د. أحمد الحطاب - الرأسمال، محرِّك الاقتصاد لكن…

التَّقدُّم le progrès، كما يُدرِكه الجميع اليوم، يكتسي صبغةً كَمِّيةً محظة. إنه يُقاسُ بأرقام جافة، قاسية، ناشفة، يابسة لا طعمَ لها. أرقامٌ لا يفهمها إلا أولئك الذين يستفيدون منها. أرقامٌ تطرد الإنسانية ليحُلَّ مكانها الجشع cupidité. أرقامٌ تتناغم مع التيار الاقتصادوي économisme الذي يفسِّر كل ما يجري في الحياة باللجوء إلى الاعتبارات الاقتصادية بعيدا عن كل ما هو إنساني، اجتماعي، أخلاقي… كما تتناغم هذه الأرقام مع اللبيرالية liberalisme و الرأسمالية capitalisme اللذان يعتمدان على المبادرة الفردية الخاصة وعلى اقتصاد السوق، وبالأخص، على عدم تدخُّل الدولة…

في قلب التَّقدُّم الكمي progrès quantitatif، لا شيءَ يسود سوى المكسب و الربح. و وراءَ هذين الربح والمكسبـ، يوجد الرأسمال. و هذا الأخيرُ لا يرى، في الأفق، إلا مصلحتَه. ولا داعيَ للقول أن الرأسمال سِرُّ وجوده هو خَلقُ أو إفرازُ راسمالٍ آخر. والرأسمالُ لا يفكِّر في شيءٍ آخر سوى أن المالَ يجب أن يُولِّدَ مالاً آخر. ولهذا، فإن الكائنَ البشري، بالنسبة لهذا الرأسمال، ليس إلا آلةً للأنتاج المتزايد، شأنه شأنَ الآلات الميكانيكية المنتشرة في المعامل و المصانع. وهذا يعني أنه لا مكانَ في فكر الرأسمال لا للمشاعر ولا للعواطف. الرأسمال عبارة عن جرَّافة bulldozer تأتي على كل ما لا يتماشى مع مصالحها. بل وتلجأ إلى كل الوسائل للحِفاظ على هذه المصالح.

والدليلُ على ذلك أن الرأسمال قادرٌ على شراء كل شيءٍ. بإمكانه شراءُ الكرامة والشرف والسكوت والتَّآمر والتَّواطؤ والحقوق… والأدهى هو أن الرأسمال يعرف متى يشتري و متى لا يشتري. وعندما يشتري، لا يهمُّه الثمن الذي سيدفعه إذا تراءت له في الأفق ما يمكن أن يُعوِّضَ هذا الثمنَ بضعفين أو ثلاثة أضعاف أو أكثر. لا شيءَ يصمد أمام رغباته وطموحاته في التَّوسُّعِ مالاً ونفوذاً!

في هذه الحالة، كيف لنا أن ننتظرَ من التَّقدُّم الكمي والرأسمال الذي يُفرزه أن يخصِّضَ في أنشطته مكاناً للمشاعر والعواطف وللإنسانية humanité ou humanisme؟ الرأسمال يُحيِيه الكمُّ ويحيى من أجل هذا الكم علما أن هذا الأخير هو الذي قد يكون سبباً في إنهاء حياتِه!

وما يزيد في الطين بلَّةً وفي الرأسمال خطورةً، هو اقترانُ الرأسمال بالسياسة والسلطة، أو بعبارة أخرى، عندما يتمُّ الزواجُ بين الرأسمال، من جهة، والسياسة والسلطة، من جهة أخرى. حينها، يضع الرأسمالُ نفسَه على قمة هَرَمٍ و يشرع في إملاءِ قانونه على مَن هم تحته مباشرةً وبكيفية غير مباشرة. في هذه الحالة، لن يصعُبَ على أحدٍ تصوُّرَ نوعيةَ القانون الدي سيُمليه هذا الرأسمال بصفته حَكَم وطَرَف!

فيما يخصُّ هذا البلد السعيد، أليس الرأسمال هو الذي أوقف نشاطَ مصفاةَ لا سمير raffinerie la Samir؟ أليس الرأسمال هو الذي، إلى حد الآن، يرفض نقاشَ الضريبة على الثروة في البرلمان؟ أليس الرأسمال هو الذي ينسى أن يُسجِّلَ عمالَه في صندوق الضمان الاجتماعي؟ أليس الرأسمال هو الذي يُحيك التَّآمُرات حينما يتعلَّق الأمرُ بتنظيم أسعار المحروقات؟ أليس الرأسمال هو الذي يصبح، فجأةً، كريما أثناءَ الحملات الانتخابية؟ أليس الرأسمال هو الذي يَتصدَّر البطولة في مجال التَّهرُّب الضريبي؟ أليس الرأسمال هو المسئول عن المضاربات العقارية والسكنية؟ أليس الرأسمال هو الذي يضرب عرضَ الحائط مسألةَ الحد الأدنى من الأجور؟ أليس الرأسمال هو الذي يغتني على حساب شريحة عريضة من المواطنين؟ أليس الرأسمال هو الذي حوَّلَ التَّعليم والتربية و الصجة إلى سِلَعٍ تباعُ وتشترى؟ أليس الرأسمال هو الذي يكون وراءَ تهريب الأموال؟ أليس الرأسمال هو الذي يستنزف ثروات الغابات والشواطئ والبحيرات والمقالع والبِحار…؟ أليس…

وعلى الصعيد العالمي، أليس الرأسمال هو الذي كان ولا يزال هو السبب الأساسي في تغيير المناخ؟ أليس سعيُه الأعمى وراءَ الربح والربح السريع هو الذي سرَّعَ من وثيرة التلوث بجميع أشكاله؟ أليس الرأسمال هو الذي هدَّم، في وقت وجيزٍ، ما بنته الطبيعةُ طيلةَ ملايير السنين؟ أليس الرأسمال هو الذي يسير بثبات نحو القضاء على غابة الأمازون forêt amazonienne التي يعتبرها علماءُ البيئة بمثابة رئة الكرة الأرضية، أي الغابة التي، إضافةً إلى عَلَقِ plancton البِحار، تعتبَر أكبر منتجٍ للأكسيجين oxygène الذي، بدونه، لا وجودَ للحياة؟ أليس الرأسمال، بحُكم جشعه وتشبُّثه بتحقيق مصالحه، ولو على حسات باقي البشر، هو الذي يتحمَّلُ مسئوليةَ انتشار الفقر؟ أليس الرأسمال هو الذي لا ينتظر من أنشطته الاقتصادية إلا نسبة نمو النَّاتج الداخلي الخام produit Intérieur brut PIB؟ أليس الرأسمال هو السبب في انتشار التَّضخُّم inflation الذي تسبَّب في ارتفاعٍ مهول للأسعار؟…

ومَن يُحسُّ بارتفاع الأسعار هذا في هذا البلد السعيد؟

بدون أدنى شك أن الرأسمال لا يُحس بهذا الارتفاع ما دامت له القدرة على اقتناء كل ما هو في حاجة إليه في حياته اليومية. الفقراء والطبقة الوسطى، التي لم تعد وسطى إلا بالإسم، هم الذين يعانون من غلاء الأسعار بينما الرأسمال يزداد غنى وعلى حساب هؤلاء الفقراء وهذه الطبقة الوسطى.

كفى من التَّهريج السياسي الذي أصمَّ آذاننا! تهريج اعتاد المواطنون على سماعِه في البرلمان وبعد انتهاء المجالس الحكومية. لا يا سادة! الراسمال أنشأه ناسٌ يعبدون المالَ وشعارهم في الحياة هو الجشع. وهدفهم هو الربح وتصاعد الأرقام. أما المواطنة والصالح العام ليسا إلا مَطِيتين يركبهما الرأسمال لتنتفخَ ثروتُه ويرتقيَ إلى أحسن الدرجات في تصنيف فوربس classement Forbes.

ما أختم به هذه المقالة هو أن الرأسمال لا يمكن أن بتساكنَ مع المواطنة والصالح العام. والدليل على ذلك هو أن ممارسة السياسة من طرف الرأسمال ليس حبا في المواطنة والصالح العام، لكن من أجل الاستلاء على السلطة، وبالتالي، التَّحكُّم في دواليب الاقتصاد وفي كل ما من شأنه أن يُعزِّز مكانتَه ويزيد من نفوذه كقوة مالية، سياسية وسُلغوية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى