عائد خصباك - بعضهم يحبها ساخنة..

استمع الفتى للخبر الذي بثته إذاعة بغداد في أخبارها الصباحية، وكان في مقدمتها وفاة الممثلة مارلين مونرو منتحرة، وفي الحال توقف عن تناول الفطور، وقد أذهلته الصدمة، كل شيئ يمكن أن يتوقعه إلا مثل هذا الخبر، وعندها لم يعد يطيق البقاء في البيت، فقد وصل جزعه الى منتهاه.
كان بحاجة الى من يكذّب هذا الخبر، فمن تستطيع بعدها أن تأتي بما أتت به مارلين من سحر وفتنة وإثارة للشغف.
من يومها أحس الفتى أنها توأم روحه، بل وأكثر من هذا، هي ملكا له، وأنها اقترنت عن طريق الخطأ بـ آرثر ميلر مع أنه كان كاتبا تعرفه الأوساط جميعها، ولكن هذه الرباط سينهد يوما دون ريب، واليوم قريب دون شك، فقد صارحته مارلين مرة وهما في لحظة عدم توافق: بصراحة يا آرثر، أنا لست معجبة بمسرحياتك، قد يكون غيري معجبا بها، لكن أنا لست مثلهم. كان رأيها واضحا، فبدا بعدها كما لو صراحتها هذه لوت عنقه، هو يعرف أن الوجه الآخر لكلامها هو: من الآن فصاعدا ما عدت أطيق أن يستمر ارتباطنا مع بعض يا آرثر.
سمع الفتى الخبر عبر الراديو فلم يصدق، كان بحاجة الى شخص يكذّب ما سمعه، فتعود مياهه الى مجاريها ودماؤه الى عروقها، وعلى إثر ذلك خرج من البيت وسار على غير هدى.
قطع شوارع مدينة "الحِلّة" وفيها المدرسة التي يتابع بها دراسته الثانوية، وعبر شارعا بعد شارع، والأزقة، زقاقا بعد زقاق، والدروب ، دربا بعد درب، فلم يجد أحدا يسأله ليكذّب له الخبر.
جاءت له فكرة أن يذهب الى "فيصل" زميله على مقاعد الدراسة، مع أنه لا يميل الى صحبته دائما، أو هو بصراحة لا يطيقه في الأوقات التي يأتي بها الى سيرة مارلين، لأنه بمناسبة وبغير مناسبة، يُخرج له من جيبه صورتها ملونة، وعلى الصورة اسمها بخطّها واضحا وتحته توقيعها.
كان فيصل هذا يهوى مراسلة ممثلي سينما هوليوود، ويطلب في مراسلاته تلك صورهم الشخصية، وحدث أن استجابت مارلين، أو من يقوم بذلك نيابة عنها، لطلبه وبعثت له تلك الصورة، التي كتبت فيها وبالإنجليزية: الى فيصل، مع أطيب التمنيات. كان حلم الفتى أن تكتب بدل اسم فيصل اسمه، لكن ذلك لم يحصل، مع أنه بعث على عنوانها في هوليوود بدل الرسالة الواحدة ثلاث رسائل. ومع عدم وصول شيئ منها لم يخفت نور حبه لها، قل هو ازداد أكثر، فظلت ساخنة الأيام كلها.
يقع منزل فيصل في الضواحي، وبعدما ضرب جرس الباب وفتحها له، رآه بحالة مزرية، ربما أمضى وقته قبل أن يفتح له الباب بالنشيج ، وبعدما وقفا أمام بعض لم يستطع فيصل أن يبادله التحية التي سمعها، بل أخذه الى حديقة المنزل على أمل أن يجلسا هناك، ولم يجلسا في حقيقة الأمر، بل تبادلا الأسى من دون أن يتبين كل منهما كلام الآخر، و الحالة تلك قادت الفتى الى أن يلعن من تسبب في ما آلت اليه الأمور، وعندما سمع فيصل ذلك لعن حظه العاثر.
كان هناك الكثير من أشجار الرمّان تحيط بهما، حينها تذكر الفتى بيتا للشاعرة بنت طريف وهي ترثي أخاها الوليد بن طريف، وقصيدتها كانت موجودة في كتاب " النصوص" المقرر عليهما:
أيا شجر الخابور مالك مورقا / كأنّك لم تجزع على ابن طريف.
ذلك أنها رأت شجر الخابور لم يجزع لموت أخيها بل تجاهله، بعدما ظل مورقا. فراح الفتى ينشد على مسامع فيصل:أيا شجر الرمّان مالك مورقا / كأنّك لم تجزع على ابنة مونرو.
اعتبر فيصل ما سمعه نشيد الأناشيد ، وراح ينظر الى شجر الرمان بعدم رضى، وقد نزع من قلبه الرحمة لأنها خذلته في الوقوف الى جانبه في مصيبته، كان الأولى بها أن تحزن.
راح فيصل الى زاوية في الحديقة، عاد وهو يحمل منجلا للتشذيب، وراح يضرب في الأغصان دون تمييز، هو يضرب والفتى يقول له: اضرب أقوى، اضرب بدون رحمة، الى الجحيم يا أغصان شجر الخابور وشجر الرمّان.
فيقول فيصل: الجحيم لشجر الليمون، هو أيضا لم يحزن.
فيقول الفتى: ولـ شجر النارنج والمشمش والبرقوق ، والجحيم لشجرالتوت والكمثرى واليوكالبتس، وللأشجار جميعها.
قال فيصل: والجحيم لمدرس التربية الوطنية.
قال الفتى: واللعنة لمدرس التاريخ القديم والمتوسط ولمدير مدرستنا والمدارس الأخرى، ولمدير التربية والتعليم، وللوزير ونوابه، وثلاثة من جيرانه، وتسعة من أقرباء الدرجة الأولى.
قال الفتى: واللعنة لتنزل على شرطي الأمن المتخفي عند سينما الفرات، يرصد الداخلين اليها والخارجين منها.
قال فيصل: ولوزير الصحة وللوزاء بلا وزارة.
قال الفتى: واللعنة لتمثال الحرية في نيويورك وأيضا لبرج إيفل وبرج بيزا.
قال الفتى: ومثل هذا لنصف ممثلات هوليود.
قال فيصل: ولممثلات السينما الإيطالية، استثني منهن صوفيا لورين وجينا لولو بريجيدا وسلفانا منكانو وكلوديا كاردينالي.
قال الفتى: ولنهر الأمزون وللبحر الأدرياتيكي أيضا، وخذ الى جانبهما جبال الهملايا وسلسلة جبال طوروس وروكي والألب.وجبل المقطّم في القاهرة.
قال فيصل: ومثل هذا للمحيط الأطلسي والهندي وبحر الظلمات وجميع البحار.
لا أحد يستطيع أن يميّز أثناء ذلك، هل القطرات النازلة منهما، وهما لم ينتهيا من كلامهما بعد، هي قطرات من عرق جبهتيهما، أم من الدموع).
أعلى