب فيما له من خصائص، تظل الصلة مع ذلك وثيقة بين الأدب ونقده وبين الفلسفة".(41)
فرغم ما يمكن أن نلاحظه من اختلاف بينهما، فهو اختلاف ظاهري، أما في العمق فهما مترابطان. فالفلسفة هي الأساس النظري الذي يجب أن يقوم عليه كل نقد. بل لا يستقيم عود هذا الأخير إلا إذا استقر على نظرية فلسفية معينة، ويمثل د.محمد غنيمي هلال لذلك بالنقد الحديث، إذ كان من نتيجة الفلسفة المثالية أن يوجد في النقد " المذهب التأثري "، ونزعة الأسلوبين " العامة التي تمثلها مدرسة النقد الحديث الأمريكية، إذن، فهذا الثالوث: فلسفة، نقد أدب، يرتبط بعضه بالبعض في حقل العلوم الإنسانية.
واستنادا على هذا فلا نقد بدون فلسفة. وغياب الفلسفة ينجم عنه حتما غياب النقد. يقول د. محمد غنيمي هلال: " ومما يؤسف له أن هذه الحقيقة – على وضوحها – لا زالت مثار جدال لدى بعض الأدعياء في هذا المجال، ممن يريدون أن يرجعوا بالنقد الأدبي إلى الوراء قرونا ضاربة في القدم، سابقة على عهد أفلاطون وأرسطو، حين لم يكن للنقد المنهجي وجود".(42) وما دام د. محمد غنيمي هلال يحدد نشأة النقد على هذا المنوال، فبديهي أن يعارض وجود نقد في العصر الجاهلي والإسلامي، وحتى في العصر الأموي نظرا لغياب فلسفة تؤطر هذا النقد وتمنهجه.
أما ما كان في العصر الجاهلي والإسلامي من أحكام نقدية لبعض الشعراء، وشعرهم فهي لا تسمو إلى مرتبة النقد لأنها غير معللة، وغير معتمدة على أساس نظري أو فلسفي سابق.
وهنا نقف قليلا لنقول إن لم نستطع أن نحدد على وجه الدقة الصورة التي ظهر عليها النقد الجاهلي، فذلك راجع إلى ما قيل من شعر ومن نقد في العهد الجاهلي الأول لم يصل إلينا منه إلا القليل النادر، خاصة إذا علمنا أن عمر بن الخطاب قال: " كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه...فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس و الروم، ولهت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح واطمأنت العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يؤولوا إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب، وألفوا في ذلك، وقد هلك من العرب من هلك بالموت و القتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عليهم منه كثير".(43) وقال أبو عمرو بن العلاء:" ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير "(44) قال ابن سلام:" ومما يدل على ذهاب الشعر وسقوطه، قلة ما بقي بأيدي الرواة المصححين لطرفة وعبيد اللذين صح لهما قصائد بقدر عشر، وإن لم يكن لهما غيرهن، فليس موضعهما حيث وضعا من الشهرة والتقدمة، وإن كان يروى من الغثاء لهما، فليس يستحقان مكانهما على أفواه الرواة... فلما قل كلامهما حمل عليهما حمل كثير."(45)
لا يفوتنا بهذا الصدد أن نشير إلى أن د.محمد غنيمي هلال يؤكد على ضرورة الاستفادة من آداب الأمم وتجاربها. وفي هذا يقف مع د.محمد مندور، بل يتجاوزه حين يجعل من الثقافة الغربية المركز و القلب النابض لكل تقدم.
وتحت سقف هذه القاعة الاستشراقية الهدامة ينص د. محمد غنيمي هلال أن التفتح على الآداب العالمية يعدل من نظرتنا إلى الأدب القومي، ويدفع به إلى الأمام، ويعدل من نظرتنا إلى القديم، وبذلك يبقى للتيارات العالمية المختلفة فضل في تطور أدب ونقد الأمم، وشاهده في ذلك الأدب الأوربي. فقد تقدم برجوعه إلى الأدب اليوناني القديم والروماني، وإلى مبادئ النقد التي كانت سائدة فيهما. وكذلك الأمر بالنسبة للنقد على العهد العباسي. لقد تطور نتيجة اتصاله بالأدب الفارسي والفلسفة اليونانية، بل د. محمد غنيمي هلال لا يقف عند هذا الحد، وإنما ينص على أن شرط النهضة الحديثة الأساس هو الاحتذاء بالغرب وبالرجوع على تراثه المتمثل في التراث اليوناني، والذي سيقدمه الغرب للعرب في إناء ذهبي، وهذا ما عبر عنه النص الذي جاء به د.محمد غنيمي هلال حين قال بلهجة حادة:" إن نهضتنا الأدبية الحديثة ترجع في أصولها إلى الأدب الغربي بحيث لا يستطيع الناقد أن يخطو فيه خطوة ذات قيمة ما لم يكن على صلة وثيقة بالآداب الغربية، وتيارات النقد فيها، وتاريخ الآداب العالمية يثبت أن عصور الانحطاط فيها، هي العصور التي انطوت فيها الآداب القومية على نفسها"(46).
ومما يؤكد به د. محمد غنيمي هلال طرحه أن النهضة القديمة جاءت نتيجة على الثقافات العالمية. فنهضة الفرس جاءت على إثر التفتح على الثقافات الأخرى وأهمها الإرث اليوناني، ونهضة أوربا خضعت لنفس الشيء، وبذلك فنهضة العرب حاليا لن تتم إلا بانفتاحها على الثقافة اليونانية التي سيقدمها الغرب. وبذلك تكون العودة إلى الثقافة اليونانية ضرورية وحتمية نظرا لاعتبارها المرجع لكل النهضات التي سبقت: الفارسية و الأوربية.
هكذا لا يمكننا أن نتحدث عن نقد أدبي دون أن يكون مرتبطا بفلسفة ما، استنادا على هذا الحديث لا يمكن الحديث عن نقد في المرحلة الممتدة من العصر الجاهلي إلى القرن الثالث الهجري، إذ أنها لم تكن تعرف فلسفة. وبذلك فالعرب لم يعرفوا النقد إلا في القرن الرابع الهجري بعد أن تمت ترجمة الفلسفة اليونانية: فلسفة أفلاطون وأرسطو بالذات. وبالتالي لا يمكن أن نتحدث عن نقد أدبي إلا مع قدامة والأمدي وعبد العزيز الجرجاني الذين يظهر معهم مدى تأثير العرب بالنقد اليوناني لكنهم مع ذلك لم يرقوا إلى مستوى إنتاج نظريات نقدية على غرار ماكان في النقد الأوربي، كنظرية المحاكاة ونظرية الانعكاس.
إلى أي حد، يكون طرح د. محمد غنيمي هلال صائبا؟ ماهو الهاجس الذي حكم د.محمد غنيمي هلال وهو بصدد تحديد زمن ولادة النقد العربي القديم؟ لماذا ربط د.محمد غنيمي هلال نشأة النقد بنشأة الفلسفة؟ ماهي الخلفية التي ينطوي عليها طرح د.محمد غنيمي هلال ؟ ...نكتفي بالقول في هذا الصدد: إن د. محمد غنيمي هلال يبقى علما بارزا زخرت به الثقافة العربية في النصف الثاني من هذا القرن، يضم إلى مجموعة من الأعلام الذين تثقفوا ثقافة أجنبية استطاعت أن تؤثر فيهم وتوجههم وتمنهج علمهم، وتسيطر بأفكارها على فكرهم، حتى أصبحوا لا يفكرون إلا بعقلها ولا ينتجون إلا في ضوء نتائجها.
رابعا: قضية نشأة النقد العربي القديم بين يدي د. إحسان عباس.
يعرف د.إحسان عباس النقد بقوله:" في حقيقته تعبير عن موقف كلي متكامل في النظرة إلى الفن عامة أو إلى الشعر خاصة يبدأ بالتذوق، أي القدرة على التمييز، ويعبر منها إلى التفسير والتعليل والتقييم".(47)
من هذا التحديد للنقد يقرأ الدكتور إحسان عباس نشأة النقد، فينتهي إلى أن المراحل الأولى لم تعرف النقد الصحيح لأنها اعتمدت النظرة التركيبية والتعميمية، والتعبير عن الانطباع الكلي دون اللجوء إلى التعليل والتصوير لما يجول في النفس. فالنقد الصحيح لن يظهر إلا بظهور التفسير و التعليل و التنقيح، وهي خطوات لا بد منها، فلا تغني إحداهما عن الأخرى ولا تقوم إحداهما مقام غيرها. فهي متدرجة متسلسلة تتخذ موقفا ونهجا واضحا.وفي هذا يقول إحسان عباس: إن هذه " خطوات لا تغني إحداهما عن الأخرى، وهي متدرجة على هذا النسق، كي يتخذ الموقف نهجا واضحا مؤصلا على قواعد جزئية أو عامة. مؤيدا بقوة الملكة بعد قوة التمييز، ومثل هذا المنهج لا يمكن أن يتحقق حين يكون أكثر تراث الأمة شفويا، إذ الاتجاه الشفوي لا يمكن من الفحص والتأمل، وإن سمح بقسط من التذوق والتأثر، ولهذا تأخر النقد المنظم حتى تأثلت قواعد التأليف الذي يهيئ المجال للفحص والتقليب و النظر."(48)
وبناء على ما تقدم يخرج د. إحسان عباس بغياب النقد فيما قبل القرن الثاني الهجري لأسباب منها:
1- غياب التأليف: إذ أن معظم تراث الأمة كان يتناول شفهيا:"ومثل هذا المنهج لا يمكن أن يتحقق حين يكون أكثر تراث الأمة شفويا، إذ الاتجاه الشفوي لا يمكن من الفحص و التأمل، وإن سمح بقسط من التذوق و التأثر،ولهذا تأخر النقد المنظم حتى تأثلت قواعد التأليف"(49)
2- غياب الإحساس بالتغيير والتطور: إذ في نظره أن هذا العنصر هو الذي يسترعي انتباه ملكة النقد، وتجر الذهن إلى حدوث مفارقة ما وإدراكها، وفي غيابه تهيمن سلطة النموذج على الثقافة. وهذا بالفعل ما حدث على العهد الجاهلي والأموي، إذ كان النموذج القديم مهيمنا، وبقيت الثقافة العربية رهينة له. فهو قبلة لكل جميل ورائع من الشعر مما أدى إلى حجب حقيقة التطور و التغير عن العيون، ولن يبدأ الإحساس بهذا العنصر إلا مع تغير الأذواق وتحول النماذج إلى نماذج جديدة وذلك مع تعدد ينابيع الثقافة، وتباين مستوياتها، والاصطدام بتيارات جديدة، وفي ذلك يقول:" والتأليف يخلق مجالا للنقد صالحا، ولكنه لا يستطيع أن يخلق وحده نقدا منظما، بل لابد هنالك من عوامل أخرى، وأهم هذه العوامل جميعا الإحساس بالتغير و التطور: في الذوق العام، أو طبيعة الفن الشعري أو في المقاييس الأخلاقية التي يستند إليها الشعر".(50)
وبذلك يبقى "الإحساس بالتطور والتغيير هو العامل الخفي في شحذ هممهم للنقد يستوي في ذلك ابن قتيبة وابن طباطبا و قدامة والأمدي والقاضي الجرجاني وابن رشيق وعبد القاهر وابن شهيد وحازم القرطاجني وابن الأثير، فإنك لا تجد واحدا من هؤلاء يحس أن الشعر في أزمة، وأنه يتقدم بآرائه لحلها".(51) والأمثلة على ذلك كثيرة يمكن استخراجها من محتويات مؤلفاتهم.
وبذلك فالنقط المذكورة أساس في بلورة البداية الصحيحة للنقد، لكن النقد العلمي الدقيق في نظر د.إحسان عباس لن يتولد إلا بظهور حركة فكرية أو فلسفية وفي ذلك يقول:" وحين كان الإحساس بالتطور يتصل بأثر فكري – كلامي أو فلسفي- كان النقد ينال حظا غير قليل من العمق، لأن ذلك الأثر الفكري كان كفيلا بتنظيم الإحساس وتوجيهه في منهج متميز المعالم، فأما مجرد الإحساس وحده فإنه كان يجعل النقد عند أذكى النقاد التماعات ذهنية أو لمحات سريعة".(52) والنتيجة الحتمية التي يصل إليها إحسان عباس بعد هذا العرض تتمثل في أن توفر التأليف إلى جانب الإحساس بالتطور والتغير يؤدي إلى إعطاء ممارسة نقدية فعلية على يد الأصمعي (212 هـ) وفي ذلك يقول: "كان الأصمعي – فيما أعتقد – بداية النقد المنظم، لأنه أحس ببعض المفارقة التي أخذت تبدو في أفق الحياة الشعرية (53)و السبب في ذلك يرجع إلى تميزه عمن سبقه بالعديد من المميزات " فهو وإن شاركهم (العلماء) في كثير من النظرات الساذجة من مثل الالتفات نحو أغزل بيت وأهجى بيت وما أشبه ذلك من أحكام، قد هداه بصره النافذ إلى مواقف نقدية واضحة، ونكتفي هنا بثلاثة مواقف منها:
أ- الفصل بين الشعر و الأخلاق...
ب- الفحولة...
ج- العناية بالتشبيه.."(54)
هكذا نصل إلى أن ما قبل الأصمعي يشكل مرحلة نقدية غير منظمة، ولا يجب أن نعتد بها، ولا نقف عند حدودها، وأن النقد الحقيقي لن يظهر إلا في أواخر القرن الأول الهجري مع الأصمعي، فهو في نظر د. إحسان عباس النواة الأولى لظهور النقد المنظم في تاريخ الأدب العربي.
فمع الأصمعي توفرت الشروط التي يعتبرها د.إحسان عباس أساسا لوجود النقد وهي : "التأليف و الإحساس بالتغير والتطور ، وفي غيابها لا يمكن بأي حال من الأحوال البحث عن نقد منظم.إنما نتحدث عن لوحات نقدية طابعها شفهي وميزتها الذوق الفطري الفج، وليس ذلك الذوق الناضج المجرب للعملية الإبداعية والقادر على تحليل ظواهرها وتفسيرها و الوقوف عند جزئياتها.
ما الذي حمل د.إحسان على هذا الموقف ؟ لماذا اعتبر الأصمعي بداية فعلية للنقد؟ ما الهاجس الذي أرق د. إحسان عباس وهو يعالج قضية نشأة النقد؟.
تقويم للطروحات السابقة:
بعد هذا العرض لقضية نشأة النقد العربي القديم انطلاقا من طروحات متعددة، تتفق أحيانا وتتباين أخرى، استطعنا أن نكون صورة مجملة عن موقف الباحثين المحدثين من البداية الأولى المفترضة للنقد العربي القديم.
فإذا كان طه أحمد إبراهيم يؤكد أن النقد العربي القديم نشأ نشأة عربية صرفة، متعايشا مع الشعر، فهو ابن الجزيرة العربية الممتدة في التاريخ إلى العهد الجاهلي، انطلاقا من مجموعة من الأقوال المأثورة ذات الطابع النقدي الساذج الفطري الأولي التي ورثت عن العهد الجاهلي، فإن د. محمد مندور يؤكد على هذه العروبة للنقد أيضا، ويؤكد كذلك على التعايش المتواجد و المفترض بينهما، ولكن يختلف عن طه أحمد إبراهيم في كونه يتناول المسألة في بعدها الموضوعي البعيد عن التعصب، والنظرة الإقليمية الضيقة، بل يعبر عن قومية معقلنة عكس ذ. طه أحمد إبراهيم الذي عبر عن نزعة قومية حامية هدفها إثبات التميز للذات العربية في مواجهتها للغرب.
هكذا، نجد د. محمد مندور قد غض الطرف عن المرحلة الممتدة من العهد الجاهلي إلى أواخر القرن الثالث باحثا عن النقد المنهجي، متجاوزا لتلك الأفكار النقدية الشفهية، علما بأن معظم تراث الأمة العربية كان ينقل شفهيا، وقد يصاب بطريقة أو بأخرى بنوع من التحريف والزيادة و النقصان. ولن يجد د. محمد مندور ضالته إلا في القرن الرابع الهجري.فكانت بذلك الطريقة التي سلكها لدراسة تراث النقد العربي، قد رسخت قيما قديمة " مقدسة" في مجال الأدب العربي أكثر مما سلطت أضواء على الاتجاهات والتيارات الكفيلة بإغناء محاولات التجديد الراهنة.(55)
شيء تجاوزه د. محمد غنيمي هلال حين نص أن النقد لن يظهر إلا بظهور التفكير الفلسفي. وما دام التفكير الفلسفي قد تأخر عند العرب حتى ظهور المباحث الكلامية مع المعتزلة، فكان طبيعيا أن يتأخر النقد في التراث الأدبي العربي. وقد قاس ذلك بالتراث اليوناني، وعليه يكون نصيب المرحلة الممتدة من العصر الجاهلي إلى القرن الرابع الهجري التهميش. وهو يتفق إلى حد ما مع د. محمد مندور في كونه ينص أن النقد الممنهج لن يظهر إلا في القرن الرابع الهجري. وذلك لاتصاله بالفلسفة وعلم الكلام.
ومع د. إحسان عباس نصادف بداية للنقد العربي القديم. تمثلت في أن النقد الفعلي سيظهر في القرن الثاني مع الأصمعي، وبذلك تكون مرحلة ما قبل الأصمعي لم تعرف نقدا منظما وإنما عرفت لوحات نقدية، يطغى عليها التذوق والانطباع المباشر، وهو الآخر يتفق د. ومحمد مندور و د.محمد غنيمي هلال في أن النقد الحقيقي لن يظهر إلا في القرن الثالث الهجري.
اتفق ذ. طه أحمد إبراهيم و د.محمد مندور على التلازم المفترض فيما بين الشعر والنقد فكأني بهما يقولان لنا مادام لدينا شعر فطبيعي أن يكون لدينا نقد أي أن النقد القديم نشأ منذ أن بدأ الإنسان يعقل ويدرك، ويلاحظ ويميز ويستحسن ويستقبح. وهنا أشير إلى أن الاستقراء التاريخي لحركة النقد الأدبي يؤكد تبعية النقد للشعر في مراحله الأولى، خاصة حين كان النقاد شعراء، ومثالنا في ذلك النابغة، والفرزدق وجرير وغيهم كثير... لكن في مرحلة لاحقة، مع نضج الشروط الموضوعية التي تفترض وجود نقد أدبي يهدف إلى توجيه العمل الشعري وجهة معينة، انطلاقا من طبيعة الثقافة السائدة. سيقع الانفصال بين الشعر و النقد، وسيأتي الناقد اللغوي الشهير ابن سلام الجمحي ليؤكد على ضرورة وجود الناقد المتخصص..
فالدعوة إلى الناقد المتخصص هي الدليل القاطع على الانفصال الذي وقع بين الشعر و النقد. إذ لم يعد الناقد هو ذاك الشاعر، بل هو رجل عالم ملم بثقافة عصره قادر على تقويم العمل الأدبي، وفوق هذا وذاك يمتلك حسا نقديا يؤهله أن يجري نوعا من الحوار مع النصوص، ثم يعرف جيدها من رديئها نتيجة الدربة والمراس.
إن الأحكام التي يصدر عنها الناقد غير المتخصص، هي أحكام ذوقية محضة، يشترك فيها الناقد و غير الناقد.من ثم فهي أحكام يقتسمها جميع قراء الأدب، وليست هي وقفا على فئة دون أخرى، فلا يمكن أن نعدها بحال من الأحوال معلما من معالم تواجد النقد على العهد الجاهلي.
ومن المعالم التي يؤكد عليها الأستاذ طه أحمد إبراهيم وجود النقد في العصر الجاهلي، ويعتذر عن عدم إيرادها د. محمد مندور بحجة أن طه أحمد إبراهيم قد سبقه إلى ذلك، قضية تثقيف الشعراء لشعرهم، تلك العملية التي يقوم بها الشعراء لكي يخرجوا شعرهم في صورة أكثر تأثيرا في الملتقى، هي ممارسة نقدية كما ينص ذ. طه أحمد إبراهيم وفي هذا الصدد نقول:إنه قد خلط بين النقد الأدبي الذي هو عملية قراءة الإنتاج الأدبي قصد تمييز الجيد منه من الرديء، وإزالة الغبار عن غوامضه، وهي عملية يقوم بها ناقد يكتسب حسا نقديا مرهفا وملكة لغوية قوية...وإنتاج الشعر الذي هو عملية تعتمد في الغالب على الشعور والإحساس والتعبير عن المكنونات في غياب الرقابة العقلية الصارمة في غالب الأحيان. فعملية إنتاج الشعر أو ما يسمى في النقد العربي القديم " الصنعة الشعرية "تأتي دوما في البداية ليأتي النقد الأدبي من بعدها قصد تقويمها وإضاءة جوانبها، هكذا فالنقد عملية متأخرة عن إنتاج الشعر وصناعته، فهو لا يكون إلا بعد إنتاج الشعر وعرضه للمستهلك. فلو سألتني متى يبدأ النقد؟ سأقول:بعدما ينتهي الإبداع، أي أنه عملية تأتي بعد عملية إبداعية جاهزة منقحة مزيلة للشوائب، وهذا طبيعي إذ النقد لا يمكن أن يكون قد عرف قبل الإنتاج الأدبي، لأن الناقد لن ينقد في الهواء بل لابد من أثر أدبي يرتكز عليه. ولا نستطيع أن نتصور أن الناقد بدأ عمله في الخيال، كأن نزعم أنهم تصوروا وجود قطع أدبية ثم حاولوا نقدها، إذ أن مجرد تصور أثر أدبي دليل على أن الإنتاج قد سبق هذا التصور ولا يمكن للخيال مهما سما أن يصل إلى مالم يختبره الإنسان أو يسمع به. فالنقد عرف بعد الإنتاج. من تم فالعنصر الذي يركز عليه ذ.طه أحمد إبراهيم ليبين به تواجد النقد في العصر الجاهلي هو عنصر يمس العملية الإبداعية أكثر مما يمس العملية النقدية، إذ لا معنى للنقد إلا بعد تحديد مجاله وموضوعه الذي هو الأدب.
إذا كانت عودة ذ. طه أحمد إبراهيم إلى التراث النقدي بهدف تثبيت عراقة وأصالة النقد العربي لتزكية موقف قومي معين، فإن د. محمد مندور ينغمس في التراث بهدف معالجة النقد المنهجي وفي ذلك يقول:"لكي نظل في حدود الفكرة الأساسية التي يقوم عليها الكتاب، وهي معالجة النقد المنهجي عند العرب".(56)
والأمر لا يختلف كثيرا عن ما دفع د. محمد غنيمي هلال إلى إعادة قراءة التراث، حيث أنه استهدف من وراء هذه العملية البحث عن ما يدعم به المقدمة التي انطلق منها، وهي أن النقد لن يوجد إلا بوجود الفلسفة.
هكذا نلاحظ أن كل واحد منهما قد فسر ظاهرة أدبية بظاهرة أدبية أخرى، دون أن يرجع إلى المعطيات الاجتماعية والسياسية و الاقتصادية التي أفرزتها.
أما د. إحسان عباس فقد كانت عودته إلى التراث لا تخرج في قالبها العام عن ما أرق السابقين له. إذ كان هو الآخر يهدف إلى تأكيد مقدمته التي تنص على أن الشروط الموضوعية لنشأة النقد والمتمثلة في التأليف – أي ظهور التدوين- والإحساس بالتغيير والتطور لن يظهر إلا مع القرن الثاني الهجري، وبذلك يسقط هو الآخر في تفسير ظاهرة أدبية بظاهرة أدبية أخرى.
أما على مستوى المنهج فقد كان منهج النقاد الأربعة هو المنهج التاريخي.فالأستاذ طه أحمد إبراهيم اعتمد المنهج التاريخي الذي يراعي التسلسل الزمني للأحداث من العهد الجاهلي إلى القرن الرابع الهجري، كما ظهر لنا ذلك في محاضراته.
في حين أن محمد مندور اعتمد أساسا على " تفسير النصوص" يقول: "منذ عودتي من أوربا أخذت أفكر في الطريقة التي نستطيع بها أن ندخل الأدب العربي المعاصر في تيار الآداب العالمية، وذلك من حيث موضوعاته ووسائله ومناهج دراسته على السواء. ولقد كنت أومن بأن المنهج الفرنسي في معالجة الأدب هو أدق المناهج، وأساس ذلك المنهج هو ما يسمونه "بتفسير النصوص"، فالتعليم في فرنسا يقوم في جميع درجاته على قراءة النصوص المختارة من كبار الكتاب وتفسيرها والتعليق عليها...هذا المنهج التطبيقي هو الذي استقر عليه رأيي وإن كنت قد نظرت إلى ظروفنا الخاصة وحاجتنا إلى التوجيهات العامة.."(57)
و الطريقة التي سلكها د. محمد مندور تعتمد في قراءته للتراث والتأريخ له عن مدى الانطباع الذي يخلقه هذا المقروء في نفسه، وفي ذلك يرد على سؤال طرحه عليه فاروق شوشة في حوار أجراه معه نشرته مجلة الآداب: " عند أول عودتي من الخارج كنت غارقا في الدراسات الأكاديمية... ومنهج تدريس الأدب في الجامعات الفرنسية يقوم على ما يسمونه " بشرح النصوص"، فكنا خلال السنوات التي قضيناها بالسور بون نستمع إلى أساتذتنا الكبار وهم يضعون أصابعهم على مواضع الجمال في كل تعبير...فغرسوا بذلك في أنفسنا البحث عن الجمال في تفاصيل العمل الأدبي حتى رسخ في نفوسنا أن الأدب فن جميل قبل كل شيء وأن القيم الجمالية هي التي تضمن للعمل الأدبي الخلود.
وعلى أساس هذا التكوين النفسي الخاص صدرت عن المذهب التأثري في كتبي الأولى مثل:" النقد المنهجي عند العرب" الذي فضلت فيه بين نقاد العرب القدماء التأثريين من أمثال: الأمدي والقاضي الجرجاني...بينما أنكرت جدوى أصحاب القواعد والمبادئ البلاغية والبديعية، كقدامة وأبي هلال العسكري وغيرهما." (58)
في حين أن د. محمد غنيمي هلال و د.إحسان عباس قد تعاملا بالمقص الزمني مع الأحداث النقدية الموروثة فقد أخذا من تاريخ النقد ما يتوافق وطبيعة المقدمة التي انطلقا منها.فإذا وقف الأول عند حدود القرن الرابع الهجري، فإن الثاني مدد خطاه إلى حدود القرن الثاني الهجري. وكل واحد منهما قص المرحلة الممتدة من العصر الجاهلي إلى المرحلة التي صب عليها اهتمامه.
هكذا نخلص إلى أن قراءة كل واحد منهم تنطلق من مفهوم معين للتراث، وإن كان هدفهم واحد، وهو البحث عن بداية النقد، فإن النتائج التي توصلوا إليها اختلفت إذ كل واحد منهم قد توصل إلى نتيجة تتعارض ونتيجة الآخر.فأصبحت بذلك تتراءى أمامنا بدايات للنقد العربي القديم متعددة، وليست بداية واحدة. بدايات تختلف عن بعضها باختلاف العصور الثقافية العربية من جهة، و بغياب التزامن الفكري من جهة ثانية، وبتباين المؤثرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في كل شخصية من الشخصيات النقدية المختارة.
إن هذه الكتابات تنطلق من هاجس واحد هو:"التأريخ للنقد الأدبي" إلا أن كل واحدة قد تناولت التأريخ من الوجهة النظرية التي تتفق والطرح الأيديولوجي الذي تتبناه...فلأستاذ طه أحمد إبراهيم لم يصدر في تصوره عن تاريخ النقد العربي القديم من فراغ، بل كان هاجس القومية العربية يحكمه، تمثل حين أكد على عروبة النقد في قوله:"والنقد الأدبي عربي محض، أو هو كذلك حتى تمكن ورسخت روحه ومناحيه"(59) إن طرح طه أحمد إبراهيم يكشف عن الظروف التي تحكمت في المثقفين العرب في الأوائل هذا القرن-علما أن الكتاب صدر في 1937-و هي مرحلة حاسمة في تاريخ الأمة العربية، عرفت الزحف الأوربي إلى الشرق العربي سواء عن طريق الاستعمار المباشر المتمثل في احتلال الأرض، أو غير المباشر المتمثل في التدخل في المنشآت الاقتصادية. و لا يخفى على أحد ما يهدف إليه التدخل الاستعماري من ضرب للذات العربية و تبيان انحطاطها و تخلفها و طرح محلها الفكر الإستشراقي عن طريق طمس الهوية العربية و إشعار الأمة العربية بتبعيتها للغرب في جميع المستويات، إضافة إلى ما عرفه التراث النقدي من تشويه و تزوير للحقائق من طرف هؤلاء المستشرقين أيضا.
في هذه الفترة كذلك ظهر الاتجاه العلماني الداعي إلى السير على خطى الغير والتفكير بعقلية الغرب، متناسيا أن للعرب خصوصيات، واختلاف الخصوصيات يجعل من المتعذر الحديث عن نقط الالتقاء والتشابه بين الغرب والعرب وقد حمل لواء هذا الاتجاه العلماني من الأقلام العربية الدكتور"محمد حسين هيكل" الذي دعا إلى العلم الخالص، وترجم العديد من النظريات والأبحاث الغربية كنظرية "كانت" القائلة بانتصار العقل، وإلى جانبه "الدكتور طه حسين" في مؤلفه في الشعر الجاهلي الصادر عام 1926 حيث استخدم منهج الشك الديكارتي في قراءة التراث العربي...
إذن في هذا الجو المفعم بالاضطرابات السياسية و الاجتماعية و الفكرية كان لابد أن تظهر حركة قومية ترد الاعتبار للإنسان العربي وللذات العربية، ومن العوامل التي أفضت إلى قيام هذه الحركة في مطلع القرن العشرين:
*عوامل تاريخية: تتصل بطبيعة الحس الزمني و الحرص على وصل الحاضر بالماضي و المفاخرة بمآثر الأجداد واعتبارها جزءا من الذخيرة الروحية الواحدة، إذ كان السؤال المطروح: كيف نحيي التراث ؟ وكان الحوار في هذا الصدد هو حوار بين "الماضي" و"المستقبل" أما الحاضر فغير "حاضر" ليس فقط لأنه "مرفوض" بل أيضا لأن الماضي قوي في هذا المحور إلى الدرجة التي جعلته يمتد إلى المستقبل ويحتويه، تعويضا عن الحاضر وتأكيدا للذات وردا للاعتبار إليها.
*عوامل قومية وسياسية: تتصل باستيقاظ الوعي القومي والشعور العارم بهوية قومية واحدة ذات جوانب عرقية ولغوية وثقافية معينة.في هذه الحقبة ركن الكتاب والنقاد وغيرهم إلى الدفاع عن الهوية العربية في مرحلة هجوم أوربا المباشر (الاستعمار ) وغير المباشر (الاستشراق) وهذا الدفاع تمثل في الرد على التحديات الغربية ذات النظرية العنصرية الشوفينية التي تنطلق من أن كل ما أنتج خارج أوربا لا يمكن أن يضاهي ما أنتج بداخلها على اعتبار أنها مركز الثقافة و المعرفة، ومركز الحضارة، والاستشراق نفسه سيعبر من قنطرة سياسية خصوصا وأن تطور الاستشراق كان مرتبطا بتطور الاستعمار. ومن جملة ما يهدف إليه: التحكم في الإنسان حاضرا، ولن يتم له ذلك إلا بالتحكم فيه ماضيا وذلك عن طريق تشكيكه في تاريخه وتراثه وربطه بالثقافة الحالية.فالاستشراق هو الذي يتوجه إلى اجتثات تاريخ الشعوب ويفسده ويشكك الشعوب في ذواتها، ثم يربطها بتاريخ جديد يمجده لها، وبذلك يكتسبها.
أمام هذا الصراع المرحلي بين الشرق والغرب، ظهرت كتابات متعددة تعكس هذا الصراع، وتهدف كلها إلى إثبات الهوية العربية-وهذا ما عبر عنه التيار السلفي- وبذلك يكون الاهتمام بالنقد في هذه المرحلة لم يكن غاية في حد ذاته وإنما كان في إطار الصراع مع النظرية الاستشراقية وإثبات الهوية العربية...كل هذا شكل الهاجس الذي شغل تفكير طه أحمد إبراهيم وحكم طرحه.فهو هاجس قومي سياسي يرد فيه على التحديات الغربية التي تنص على أن كل شيء خلق في حجر أوربا يعتد به وأن ما خلق خارجها فهو دوني يستحق النبذ والاحتقار والتهميش.
أما عن قراءة د. محمد مندور للتراث فهي لم تكن من قبيل المصادفة في حياته وإنما تداخلت في توليدها وتشكيلها مجموعة من العوامل التي شكلت في النهاية نسقه المعرفي وحددت طبيعة المعالجة الفكرية عنده ومنها:
أ- تكوينه الثقافي:إذ أتاحت له فرصة السفر إلى فرنسا من أجل تحضير دكتوراه في الأدب العربي أن يغرف من منهل الثقافة الفرنسية على أيدي كبار نقادها في تلك الحقبة وعلى رأسهم "كوستا ف لانسونLançon Gustaph الذي أخذته مفاهيمه وآراؤه، وحاول تطبيقها على النقد العربي القديم.
إن محمد مندور قد أعاد قراءة النقد العربي القديم من خلال مفاهيم مسبقة جاهزة مستمدة من(Gustaph Lançon)، وهي مفاهيم يعتد بها النقد الغربي وتعتبر أساس تقويمه، فحاول ناقدنا العربي أن يبحث عن أصول لها في النقد العربي القديم، فلم يجدها في نقد الجاهلية ولا في نقد القرون الثلاثة الأولى، بل لم تتوفر له هذه المفاهيم النقدية الغربية إلا في نقد القرن الرابع الهجري مع كل من الأمدي والجرجاني، وكذلك اعتبر المرحلة السابقة للقرن الرابع الهجري لا تعدو المادة النقدية فيها لمحات أو إرهاصات نقدية غير ممنهجة.
وكان المنهج السائد في فرنسا في ذلك الحين هو منهج " تفسير النصوص" ويسمى كذلك "بالمنهج "الاديلوجي" وقوام هذا المنهج:
أ-الذوق: ويعتبره د.محمد مندور أساس العملية النقدية وفيه يقول:" إذا كانت أولى قواعد المنهج العلمي هي إخضاع نفوسنا لموضوع دراستنا، لكي ننظم رسائل المعرفة وفقا لطبيعة الشيء الذي نريد معرفته فإننا نكون أكثر تمشيا مع الروح بإقرارنا بوجود التأثرية في دراستنا وتنظيم الدور الذي تلعبه فيها... وما دامت التأثرية هي المنهج الوحيد الذي يمكننا من الإحساس بقوة المؤلفات وجمالها، فلنستخدمه في ذلك صراحة ولكن لنقصره على ذلك في عزم، ولنعرف كيف نميزه ونقدره ونراجعه ونحده، وهذه هي الشروط الأربعة لاستخدامه".(60)
ب- المنهج: وقد كان منهج د.محمد مندور في هذه الدراسة يعتمد على الاستقراء التاريخي لتطور الأحداث وتعاقبها.
ج- التعليل والتفسير: وهما أساس لوجود نقد موضوعي.
د- الفلسفة: يجب أن يعتمد النقد على فلسفة، لأن الفلسفة تصعد النقد من إعطاء آراء بسيطة في الموضوع إلى تأسيس نظرية، وهذه الأخيرة لن تتوفر إلا بتوفر الكم لمعلوماتي و المنهج المنظم، إذ لا يمكن الحديث عن نظرية في غياب المنهج المنظم لها." والنقد المنهجي لا يكون إلا لرجل نما تفكيره واستطاع أن يخضع ذوقه لنظر العقل. وهذا ما لم يكن عند قدماء العرب وما لا يمكن أن يكون".(61)
هذه هي الأدوات التي دخل بها د.محمد مندور للتأريخ للتراث العربي القديم وإعادة كتابته...
ب-طبيعة الجو الاجتماعي: ينتمي د.محمد مندور إلى الطبقة المتوسطة المتشبتة بالتقاليد وبتعاليم الدين الإسلامي، وهذه الطبقة كثيرا ما تعرضت للظلم، أسهمت في الكفاح من أجل الاستقلال، وكان تعبيرها السياسي يلتقي مع تطلعات البرجوازية الصغيرة، ومع الطبقة المتوسطة في المدن ومع العمال و الفلاحين.
ينتمي د.محمد مندور زمنيا إلى الجيل الذي أعقب جيل 1919، وتبلورت مفاهيمه من خلال المناخ المحموم المضطرب لسنوات 1936- 1952 فالفترة التي بت فيها د.محمد مندور مقالاته النقدية أنجبت جيلا حافلا بالرواد منهم: العقاد والمازني ورفاعة الطهطاوي وغيرهم ممن اطلع على المناهج الغربية. وهذا لا ينفي أن حركة التجديد ظهرت قبل جيل 1919، بل هذه الحركة الأولى هي التي أثرت في الثانية وأصبحت متداخلة معها لكن هذا التداخل بين المرحلتين لا يعني ذوبان الأولى في الثانية أو انصهار الثانية في الأولى عن طريق تشابه المفاهيم و السلوكات بقدر ما يساعد على الوقوف على الامتداد بين المرحلتين.
ج- طبيعة الجو الثقافي العام: عاش د. محمد مندور في فترة المخاض الثقافي الأوربي بفرنسا. وهو مخاض انتهى بعد الحرب العالمية الثانية إلى آفاق متعارضة كليا مع الآفاق التي تنبأ بها مفكرو القرن التاسع عشر، فعلاوة على الأحداث التاريخية الكبرى: صعود النازية، حملة العصيان المدني بقيادة غاندي، الجبهة الشعبية في فرنسا وحرب إسبانيا، كانت هناك محاولات تجريبية في مجالات الأدب والبحث سواء في الرواية أو في النقد الذي ساعدت فيه نظريات "فرويد" على ازدهار محاولات نقدية معتمدة على علم النفس، ونخص بالذكر محاولة " كسطون باشلار" في مؤلفه"حدس اللحظة "(1932).
وقد ظل د. محمد مندور مشدودا إلى المدرسة الفرنسية بحذافيرها سواء في "السوربون" أو مع المفكرين الفرنسيين، وهو يعترف بذلك حين يقول:" إنني أعترف بأن تكويني الفكري النهائي لم يتم إلا في أوربا وبفضل الثقافة العالمية التي استطعت تحصيلها هناك، وبخاصة الثقافة اليونانية و الفرنسية، تم واصلت الإطلاع فيهما قدر ما تسمح ظروف حياتي العملية... بعد عودتي من الخارج لأستفيد من كل ذلك في دراساتي لأدبنا العربي وبخاصة أدبنا الحديث والمعاصر الذي يتأثر اليوم بكل جهد."(62)أما في المشرق العربي فقد تحدثنا عنه لما كنا بصدد الحديث عن طبيعة الجو الاجتماعي.
وحين يطرح على د. محمد مندور السؤال التالي: إلى أي حد كان تأثركم بالجيل السابق من أدبنا ونقادنا إلى جوار تأثركم بالمدارس الأدبية والنقدية في الخارج؟ يجيب على الفور بقوله:" تأثرت قبل سفري إلى الخارج بالدكتور طه حسين في الصبر على فهم النصوص العربية القديمة وتذوقها، فهو يحذف هذه الأمور ، وإن كنت أعتقد أن تأثيره الأكبر كان كموجه نحو الثقافة العالمية وبخاصة اليونانية القديمة والفرنسية التي كان ولا يزال يتحمس لها حماسة ظهر أثرها في كتابه اللاحق عن " مستقبل الثقافة في مصر".
وتأثرنا بالأستاذ عباس محمود العقاد... ولا زالت أذكر أنني أفدت كثيرا من كتابيه القيمين "الفصول " و"مطالعات في الكتب والحياة"...وأفدت من إبراهيم عبد القادر المازني وبخاصة كتابيه"حصاد الهشيم"وقبض الريح"، ومقالاته... وأفدت من الدكتور محمد حسين هيكل، ومن منهجه التاريخي العلمي في البحث فائدة كبرى وبخاصة من كتابه الأول " في أوقات الفراغ"، ثم تصادف أن وقعت على كتاب فريد لهيكل لا أدري كيف اختفى من تراثنا وهو كتابه عن "جان جاك روسو" حياته ومؤلفاته"(63) وكم كان لكل هذا من أثر في توجيه الكتابة النقدية عند د.محمد مندور،كذا تأسيس رؤية جديدة في تأريخ و قراءة وإعادة إنتاج النقد العربي القديم.
ونقلب الآن الصفحة، لنلتقي مع د. محمد غنيمي هلال وتأريخه للنقد العربي القديم فننص من البدء أنه قرأه انطلاقا من الزاد الأوربي وتوجه إليه بعقلية بعيدة عن العقلية التي أنتجته، وهي عقلية الإنسان الأوربي، التي تختلف عن عقلية الإنسان العربي، لأن الظروف و الملابسات التي أنتجت كل واحد منهما تختلف عن الأخرى اختلافا جوهريا.
وينتهي د. محمد غنيمي هلال بترصده لتاريخ النقد إلى أنه لا نشأة للنقد إلا مع نشوء الفلسفة وفي غياب الفلسفة يشهد تاريخ الثقافة غياب النقد، وكان دليله في ذلك هو استقراؤه للنظريات الأوربية القديمة التي وجدها مرتبطة بالنظريات الفلسفية، بل إن النقاد الأوربيين القدماء كانوا فلاسفة ومنهم أفلاطون وأرسطو، إذ كان لكل منهما نظرات في النقد وخوض في حقل الفلسفة، هذه النتيجة التي وصل إليها د. محمد غنيمي هلال جعلته ينص أن النقد الأدبي لن يتأسس إلا مع تأسيس الفكر الفلسفي، فما دامت الفلسفة غائبة في المرحلة الجاهلية وصدر الإسلام ومرحلة القرن الثاني، فإنه يترتب عن ذلك غياب النقد الأدبي، ولن نتحدث عن النقد الأدبي إلا مع القرن الرابع الهجري بعد ظهور علم الكلام والفلسفة الإسلامية.
لن يستطيع أن يكون هذا الطرح متماسكا إلا إذا استطاع الوقوف في وجه هذه الملاحظات الجزئية وهي:
أولا: إن د. محمد غنيمي هلال تناول النقد الأدبي كنظرية قائمة بذاتها وليس كممارسة تطبيقية، فهو بذلك يتناول نظرية النقد المرتبطة بالفلسفة في مرحلة من مراحل تطور النقد الأدبي، ولا يتحدث عن النقد في ذلك، و النتيجة أنه تغافل عن المراحل التي كان النقد فيها بسيطا جزئيا يرتكز على الأحكام الذوقية. يحكم للشاعر له أو عليه من خلال البيت الواحد بل الشطر الواحد في غالب الأحيان، وهذه المرحلة هي التي تبلور عنها النقد والتي شكلت لبنته الأولى، لذا يجب أن نأخذها بعين الاعتبار، إذ لولاها لما وجد لدينا نقد. ألا نعلم أن كل نظرية في العلوم الإنسانية لا يمكنها أن تنشأ من فراغ محض؟ أجل، فلا يمكن أن تظهر نظرية بين عشية وضحاها،وإنما النظرية كتصور عقلي متكامل يحوي بين طياته مجموعة من المفاهيم الجزئية التي تتدرج حتى تصل إلى نوع من التطور الذي يخول لها أن تشكل في نهاية التدرج والتطور "نظرية" أو هي في أدق تعاريفها:" جملة تصورات مؤلفة تأليفا عقليا تهدف إلى ربط النتائج بالمقدمات"(64) تحتاج إلى تدرج وتطور وتخمر،فكذا شأن النقد والفلسفة،فنحن لا نعرف أحدا نشأ فيلسوفا، ولم يثبت التاريخ الفكري نظرية فلسفية نشأت كاملة. بل لا بد هناك من مراحل يمر بها الإنسان والفكر معا، يبتدىء من الملاحظة المباشرة في علاقته بالكون ثم طرح التساؤلات التي تثير الدهشة والتي تستفز العقل، وبعد ذلك البحث لها عن أجوبة في الغالب ما ينبثق عنها الرأي الفلسفي وفي النهاية النظرية الفلسفية.إن هذا التسلسل، وهذا التدرج هو ما يسير عليه النقد في مسيرته التاريخية فقد ابتدأ من الرأي البسيط الساذج الفج غير المعلل وغير المفسر لينتقل إلى مرحلة تمتاز بالتعليل والتفسير ليصل إلى مرحلة مستوى النظرية ،دليلنا في ذلك التطور الذي خضعت له القصيدة العربية عبر مراحل تطورها ، إذ نعلم جميعا أن القصيدة قد اتخذت خطوات متتابعة في طريقة النضج حتى انتهت إلينا على سننها المعروفة. فقد بدأت من" الحذاء" و انتقلت إلى "السجع" ثم إلى "البيت" و إلى "الأبيات" حتى استوى هيكلها في نحو ما قاله المهلهل أو سواه، إن هذه الخطوات المتنقلة من منزلة إلى منزلة، لم تكن إلا وليدة مراجعة نقدية من الشاعر حينا ومن المتلقي حينا حتى وصلت بالقصيدة إلى وضعها المألوف وقد ضاعت الخطوات الأولى في طريق النقد كما ضاعت النماذج الأولية من الإنتاج الشعري فهو جذور تضرب في الأعماق وقد أينعت ثمارها بظهور القصيدة المكتملة في شبابها الزاهر الناطق عن طفولة مرت وصبا زال.
ثانيا:قارن د. محمد غنيمي هلال بين النقد العربي والنقد اليوناني في قضية النشأة الأولى.فذكر أن الأمة اليونانية كانت في بداوتها البعيدة تعتمد على دقة الحس وطلاقة اللسان فيما تصدر من الآراء.وكان لها رواة يتعصبون للشعراء ويذكرون أسباب المنافسة بين القائلين، ثم جاء عهد التدوين ليحفظ الإلياذة والأوديسة منقحين تنقيحا يعتمد على الذوق الفطري ويضع حدا لتصرف الرواة في المحو والإثبات،
و ظهر الشعر التمثيلي وظهر معه النقاد الذين يختارون للتمثيل ما يتميز بخصائص راقية تمتع الجمهور، فدفعوا بالشعراء إلى الإجادة والإتقان، ثم تقدمت الفلسفة شيئا فشيئا فاستطاعت أن توصل النقد الأدبي وأن تقيمه على دعائم قوية من المنطق، وبذلك تم لأرسطو أن يقعد القواعد النقدية وأن يصبح كلامه المرجع الأول للأساتذة في النقد وأصحاب الدراسات البلاغية المختلفة. هذا ما يقال عن النقد في اليونان ليلتصق بالنقد في أدب العرب نشأة وتطورا، وليفرض على النقد في العصر الجاهلي أن يكون جميعه ساذجا جزئيا يعتمد على الارتجال كما كان النقد اليوناني في منشئه سواء بسواء، وقد نسي هؤلاء أن ما لدينا في الأدب العربي من نقد الجاهلية لا يكاد يمتد إلى زمن سحيق أكثر من مائة عام قبل الإسلام على الأكثر، بمعنى أنه لا يمثل الطفولة الساذجة في هذا العصر، بل يمثل النضوج المكتمل بعد أن قامت القصيدة العربية على ساقها وتجاوزت دور الزحف والحبو، ووجد من الشعراء من كانوا يبطئون في النظم كل إبطاء حتى عرفوا "بالحوليات"...
ثم إن الإمعان في المقارنة الدولية بين أدب العرب وأدب اليونان من حيث النشأة يغفل مقررات علم الاجتماع وقواعده التي تدبر هذه المقارنة على طبيعة الإقليم وجنس الأمة وعقائدها الفطرية، ومسافة الزمن قصرا وطولا، وإذا كانت بلاد اليونان جبلية ذات بحر وبر وجزر وغابات وبراكين، وكان أهلها من ذوي الملاحة والزراعة، فكيف يقرنون بالعرب وهم مختلفون طبيعة ومناخا وجنسا وعقيدة، ليكون النقد في عصر الجاهلية مشابها للنقد في بداوة اليونان... إن من البراهين الواضحة على فساد هذا التطابق المزعوم أن الشعر الجاهلي كان غنائيا وأن شعر البداوة في اليونان كان تمثيليا، وكذلك اتجه النقد وجهة الإنتاج في كلتا الأمتين، فعلينا إذن أن نكف عن تحمل المقارنات البعيدة حين نتكلم عن طبيعة النقد الجاهلي لنأتي البيوت من أبوابها.
ثالثا: إذا سلمنا بأن النقد الأدبي ينشأ ويتأسس مع الفلسفة، نطرح السؤال التالي: متى تنشأ الفلسفة ؟ ونستطيع القول: إنها لا تتأسس طفرة واحدة ولكن بعد تراكم مجموعة من الخبرات لأنها في أبسط تعريفاتها: "هي تصور حول الكون عامة " وهذه الخبرات المتناثرة هي التي تبلورة في إطار نظري، فالشروط التي تؤدي إلى نشوء الفلسفة هي نفسها المؤدية إلى نشوء النقد الأدبي، من تم لا نربطها إلا بمرحلة معينة من مراحل النقد، وهي مرحلة نضجه حيث ظهرت علوم مختلفة: نحو، عروض، بلاغة، لغة، فنصل إلى أنه قد يقع التزامن بين النقد والفلسفة وقد يشتركا في تراكم الخبرات، وفي تطور الفكر التجريدي الإنساني ولكن لن يرتبط ظهور النقد بظهور الفلسفة.
لم يكن عبتا أن يأتي د. محمد غنيمي هلال بمثل هذه الآراء، فقد عاش في فترة النصف الثاني من القرن العشرين، وهي فترة من فترات تأزم جميع المستويات في التاريخ المصري الناتج عن التبعية التي يعيشها الشعب المصري للغرب عامة والإنجليز خاصة "فقد كانت مرحلة 1936-1952 وهي مرحلة صعود قوى اجتماعية جديدة، والسعي المزدوج إلى تحقيق الاستقلال وتثبيت الذات القومية، كما تطبعها المجابهة بين الاختيارات الدينية"الجديدة"وبين الاختبارات الوطنية والاشتراكية"'(65).
الملاحظ إذن، أن كل هذه الطروحات تدور في فلك واحد هو: الدفاع عن الذات العربية من أجل إثباتها، والدفاع عن القومية العربية والدعوة إلى إصلاح الأمة العربية وإيقاظها من سباتها العميق. وقد رأى د. محمد غنيمي هلال أن السبيل الوحيد لتحقيق هذه الدعوة هو الرجوع إلى الفكر الغربي والأوربي على الخصوص.إذ هي النموذج الذي ينبغي أن يحتدى لأنها عرفت في تاريخها الطويل نفس فترات الظلام التي يعيشها العالم العربي الآن، واستطاعت أن تقشع نور حضارتها، وتبني صرح نهضتها برجوعها إلى تراث اليونان. وهذا بالفعل ما جعل د.محمد غنيمي هلال يتحمس لهذه الفكرة ويدعو إليها خاصة بعدما تشبع بها في المدارس الغربية:" فقد أوفدته الدولة في بعثة علمية لدراسة الأدب المقارن سنة 1934 واستمرت بعثته حوالي تسع سنوات حصل خلالها على الليسانس ودكتوراه الدولة في الأدب المقارن من جامعة السور بون في فبراير سنة 1952"(66) وكان لهذا انعكاس في جميع كتاباته النقدية:" من هنا كانت جهود د.محمد غنيمي هلال الذاتية بدءا بكتابة الأول عن الأدب المقارن، فالرومانيكية، فالحياة العاطفية بين العذرية والصوفية، فالنقد الأدبي الحديث،فالنماذج الإنسانية في الدراسات الأدبية المقارنة، فدور الأدب المقارن في توجيه دراسات الأدب العربي المعاصر، فالمواقف الأدبية وأخيرا كتابه: في النقد التطبيقي المقارن، وقضايا معاصرة في الأدب والنقد. لقد كانت هذه المؤلفات العلمية الأكاديمية جهدا واحدا متصلا من أجل التعريف بالدراسات الأدبية المقارنة والإسهام فيها وتوضيح رسالتها الخطيرة الشأن فيما يخص الوعي القوي من تغذية شخصياتنا القومية نواحي الأصالة في استعدادها وتوجيهها توجيها رشيدا، وقيادة حركات التجديد فيها على منهج سديد ومثمر، وإبراز مقومات قوميتنا في الحاضر، وتوضيح مدى امتداد جهودنا الفنية والفكرية في التراث الأدبي العالمي".(67)
مما سبق نخلص أن دراسة النقد القديم من منظور فلسفي حديث وربطه بالنقد الغربي عند د. محمد غنيمي هلال له ما يبرره على مستوى الواقع. فقد كانت رغبته كباقي مثقفي عصره، تتخذ مسارا قوميا هدفها إثبات الكيان العربي في مواجهته للغرب...
والسلام عليكم ورحمته تعالى وبركاته
السيدة:بشرى تاكـفـراست
أستاذة جامعية
الهـــــــــوامش
(1) رشيد العبيدي، الأدب ومذاهب النقد فيه، ص 98 ط الأولى، 1955.
(2) طه أحمد إبراهيم، تاريخ النقد الأدبي عند العرب من العصر الجاهلي إلى القرن الرابع الهجري، ص 6، ط دار الحكمة – بيروت، لبنان.
(3) المرجع نفسه ص 25.
(4) المرجع نفسه، ص 11.
(5) المرجع نفسه، ص 10.
(6) المرجع نفسه، ص 11.
(7) ابن قتيبة، الشعر و الشعراء، ج 1، تحقيق أحمد شاكر، ص 84، ط 3.
(8) المصدر نفسه، ص17.
(9) المصدر نفسه، ص 84.
(10) طه أحمد إبراهيم، تاريخ النقد، ص 16.
(11) المرجع نفسه، ص 24.
(12) المرجع نفسه، ص 11.
(13) أبو الفرح الأصفهاني الأغاني، ج 9، ص 303 تحقيق سمير جابر، طبعة دار الكتب العلمية بيروت.
(14) المصدر السابق، ج11 ص 12-13.
(15) المرزباني الموشح، ص 46-47
(16) طه أحمد إبراهيم، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، ص 13-14-15.
(17) المرجع نفسه، ص 15.
(18) المرزباني، الموشح ص 83.
(19) طه أحمد إبراهيم، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، ص 2
(20) المرجع نفسه، ص 34.
(21) المرجع نفسه ص 34.
(22) محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب ص 5 طبعة دار نهضة مصر.
(23) المرجع نفسه، ص 5.
(24) المرجع، نفسه ص 14.
(25) المرجع نفسه ص 14. عن ج. لانسون، نهج البحث في تاريخ الأدب ص 41.
(26) المرجع نفسه ص 15.
(27) المرجع نفسه ص 15. عن ج. لانسون، نهج البحث في تاريخ الأدب ص 31-40.
(28) المرجع نفسه ص 14.
(29) المرجع نفسه ص 16.
(30) المرجع نفسه ص 11.
(31) المرجع نفسه ص 15.
(32) المرجع نفسه ص 15.
(33) المرجع نفسه ص 16-17.
(34) المرجع نفسه ص 17.
(35) محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث ص 11 طبعة دار الثقافة بيروت.
(36) المرجع نفسه ص 13.
(37) المرجع نفسه ص 23.
(38) المرجع نفسه ص 155.
(39) المرجع نفسه ص 155.
(40) المرجع نفسه ص 157.
(41) المرجع نفسه ص 151.
(42) المرجع نفسه ص 13.
(43) المرجع نفسه ص 6 (مقدمة المؤلف).
(44) ابن سلام الجمحي، طبقات فحول الشعراء، ص 25 تحقيق محمود محمد شاكر سنة 1974.
(45) المصدر نفسه ص 26.
(46) المصدر نفسه ص 26.
(47) محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث ص 23.
(48) إحسان عباس تاريخ النقد الأدبي عند العرب ص 14 طبعة دار الثقافة بيروت.
(49) المرجع نفسه ص 14.
(50) المرجع نفسه ص 14.
(51) المرجع نفسه ص 14.
(52) المرجع نفسه ص 18-19.
(53) المرجع نفسه ص20.
(54) المرجع نفسه ص 15.
(55) المرجع نفسه ص 49.
(56) محمد برادة، محمد مندور وتنظير النقد العربي ص 222 طبعة دار الأدب بيروت 1979 الطبعة الأولى.
(57) محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب ص 5.
(58) محمد برادة، محمد مندور وتنظير النقد العربي ص45.
(59) فاروق شوشة ص 58 مجلة الآداب العدد الأول يناير 1961.
(60) طه احمد إبراهيم، تاريخ النقد الأدبي عند العرب ص 6.
(61) محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب ص 16.
(62) المرجع نفسه ص 17.
(63) فاروق شوشة، الدكتور محمد مندور والنقد ص 39 مجلة الآداب يناير 1961.
(64) المرجع نفسه ص 39.
(65) مجدي وهبة، كامل المهندس، معجم المصطلحات العربية في اللغة والنقد، مكتبة لبنان 1944-1979.
محمد برادة، محمد مندور وتنظير النقد العربي ص 113-114.الطبعة الأولى 1979 منشورات دار الآداب بيروت.
(66) فاروق شوشة، محمد غنيمي هلال، ص 145، مجلة فصول الأدب المقارن، ج 1 العدد 3 المجلد 3، 1983.
(67) المرجع السابق، ص نفسها.
* عن مدونة الدكتورة بشرى تاكفراست
لما طرح السؤال حول البداية الأولى للنقد العربي، تعددت الإجابات وتشعبت، فالتقت حينا وتطاحنت أخرى، فاختلف الناس فيها بين قابل ورافض، ولكل واحد من الطرفين منطلق يبرر به قبوله أو رفضه. إذ كانت عناية الكتاب والدارسين منذ فجر النهضة الحديثة في الشرق العربي بالنقد الأدبي، فهبوا يتناولونه بالدرس والتحليل، متجهين فيه اتجاهين مختلفين تبعا لما أتيح لكل فريق من الثقافة ولما تيسر له من إطلاع. هكذا أثارت مرحلة البداية الأولى للنقد نقاشا محتدما بين الباحثين المحدثين الذين اختلفوا في تقويم ماأثير عن هذه المرحلة من أقوال نقدية شفاهية، وأحكام موجزة مرتجلة، ومقاييس ذوقية غير معللة.
ففريق من الباحثين يرى أن مرحلة العصر الجاهلي هي المرحلة التي تطور عنها النقد لينتهي إلى أن العرب عرفوا النقد انطلاقا من التلازم المفترض بين الشعر والنقد، فما دام لدينا شعر فلا بد أن يكون لدينا نقد، بل منهم من يذهب أبعد من ذلك حين يعتبر ن النقد أسبق إلى الوجود من تلك الفنون" وهل الأديب إلا ناقد قبل أن تأخذ أفكاره صبغتها الفنية، ويتخذ أسلوبها الجميل سبيله في الظهور شعرا ونثرا، لا أنكر أن فكرة تنشأ في نفس الأديب وقد تبقى مستقرة فيها، ولكن ما قيمتها وهي خواطر عامة في بحر خياله، قبل أن تأخذ شكلها في التأليف، بين سمو المعنى وجمال اللفظ." (1) ومن اشهر من حمل مشعل هذه الفئة: الأستاذ طه أحمد إبراهيم والأستاذ محمد زغلول سلام.
وفريق قرأ النقد العربي القديم انطلاقا من مفاهيم نقدية مستمدة من الثقافة الغربية، وانتهى برفضه للبداية الأولية للنقد، لينص أن النقد لن يظهر إلا في القرن الرابع الهجري، وقبل هذه المرحلة لا يمكن أن يعتد به. وبذلك يكون قد أعاد قراءة النقد العربي القديم من خلال تصورات ومفاهيم جديدة حول النقد، يحكمه منهج مأخوذ من ثقافة الآخر، ومن رواد هذه الفئة د. محمد مندور ابتداء من 1944 سنة تأليف كتاب " النقد المنهجي عند العرب".
وفريق ثالث نص على أن النقد العربي لن يظهر إلا بظهور الفلسفة وقد توصل لهذه النتيجة من خلال استقراء تاريخي لتاريخ النقد الأدبي في أوربا و مادامت الفلسفة قد تأخر ظهورها في الثقافة العربية، فطبيعي أن يتأخر ظهور النقد، ولن يظهر إلا مع ظهور الفكر الفلسفي على يد المعتزلة والأشاعرة و المتكلمين، وحامل مشعل هذا الطرح الدكتور محمد غنيمي هلال في مؤلفه " النقد الأدبي الحديث " الصادر سنة 1958.
وفريق رابع يجيب عن سؤال: متى نشأ النقد ؟ من خلال تاريخ النقد نفسه، مصحوبا ببعض التصورات الأوروبية، مثله مؤرخ للنقد العربي وهو الدكتور إحسان عباس سنة 1971 في مؤلفه " تاريخ النقد الأدبي".
هكذا نلاحظ أن هذا الاختلاف و التقارب بين هذه الآراء جعلها تخرج من إطار البحث عن نشأة النقد إلى البحث عن متى ينشأ النقد. هل مع الفلسفة؟ هل مع الكتابة و التدوين ؟ هل مع الشعر والأدب؟ بتعبير دقيق: هل النقد كظاهرة ثقافية يظهر بظهور ظاهرة ثقافية أخرى؟ وهل هذا التقارب بين وجهات النظر ظاهرة صحية أم ظاهرة مرضية ؟ ما هو السر الكامن من وراء هذا الاختلاف؟...
أولا: الأستاذ طه أحمد إبراهيم وقضية نشأة النقد العربي القديم.
إذا تصفحت كتاب " تاريخ النقد الأدبي عند العرب" للمرحوم طه أحمد إبراهيم تلاحظ من البدء أنه سطر مجموعة من النتائج حول البداية الفعلية للنقد العربي القديم وهي كالتالي:
أولا:عروبة النقد: فالنقد عربي المولد و التطور، انطلاقا من كون " النقد الأدبي ظهر في الشعر وظلت أكثر بحوثه في الشعر."(2) ثم هو " عربي النشأة كالشعر لم يتأثر بمؤثرات أجنبية، ولم يقم إلا على الذوق العربي السليم" (3) وقوله أيضا: " إنه عربي في أعارضه ونهجه وأغراضه وروحه" (4).
هكذا نخلص أن النقد الأدبي عند العرب نشأ عربيا، وظل عربيا صرفا، وذلك لأن أساس كل نقد هو الذوق الشخصي، تدعمه ملكة تحصل في النفس بدون ممارسة الآثار الأدبية. وهل من الخطأ أن يقال بأن النقد العربي ليس عربي النشأة فلقد وجد النقد الأدبي بصورته الأولى بعد أول مقطوعة شعرية قالها العرب، أي أنه كان ملازما للشعر، ونحن نعلم أن الشعر يثير بفضل خصائص صياغته أنواعا خاصة من الانفعالات ومن المؤكد أن تكون هناك استجابات لهذا الانفعال في بعديها السلبي والإيجابي، وعن هذه الاستجابات يصدر حكم، وهذا الحكم هو: النقد، والذي لا شك فيه أن الاستجابات لم تكن فاترة وفي أخلاقهم عنف البداوة، كما أن في شعرهم ما يحرك ضروبا من الانفعال الشخصي والقبلي.
ثانيا: نضج الشعر: فالشعر الجاهلي لم يعرف إلا ناضجا مكتملا متجاوزا مرحلة المقطعات إلى مرحلة القصيدة الكاملة ذات الروي الواحد و القافية الثابتة، " إننا لا نعرف الشعر إلا ناضجا كاملا، منسجم التفاعيل مؤتلف النظم، كما نقرأه في المعلقات وفي شعر عشرات الجاهلين الذين أدركوا الإسلام أو كادوا يدركونه "(5)
ثالثا: تثقيف الشعر: و هي عملية يقوم بها الشعراء تجاه شعرهم عن طريق الزيادة و النقضان أو التقديم والتأخير. وقد عده طه أحمد إبراهيم مظهرا من مظاهر الحس النقدي عند شعراء الجاهلية، ومنهم رواد المدرسة الأوسية الذين نعتهم الأصمعي " عبيد الشعر"، وخاصة زهير صاحب الحوليات، فالشعراء من هذا المنظور يتوجهون إلى شعرهم، فيتدارسونه ويراجعونه ويحذفونه منه، ويضيفون إليه في تبصر وعمق. وكان كل هذا ضربا من الممارسة النقدية على نصوصهم الشعرية. وفي هذا الصدد يقول طه أحمد إبراهيم:" إن هذا الشعر مر بضروب كثيرة من التهذيب حتى بلغ ذلك الاتقان الذي نجده عليه، أواخر العصر الجاهلي... فلم يكن طفرة أن يهتدي العربي لوحدة الروي في القصيدة، ولا لوحدة حركة الروي، ولا للتصريع في أولها و لا لافتتاحها بالنسب والوقوف بالأطلال، لم يكن طفرة أن يعرف العرب كل تلك الأصول الشعرية في القصيدة، وكل تلك المواصفات في ابتداءاته مثلا وإنما ذلك كله بعد تجارب، وبعد إصلاح وتهذيب. وهذا التهذيب هو النقد الأدبي."(6) ما يؤكد أن القدماء لم يقبلوا كل ما يرد على خواطرهم بل ما يزالون ينقحون حتى يظفروا بأعمال جليلة، وهي أعمال كانوا يجيلون فيها الفكر متكلفين جهودا شاقة في التماس المعنى المصيب تارة، والتماس اللفظ المتخير تارة ثانية. يقودهم في ذلك بصر محكم يميزون به المعاني والألفاظ بعضها من بعض، بحيث يصونون كلامهم عما قد يفسده أو يهجنه ومن ذلك قول عدي بن الرقاع:
وَقَصِيدَةٍ قــد بتّْْ ُأجْمعُ بينها = حـتى أُقَوِّم مَيْلـها وسِنادَهــا
نظرَ المُثقِّف في كعوبِ قناتِه = حتى يُقيم ثِقافُه مُنْـآدهــــا(6)
وقد اعتبر ابن قتيبة هذا اللون ضربا من التكلف في الشعر " فالمتكلف هو الذي قوم شعره بالثقاف، ونقحه بطول التفتيش. وأفاد فيه النظر بعد النظر، كزهير والحطيئة و كان الأصمعي يقول: زهير و الحطيئة وأشباهها(من الشعراء)عبيد الشعر لأنهم نقحوه، ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين." (7) وكان سويد بن كراع يذكر تنقيح شعره بقوله:
أبِيتُ بِأبْوابِ القوافـي كأنمـا = أُصَادي بها سِرْبا من الوحشِ نُزَّعـَا
أُكالِئها حتى أعرِّس بعدمــا = يكون سُحَيْرا وبُعَيْـَد فأهْجعـــا
إذاخفْتُ أن تُرْوىعليَّ رددْتُها = وراء التَّراقي خَشْيَة أن تطلعـــا
وجشَّمني خوفُ ابن عفان ردها = فثقَّفتها حــولا جريدا ومرْبَعــا
وقد كان في نفسي عليها زيادةً = فلم أرَ إلا أن أطيـع وأسمعـا(8)
رابعا:التلازم بين الشعر و النقد: لكي يبرهن على وجود النقد التمس الأستاذ طه أحمد إبراهيم دلائله من وجود الشعر، انطلاقا من أن النقد هو تلك المدرسة التي تعمل على إنضاج الشعر، وتخليصه من الشوائب التي علقت به لحظة ولادته وتكوينه، محاولا بذلك الرفع من مستواه، وجعله قابلا للتدوين والإعجاب، خاصة إذا علمنا أن أولية الشعر ترتكز على تصور جمالي فني محدد: " في مثل هذا العهد نعد نقدا كل ماله مساس بالأدب بنية ومعنى، وإن لم يتصل بالبحث في الجمال الفني، فذم الإقواء نقد في الجاهلية، لأنه يعيب أمرا لعله من آثار طفولة الشعر."(9).
هكذا نلاحظ من خلال النص كيف يحدد ذ. طه أحمد إبراهيم النقد في العصر الجاهلي في:
1- أنه نقد ينصب على النصوص الحديثة و المعايشة.
2- أنه نقد يهتم بالجانب الفني والمعنوي أي بالشكل و المضمون.
ونلمس وصفه للنقد بدقة حين نقرأ النص التالي:" وجد النقد الأدبي في الجاهلية ولكنه وجد هينا يسيرا، ملائما لروح العصر، ملائما للشعر العربي نفسه، فالشعر الجاهلي إحساس محض أو يكاد. والنقد كذلك كلاهما قائم على الانفعال والتأثر، فالشاعر مهتاج بما حوله من الأشياء والحوادث، و الناقد مهتاج بوقع الكلام في نفسه، وكل نقد في نشأته لا بد أن يكون قائما على الانفعال بأثر الكلام المنقود، والنقد العربي لا يشذ عن تلك القاعدة "(10) وبذلك يبقى نقد المرحلة غير خارج عن ما عهد في الأدب عامة و الشعر خاصة. إذ كان يعتمد على نفس الصفات والمقومات والركائز، ويتصف بنفس الميزات التي يتصف بها الشعر من سليقة وذوقية وعفوية وارتجال. ومن المعالم التي يركز عليها ذ.طه أحمد إبراهيم وجود النقد العربي على العهد الجاهلي:
أ- ما كان يدور في الأسواق حين كان الأدب سلعة من السلع التي تعرض فيه.
ب- المجالـس الأدبية التي عرفت مساجلات ومناقشات بين الشعراء."وهذه الأحاديث والأحكام والمآخذ هي نواة النقد العربي الأولى."(11).ومن ذلك ما نجده:
1- في سوق عكاظ: حيث كانت تضرب قبة حمراء للنابغة فيتوافد عليها الشعراء من أجل الحكم على أشعارهم. فقد جاءه مرة الأعشى والخنساء وحسان بن تابث فأنشده الأعشى قصيدته التي مطلعها:
مَا بُكَـاءُ الكَبير بِالأطـلالِ = وسـؤالِي وما تَـرُدُّ سـؤالي
وأنشده حسان بن ثابت قوله:
لنَا الجَفَنَات الغُرِّ يلمعن بالضُحَى = وأسْيَافُنَا يقطرن من نجدةِ دمَا
أما الخنساء فقد أنشدته قصيدتها في رثاء أخيها صخر:
قذىً بعينك أم بالعين عُوارُ = أَم أقْفَرتْ مُذْ خَلَتْ مِنْ أهْلِهَا الدَّارُ
وإن صَخْرًا لَتَأْتَمُّ الهُدَاةُ بِه = كأنَّـهُ عَلَــمٌ في رَأْسِهِ َنــارُ
فقال النابغة:"لولا أن أبا بصير-يعني الأعشى– أنشدني، لقلت:إنك أشعر الجن والإنس."(12)
من هذا الخبر ندرك منزلة النابغة عند معاصريه، وما احتكامهم إليه دون غيره إلا اعتراف علني بشاعر يته، وقدرته على تمييز الجيد من الرديء في الشعر، ودليل كذلك على ما كان يتمتع به من علم بصناعة الشعر ومن ملكة خاصة في النقد.
2-ما نجده في يثرب: ونأخذ فيه كنموذج ما عيب على النابغة من ارتكابه للإقواء ولم يستطع أحد أن يصارحه به حتى دخل يثرب مرة فأسمعوه إياه غناء في قوله:
أمن آل مَيَّة رائحٌ أو مُغْتدي = عَجْلان ذا زادٍ، وغير مزودِ
زعمَ البوارحُ أن رحْلتنا غدا = وبذلك خبَّرنا الغُرابُ الأسودُ
ذكر الاصفهاني أن النابغة قدم المدينة، فعيب عليه هذا الإقواء فلم يأبه حتى جاءوه بجارية فجعلت تغنيه "أمن آل مية رائح أو مغتد " وتطيل حركة الدال وتشبعها في "مغتدي" و"مزود". ثم غنت البيت الأخير فبينت الضمة في قوله "الأسود" ففطن بذلك لما يريده، فغير عروضه وجعله " وبذلك تصاب الغراب الأسود". وكان من اجل هذا يقول "وردت يثرب وفي شعري بعض العاهة فصدرت عنها و أنا اشعر الناس".(13)
والخطأ النحوي الذي ارتكبه النابغة يتمثل في كونه لم يأبه لرفع النعت، فجعله مجرورا خضوعا لقافيته، وحين تلقف الرواة البيت أعادوه إلى قاعدته النحوية ووضعوا له مصطلح "الإقواء."(14)
3-ما نجده في مكة:ومثل له طه أحمد إبراهيم بموقف طرفة بن العبد من خاله المتلمس حين أنشده قوله المشهور:
وقد أتناسى الهمَّ عند احتضارهِ = بناجٍ عليه الصَّيْعَرِيَة مُكْدمِ
قال طرفة:"استنوق الجمل".لأن "الصيعرية" صفة تكون في عنق الناقة لا في عنق البعير.
فهذا نقد يدل على بصر طرفة بمعاني الألفاظ، ومواضع استعمالها، كما يدل على ذوقه النقدي، وفطنته إلى أن مثل هذا الخطأ اللفظي مما يعيب الشعر.
خامسا:إطلاق الأحكام على الشعراء:ومن تلك الأحكام، أسماء أطلقوها على الشعراء تحوي حقائق عن فنهم الشعري، أو ما يتصل بذلك الفن من قريب أو بعيد، ومن ذلك أنهم لقبوا النمر بن ثولب"بالكيس" لحسن شعره، وسموا طفيل الغنوي بطفيل "الخيل"لشدة وصفه اياها، ودعوا قصيدة سويد بن أبي كاهل "باليتيمة" لأنها فريدة في بابها ومطلعها:
بسطت رابعة الحبل لنا = فوصلنا الحبل ما اتسع(15)
ويعلق طه أحمد إبراهيم على هذه الشواهد قائلا:"هذه الشواهد تدل على وجود صور من صور النقد الأدبي في العصر الجاهلي."(16)رغم أنها تتسم بمجموعة من المظاهر منها:
أ-التعميم في الأحكام: إذ كان النقد الجاهلي في أول مرة ساذجا سذاجة البيئة الطبيعية والاجتماعية، فكان النقاد يطلقون أحكاما متنوعة على الشعر في أيامهم، تتناول الشاعر والقصيدة جملة، وقد يكون هذا الحكم مبنيا عندهم على إعجابهم ببيت من أبيات القصيدة أو بجزء من البيت، وقد يرجع هذا الحكم إلى إعجابهم بالشاعر نفسه وبشخصيته.
ب- الذوق الفطري:لقد صدرت الأحكام النقدية الجاهلية متسمة بالذوق الفطري الذي يعتمد على إحساس الناقد المباشر بالمعنى أو الفكرة، فهو يتلقاها ويحسها بذوقه الفج، وفطرته الساذجة. ولهذا تصدر أحكامه مرتجلة نتيجة لهذا التذوق المباشر.فطرفة بن العبد وهو صبي لم يستسغ وصف الجمل بوصف الناقة فيصيح قائلا في وجه خاله المتلمس:"استنوق الجمل".والنابغة يستنكر على حسان بن ثابت استعمال القلة في مقام الفخر في قوله:
لَََنا الجفناتُ الغرِّ يلمعن بالضحى = وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
فعلق على هذا البيت أبو بكر الصولي بقوله:"فانظر إلى هذا النقد الجليل الذي يدل على نقاء كلام النابغة، وديباجة شعره، وقال له:أقللت أسيافك، لأنه قال:وأسيافنا:جمع لأدنى العدد، والكثير"سيوف"، والجفنات لأدنى العدد والكثير"جفان" (17).وقد اعتمد في ذلك على ذوقه الفطري الذي صقلته ثقافته العربية الواسعة،وأحاطته بعادات قومهم وقيمهم.
ج- الارتجال في الأحكام:وهذه السمة تتصل اتصالا مباشرا بالذوق الفطري الذي يعد أساسا هاما في صدور الأحكام النقدية، غير أن هذه الظاهرة تعد أثرا من آثار التذوق. فبعد أن يتذوق الناقد الشعر يصدر حكمه إما ارتجالا، وإما بعد إثبات وروية ودراسة موضوعية لنواحي الجودة أو الرداءة، لكن السمة الغالبة في النقد الجاهلي هي سمة الارتجال، والبعد عن الدراسة التفصيلية للقصيدة و التحليل لها.
حقا، كان من بين الشعراء مدرسة سمي أفرادها "عبيد الشعر"وكانت تبذل عناية فائقة في تفهم الشعر وتذوقه، وتجويده وتنميقه، ولكن على الرغم من ظهور رواد هذه المدرسة وهم أصحاب الحوليات، فلم يكن ذلك هو الاتجاه الغالب وإنما كان اتجاها محدودا لدى أهل المدرسة، وطابعا خاصا يميز المنتسبين إليها، أما الطابع العام فهو الاتجاه والبعد عن التحليل والتماس العلل، لأن البحث عن أسباب ظاهرة من الظواهر المادية و المعنوية، كان أبعد ما ينتظر من هذه البيئة التي فتكت بها الأحقاد، واستفحل فيها الخصام، وأصبحت مسرحا للتيارات، وميدانا للخصومات والغارات فخاصم الكرى جفون أهلها، وفقد الأمن سبيله إلى عقولهم وفكرهم، ومن تم لم تكن تفرغ للبحث في علم أو فن. كانت سمتهم الأمية، فلم يؤثر عنهم كتاب في علم من العلوم، أو مصنف في لون من ألوان التفكير، أو أثر يدل على تفوقهم في صناعة من الصناعات. فقد اشتهرت الرومان بعظمة السلطان وكثرة المدائن، واشتهرت اليونان بعملها وفلسفتها، والهند بطبها وحكمتها، و الصين بفنونها وصناعتها، وهؤلاء قد عاصروا العرب في جاهليتهم، ولم يؤثر عن العرب إلا تلك الملكة التي استطاعوا بها أن يرسلوا القول، ويصوغوا الشعر، وإلا تلك المكارم النفسية التي كانت تصدر عن سماحة طبعت عليها نفوس بعض كرامهم الذين اتصفوا: بالنجدة و البذل والتضحية... وليس في تلك اللمحات النقدية شيء غريب عن البيئة التي قيلت فيها، بل إنها أشبه ما تكون بطبيعة الجاهلين الذين لم يكن لديهم من أشياء الحضارة، وألوان الثقافة ما يسمح لهم بمحاولة تأييد الرأي بالعلة المعقولة، والدليل الواضح الذي يؤديها.
ويستمر طه أحمد إبراهيم في تأريخه للنقد العربي القديم، مسجلا سماته قائلا:"النقد الأدبي توطد واستقر في عهد الطبقات الأولى من اللغويين... وعرفت له مقاييس وأصول. وظاهر جدا أنه ليس نقد السليقة و الفطرة بل نقد المدارسة الكبيرة التي تبنى على العلم" (18). وبذلك نلاحظ أن نقد المرحلة متطور عن ما سبقها، زد على هذا أنه نقد علمي بعبيد عن الذوقية والانطباعية، وعلى هذه النتيجة يبني طه أحمد إبراهيم تصوره للبداية الفعلية للنقد حين يؤكد أن أواخر القرن الأول بداية صحيحة لظهور النقد، حيث يقول:" غير أن الحال تغيرت كثيرا في أواخر القرن الأول. تغيرت في أخريات أيام فحول الإسلاميين، فارتقى النقد الأدبي ارتقاء محمودا، وكثر الخوض فيه، وتعمق الناس في فهم الأدب، ووازنوا بين شعر وشعر، وبين شاعر وشاعر، حتى لتستطيع أن تقول:إن عهد النقد الصحيح يبتدئ من ذلك الوقت، وأن كل ما سبق لم يكن غير نواة له أو محاولات فيه". (19)
ونحن نقوم ذوق طه أحمد إبراهيم في تعامله مع المادة النقدية الموروثة عن العهد الجاهلي تزدحم في ذهننا تساؤلات عدة منها، هل بالفعل نشأ النقد بنشأة الشعر؟ هل ما ورث عن هذه المرحلة من أحكام نقدية يمكن أن نعتبره نقدا؟ ما المقدمة التي حكمت طه أحمد إبراهيم وجعلته يصل إلى هذه النتيجة؟...
ونقرر بدءا أن مرحلة الجاهلية و التي اعتبرها طه أحمد إبراهيم بداية فعليه للنقد، لم تكن بتاتا مؤهلة لنشأة النقد لأسباب ذكرت بعضا منها. وكل ما نؤكده الآن أن النقد الحقيقي، أي عهد النقد الفعلي وشروط النقد الصحيح لم تتوفر بعد في هذه الحقبة، وهي لن تتوفر إلا في مرحلة متقدمة من تطور المجتمع العربي وفي غياب الشروط الموضوعية لنشأة النقد نكون أمام نفحات وآراء لا ترقى إلى مستوى النقد. وقد أدرك ذلك ذ.طه أحمد إبراهيم نفسه حين وصل بدراسته إلى أواخر القرن الأول، إذ تملتكه صيحة الدهشة والإعجاب، فصاح قائلا:" إن عهد النقد الصحيح يبتدئ من ذلك الوقت، وأن كل ما سبق لم يكن غير نواة له أو محاولات فيه".(20) إن ما اعتبره ذ.طه أحمد إبراهيم نقدا في هذه المرحلة أملته ظروف الحياة الاجتماعية عند العرب التي كانت تقوم على النيل والتجريح والحط من الخصوم، أو الإشادة بالذكر، وهذا لا ينفي الغرض الفني منها، إذ كان يهدف الشاعر من إصدار حكم الإقرار بالمثل في الصياغة والمعاني كما هو الشأن فيما روي عن النابغة، وطرفة، وأم جندب، ورغم ما فيه من فنية فإنه لا يرقى إلى مستوى النقد الموضوعي، من تم لا يمكننا الحديث عن نقد في هذه المرحلة.
ثانيا:الدكتور محمد مندور وقضية نشأة النقد العربي القديم.
تسلح د. محمد مندور بالمنهج التاريخي ليعيد قراءة التراث العربي عامة، والنقد الأدبي منه خاصة.رفض الوقوف عند حدود ما أثير من نقد في الأسواق والمنتديات الأدبية، وأكد منذ البدء أنه سيركز على ما جاء من نقد ممنهج مع كل من الآمدي والجرجاني، باعتبارهما شكلا المحور للطرح الذي يتبناه د. محمد مندور ويعتد به، وجعله أساس ما أسماه بالنقد المنهجي:" لم نقف وقفات خاصة عند نقد الشعراء، أو محكمين في أسواق الأدب وما شاكل ذلك، مما نجد في تضاعيف كتب الأدب والرواية القديمة. وذلك لكي نظل في حدود الفكرة الأساسية التي يقوم عليها هذا الكتاب، وهي معالجة النقد المنهجي عند العرب" (21) وإن سأله سائل عن ما النقد المنهجي يجيبه بسرعة:" هو ذلك النقد الذي يقوم على منهج تدعمه أسس نظرية أو تطبيقية عامة، ويتناول بالدرس مدارس أدبية أو شعراء أو خصومات يفصل القول فيها، و يبسط عناصرها ويبصر بمواضع الجمال و القبح فيها."(22)
ينطلق د. محمد مندور لرصد تطور النقد الأدبي العربي القديم انطلاقا من تحديد مفاهيم عن الأدب والنقد، وتاريخ الأدب، ودور الذوق في العمل النقدي اعتمادا على ما جاء به الناقد الفرنسي "غوستاف لانسون G.Lanson.
1-الأدب: " هو كل المؤلفات التي تكتب لكافة المثقفين لتثير لديهم بفضل خصائص صياغتها صورا خيالية، أو انفعالات شعورية أو إحساسات فنية."(23)
2-النقد المنهجي: هو الذي يظهر تلك الخصائص ويحللها، أو هو في أدق معانيه: "فن دراسة النصوص، والتميز بين الأساليب المختلفة."(24).
ترتيبا على المفاهيم السابقة، وانطلاقا من قواعدها، يتناول د. محمد مندور إشكالية نشأة النقد، بعدما يقرر أن التاريخ الأدبي، يكون في خلقه وتطوره مؤخرا عن النقد الأدبي في ظهوره.وفي ذلك يقول:" فالنقد الأدبي سابق عند العرب عن التاريخ الأدبي " (25). بينما النقد الأدبي ينشأ ملازما للشعر، متواجدا بتواجده، متطورا بتطوره ومتعايشا بتعايشه. وكل تغير يتعرض له الشعر، إلا وتجد صداه باديا في النقد. وفي ذلك يقول:" فقد وجد النقد عند العرب ملازما للشعر".(26)
3-التاريخ الأدبي:"يجمع تلك المؤلفات تبعا لما بينها من وشائج في الموضوع والصياغة وبفضل تسلسل تلك الصياغات يضع تاريخ الفنون الأدبية، وبتسلسل الأفكار والإحساسات يضع تاريخ التيارات العقلية و الأخلاقية، وبالمشاركة في بعض الألوان، وبعض المناحي الفنية المتشابهة في الكتب التي من نوع أدبي واحد ومن تأليف نفوس مختلفة يضع تاريخ عصور الذوق ".(27).
4-الذوق الأدبي: يحدد د. محمد مندور الذوق الأدبي في العمل النقدي، اعتمادا على الأهمية التي حددها له" لانسون" حيث يقول: "إذا كانت أولى قواعد المنهج العلمي هي إخضاع نفوسنا، لموضوع دراستنا، لكي ننظم وسائل المعرفة وفقا لطبيعة الشيء الذي نريد معرفته، فإننا نكون أكثر تمشيا مع الروح العلمية بإقرارنا بوجود التأثرية في دراستنا، وتنظيم الدور الذي تلعبه فيها... وما دامت التأثرية هي المنهج الوحيد الذي يمكننا من الإحساس بقوة المؤلفات وجمالها، فلنستخدمه من ذلك صراحة ولكن لنقصره على ذلك في عزم، ولنعرف – مع احتفاظنا به- كيف نميزه ونقدره ونراجعه ونحده، وهذه هي الشروط الأربعة لاستخدامه(28).
ويخرج الدكتور محمد مندور من هذه التحديدات بمجموعة من النتائج منها:
أ-أن" النقد الأدبي نشأ عربيا، وظل عربيا صرفا، وذلك لأن أساس كل نقد هو الذوق الشخصي تدعمه ملكة تحصل في النفس بطول ممارسة الآثار الأدبية". (29)
ب- "وجد النقد الأدبي عند العرب ملازما للشعر"(30)
ج- وبعد إقراره بوجود لمحات نقدية منذ القدم لدى العرب، اعتذر عن عدم إيراد نماذج لأنه سبق في ذلك بعمل الأستاذ طه أحمد إبراهيم في مؤلفه " تاريخ النقد عند العرب " فطرح السؤال التالي:" هل من الممكن أن نسمي هذا نقدا دون أن يكون في ذلك إفساد لحقائق التاريخ أو إخلال بأصول البحث؟".(31)
فيجيب عن هذا السؤال انطلاقا من ملازمة الشعر للنقد، ومن اعتبار الذوق أساس كل عملية نقدية فيسجل بأنه " قد وجد عند الجاهليين والأمويين نقد ذوقي يقوم على إحساس فني صادق، ولقد تركزت بعض أحكامهم في جمل سارت على كافة الألسن كقولهم:" أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب" (32) غير أن هذا الذوق في النقد القديم، وانطلاقا من مفهوم "لانسون" نسجل عليه العيوب التالية:
*عدم وجود منهج: وهو شيء طبيعي في مرحلة البداوة، وهي مرحلة تطغى عليها السذاجة والفطرة والعفوية. فقد كان العربي يأخذ ويرد بناء على فطرته إذ يستطيع بإحساسه أن يبدع أجمل الشعر، دون أن يحتاج إلى عقل ناضج فكان طبيعيا أن يكون النقد غير ممنهج، وغير خاضع لنظر طويل، انطلاقا من التلازم المتواجد بين الشعر والنقد. فكان بذلك النقد جزئيا مسرفا في التعميم يحكم للشاعر له أو عليه من خلال البيت الواحد أو الشطر الواحد دون أن يكلف نفسه عناء الأخذ بالإنتاج برمته. من تم فالنقد الممنهج لن يظهر إلا مع رجل نما تفكيره، واستطاع أن يخضع ذوقه لنظر العقل.
**عدم التعليل المفصل: وهو شرط لم يكن متوفرا لعرب البداوة، إذ التعليل يعتمد العقل والتفكير العربي فطري. والتعليل يبغي وضع مبادئ عامة. والعرب لم تكون بعد مبادئ علومها اللغوية إلا مع العهد العباسي. والتعليل يأتي بعد وضع القواعد. والقواعد لم توضح في سائر العلوم إلا في القرن الثالث الهجري. والتعليل ينص على ضرورة انفصال العلوم بعضها عن الآخر، وهذا لم يتم إلا في مرحلة متأخرة من مراحل تطور الفكر عند العرب، والتعليل يبغي أولا وأخيرا التدوين – وكلنا نعلم متى ظهر التدوين – إذا، في غياب هذه المسائل الموجدة للتعليل يغيب التعليل، وفي غياب التعليل يغيب النقد الممنهج والمنظم.
وهذان العيبان واضحان في الكثير من الأحكام النقدية المروية في كتب الأدب إذ لا تعتمد تحاليل النصوص أو النظرة الشاملة فيما قال هذا الشاعر أو ذلك، وينتهي من تحليله إلى الخلاصة التالية:" فقد ظل النقد في هذه المرحلة (قبل الإسلام ) إحساسا خالصا ولم يستطع أن يصبح معرفة تصح لدى الغير، بفضل ما تستند إليه من تعليل"(33) هكذا نلاحظ أن د.محمد مندور يركز على المنهج التاريخي، فهو منهج صائب في نظره يساعد على فهم جيد النقد العربي إذ هو الذي يكشف لنا عروبة النقد. من هنا يرفض المنهج الأرسطي المبني على المنطق الصوري. وهذا دافع من الدوافع الأساسية التي دفعت د. محمد مندور إلى إقصاء ونسف محاولة قدامة بن جعفر، التي استهدفت إقامة "علم الشعر" و" علم النثر". وكذا محاولة أبي هلال العسكري التي عدت امتدادا لها فاعتبرهما محاولتين لا جدوى من ورائهما.
ثالثا: قضية نشأة النقد العربي القديم بين يدي د. محمد غنيمي هلال.
" يقوم جوهر النقد الأدبي أولا على الكشف عن جوانب – النضج الفني في النتاج الأدبي وتمييزها مما سواها عن طريق الشرح والتعليل. ثم يأتي بعد ذلك الحكم العام عليها".(34) بهذا التعريف يستهل د. محمد غنيمي هلال الحديث عن النقد. وهو لا يخرج في مجمله عن ما عهدناه من التعاريف التي تعد النقد الأدبي وليد الأدب وثمرة من ثماره، والذي يدرس تاريخه في أي لغة حية يجد أنه قد واكب أدبها في جميع عصوره، يؤثر فيه ويتأثر به، ويستمد مقوماته منه، وتتباين فيه مذاهب النقاد ومناهجهم... فالأدب هو موضوع النقد وميدانه يعمل فيه، وإذا كان الأدب بطبيعته ينزع إلى الحرية المطلقة والتجديد، واكتشاف آفاق جديدة يخلق فيها، ويعبر عنها. فإن النقد على العكس من ذلك، إنه محافظ مفيد، يقف عند حدود دراسة الأعمال الأدبية بقصد الكشف عما فيها من مواطن القوة والضعف، والحسن والقبح، وإصدار الأحكام عليها.
ولهذا فالنقد قلما أوحى إلى الأديب بتجارب جديدة أو اكتشف به أرضا وآفاقا جديدة، وإنما العبقرية الخالقة المبدعة هي التي تقدم كشفا وريادة والنقد يتبعها.
وحين تناول د. محمد غنيمي هلال قضية نشأة النقد العربي، كان يؤكدها دوما من التلازم التاريخي القائم بين الفلسفة والنقد عبر العصور. إذ في نظره أن النقد " قد ارتبط –منذ أقدم عصوره عند اليونان – بالفلسفة حتى صار فرعا من فروعها، وقد ازداد هذا الارتباط وضوحا في عصور النقد الحديثة، وبخاصة في عصرنا، إذ أصبح النقد مرتبطا كل الارتباط بعلوم الجمال التي هي من فروع الفلسفة". (35) وهذا التلازم والترابط جعل كل تقدم في النقد – في نظر د. محمد غنيمي هلال – لا ينجم إلا عن تقدم في العلوم الإنسانية، ومنها الفلسفة، فالنقد يتطور بإفادته منها ومحاكاته لمناهجها إذ أن " نهضتنا الأدبية الحديثة ترجع في أصولها إلى الأدب الغربي بحيث لا يستطيع الناقد أن يخطو فيه خطوة ذات قيمة ما لم يكن على صلة وثيقة بالآداب الغربي، وتيارات النقد فيها، وتاريخ الآداب العالمية يثبت أن عصور الانحطاط فيها هي العصور التي انطوت فيها الآداب القومية على نفسها".(36)
هكذا نجده منذ البدء يصرح بعدم اهتمامه بما نصطلح على نعته بالبداية المفترضة للنقد، وهو تلك الأحكام التي كانت تصدر عن شعراء وأدباء بأسواق الجاهلية والعصر الإسلامي. وفي ذلك يقول:" طبقا لما اتخذنا لأنفسنا من منهج، ولما عرفنا به النقد الحديث. لن نعبأ في نشأة النقد العربي بالأحكام العامة التي كان يصدرها الشعراء في القديم، بعضهم على بعض مع عدم التعليل لها: مما يروى بعضه في أسواق الجاهلية إذا افترضنا صحته وكثير منه واضح الانتحال ويلتحق بذلك ما كان يدور في نظير هذه الأسواق الجاهلية في العصر الإسلامي كسوق المربد بالبصرة."(37).
وينص د.محمد غنيمي هلال على أن هذه الأسواق قريبة الشبه بما كان من التحكيم المسرحي في العصور اليونانية، الذي كان يتم في الأعياد الدينية بمدينة آثينا."(38)
وينتقل بعد ذلك إلى العهد اليوناني في إطار عمليته التاريخية للنقد العربي القديم فيقول: "و في العصر الأموي ظهر اتجاه نقدي جديد- و إن يكن بدائيا-و لكنه كان فيه ضرب من التعليل الموضوعي، أساسه تقاليد العرب في أشعارهم و عادتهم وحياتهم العاطفية، وهو تابع للعرف اللغوي الذي أثر بخاصة في الموازنات بعد".(39) و يستمر د. محمد غنيمي هلال في ترصده للنقد العربي القديم فيصل إلى أن في العصر العباسي استجاب الأدب العربي لمطالب المجتمع الجديد بسبب اتساع الحضارة الإسلامية، و اتصال العرب بالثقافات الأخرى. و تعرفهم على حضارات الأمم الأخرى القديمة منها اليونان و الفرس على أن أهم الاتجاهات التي ظهرت في النقد في هذا العصر قد ظهر فيها أثر النقد اليوناني قليلا أو كثيرا، في حدود ما استطاع نقاد العرب فهمه، و نموذجه في ذلك قدامة بن جعفر، فهو يعتبره البداية الفعلية لظهور النقد عند العرب باعتباره أول من ظهرت لديه القواعد اليونانية مطبقة بشكل جلي في مؤلفه "نقد الشعر ". فهو بداية حقيقية لظهور النقد العربي لأنه شكل ذلك الامتزاج بين الثقافتين و في ذلك يقول:"...فمن ذلك اتجاه قدامة إلى دراسة الأجناس الأدبية تبعا لنظرة أرسطو في النظر إلى العمل الأدبي، بوصفه كلا ذا وحدة في حدود ما فهم قدامة و من سايروه".(40)
هكذا نخلص إلى أن النقد بالمعنى الدقيق لن يظهر إلا إذا قـام على أساس نظري وعلمي معـا. فهو مرتبط بالعلوم الإنسانية، وعلى رأسها الفلسفة، بل لقد تطور حتى صار فرعا من فروعها. وفي غياب الفلسفة يغيب النقد. وفي ذلك يقول:" فعلى ما يوجد من فارق هام بين الفلسفة –التي أخص خصائصها التجريد- وبين الأدب الذي جوهره التصوير الجمالي في المعنى الأشمل الأعم له، ثم النقد الذي موضوعه الأدب فيما له من خصائص، تظل الصلة مع ذلك وثيقة بين الأدب ونقده وبين الفلسفة".(41)
فرغم ما يمكن أن نلاحظه من اختلاف بينهما، فهو اختلاف ظاهري، أما في العمق فهما مترابطان. فالفلسفة هي الأساس النظري الذي يجب أن يقوم عليه كل نقد. بل لا يستقيم عود هذا الأخير إلا إذا استقر على نظرية فلسفية معينة، ويمثل د.محمد غنيمي هلال لذلك بالنقد الحديث، إذ كان من نتيجة الفلسفة المثالية أن يوجد في النقد " المذهب التأثري "، ونزعة الأسلوبين " العامة التي تمثلها مدرسة النقد الحديث الأمريكية، إذن، فهذا الثالوث: فلسفة، نقد أدب، يرتبط بعضه بالبعض في حقل العلوم الإنسانية.
واستنادا على هذا فلا نقد بدون فلسفة. وغياب الفلسفة ينجم عنه حتما غياب النقد. يقول د. محمد غنيمي هلال: " ومما يؤسف له أن هذه الحقيقة – على وضوحها – لا زالت مثار جدال لدى بعض الأدعياء في هذا المجال، ممن يريدون أن يرجعوا بالنقد الأدبي إلى الوراء قرونا ضاربة في القدم، سابقة على عهد أفلاطون وأرسطو، حين لم يكن للنقد المنهجي وجود".(42) وما دام د. محمد غنيمي هلال يحدد نشأة النقد على هذا المنوال، فبديهي أن يعارض وجود نقد في العصر الجاهلي والإسلامي، وحتى في العصر الأموي نظرا لغياب فلسفة تؤطر هذا النقد وتمنهجه.
أما ما كان في العصر الجاهلي والإسلامي من أحكام نقدية لبعض الشعراء، وشعرهم فهي لا تسمو إلى مرتبة النقد لأنها غير معللة، وغير معتمدة على أساس نظري أو فلسفي سابق.
وهنا نقف قليلا لنقول إن لم نستطع أن نحدد على وجه الدقة الصورة التي ظهر عليها النقد الجاهلي، فذلك راجع إلى ما قيل من شعر ومن نقد في العهد الجاهلي الأول لم يصل إلينا منه إلا القليل النادر، خاصة إذا علمنا أن عمر بن الخطاب قال: " كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه...فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس و الروم، ولهت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح واطمأنت العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يؤولوا إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب، وألفوا في ذلك، وقد هلك من العرب من هلك بالموت و القتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عليهم منه كثير".(43) وقال أبو عمرو بن العلاء:" ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير "(44) قال ابن سلام:" ومما يدل على ذهاب الشعر وسقوطه، قلة ما بقي بأيدي الرواة المصححين لطرفة وعبيد اللذين صح لهما قصائد بقدر عشر، وإن لم يكن لهما غيرهن، فليس موضعهما حيث وضعا من الشهرة والتقدمة، وإن كان يروى من الغثاء لهما، فليس يستحقان مكانهما على أفواه الرواة... فلما قل كلامهما حمل عليهما حمل كثير."(45)
لا يفوتنا بهذا الصدد أن نشير إلى أن د.محمد غنيمي هلال يؤكد على ضرورة الاستفادة من آداب الأمم وتجاربها. وفي هذا يقف مع د.محمد مندور، بل يتجاوزه حين يجعل من الثقافة الغربية المركز و القلب النابض لكل تقدم.
وتحت سقف هذه القاعة الاستشراقية الهدامة ينص د. محمد غنيمي هلال أن التفتح على الآداب العالمية يعدل من نظرتنا إلى الأدب القومي، ويدفع به إلى الأمام، ويعدل من نظرتنا إلى القديم، وبذلك يبقى للتيارات العالمية المختلفة فضل في تطور أدب ونقد الأمم، وشاهده في ذلك الأدب الأوربي. فقد تقدم برجوعه إلى الأدب اليوناني القديم والروماني، وإلى مبادئ النقد التي كانت سائدة فيهما. وكذلك الأمر بالنسبة للنقد على العهد العباسي. لقد تطور نتيجة اتصاله بالأدب الفارسي والفلسفة اليونانية، بل د. محمد غنيمي هلال لا يقف عند هذا الحد، وإنما ينص على أن شرط النهضة الحديثة الأساس هو الاحتذاء بالغرب وبالرجوع على تراثه المتمثل في التراث اليوناني، والذي سيقدمه الغرب للعرب في إناء ذهبي، وهذا ما عبر عنه النص الذي جاء به د.محمد غنيمي هلال حين قال بلهجة حادة:" إن نهضتنا الأدبية الحديثة ترجع في أصولها إلى الأدب الغربي بحيث لا يستطيع الناقد أن يخطو فيه خطوة ذات قيمة ما لم يكن على صلة وثيقة بالآداب الغربية، وتيارات النقد فيها، وتاريخ الآداب العالمية يثبت أن عصور الانحطاط فيها، هي العصور التي انطوت فيها الآداب القومية على نفسها"(46).
ومما يؤكد به د. محمد غنيمي هلال طرحه أن النهضة القديمة جاءت نتيجة على الثقافات العالمية. فنهضة الفرس جاءت على إثر التفتح على الثقافات الأخرى وأهمها الإرث اليوناني، ونهضة أوربا خضعت لنفس الشيء، وبذلك فنهضة العرب حاليا لن تتم إلا بانفتاحها على الثقافة اليونانية التي سيقدمها الغرب. وبذلك تكون العودة إلى الثقافة اليونانية ضرورية وحتمية نظرا لاعتبارها المرجع لكل النهضات التي سبقت: الفارسية و الأوربية.
هكذا لا يمكننا أن نتحدث عن نقد أدبي دون أن يكون مرتبطا بفلسفة ما، استنادا على هذا الحديث لا يمكن الحديث عن نقد في المرحلة الممتدة من العصر الجاهلي إلى القرن الثالث الهجري، إذ أنها لم تكن تعرف فلسفة. وبذلك فالعرب لم يعرفوا النقد إلا في القرن الرابع الهجري بعد أن تمت ترجمة الفلسفة اليونانية: فلسفة أفلاطون وأرسطو بالذات. وبالتالي لا يمكن أن نتحدث عن نقد أدبي إلا مع قدامة والأمدي وعبد العزيز الجرجاني الذين يظهر معهم مدى تأثير العرب بالنقد اليوناني لكنهم مع ذلك لم يرقوا إلى مستوى إنتاج نظريات نقدية على غرار ماكان في النقد الأوربي، كنظرية المحاكاة ونظرية الانعكاس.
إلى أي حد، يكون طرح د. محمد غنيمي هلال صائبا؟ ماهو الهاجس الذي حكم د.محمد غنيمي هلال وهو بصدد تحديد زمن ولادة النقد العربي القديم؟ لماذا ربط د.محمد غنيمي هلال نشأة النقد بنشأة الفلسفة؟ ماهي الخلفية التي ينطوي عليها طرح د.محمد غنيمي هلال ؟ ...نكتفي بالقول في هذا الصدد: إن د. محمد غنيمي هلال يبقى علما بارزا زخرت به الثقافة العربية في النصف الثاني من هذا القرن، يضم إلى مجموعة من الأعلام الذين تثقفوا ثقافة أجنبية استطاعت أن تؤثر فيهم وتوجههم وتمنهج علمهم، وتسيطر بأفكارها على فكرهم، حتى أصبحوا لا يفكرون إلا بعقلها ولا ينتجون إلا في ضوء نتائجها.
رابعا: قضية نشأة النقد العربي القديم بين يدي د. إحسان عباس.
يعرف د.إحسان عباس النقد بقوله:" في حقيقته تعبير عن موقف كلي متكامل في النظرة إلى الفن عامة أو إلى الشعر خاصة يبدأ بالتذوق، أي القدرة على التمييز، ويعبر منها إلى التفسير والتعليل والتقييم".(47)
من هذا التحديد للنقد يقرأ الدكتور إحسان عباس نشأة النقد، فينتهي إلى أن المراحل الأولى لم تعرف النقد الصحيح لأنها اعتمدت النظرة التركيبية والتعميمية، والتعبير عن الانطباع الكلي دون اللجوء إلى التعليل والتصوير لما يجول في النفس. فالنقد الصحيح لن يظهر إلا بظهور التفسير و التعليل و التنقيح، وهي خطوات لا بد منها، فلا تغني إحداهما عن الأخرى ولا تقوم إحداهما مقام غيرها. فهي متدرجة متسلسلة تتخذ موقفا ونهجا واضحا.وفي هذا يقول إحسان عباس: إن هذه " خطوات لا تغني إحداهما عن الأخرى، وهي متدرجة على هذا النسق، كي يتخذ الموقف نهجا واضحا مؤصلا على قواعد جزئية أو عامة. مؤيدا بقوة الملكة بعد قوة التمييز، ومثل هذا المنهج لا يمكن أن يتحقق حين يكون أكثر تراث الأمة شفويا، إذ الاتجاه الشفوي لا يمكن من الفحص والتأمل، وإن سمح بقسط من التذوق والتأثر، ولهذا تأخر النقد المنظم حتى تأثلت قواعد التأليف الذي يهيئ المجال للفحص والتقليب و النظر."(48)
وبناء على ما تقدم يخرج د. إحسان عباس بغياب النقد فيما قبل القرن الثاني الهجري لأسباب منها:
1- غياب التأليف: إذ أن معظم تراث الأمة كان يتناول شفهيا:"ومثل هذا المنهج لا يمكن أن يتحقق حين يكون أكثر تراث الأمة شفويا، إذ الاتجاه الشفوي لا يمكن من الفحص و التأمل، وإن سمح بقسط من التذوق و التأثر،ولهذا تأخر النقد المنظم حتى تأثلت قواعد التأليف"(49)
2- غياب الإحساس بالتغيير والتطور: إذ في نظره أن هذا العنصر هو الذي يسترعي انتباه ملكة النقد، وتجر الذهن إلى حدوث مفارقة ما وإدراكها، وفي غيابه تهيمن سلطة النموذج على الثقافة. وهذا بالفعل ما حدث على العهد الجاهلي والأموي، إذ كان النموذج القديم مهيمنا، وبقيت الثقافة العربية رهينة له. فهو قبلة لكل جميل ورائع من الشعر مما أدى إلى حجب حقيقة التطور و التغير عن العيون، ولن يبدأ الإحساس بهذا العنصر إلا مع تغير الأذواق وتحول النماذج إلى نماذج جديدة وذلك مع تعدد ينابيع الثقافة، وتباين مستوياتها، والاصطدام بتيارات جديدة، وفي ذلك يقول:" والتأليف يخلق مجالا للنقد صالحا، ولكنه لا يستطيع أن يخلق وحده نقدا منظما، بل لابد هنالك من عوامل أخرى، وأهم هذه العوامل جميعا الإحساس بالتغير و التطور: في الذوق العام، أو طبيعة الفن الشعري أو في المقاييس الأخلاقية التي يستند إليها الشعر".(50)
وبذلك يبقى "الإحساس بالتطور والتغيير هو العامل الخفي في شحذ هممهم للنقد يستوي في ذلك ابن قتيبة وابن طباطبا و قدامة والأمدي والقاضي الجرجاني وابن رشيق وعبد القاهر وابن شهيد وحازم القرطاجني وابن الأثير، فإنك لا تجد واحدا من هؤلاء يحس أن الشعر في أزمة، وأنه يتقدم بآرائه لحلها".(51) والأمثلة على ذلك كثيرة يمكن استخراجها من محتويات مؤلفاتهم.
وبذلك فالنقط المذكورة أساس في بلورة البداية الصحيحة للنقد، لكن النقد العلمي الدقيق في نظر د.إحسان عباس لن يتولد إلا بظهور حركة فكرية أو فلسفية وفي ذلك يقول:" وحين كان الإحساس بالتطور يتصل بأثر فكري – كلامي أو فلسفي- كان النقد ينال حظا غير قليل من العمق، لأن ذلك الأثر الفكري كان كفيلا بتنظيم الإحساس وتوجيهه في منهج متميز المعالم، فأما مجرد الإحساس وحده فإنه كان يجعل النقد عند أذكى النقاد التماعات ذهنية أو لمحات سريعة".(52) والنتيجة الحتمية التي يصل إليها إحسان عباس بعد هذا العرض تتمثل في أن توفر التأليف إلى جانب الإحساس بالتطور والتغير يؤدي إلى إعطاء ممارسة نقدية فعلية على يد الأصمعي (212 هـ) وفي ذلك يقول: "كان الأصمعي – فيما أعتقد – بداية النقد المنظم، لأنه أحس ببعض المفارقة التي أخذت تبدو في أفق الحياة الشعرية (53)و السبب في ذلك يرجع إلى تميزه عمن سبقه بالعديد من المميزات " فهو وإن شاركهم (العلماء) في كثير من النظرات الساذجة من مثل الالتفات نحو أغزل بيت وأهجى بيت وما أشبه ذلك من أحكام، قد هداه بصره النافذ إلى مواقف نقدية واضحة، ونكتفي هنا بثلاثة مواقف منها:
أ- الفصل بين الشعر و الأخلاق...
ب- الفحولة...
ج- العناية بالتشبيه.."(54)
هكذا نصل إلى أن ما قبل الأصمعي يشكل مرحلة نقدية غير منظمة، ولا يجب أن نعتد بها، ولا نقف عند حدودها، وأن النقد الحقيقي لن يظهر إلا في أواخر القرن الأول الهجري مع الأصمعي، فهو في نظر د. إحسان عباس النواة الأولى لظهور النقد المنظم في تاريخ الأدب العربي.
فمع الأصمعي توفرت الشروط التي يعتبرها د.إحسان عباس أساسا لوجود النقد وهي : "التأليف و الإحساس بالتغير والتطور ، وفي غيابها لا يمكن بأي حال من الأحوال البحث عن نقد منظم.إنما نتحدث عن لوحات نقدية طابعها شفهي وميزتها الذوق الفطري الفج، وليس ذلك الذوق الناضج المجرب للعملية الإبداعية والقادر على تحليل ظواهرها وتفسيرها و الوقوف عند جزئياتها.
ما الذي حمل د.إحسان على هذا الموقف ؟ لماذا اعتبر الأصمعي بداية فعلية للنقد؟ ما الهاجس الذي أرق د. إحسان عباس وهو يعالج قضية نشأة النقد؟.
تقويم للطروحات السابقة:
بعد هذا العرض لقضية نشأة النقد العربي القديم انطلاقا من طروحات متعددة، تتفق أحيانا وتتباين أخرى، استطعنا أن نكون صورة مجملة عن موقف الباحثين المحدثين من البداية الأولى المفترضة للنقد العربي القديم.
فإذا كان طه أحمد إبراهيم يؤكد أن النقد العربي القديم نشأ نشأة عربية صرفة، متعايشا مع الشعر، فهو ابن الجزيرة العربية الممتدة في التاريخ إلى العهد الجاهلي، انطلاقا من مجموعة من الأقوال المأثورة ذات الطابع النقدي الساذج الفطري الأولي التي ورثت عن العهد الجاهلي، فإن د. محمد مندور يؤكد على هذه العروبة للنقد أيضا، ويؤكد كذلك على التعايش المتواجد و المفترض بينهما، ولكن يختلف عن طه أحمد إبراهيم في كونه يتناول المسألة في بعدها الموضوعي البعيد عن التعصب، والنظرة الإقليمية الضيقة، بل يعبر عن قومية معقلنة عكس ذ. طه أحمد إبراهيم الذي عبر عن نزعة قومية حامية هدفها إثبات التميز للذات العربية في مواجهتها للغرب.
هكذا، نجد د. محمد مندور قد غض الطرف عن المرحلة الممتدة من العهد الجاهلي إلى أواخر القرن الثالث باحثا عن النقد المنهجي، متجاوزا لتلك الأفكار النقدية الشفهية، علما بأن معظم تراث الأمة العربية كان ينقل شفهيا، وقد يصاب بطريقة أو بأخرى بنوع من التحريف والزيادة و النقصان. ولن يجد د. محمد مندور ضالته إلا في القرن الرابع الهجري.فكانت بذلك الطريقة التي سلكها لدراسة تراث النقد العربي، قد رسخت قيما قديمة " مقدسة" في مجال الأدب العربي أكثر مما سلطت أضواء على الاتجاهات والتيارات الكفيلة بإغناء محاولات التجديد الراهنة.(55)
شيء تجاوزه د. محمد غنيمي هلال حين نص أن النقد لن يظهر إلا بظهور التفكير الفلسفي. وما دام التفكير الفلسفي قد تأخر عند العرب حتى ظهور المباحث الكلامية مع المعتزلة، فكان طبيعيا أن يتأخر النقد في التراث الأدبي العربي. وقد قاس ذلك بالتراث اليوناني، وعليه يكون نصيب المرحلة الممتدة من العصر الجاهلي إلى القرن الرابع الهجري التهميش. وهو يتفق إلى حد ما مع د. محمد مندور في كونه ينص أن النقد الممنهج لن يظهر إلا في القرن الرابع الهجري. وذلك لاتصاله بالفلسفة وعلم الكلام.
ومع د. إحسان عباس نصادف بداية للنقد العربي القديم. تمثلت في أن النقد الفعلي سيظهر في القرن الثاني مع الأصمعي، وبذلك تكون مرحلة ما قبل الأصمعي لم تعرف نقدا منظما وإنما عرفت لوحات نقدية، يطغى عليها التذوق والانطباع المباشر، وهو الآخر يتفق د. ومحمد مندور و د.محمد غنيمي هلال في أن النقد الحقيقي لن يظهر إلا في القرن الثالث الهجري.
اتفق ذ. طه أحمد إبراهيم و د.محمد مندور على التلازم المفترض فيما بين الشعر والنقد فكأني بهما يقولان لنا مادام لدينا شعر فطبيعي أن يكون لدينا نقد أي أن النقد القديم نشأ منذ أن بدأ الإنسان يعقل ويدرك، ويلاحظ ويميز ويستحسن ويستقبح. وهنا أشير إلى أن الاستقراء التاريخي لحركة النقد الأدبي يؤكد تبعية النقد للشعر في مراحله الأولى، خاصة حين كان النقاد شعراء، ومثالنا في ذلك النابغة، والفرزدق وجرير وغيهم كثير... لكن في مرحلة لاحقة، مع نضج الشروط الموضوعية التي تفترض وجود نقد أدبي يهدف إلى توجيه العمل الشعري وجهة معينة، انطلاقا من طبيعة الثقافة السائدة. سيقع الانفصال بين الشعر و النقد، وسيأتي الناقد اللغوي الشهير ابن سلام الجمحي ليؤكد على ضرورة وجود الناقد المتخصص..
فالدعوة إلى الناقد المتخصص هي الدليل القاطع على الانفصال الذي وقع بين الشعر و النقد. إذ لم يعد الناقد هو ذاك الشاعر، بل هو رجل عالم ملم بثقافة عصره قادر على تقويم العمل الأدبي، وفوق هذا وذاك يمتلك حسا نقديا يؤهله أن يجري نوعا من الحوار مع النصوص، ثم يعرف جيدها من رديئها نتيجة الدربة والمراس.
إن الأحكام التي يصدر عنها الناقد غير المتخصص، هي أحكام ذوقية محضة، يشترك فيها الناقد و غير الناقد.من ثم فهي أحكام يقتسمها جميع قراء الأدب، وليست هي وقفا على فئة دون أخرى، فلا يمكن أن نعدها بحال من الأحوال معلما من معالم تواجد النقد على العهد الجاهلي.
ومن المعالم التي يؤكد عليها الأستاذ طه أحمد إبراهيم وجود النقد في العصر الجاهلي، ويعتذر عن عدم إيرادها د. محمد مندور بحجة أن طه أحمد إبراهيم قد سبقه إلى ذلك، قضية تثقيف الشعراء لشعرهم، تلك العملية التي يقوم بها الشعراء لكي يخرجوا شعرهم في صورة أكثر تأثيرا في الملتقى، هي ممارسة نقدية كما ينص ذ. طه أحمد إبراهيم وفي هذا الصدد نقول:إنه قد خلط بين النقد الأدبي الذي هو عملية قراءة الإنتاج الأدبي قصد تمييز الجيد منه من الرديء، وإزالة الغبار عن غوامضه، وهي عملية يقوم بها ناقد يكتسب حسا نقديا مرهفا وملكة لغوية قوية...وإنتاج الشعر الذي هو عملية تعتمد في الغالب على الشعور والإحساس والتعبير عن المكنونات في غياب الرقابة العقلية الصارمة في غالب الأحيان. فعملية إنتاج الشعر أو ما يسمى في النقد العربي القديم " الصنعة الشعرية "تأتي دوما في البداية ليأتي النقد الأدبي من بعدها قصد تقويمها وإضاءة جوانبها، هكذا فالنقد عملية متأخرة عن إنتاج الشعر وصناعته، فهو لا يكون إلا بعد إنتاج الشعر وعرضه للمستهلك. فلو سألتني متى يبدأ النقد؟ سأقول:بعدما ينتهي الإبداع، أي أنه عملية تأتي بعد عملية إبداعية جاهزة منقحة مزيلة للشوائب، وهذا طبيعي إذ النقد لا يمكن أن يكون قد عرف قبل الإنتاج الأدبي، لأن الناقد لن ينقد في الهواء بل لابد من أثر أدبي يرتكز عليه. ولا نستطيع أن نتصور أن الناقد بدأ عمله في الخيال، كأن نزعم أنهم تصوروا وجود قطع أدبية ثم حاولوا نقدها، إذ أن مجرد تصور أثر أدبي دليل على أن الإنتاج قد سبق هذا التصور ولا يمكن للخيال مهما سما أن يصل إلى مالم يختبره الإنسان أو يسمع به. فالنقد عرف بعد الإنتاج. من تم فالعنصر الذي يركز عليه ذ.طه أحمد إبراهيم ليبين به تواجد النقد في العصر الجاهلي هو عنصر يمس العملية الإبداعية أكثر مما يمس العملية النقدية، إذ لا معنى للنقد إلا بعد تحديد مجاله وموضوعه الذي هو الأدب.
إذا كانت عودة ذ. طه أحمد إبراهيم إلى التراث النقدي بهدف تثبيت عراقة وأصالة النقد العربي لتزكية موقف قومي معين، فإن د. محمد مندور ينغمس في التراث بهدف معالجة النقد المنهجي وفي ذلك يقول:"لكي نظل في حدود الفكرة الأساسية التي يقوم عليها الكتاب، وهي معالجة النقد المنهجي عند العرب".(56)
والأمر لا يختلف كثيرا عن ما دفع د. محمد غنيمي هلال إلى إعادة قراءة التراث، حيث أنه استهدف من وراء هذه العملية البحث عن ما يدعم به المقدمة التي انطلق منها، وهي أن النقد لن يوجد إلا بوجود الفلسفة.
هكذا نلاحظ أن كل واحد منهما قد فسر ظاهرة أدبية بظاهرة أدبية أخرى، دون أن يرجع إلى المعطيات الاجتماعية والسياسية و الاقتصادية التي أفرزتها.
أما د. إحسان عباس فقد كانت عودته إلى التراث لا تخرج في قالبها العام عن ما أرق السابقين له. إذ كان هو الآخر يهدف إلى تأكيد مقدمته التي تنص على أن الشروط الموضوعية لنشأة النقد والمتمثلة في التأليف – أي ظهور التدوين- والإحساس بالتغيير والتطور لن يظهر إلا مع القرن الثاني الهجري، وبذلك يسقط هو الآخر في تفسير ظاهرة أدبية بظاهرة أدبية أخرى.
أما على مستوى المنهج فقد كان منهج النقاد الأربعة هو المنهج التاريخي.فالأستاذ طه أحمد إبراهيم اعتمد المنهج التاريخي الذي يراعي التسلسل الزمني للأحداث من العهد الجاهلي إلى القرن الرابع الهجري، كما ظهر لنا ذلك في محاضراته.
في حين أن محمد مندور اعتمد أساسا على " تفسير النصوص" يقول: "منذ عودتي من أوربا أخذت أفكر في الطريقة التي نستطيع بها أن ندخل الأدب العربي المعاصر في تيار الآداب العالمية، وذلك من حيث موضوعاته ووسائله ومناهج دراسته على السواء. ولقد كنت أومن بأن المنهج الفرنسي في معالجة الأدب هو أدق المناهج، وأساس ذلك المنهج هو ما يسمونه "بتفسير النصوص"، فالتعليم في فرنسا يقوم في جميع درجاته على قراءة النصوص المختارة من كبار الكتاب وتفسيرها والتعليق عليها...هذا المنهج التطبيقي هو الذي استقر عليه رأيي وإن كنت قد نظرت إلى ظروفنا الخاصة وحاجتنا إلى التوجيهات العامة.."(57)
و الطريقة التي سلكها د. محمد مندور تعتمد في قراءته للتراث والتأريخ له عن مدى الانطباع الذي يخلقه هذا المقروء في نفسه، وفي ذلك يرد على سؤال طرحه عليه فاروق شوشة في حوار أجراه معه نشرته مجلة الآداب: " عند أول عودتي من الخارج كنت غارقا في الدراسات الأكاديمية... ومنهج تدريس الأدب في الجامعات الفرنسية يقوم على ما يسمونه " بشرح النصوص"، فكنا خلال السنوات التي قضيناها بالسور بون نستمع إلى أساتذتنا الكبار وهم يضعون أصابعهم على مواضع الجمال في كل تعبير...فغرسوا بذلك في أنفسنا البحث عن الجمال في تفاصيل العمل الأدبي حتى رسخ في نفوسنا أن الأدب فن جميل قبل كل شيء وأن القيم الجمالية هي التي تضمن للعمل الأدبي الخلود.
وعلى أساس هذا التكوين النفسي الخاص صدرت عن المذهب التأثري في كتبي الأولى مثل:" النقد المنهجي عند العرب" الذي فضلت فيه بين نقاد العرب القدماء التأثريين من أمثال: الأمدي والقاضي الجرجاني...بينما أنكرت جدوى أصحاب القواعد والمبادئ البلاغية والبديعية، كقدامة وأبي هلال العسكري وغيرهما." (58)
في حين أن د. محمد غنيمي هلال و د.إحسان عباس قد تعاملا بالمقص الزمني مع الأحداث النقدية الموروثة فقد أخذا من تاريخ النقد ما يتوافق وطبيعة المقدمة التي انطلقا منها.فإذا وقف الأول عند حدود القرن الرابع الهجري، فإن الثاني مدد خطاه إلى حدود القرن الثاني الهجري. وكل واحد منهما قص المرحلة الممتدة من العصر الجاهلي إلى المرحلة التي صب عليها اهتمامه.
هكذا نخلص إلى أن قراءة كل واحد منهم تنطلق من مفهوم معين للتراث، وإن كان هدفهم واحد، وهو البحث عن بداية النقد، فإن النتائج التي توصلوا إليها اختلفت إذ كل واحد منهم قد توصل إلى نتيجة تتعارض ونتيجة الآخر.فأصبحت بذلك تتراءى أمامنا بدايات للنقد العربي القديم متعددة، وليست بداية واحدة. بدايات تختلف عن بعضها باختلاف العصور الثقافية العربية من جهة، و بغياب التزامن الفكري من جهة ثانية، وبتباين المؤثرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في كل شخصية من الشخصيات النقدية المختارة.
إن هذه الكتابات تنطلق من هاجس واحد هو:"التأريخ للنقد الأدبي" إلا أن كل واحدة قد تناولت التأريخ من الوجهة النظرية التي تتفق والطرح الأيديولوجي الذي تتبناه...فلأستاذ طه أحمد إبراهيم لم يصدر في تصوره عن تاريخ النقد العربي القديم من فراغ، بل كان هاجس القومية العربية يحكمه، تمثل حين أكد على عروبة النقد في قوله:"والنقد الأدبي عربي محض، أو هو كذلك حتى تمكن ورسخت روحه ومناحيه"(59) إن طرح طه أحمد إبراهيم يكشف عن الظروف التي تحكمت في المثقفين العرب في الأوائل هذا القرن-علما أن الكتاب صدر في 1937-و هي مرحلة حاسمة في تاريخ الأمة العربية، عرفت الزحف الأوربي إلى الشرق العربي سواء عن طريق الاستعمار المباشر المتمثل في احتلال الأرض، أو غير المباشر المتمثل في التدخل في المنشآت الاقتصادية. و لا يخفى على أحد ما يهدف إليه التدخل الاستعماري من ضرب للذات العربية و تبيان انحطاطها و تخلفها و طرح محلها الفكر الإستشراقي عن طريق طمس الهوية العربية و إشعار الأمة العربية بتبعيتها للغرب في جميع المستويات، إضافة إلى ما عرفه التراث النقدي من تشويه و تزوير للحقائق من طرف هؤلاء المستشرقين أيضا.
في هذه الفترة كذلك ظهر الاتجاه العلماني الداعي إلى السير على خطى الغير والتفكير بعقلية الغرب، متناسيا أن للعرب خصوصيات، واختلاف الخصوصيات يجعل من المتعذر الحديث عن نقط الالتقاء والتشابه بين الغرب والعرب وقد حمل لواء هذا الاتجاه العلماني من الأقلام العربية الدكتور"محمد حسين هيكل" الذي دعا إلى العلم الخالص، وترجم العديد من النظريات والأبحاث الغربية كنظرية "كانت" القائلة بانتصار العقل، وإلى جانبه "الدكتور طه حسين" في مؤلفه في الشعر الجاهلي الصادر عام 1926 حيث استخدم منهج الشك الديكارتي في قراءة التراث العربي...
إذن في هذا الجو المفعم بالاضطرابات السياسية و الاجتماعية و الفكرية كان لابد أن تظهر حركة قومية ترد الاعتبار للإنسان العربي وللذات العربية، ومن العوامل التي أفضت إلى قيام هذه الحركة في مطلع القرن العشرين:
*عوامل تاريخية: تتصل بطبيعة الحس الزمني و الحرص على وصل الحاضر بالماضي و المفاخرة بمآثر الأجداد واعتبارها جزءا من الذخيرة الروحية الواحدة، إذ كان السؤال المطروح: كيف نحيي التراث ؟ وكان الحوار في هذا الصدد هو حوار بين "الماضي" و"المستقبل" أما الحاضر فغير "حاضر" ليس فقط لأنه "مرفوض" بل أيضا لأن الماضي قوي في هذا المحور إلى الدرجة التي جعلته يمتد إلى المستقبل ويحتويه، تعويضا عن الحاضر وتأكيدا للذات وردا للاعتبار إليها.
*عوامل قومية وسياسية: تتصل باستيقاظ الوعي القومي والشعور العارم بهوية قومية واحدة ذات جوانب عرقية ولغوية وثقافية معينة.في هذه الحقبة ركن الكتاب والنقاد وغيرهم إلى الدفاع عن الهوية العربية في مرحلة هجوم أوربا المباشر (الاستعمار ) وغير المباشر (الاستشراق) وهذا الدفاع تمثل في الرد على التحديات الغربية ذات النظرية العنصرية الشوفينية التي تنطلق من أن كل ما أنتج خارج أوربا لا يمكن أن يضاهي ما أنتج بداخلها على اعتبار أنها مركز الثقافة و المعرفة، ومركز الحضارة، والاستشراق نفسه سيعبر من قنطرة سياسية خصوصا وأن تطور الاستشراق كان مرتبطا بتطور الاستعمار. ومن جملة ما يهدف إليه: التحكم في الإنسان حاضرا، ولن يتم له ذلك إلا بالتحكم فيه ماضيا وذلك عن طريق تشكيكه في تاريخه وتراثه وربطه بالثقافة الحالية.فالاستشراق هو الذي يتوجه إلى اجتثات تاريخ الشعوب ويفسده ويشكك الشعوب في ذواتها، ثم يربطها بتاريخ جديد يمجده لها، وبذلك يكتسبها.
أمام هذا الصراع المرحلي بين الشرق والغرب، ظهرت كتابات متعددة تعكس هذا الصراع، وتهدف كلها إلى إثبات الهوية العربية-وهذا ما عبر عنه التيار السلفي- وبذلك يكون الاهتمام بالنقد في هذه المرحلة لم يكن غاية في حد ذاته وإنما كان في إطار الصراع مع النظرية الاستشراقية وإثبات الهوية العربية...كل هذا شكل الهاجس الذي شغل تفكير طه أحمد إبراهيم وحكم طرحه.فهو هاجس قومي سياسي يرد فيه على التحديات الغربية التي تنص على أن كل شيء خلق في حجر أوربا يعتد به وأن ما خلق خارجها فهو دوني يستحق النبذ والاحتقار والتهميش.
أما عن قراءة د. محمد مندور للتراث فهي لم تكن من قبيل المصادفة في حياته وإنما تداخلت في توليدها وتشكيلها مجموعة من العوامل التي شكلت في النهاية نسقه المعرفي وحددت طبيعة المعالجة الفكرية عنده ومنها:
أ- تكوينه الثقافي:إذ أتاحت له فرصة السفر إلى فرنسا من أجل تحضير دكتوراه في الأدب العربي أن يغرف من منهل الثقافة الفرنسية على أيدي كبار نقادها في تلك الحقبة وعلى رأسهم "كوستا ف لانسونLançon Gustaph الذي أخذته مفاهيمه وآراؤه، وحاول تطبيقها على النقد العربي القديم.
إن محمد مندور قد أعاد قراءة النقد العربي القديم من خلال مفاهيم مسبقة جاهزة مستمدة من(Gustaph Lançon)، وهي مفاهيم يعتد بها النقد الغربي وتعتبر أساس تقويمه، فحاول ناقدنا العربي أن يبحث عن أصول لها في النقد العربي القديم، فلم يجدها في نقد الجاهلية ولا في نقد القرون الثلاثة الأولى، بل لم تتوفر له هذه المفاهيم النقدية الغربية إلا في نقد القرن الرابع الهجري مع كل من الأمدي والجرجاني، وكذلك اعتبر المرحلة السابقة للقرن الرابع الهجري لا تعدو المادة النقدية فيها لمحات أو إرهاصات نقدية غير ممنهجة.
وكان المنهج السائد في فرنسا في ذلك الحين هو منهج " تفسير النصوص" ويسمى كذلك "بالمنهج "الاديلوجي" وقوام هذا المنهج:
أ-الذوق: ويعتبره د.محمد مندور أساس العملية النقدية وفيه يقول:" إذا كانت أولى قواعد المنهج العلمي هي إخضاع نفوسنا لموضوع دراستنا، لكي ننظم رسائل المعرفة وفقا لطبيعة الشيء الذي نريد معرفته فإننا نكون أكثر تمشيا مع الروح بإقرارنا بوجود التأثرية في دراستنا وتنظيم الدور الذي تلعبه فيها... وما دامت التأثرية هي المنهج الوحيد الذي يمكننا من الإحساس بقوة المؤلفات وجمالها، فلنستخدمه في ذلك صراحة ولكن لنقصره على ذلك في عزم، ولنعرف كيف نميزه ونقدره ونراجعه ونحده، وهذه هي الشروط الأربعة لاستخدامه".(60)
ب- المنهج: وقد كان منهج د.محمد مندور في هذه الدراسة يعتمد على الاستقراء التاريخي لتطور الأحداث وتعاقبها.
ج- التعليل والتفسير: وهما أساس لوجود نقد موضوعي.
د- الفلسفة: يجب أن يعتمد النقد على فلسفة، لأن الفلسفة تصعد النقد من إعطاء آراء بسيطة في الموضوع إلى تأسيس نظرية، وهذه الأخيرة لن تتوفر إلا بتوفر الكم لمعلوماتي و المنهج المنظم، إذ لا يمكن الحديث عن نظرية في غياب المنهج المنظم لها." والنقد المنهجي لا يكون إلا لرجل نما تفكيره واستطاع أن يخضع ذوقه لنظر العقل. وهذا ما لم يكن عند قدماء العرب وما لا يمكن أن يكون".(61)
هذه هي الأدوات التي دخل بها د.محمد مندور للتأريخ للتراث العربي القديم وإعادة كتابته...
ب-طبيعة الجو الاجتماعي: ينتمي د.محمد مندور إلى الطبقة المتوسطة المتشبتة بالتقاليد وبتعاليم الدين الإسلامي، وهذه الطبقة كثيرا ما تعرضت للظلم، أسهمت في الكفاح من أجل الاستقلال، وكان تعبيرها السياسي يلتقي مع تطلعات البرجوازية الصغيرة، ومع الطبقة المتوسطة في المدن ومع العمال و الفلاحين.
ينتمي د.محمد مندور زمنيا إلى الجيل الذي أعقب جيل 1919، وتبلورت مفاهيمه من خلال المناخ المحموم المضطرب لسنوات 1936- 1952 فالفترة التي بت فيها د.محمد مندور مقالاته النقدية أنجبت جيلا حافلا بالرواد منهم: العقاد والمازني ورفاعة الطهطاوي وغيرهم ممن اطلع على المناهج الغربية. وهذا لا ينفي أن حركة التجديد ظهرت قبل جيل 1919، بل هذه الحركة الأولى هي التي أثرت في الثانية وأصبحت متداخلة معها لكن هذا التداخل بين المرحلتين لا يعني ذوبان الأولى في الثانية أو انصهار الثانية في الأولى عن طريق تشابه المفاهيم و السلوكات بقدر ما يساعد على الوقوف على الامتداد بين المرحلتين.
ج- طبيعة الجو الثقافي العام: عاش د. محمد مندور في فترة المخاض الثقافي الأوربي بفرنسا. وهو مخاض انتهى بعد الحرب العالمية الثانية إلى آفاق متعارضة كليا مع الآفاق التي تنبأ بها مفكرو القرن التاسع عشر، فعلاوة على الأحداث التاريخية الكبرى: صعود النازية، حملة العصيان المدني بقيادة غاندي، الجبهة الشعبية في فرنسا وحرب إسبانيا، كانت هناك محاولات تجريبية في مجالات الأدب والبحث سواء في الرواية أو في النقد الذي ساعدت فيه نظريات "فرويد" على ازدهار محاولات نقدية معتمدة على علم النفس، ونخص بالذكر محاولة " كسطون باشلار" في مؤلفه"حدس اللحظة "(1932).
وقد ظل د. محمد مندور مشدودا إلى المدرسة الفرنسية بحذافيرها سواء في "السوربون" أو مع المفكرين الفرنسيين، وهو يعترف بذلك حين يقول:" إنني أعترف بأن تكويني الفكري النهائي لم يتم إلا في أوربا وبفضل الثقافة العالمية التي استطعت تحصيلها هناك، وبخاصة الثقافة اليونانية و الفرنسية، تم واصلت الإطلاع فيهما قدر ما تسمح ظروف حياتي العملية... بعد عودتي من الخارج لأستفيد من كل ذلك في دراساتي لأدبنا العربي وبخاصة أدبنا الحديث والمعاصر الذي يتأثر اليوم بكل جهد."(62)أما في المشرق العربي فقد تحدثنا عنه لما كنا بصدد الحديث عن طبيعة الجو الاجتماعي.
وحين يطرح على د. محمد مندور السؤال التالي: إلى أي حد كان تأثركم بالجيل السابق من أدبنا ونقادنا إلى جوار تأثركم بالمدارس الأدبية والنقدية في الخارج؟ يجيب على الفور بقوله:" تأثرت قبل سفري إلى الخارج بالدكتور طه حسين في الصبر على فهم النصوص العربية القديمة وتذوقها، فهو يحذف هذه الأمور ، وإن كنت أعتقد أن تأثيره الأكبر كان كموجه نحو الثقافة العالمية وبخاصة اليونانية القديمة والفرنسية التي كان ولا يزال يتحمس لها حماسة ظهر أثرها في كتابه اللاحق عن " مستقبل الثقافة في مصر".
وتأثرنا بالأستاذ عباس محمود العقاد... ولا زالت أذكر أنني أفدت كثيرا من كتابيه القيمين "الفصول " و"مطالعات في الكتب والحياة"...وأفدت من إبراهيم عبد القادر المازني وبخاصة كتابيه"حصاد الهشيم"وقبض الريح"، ومقالاته... وأفدت من الدكتور محمد حسين هيكل، ومن منهجه التاريخي العلمي في البحث فائدة كبرى وبخاصة من كتابه الأول " في أوقات الفراغ"، ثم تصادف أن وقعت على كتاب فريد لهيكل لا أدري كيف اختفى من تراثنا وهو كتابه عن "جان جاك روسو" حياته ومؤلفاته"(63) وكم كان لكل هذا من أثر في توجيه الكتابة النقدية عند د.محمد مندور،كذا تأسيس رؤية جديدة في تأريخ و قراءة وإعادة إنتاج النقد العربي القديم.
ونقلب الآن الصفحة، لنلتقي مع د. محمد غنيمي هلال وتأريخه للنقد العربي القديم فننص من البدء أنه قرأه انطلاقا من الزاد الأوربي وتوجه إليه بعقلية بعيدة عن العقلية التي أنتجته، وهي عقلية الإنسان الأوربي، التي تختلف عن عقلية الإنسان العربي، لأن الظروف و الملابسات التي أنتجت كل واحد منهما تختلف عن الأخرى اختلافا جوهريا.
وينتهي د. محمد غنيمي هلال بترصده لتاريخ النقد إلى أنه لا نشأة للنقد إلا مع نشوء الفلسفة وفي غياب الفلسفة يشهد تاريخ الثقافة غياب النقد، وكان دليله في ذلك هو استقراؤه للنظريات الأوربية القديمة التي وجدها مرتبطة بالنظريات الفلسفية، بل إن النقاد الأوربيين القدماء كانوا فلاسفة ومنهم أفلاطون وأرسطو، إذ كان لكل منهما نظرات في النقد وخوض في حقل الفلسفة، هذه النتيجة التي وصل إليها د. محمد غنيمي هلال جعلته ينص أن النقد الأدبي لن يتأسس إلا مع تأسيس الفكر الفلسفي، فما دامت الفلسفة غائبة في المرحلة الجاهلية وصدر الإسلام ومرحلة القرن الثاني، فإنه يترتب عن ذلك غياب النقد الأدبي، ولن نتحدث عن النقد الأدبي إلا مع القرن الرابع الهجري بعد ظهور علم الكلام والفلسفة الإسلامية.
لن يستطيع أن يكون هذا الطرح متماسكا إلا إذا استطاع الوقوف في وجه هذه الملاحظات الجزئية وهي:
أولا: إن د. محمد غنيمي هلال تناول النقد الأدبي كنظرية قائمة بذاتها وليس كممارسة تطبيقية، فهو بذلك يتناول نظرية النقد المرتبطة بالفلسفة في مرحلة من مراحل تطور النقد الأدبي، ولا يتحدث عن النقد في ذلك، و النتيجة أنه تغافل عن المراحل التي كان النقد فيها بسيطا جزئيا يرتكز على الأحكام الذوقية. يحكم للشاعر له أو عليه من خلال البيت الواحد بل الشطر الواحد في غالب الأحيان، وهذه المرحلة هي التي تبلور عنها النقد والتي شكلت لبنته الأولى، لذا يجب أن نأخذها بعين الاعتبار، إذ لولاها لما وجد لدينا نقد. ألا نعلم أن كل نظرية في العلوم الإنسانية لا يمكنها أن تنشأ من فراغ محض؟ أجل، فلا يمكن أن تظهر نظرية بين عشية وضحاها،وإنما النظرية كتصور عقلي متكامل يحوي بين طياته مجموعة من المفاهيم الجزئية التي تتدرج حتى تصل إلى نوع من التطور الذي يخول لها أن تشكل في نهاية التدرج والتطور "نظرية" أو هي في أدق تعاريفها:" جملة تصورات مؤلفة تأليفا عقليا تهدف إلى ربط النتائج بالمقدمات"(64) تحتاج إلى تدرج وتطور وتخمر،فكذا شأن النقد والفلسفة،فنحن لا نعرف أحدا نشأ فيلسوفا، ولم يثبت التاريخ الفكري نظرية فلسفية نشأت كاملة. بل لا بد هناك من مراحل يمر بها الإنسان والفكر معا، يبتدىء من الملاحظة المباشرة في علاقته بالكون ثم طرح التساؤلات التي تثير الدهشة والتي تستفز العقل، وبعد ذلك البحث لها عن أجوبة في الغالب ما ينبثق عنها الرأي الفلسفي وفي النهاية النظرية الفلسفية.إن هذا التسلسل، وهذا التدرج هو ما يسير عليه النقد في مسيرته التاريخية فقد ابتدأ من الرأي البسيط الساذج الفج غير المعلل وغير المفسر لينتقل إلى مرحلة تمتاز بالتعليل والتفسير ليصل إلى مرحلة مستوى النظرية ،دليلنا في ذلك التطور الذي خضعت له القصيدة العربية عبر مراحل تطورها ، إذ نعلم جميعا أن القصيدة قد اتخذت خطوات متتابعة في طريقة النضج حتى انتهت إلينا على سننها المعروفة. فقد بدأت من" الحذاء" و انتقلت إلى "السجع" ثم إلى "البيت" و إلى "الأبيات" حتى استوى هيكلها في نحو ما قاله المهلهل أو سواه، إن هذه الخطوات المتنقلة من منزلة إلى منزلة، لم تكن إلا وليدة مراجعة نقدية من الشاعر حينا ومن المتلقي حينا حتى وصلت بالقصيدة إلى وضعها المألوف وقد ضاعت الخطوات الأولى في طريق النقد كما ضاعت النماذج الأولية من الإنتاج الشعري فهو جذور تضرب في الأعماق وقد أينعت ثمارها بظهور القصيدة المكتملة في شبابها الزاهر الناطق عن طفولة مرت وصبا زال.
ثانيا:قارن د. محمد غنيمي هلال بين النقد العربي والنقد اليوناني في قضية النشأة الأولى.فذكر أن الأمة اليونانية كانت في بداوتها البعيدة تعتمد على دقة الحس وطلاقة اللسان فيما تصدر من الآراء.وكان لها رواة يتعصبون للشعراء ويذكرون أسباب المنافسة بين القائلين، ثم جاء عهد التدوين ليحفظ الإلياذة والأوديسة منقحين تنقيحا يعتمد على الذوق الفطري ويضع حدا لتصرف الرواة في المحو والإثبات،
و ظهر الشعر التمثيلي وظهر معه النقاد الذين يختارون للتمثيل ما يتميز بخصائص راقية تمتع الجمهور، فدفعوا بالشعراء إلى الإجادة والإتقان، ثم تقدمت الفلسفة شيئا فشيئا فاستطاعت أن توصل النقد الأدبي وأن تقيمه على دعائم قوية من المنطق، وبذلك تم لأرسطو أن يقعد القواعد النقدية وأن يصبح كلامه المرجع الأول للأساتذة في النقد وأصحاب الدراسات البلاغية المختلفة. هذا ما يقال عن النقد في اليونان ليلتصق بالنقد في أدب العرب نشأة وتطورا، وليفرض على النقد في العصر الجاهلي أن يكون جميعه ساذجا جزئيا يعتمد على الارتجال كما كان النقد اليوناني في منشئه سواء بسواء، وقد نسي هؤلاء أن ما لدينا في الأدب العربي من نقد الجاهلية لا يكاد يمتد إلى زمن سحيق أكثر من مائة عام قبل الإسلام على الأكثر، بمعنى أنه لا يمثل الطفولة الساذجة في هذا العصر، بل يمثل النضوج المكتمل بعد أن قامت القصيدة العربية على ساقها وتجاوزت دور الزحف والحبو، ووجد من الشعراء من كانوا يبطئون في النظم كل إبطاء حتى عرفوا "بالحوليات"...
ثم إن الإمعان في المقارنة الدولية بين أدب العرب وأدب اليونان من حيث النشأة يغفل مقررات علم الاجتماع وقواعده التي تدبر هذه المقارنة على طبيعة الإقليم وجنس الأمة وعقائدها الفطرية، ومسافة الزمن قصرا وطولا، وإذا كانت بلاد اليونان جبلية ذات بحر وبر وجزر وغابات وبراكين، وكان أهلها من ذوي الملاحة والزراعة، فكيف يقرنون بالعرب وهم مختلفون طبيعة ومناخا وجنسا وعقيدة، ليكون النقد في عصر الجاهلية مشابها للنقد في بداوة اليونان... إن من البراهين الواضحة على فساد هذا التطابق المزعوم أن الشعر الجاهلي كان غنائيا وأن شعر البداوة في اليونان كان تمثيليا، وكذلك اتجه النقد وجهة الإنتاج في كلتا الأمتين، فعلينا إذن أن نكف عن تحمل المقارنات البعيدة حين نتكلم عن طبيعة النقد الجاهلي لنأتي البيوت من أبوابها.
ثالثا: إذا سلمنا بأن النقد الأدبي ينشأ ويتأسس مع الفلسفة، نطرح السؤال التالي: متى تنشأ الفلسفة ؟ ونستطيع القول: إنها لا تتأسس طفرة واحدة ولكن بعد تراكم مجموعة من الخبرات لأنها في أبسط تعريفاتها: "هي تصور حول الكون عامة " وهذه الخبرات المتناثرة هي التي تبلورة في إطار نظري، فالشروط التي تؤدي إلى نشوء الفلسفة هي نفسها المؤدية إلى نشوء النقد الأدبي، من تم لا نربطها إلا بمرحلة معينة من مراحل النقد، وهي مرحلة نضجه حيث ظهرت علوم مختلفة: نحو، عروض، بلاغة، لغة، فنصل إلى أنه قد يقع التزامن بين النقد والفلسفة وقد يشتركا في تراكم الخبرات، وفي تطور الفكر التجريدي الإنساني ولكن لن يرتبط ظهور النقد بظهور الفلسفة.
لم يكن عبتا أن يأتي د. محمد غنيمي هلال بمثل هذه الآراء، فقد عاش في فترة النصف الثاني من القرن العشرين، وهي فترة من فترات تأزم جميع المستويات في التاريخ المصري الناتج عن التبعية التي يعيشها الشعب المصري للغرب عامة والإنجليز خاصة "فقد كانت مرحلة 1936-1952 وهي مرحلة صعود قوى اجتماعية جديدة، والسعي المزدوج إلى تحقيق الاستقلال وتثبيت الذات القومية، كما تطبعها المجابهة بين الاختيارات الدينية"الجديدة"وبين الاختبارات الوطنية والاشتراكية"'(65).
الملاحظ إذن، أن كل هذه الطروحات تدور في فلك واحد هو: الدفاع عن الذات العربية من أجل إثباتها، والدفاع عن القومية العربية والدعوة إلى إصلاح الأمة العربية وإيقاظها من سباتها العميق. وقد رأى د. محمد غنيمي هلال أن السبيل الوحيد لتحقيق هذه الدعوة هو الرجوع إلى الفكر الغربي والأوربي على الخصوص.إذ هي النموذج الذي ينبغي أن يحتدى لأنها عرفت في تاريخها الطويل نفس فترات الظلام التي يعيشها العالم العربي الآن، واستطاعت أن تقشع نور حضارتها، وتبني صرح نهضتها برجوعها إلى تراث اليونان. وهذا بالفعل ما جعل د.محمد غنيمي هلال يتحمس لهذه الفكرة ويدعو إليها خاصة بعدما تشبع بها في المدارس الغربية:" فقد أوفدته الدولة في بعثة علمية لدراسة الأدب المقارن سنة 1934 واستمرت بعثته حوالي تسع سنوات حصل خلالها على الليسانس ودكتوراه الدولة في الأدب المقارن من جامعة السور بون في فبراير سنة 1952"(66) وكان لهذا انعكاس في جميع كتاباته النقدية:" من هنا كانت جهود د.محمد غنيمي هلال الذاتية بدءا بكتابة الأول عن الأدب المقارن، فالرومانيكية، فالحياة العاطفية بين العذرية والصوفية، فالنقد الأدبي الحديث،فالنماذج الإنسانية في الدراسات الأدبية المقارنة، فدور الأدب المقارن في توجيه دراسات الأدب العربي المعاصر، فالمواقف الأدبية وأخيرا كتابه: في النقد التطبيقي المقارن، وقضايا معاصرة في الأدب والنقد. لقد كانت هذه المؤلفات العلمية الأكاديمية جهدا واحدا متصلا من أجل التعريف بالدراسات الأدبية المقارنة والإسهام فيها وتوضيح رسالتها الخطيرة الشأن فيما يخص الوعي القوي من تغذية شخصياتنا القومية نواحي الأصالة في استعدادها وتوجيهها توجيها رشيدا، وقيادة حركات التجديد فيها على منهج سديد ومثمر، وإبراز مقومات قوميتنا في الحاضر، وتوضيح مدى امتداد جهودنا الفنية والفكرية في التراث الأدبي العالمي".(67)
مما سبق نخلص أن دراسة النقد القديم من منظور فلسفي حديث وربطه بالنقد الغربي عند د. محمد غنيمي هلال له ما يبرره على مستوى الواقع. فقد كانت رغبته كباقي مثقفي عصره، تتخذ مسارا قوميا هدفها إثبات الكيان العربي في مواجهته للغرب...
والسلام عليكم ورحمته تعالى وبركاته
السيدة:بشرى تاكـفـراست
أستاذة جامعية
الهـــــــــوامش
(1) رشيد العبيدي، الأدب ومذاهب النقد فيه، ص 98 ط الأولى، 1955.
(2) طه أحمد إبراهيم، تاريخ النقد الأدبي عند العرب من العصر الجاهلي إلى القرن الرابع الهجري، ص 6، ط دار الحكمة – بيروت، لبنان.
(3) المرجع نفسه ص 25.
(4) المرجع نفسه، ص 11.
(5) المرجع نفسه، ص 10.
(6) المرجع نفسه، ص 11.
(7) ابن قتيبة، الشعر و الشعراء، ج 1، تحقيق أحمد شاكر، ص 84، ط 3.
(8) المصدر نفسه، ص17.
(9) المصدر نفسه، ص 84.
(10) طه أحمد إبراهيم، تاريخ النقد، ص 16.
(11) المرجع نفسه، ص 24.
(12) المرجع نفسه، ص 11.
(13) أبو الفرح الأصفهاني الأغاني، ج 9، ص 303 تحقيق سمير جابر، طبعة دار الكتب العلمية بيروت.
(14) المصدر السابق، ج11 ص 12-13.
(15) المرزباني الموشح، ص 46-47
(16) طه أحمد إبراهيم، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، ص 13-14-15.
(17) المرجع نفسه، ص 15.
(18) المرزباني، الموشح ص 83.
(19) طه أحمد إبراهيم، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، ص 2
(20) المرجع نفسه، ص 34.
(21) المرجع نفسه ص 34.
(22) محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب ص 5 طبعة دار نهضة مصر.
(23) المرجع نفسه، ص 5.
(24) المرجع، نفسه ص 14.
(25) المرجع نفسه ص 14. عن ج. لانسون، نهج البحث في تاريخ الأدب ص 41.
(26) المرجع نفسه ص 15.
(27) المرجع نفسه ص 15. عن ج. لانسون، نهج البحث في تاريخ الأدب ص 31-40.
(28) المرجع نفسه ص 14.
(29) المرجع نفسه ص 16.
(30) المرجع نفسه ص 11.
(31) المرجع نفسه ص 15.
(32) المرجع نفسه ص 15.
(33) المرجع نفسه ص 16-17.
(34) المرجع نفسه ص 17.
(35) محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث ص 11 طبعة دار الثقافة بيروت.
(36) المرجع نفسه ص 13.
(37) المرجع نفسه ص 23.
(38) المرجع نفسه ص 155.
(39) المرجع نفسه ص 155.
(40) المرجع نفسه ص 157.
(41) المرجع نفسه ص 151.
(42) المرجع نفسه ص 13.
(43) المرجع نفسه ص 6 (مقدمة المؤلف).
(44) ابن سلام الجمحي، طبقات فحول الشعراء، ص 25 تحقيق محمود محمد شاكر سنة 1974.
(45) المصدر نفسه ص 26.
(46) المصدر نفسه ص 26.
(47) محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث ص 23.
(48) إحسان عباس تاريخ النقد الأدبي عند العرب ص 14 طبعة دار الثقافة بيروت.
(49) المرجع نفسه ص 14.
(50) المرجع نفسه ص 14.
(51) المرجع نفسه ص 14.
(52) المرجع نفسه ص 18-19.
(53) المرجع نفسه ص20.
(54) المرجع نفسه ص 15.
(55) المرجع نفسه ص 49.
(56) محمد برادة، محمد مندور وتنظير النقد العربي ص 222 طبعة دار الأدب بيروت 1979 الطبعة الأولى.
(57) محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب ص 5.
(58) محمد برادة، محمد مندور وتنظير النقد العربي ص45.
(59) فاروق شوشة ص 58 مجلة الآداب العدد الأول يناير 1961.
(60) طه احمد إبراهيم، تاريخ النقد الأدبي عند العرب ص 6.
(61) محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب ص 16.
(62) المرجع نفسه ص 17.
(63) فاروق شوشة، الدكتور محمد مندور والنقد ص 39 مجلة الآداب يناير 1961.
(64) المرجع نفسه ص 39.
(65) مجدي وهبة، كامل المهندس، معجم المصطلحات العربية في اللغة والنقد، مكتبة لبنان 1944-1979.
محمد برادة، محمد مندور وتنظير النقد العربي ص 113-114.الطبعة الأولى 1979 منشورات دار الآداب بيروت.
(66) فاروق شوشة، محمد غنيمي هلال، ص 145، مجلة فصول الأدب المقارن، ج 1 العدد 3 المجلد 3، 1983.
(67) المرجع السابق، ص نفسها.
* عن مدونة الدكتورة بشرى تاكفراست