للقراء في أداء كلمة قرآن طريقان: تحقيق الهمزة فيها، وإهمالها منها؛ فبعضهم يقرؤها (القران) وبعضهم (القرآن) والقراءة غير المهموزة تنسب إلى إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين قارئ أهل مكة في زمانه، وآخر أصحاب ابن كثير زماناً، كما يقول عنه الذهبي في كتابه (طبقات القراء المشهورين) وقد روي عن أبي عبد الله الشافعي قوله في هذا الصدد، قال: (قرأت على إسماعيل وكان يقول القرآن اسم وليس بمهموز، ولو كان من قرأت كان كل ما قريء قرآناً، ولكنه اسم للقرآن مثل التوراة والانجيل، تهمز قرأت ولا تهمز القرآن) وكذلك روى صاحب اللسان مثل هذه الرواية، وزاد عليها تزكية لها وإعلاء لسندها النسب الذي يصل قراءة إسماعيل بالقراءة الأولى على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: (قال إسماعيل قرأت على شبل، وأخبر شبل أنه قرأت على عبد الله بن كثير، وأخبر عبد الله أنه قرأ على مجاهد، وأخبر مجهد أنه قرأ على ابن عباس رضى الله عنه، وأخبر ابن عباس أنه قرأ على أبي، وقرأ أبي على النبي صلى الله عليه وسلم)، وبعد أن أورد ابن منظور هذا القول روى عن أبي بكر بن مجاهد أنه قال: (كان أبو عمرو بن العلاء لا يهمز القرآن، وكان يقرؤه كما روى عن ابن كثير) فهذه إذن قراءة معتبرة لا شك في صحتها وقوة سندها.
ولكن عبارة القسط ينظر إليها من ناحيتين: ناحية الرواية وناحية الدراية أو التعليل، أما الأولى فلا كلام لنا فيها، وأما الناحية الثانية فقد نازعه فيها كثير من العلماء الذين أورد الفخر الرازي أقوالهم، فقد قال الزجاج عن قول إسماعيل هذا إنه سهو والصحيح أن ترك الهمزة من باب التخفيف، ونقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، فكأنه يرى أنها مشتقة من مادة قرأ، وأنها تساوي كلمة قرآن المهموزة، إلا ما كان من هذا التخفيف الذي تجيزه اللغة وتخضع له، ولا يغير شيئاً من أصول الكلمات فيها
على أن هذا التخفيف كثير شائع مطرد في كثير من القراءات التي ترجع إلى أهل الحجاز لما في طبيعة نطقهم وميلهم اللغوي، وهاك ما يقوله ابن الجزري في كتابه: (النشر ف القراءات العشر): (ولما كان الهمز أثقل الحروف نطقاً وأبعدها مخرجاً، تنوع العرب في تخفيفه بأنواع التخفيف كالنقل والبدل وبين بين والإدغام وغير ذلك، وكانت قريش وأهل الحجاز أكثرهم له تخفيفاً، ولذلك اكثر ما يرد تخفيفه من طرقهم كابن كثير من رواية ابن فليح، وكنافع من رواية ورش وغيره، وكأبي جعفر من أكثر رواياته، وكابن محيصن قارئ أهل مكة مع ابن كثير وبعده، وكأبي عمرو فأن مادة قراءه عن أهل الحجاز)
وهذا صريح جلي في بيان قول الزجاج وصحة مذهبه، وأن إسماعيل بن قسطنطين قد غاب عنه المنحى العربي اللغوي في مثل هذا، فذهب يلتمس التعليل المنطقي ويقول: (لو كان من قرأت كان كل ما قرء قرآناً) كما غاب عنه أيضاً أن الاصطلاح من طبيعته أن يحد من مدلول الكلمة المصطلح عليها.
وذهب آخرون إلى تلمس اشتقاق لها في مادة (قرن) باعتبار أن الكلمة على أصلها لم تعان شيئاً من الإبدال والإعلال: فقال قوم إنها مشتقة من قرنت الشيء بالشي إذا ضممت أحدهما إلى الآخر، وسمى به لقران السور والآيات والحروف فيه، ونسب إلى الفراء القول بأنها مشتقة من القرائن لأن الآيات يصدق بعضها بعضاً ويشابهه.
هذا مجمل الآراء في تعليل كلمة قران بغير همز. أما القراءة الأخرى المهموزة فاختلف كذلك في اشتقاقها على قولين أو ثلاثة
فابن جرير الطبري يروي رأيين في هذا، أحدهما عن ابن عباس، والآخر عن قتادة، أما الأول فيذهب إلى أن القرآن مصدر من قول القائل: (قرأت) كقولك الخسران من خسرت والغفران من غفر الله لك، والكفران من كفرتك، والفرقان من فرق الله بين الحق والباطل - ولم يتعرض الطبري لرواية قراءة ابن عباس لها، وإن كان مساق القول في المهموزة، لكن ذلك لا يعتبر نصاً؛ وإنما تعرض لاشتقاقها. وقد رأينا من كلام إسماعيل بن قسطنطين أن سند قراءاته يتصل بابن عباس؛ فكأن ابن عباس كان يقرؤها مخففة، ويعلم أنها مخففة عن تحقيق، كما رأى ذلك الزجاج فيما سبق بيانه.
أما رأي قتادة فهو أنها مصدر من قول القائل: (قرأت الشيء) إذا جمعته وضممت بعضه إلى بعض، كقولك ما قرأت هذه الناقة سلى قط، أي لم تضمم رحماً على ولد قط. كقول عمرو بن كلثوم: ذراعي عيطل أد ماء بكر ... هجان اللون لم تقرأ جنينا
أما الرأي الثالث فيرويه السيوطي في كتاب الإتقان عن الزجاج. فهو يرى أنه مشتق من القرء بمعنى الجمع. ثم هو لا يعتبره مصدراً - كما يروى عن ابن عباس وقتادة - وقد سمى به الكتاب المقروء، وإنما يعده وصفاً على فعلان.
وقد وقف الطبري بين رأيي ابن عباس وقتادة، ثم أخذ يرجح الأول على الثاني بأنه يتمشى مع تأويل قوله تعالى: (إن علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) على الأصل الثابت المقرر في الدين، إذ لو كان القرآن هنا بمعنى الجمع والتأليف لما لزم الرسول صلى الله عليه وسلم فرض (اقرأ باسم ربك) ولا فرض (يا أيها المزمل) ولا غيرهما من آي القرآن الكريم قبل أن يؤلف إلى ذلك غيره من القرآن.
وهذا توجيه وجيه استطاع ابن جرير أن يملك به على خصمه الحجة في أسلوب منطقي حاسم.
ونحن إذا أجزنا لأنفسنا أن ندخل في هذا النزاع، وندلي برأينا فيه، اتخذنا لأنفسنا مسلكاً غير ذلك المسلك؛ فقد نستطيع أن ننظر إلى المسألة من ناحية فنية محضة، نلتمسها في القرآن نفسه؛ وحينئذ نلاحظ أن كلمتي القرآن والقراءة تزدوجان في كثير من آي الكتاب الكريم، فأولى أن تكون كلمة (القرآن) مشتقة من القراءة لا من القرء، قال تعالى:
(وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً). (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم). (إن علينا جمعه وقرآنه) (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) (وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا) (فإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون)
وقد تقترن بكلمة القرآن كلمة التلاوة في نحو قوله تعالى: (وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن). (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله).
إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تشير إلى أصل كلمة قرآن إشارة نحسبها كافية في مثل هذا المجال.
ثم إن تسمية القرآن بالذكر وبالكتاب تشير إشارة ما إلى هذا الأصل أيضاً، وحسبنا هذا.
فإذا انتقلنا من مادة قرآن إلى صيغتها رأينا المتقدمين يختلفن فيها: هل هي مصدر أو وصف على فعلان. وأيا كان الوجه فلا شك أنها قد تركت المصدرية أو الوصفية وتمحضت للاسمية المحدودة، علماً على ذلك الكتاب المقدس.
ولكن بعض المستشرقين مثل شفللي وفلهوزن يعارض في عربية كلمة (قرآن)، ويرى فيها كلمة (قرياني) السريانية، وهي بمعنى القراءة أو المقرء، ويقوي هذا الفرض لديهم مقاربة الكلمة السريانية للكلمة العربية في الصبغة ولكن هذا المقاربة أو المشابهة لا قيمة لها، لأن في العربية كثيراً من المصادر على وزن فعلان مثل رجحان ونقصان وغفران وكفران وخسران وغير ذلك مما هو عربي صريح مادة وصيغة، فأي شيء يلجئنا إلى مثل هذا الفرض؛ ألأن السريانية لغة الإنجيل. . .؟
قد لا نمنع أن يكون الكتاب الكريم قد استحدث كلمة (قرآن) استحداثاً، وليس هذا الاستحداث بالأمر الغريب في اللغة. بل ربما لم نجد بداً من فرض ابتداع القرآن الكريم لهذه الكلمة، ما دامت نصوص اللغة الجاهلية الصريحة النسبة إلى ما قبل الإسلام قليلة نزرة لا تمدنا بالدلائل العلمية الكافية القاطعة. ولكن إذا كان كتاب الله قد استحدثها فذلك من أصل عربي وعلى نحو عربي. وقد لا يكون ذلك النحو شائعاً في اللغة كثير السريان فيها كغيره من الصيغ، ولكنه في حقيقة الأمر موسيقى مرنان ليس أجدر منه أن يكون اسماً وعنواناً لذلك الكتاب الخالد. وقد قصد إلى تقرير ذلك الإسلام في الأذهان إذا كان ذلك من الأمور الخطيرة في الدعوة، ولذلك كرره أكثر من ستين مرة على أساليب متنوعة، وفي مواضع مختلفة، ومناسبات شتى.
لقد كان أساس الدعوة إلى الدين الجديد هو القرآن، ولاسيما في العهد الملكي، فلا جرم كان تقرير اسمه أمراً جديراً بالعناية فكان كثير التكرار كما قلنا، وهذه الكثرة واضحة وضوحاً تاماً في العهد المكي، دون المدني الذي لا نكاد نقرأ فيه كلمة (القرآن) في أكثر من خمسة مواضع، وقد كان المقتضى لذكرها في بعض هذه المواضع مجرد السياق الذي لا بد منه كما في آية سورة التوبة: (. . . وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن) أو سبب النزول كما في آية سورة المائدة: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم) - على حين نرى في إحدى السور المكية الظاهر فيها أسلوب الدعوة الحارة المفتنة، والجدل القوى الغلاب، وهي سورة الإسراء، إن كلمة القرآن تكررت فيها نحو ثمان مرات. والفرق بين العهدين ظاهر، ففي العهد المدني كان اسم (القرآن) قد ثبت وتقرر وأخذ ذلك المعنى المحدود فلم تعد الحاجة ماسة إلى تكراره وإشاعته، كما في العهد المكي
إن قول المستشرق في إنكار كلمة (القرآن) يرجع - فيما أحسب - إلى أصلين: أحدهما قولهم في القرآن إنه يصدر عن أصول أجنبية كالتوراة والانجيل، فمن هنا لا يرون بأساً في أن يكون القرآن قد استعار عنوانه من هذه المصادر أو من اللغة التي كتبت بها، ولاسيما إذا عزز هذا الأصل الثاني المقرر لديهم وهو عدم ورود كلمة قرآن في نص جاهلي، وبعد الذي تقرر من صيغة فعلان صيغة عربية صريحة لا يكون لهم إلا إنكار مادة قرأ بمعنى القراءة في اللغة العربية الخالصة ' وقد يكون لهم عذرهم في هذا، فأن من العسير حقاً أن نعثر فيما بين يدينا من النصوص الجاهلية على مادة القراءة، وإني أقطع بأن هذه المادة لم تجيء في المعلقات العشر، وإنما وردت كلمة (تقرأ) في بيت عمرو بن كلثوم على رواية أبي عبيدة، ولكن هذا من واد آخر
ولكن هبه صحيحاً أن مادة القراءة لم ترد في نص جاهلي آخر، فهل يدل هذا دلالة قاطعة على عدم وجود الكلمة في اللغة؟ إنما يكون هذا لو أن الأدلة انحصرت في النص وحده، وليس النص هو كل شيء، فالوقوف عنده يؤدي بنا من غير شك إلى الخطأ في الاستنتاج.
لم تكن العرب قبل الإسلام أمة كتلك الأمم التي تعيش في حالة أولية، وإنما كانت أمة تجارة تتعامل بتجارتها مع أمتي التاريخ الكبريين: الفرس والروم على معرفة وبصيرة، وكانت مكة بصفة خاصة مركزاً من المراكز الكبرى لهذه التجارة الواسعة النطاق، وكانت المظاهر التجارية فيها بارزة في حياتها بروزاً كبيراً مما دعا الأب لامنس إلى تلقيبها في كتابه عنها بالجمهورية التجارية. وهذه الحياة التجارية تعتمد إلى حد كبير على الكتابة - ولن تكون كتابة بغير قراءة - فمن الغريب جداً الحكم بأن لغة العرب لا تحتوي على ما يدل على هذا المعنى. وإن النصوص الجاهلية نفسها تدل على أن العرب قد اتخذوا الكتابة، لا في الوثائق التجارية فقط، بل في عقد المحالفات بين القبائل المختلفة، وحسبنا ما قاله الحارث بن حلزة في شأن بكر وتغلب: واذكروا حلف ذي المجاز وما ... قدم فيه العهود والكفلاء
حذر الجور والتعدي وهل ... ينقض ما في المهارق الأهواء
ونحن نعرف في السيرة مظهراً من مظاهر هذه العهود في (عهد الحديبية) وكان مندوب قريش في كتابته عمرو بن سهيل، وهو يقدم إلينا صورة من صور الحصافة والدقة في كتابة العهود والاتفاقات، فلم تكن قريش حديثة عهد بمثل هذا وانظر هذه الصورة التي يقدمها لبيد في معلقته:
وجلا السيول عن الطلول كأنها ... زُبُر تجد متونَها أقلاُمها
ومثل هذه الصورة شائع في الشعر الجاهلي الذي بين أيدينا، وكلها تثبت أن العرب لم يكونوا غرباء عن الكتابة والقراءة وإذن فافترض أن القرآن استعار مادة القراءة من بعض اللغات السامية الأخرى لعدم العثور على هذه المادة في النصوص الجاهلية التي بين أيدينا افتراض فيه شيء كثير من المجازفة.
محمد طه الحاجري
مجلة الرسالة - العدد 179
بتاريخ: 07 - 12 - 1936
ولكن عبارة القسط ينظر إليها من ناحيتين: ناحية الرواية وناحية الدراية أو التعليل، أما الأولى فلا كلام لنا فيها، وأما الناحية الثانية فقد نازعه فيها كثير من العلماء الذين أورد الفخر الرازي أقوالهم، فقد قال الزجاج عن قول إسماعيل هذا إنه سهو والصحيح أن ترك الهمزة من باب التخفيف، ونقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، فكأنه يرى أنها مشتقة من مادة قرأ، وأنها تساوي كلمة قرآن المهموزة، إلا ما كان من هذا التخفيف الذي تجيزه اللغة وتخضع له، ولا يغير شيئاً من أصول الكلمات فيها
على أن هذا التخفيف كثير شائع مطرد في كثير من القراءات التي ترجع إلى أهل الحجاز لما في طبيعة نطقهم وميلهم اللغوي، وهاك ما يقوله ابن الجزري في كتابه: (النشر ف القراءات العشر): (ولما كان الهمز أثقل الحروف نطقاً وأبعدها مخرجاً، تنوع العرب في تخفيفه بأنواع التخفيف كالنقل والبدل وبين بين والإدغام وغير ذلك، وكانت قريش وأهل الحجاز أكثرهم له تخفيفاً، ولذلك اكثر ما يرد تخفيفه من طرقهم كابن كثير من رواية ابن فليح، وكنافع من رواية ورش وغيره، وكأبي جعفر من أكثر رواياته، وكابن محيصن قارئ أهل مكة مع ابن كثير وبعده، وكأبي عمرو فأن مادة قراءه عن أهل الحجاز)
وهذا صريح جلي في بيان قول الزجاج وصحة مذهبه، وأن إسماعيل بن قسطنطين قد غاب عنه المنحى العربي اللغوي في مثل هذا، فذهب يلتمس التعليل المنطقي ويقول: (لو كان من قرأت كان كل ما قرء قرآناً) كما غاب عنه أيضاً أن الاصطلاح من طبيعته أن يحد من مدلول الكلمة المصطلح عليها.
وذهب آخرون إلى تلمس اشتقاق لها في مادة (قرن) باعتبار أن الكلمة على أصلها لم تعان شيئاً من الإبدال والإعلال: فقال قوم إنها مشتقة من قرنت الشيء بالشي إذا ضممت أحدهما إلى الآخر، وسمى به لقران السور والآيات والحروف فيه، ونسب إلى الفراء القول بأنها مشتقة من القرائن لأن الآيات يصدق بعضها بعضاً ويشابهه.
هذا مجمل الآراء في تعليل كلمة قران بغير همز. أما القراءة الأخرى المهموزة فاختلف كذلك في اشتقاقها على قولين أو ثلاثة
فابن جرير الطبري يروي رأيين في هذا، أحدهما عن ابن عباس، والآخر عن قتادة، أما الأول فيذهب إلى أن القرآن مصدر من قول القائل: (قرأت) كقولك الخسران من خسرت والغفران من غفر الله لك، والكفران من كفرتك، والفرقان من فرق الله بين الحق والباطل - ولم يتعرض الطبري لرواية قراءة ابن عباس لها، وإن كان مساق القول في المهموزة، لكن ذلك لا يعتبر نصاً؛ وإنما تعرض لاشتقاقها. وقد رأينا من كلام إسماعيل بن قسطنطين أن سند قراءاته يتصل بابن عباس؛ فكأن ابن عباس كان يقرؤها مخففة، ويعلم أنها مخففة عن تحقيق، كما رأى ذلك الزجاج فيما سبق بيانه.
أما رأي قتادة فهو أنها مصدر من قول القائل: (قرأت الشيء) إذا جمعته وضممت بعضه إلى بعض، كقولك ما قرأت هذه الناقة سلى قط، أي لم تضمم رحماً على ولد قط. كقول عمرو بن كلثوم: ذراعي عيطل أد ماء بكر ... هجان اللون لم تقرأ جنينا
أما الرأي الثالث فيرويه السيوطي في كتاب الإتقان عن الزجاج. فهو يرى أنه مشتق من القرء بمعنى الجمع. ثم هو لا يعتبره مصدراً - كما يروى عن ابن عباس وقتادة - وقد سمى به الكتاب المقروء، وإنما يعده وصفاً على فعلان.
وقد وقف الطبري بين رأيي ابن عباس وقتادة، ثم أخذ يرجح الأول على الثاني بأنه يتمشى مع تأويل قوله تعالى: (إن علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) على الأصل الثابت المقرر في الدين، إذ لو كان القرآن هنا بمعنى الجمع والتأليف لما لزم الرسول صلى الله عليه وسلم فرض (اقرأ باسم ربك) ولا فرض (يا أيها المزمل) ولا غيرهما من آي القرآن الكريم قبل أن يؤلف إلى ذلك غيره من القرآن.
وهذا توجيه وجيه استطاع ابن جرير أن يملك به على خصمه الحجة في أسلوب منطقي حاسم.
ونحن إذا أجزنا لأنفسنا أن ندخل في هذا النزاع، وندلي برأينا فيه، اتخذنا لأنفسنا مسلكاً غير ذلك المسلك؛ فقد نستطيع أن ننظر إلى المسألة من ناحية فنية محضة، نلتمسها في القرآن نفسه؛ وحينئذ نلاحظ أن كلمتي القرآن والقراءة تزدوجان في كثير من آي الكتاب الكريم، فأولى أن تكون كلمة (القرآن) مشتقة من القراءة لا من القرء، قال تعالى:
(وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً). (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم). (إن علينا جمعه وقرآنه) (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) (وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا) (فإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون)
وقد تقترن بكلمة القرآن كلمة التلاوة في نحو قوله تعالى: (وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن). (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله).
إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تشير إلى أصل كلمة قرآن إشارة نحسبها كافية في مثل هذا المجال.
ثم إن تسمية القرآن بالذكر وبالكتاب تشير إشارة ما إلى هذا الأصل أيضاً، وحسبنا هذا.
فإذا انتقلنا من مادة قرآن إلى صيغتها رأينا المتقدمين يختلفن فيها: هل هي مصدر أو وصف على فعلان. وأيا كان الوجه فلا شك أنها قد تركت المصدرية أو الوصفية وتمحضت للاسمية المحدودة، علماً على ذلك الكتاب المقدس.
ولكن بعض المستشرقين مثل شفللي وفلهوزن يعارض في عربية كلمة (قرآن)، ويرى فيها كلمة (قرياني) السريانية، وهي بمعنى القراءة أو المقرء، ويقوي هذا الفرض لديهم مقاربة الكلمة السريانية للكلمة العربية في الصبغة ولكن هذا المقاربة أو المشابهة لا قيمة لها، لأن في العربية كثيراً من المصادر على وزن فعلان مثل رجحان ونقصان وغفران وكفران وخسران وغير ذلك مما هو عربي صريح مادة وصيغة، فأي شيء يلجئنا إلى مثل هذا الفرض؛ ألأن السريانية لغة الإنجيل. . .؟
قد لا نمنع أن يكون الكتاب الكريم قد استحدث كلمة (قرآن) استحداثاً، وليس هذا الاستحداث بالأمر الغريب في اللغة. بل ربما لم نجد بداً من فرض ابتداع القرآن الكريم لهذه الكلمة، ما دامت نصوص اللغة الجاهلية الصريحة النسبة إلى ما قبل الإسلام قليلة نزرة لا تمدنا بالدلائل العلمية الكافية القاطعة. ولكن إذا كان كتاب الله قد استحدثها فذلك من أصل عربي وعلى نحو عربي. وقد لا يكون ذلك النحو شائعاً في اللغة كثير السريان فيها كغيره من الصيغ، ولكنه في حقيقة الأمر موسيقى مرنان ليس أجدر منه أن يكون اسماً وعنواناً لذلك الكتاب الخالد. وقد قصد إلى تقرير ذلك الإسلام في الأذهان إذا كان ذلك من الأمور الخطيرة في الدعوة، ولذلك كرره أكثر من ستين مرة على أساليب متنوعة، وفي مواضع مختلفة، ومناسبات شتى.
لقد كان أساس الدعوة إلى الدين الجديد هو القرآن، ولاسيما في العهد الملكي، فلا جرم كان تقرير اسمه أمراً جديراً بالعناية فكان كثير التكرار كما قلنا، وهذه الكثرة واضحة وضوحاً تاماً في العهد المكي، دون المدني الذي لا نكاد نقرأ فيه كلمة (القرآن) في أكثر من خمسة مواضع، وقد كان المقتضى لذكرها في بعض هذه المواضع مجرد السياق الذي لا بد منه كما في آية سورة التوبة: (. . . وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن) أو سبب النزول كما في آية سورة المائدة: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم) - على حين نرى في إحدى السور المكية الظاهر فيها أسلوب الدعوة الحارة المفتنة، والجدل القوى الغلاب، وهي سورة الإسراء، إن كلمة القرآن تكررت فيها نحو ثمان مرات. والفرق بين العهدين ظاهر، ففي العهد المدني كان اسم (القرآن) قد ثبت وتقرر وأخذ ذلك المعنى المحدود فلم تعد الحاجة ماسة إلى تكراره وإشاعته، كما في العهد المكي
إن قول المستشرق في إنكار كلمة (القرآن) يرجع - فيما أحسب - إلى أصلين: أحدهما قولهم في القرآن إنه يصدر عن أصول أجنبية كالتوراة والانجيل، فمن هنا لا يرون بأساً في أن يكون القرآن قد استعار عنوانه من هذه المصادر أو من اللغة التي كتبت بها، ولاسيما إذا عزز هذا الأصل الثاني المقرر لديهم وهو عدم ورود كلمة قرآن في نص جاهلي، وبعد الذي تقرر من صيغة فعلان صيغة عربية صريحة لا يكون لهم إلا إنكار مادة قرأ بمعنى القراءة في اللغة العربية الخالصة ' وقد يكون لهم عذرهم في هذا، فأن من العسير حقاً أن نعثر فيما بين يدينا من النصوص الجاهلية على مادة القراءة، وإني أقطع بأن هذه المادة لم تجيء في المعلقات العشر، وإنما وردت كلمة (تقرأ) في بيت عمرو بن كلثوم على رواية أبي عبيدة، ولكن هذا من واد آخر
ولكن هبه صحيحاً أن مادة القراءة لم ترد في نص جاهلي آخر، فهل يدل هذا دلالة قاطعة على عدم وجود الكلمة في اللغة؟ إنما يكون هذا لو أن الأدلة انحصرت في النص وحده، وليس النص هو كل شيء، فالوقوف عنده يؤدي بنا من غير شك إلى الخطأ في الاستنتاج.
لم تكن العرب قبل الإسلام أمة كتلك الأمم التي تعيش في حالة أولية، وإنما كانت أمة تجارة تتعامل بتجارتها مع أمتي التاريخ الكبريين: الفرس والروم على معرفة وبصيرة، وكانت مكة بصفة خاصة مركزاً من المراكز الكبرى لهذه التجارة الواسعة النطاق، وكانت المظاهر التجارية فيها بارزة في حياتها بروزاً كبيراً مما دعا الأب لامنس إلى تلقيبها في كتابه عنها بالجمهورية التجارية. وهذه الحياة التجارية تعتمد إلى حد كبير على الكتابة - ولن تكون كتابة بغير قراءة - فمن الغريب جداً الحكم بأن لغة العرب لا تحتوي على ما يدل على هذا المعنى. وإن النصوص الجاهلية نفسها تدل على أن العرب قد اتخذوا الكتابة، لا في الوثائق التجارية فقط، بل في عقد المحالفات بين القبائل المختلفة، وحسبنا ما قاله الحارث بن حلزة في شأن بكر وتغلب: واذكروا حلف ذي المجاز وما ... قدم فيه العهود والكفلاء
حذر الجور والتعدي وهل ... ينقض ما في المهارق الأهواء
ونحن نعرف في السيرة مظهراً من مظاهر هذه العهود في (عهد الحديبية) وكان مندوب قريش في كتابته عمرو بن سهيل، وهو يقدم إلينا صورة من صور الحصافة والدقة في كتابة العهود والاتفاقات، فلم تكن قريش حديثة عهد بمثل هذا وانظر هذه الصورة التي يقدمها لبيد في معلقته:
وجلا السيول عن الطلول كأنها ... زُبُر تجد متونَها أقلاُمها
ومثل هذه الصورة شائع في الشعر الجاهلي الذي بين أيدينا، وكلها تثبت أن العرب لم يكونوا غرباء عن الكتابة والقراءة وإذن فافترض أن القرآن استعار مادة القراءة من بعض اللغات السامية الأخرى لعدم العثور على هذه المادة في النصوص الجاهلية التي بين أيدينا افتراض فيه شيء كثير من المجازفة.
محمد طه الحاجري
مجلة الرسالة - العدد 179
بتاريخ: 07 - 12 - 1936