" لا تراهن العلاقات الاجتماعية على صيغة "حقيقي" أكثر من صيغة "اعتقاد أنه حقيقي". لم نعد نراهن على "القوة المنطقية" للحجج، أكثر من قوة إقناعها. لا
نبحث عن دليل مطلق يحيل على الكلي بقدر ما نبحث عن "صحة ظرفية" في الإطار المحدود للوضعي.
باتريك شارودو
يعد الخطاب بكل أنماطه مجالا واسعا للحجاج، و هذا ما يجعله مرتبطا بالإشكالات التي تثيرها البلاغة و لسانيات الخطاب و التواصل. إن الحجاج- كما يشير إلى ذلك أولرون(1987)- ينتمي إلى فئة الأفعال الإنسانية التي تهدف إلى الإقناع، و من هنا يستمد خصوصيته المتمثلة في تفعيل التعليل في الوضع التواصلي و تفعيل تقنياته، و ذلك بهدف تحقيق فعل التأثير.
انطلاقا من هذه الزاوية يمكن أن نفهم الإقناع في بعده الشامل، أي باعتباره استعمالا للغة في محاولة لتعديل أو تحويل أو تقوية رؤية المستمع بما تتضمنه هذه الرؤية من مشاعر و مواقف و طرائق تفكير.
هذه الورقة هي محاولة لمقاربة بعض الإشكالات التي يطرحها الحجاج، و التي نصوغها كالتالي:
- ما هو الحجاج و ما علاقة الخطاب الحجاجي بالخطاب البرهاني؟
- ما هي التقنيات التي يتم اللجوء إليها في إطار الحجاج للتأثير على الآخر؟
- ما هي استراتيجيات بناء الخطاب الحجاجي؟
و غيرها من الإشكالات التي تتضافر في إطار تحقيق إستراتيجية محددة لهذه الورقة و التي تتلخص في إبراز أوجه التعالق القائمة بين البلاغة و الحجاج من جهة، و مظاهر الائتلاف القائمة بين الأساليب البلاغية و التقنيات التي يفعلها الحجاج قصد إحداث فعل التأثير من جهة أخرى.
1 - تعريف الحجاج
أصبح الحجاج في العقود الأخيرة بؤرة اهتمام الدارسين، و ذلك من خلال الكتابات و الأبحاث الكثيرة التي صيغت بخصوصه، و التي لا تقتصر على مجال واحد، بل تهم مجالات متعددة. إن الحجاج جزء من معيشنا اليومي، فهو يمتد إلى جميع أنماط الخطاب و يتمظهر بأشكال مختلفة. إن مختلف أشكال الحياة اليومية و العائلية و السياسية توفر لنا كما هائلا من أمثلة الحجاج البلاغي ، فالحجاج يحضر بقوة في كل الممارسات الخطابية و يطبع كل أشكال العلاقات الإنسانية.
في 1958 ظهر كتاب تولمان "the uses of argument" و كتاب برلمان و تتيكا " le traité de l argumentation. شكل هذان العملان مصدر نمذجة أساسية لنظريات الحجاج باعتباره فن الإقناع، حيث عرفه برلمان و تتيكا(1958: 5) بأنه:
" دراسة تقنيات الخطاب التي تقود الأذهان إلى أن تسلم بما يعرض عليها من
أطروحات أو أن تزيد في درجة ذلك التسليم."
بذلك تم ربط الحجاج بإثارة أو تقوية الانخراط في الأطروحات المقدمة. إنه حوار من أجل الوصول إلى الاقتناع دون حمل على الإقناع، فغاية الحجاج في تصورهما إحداث التأثير المؤدي إلى الفعل. إنه ينطلق من تفعيل الفكر ليصل إلى تفعيل العمل و تحقيقه. وسيلته في ذلك خطابية، و قناته هي التأثير في ذهن المتلقي. إن غاية الحجاج و منتهاه إذن هو إقناع العقول بما يطرح عليها، و ذلك عبر توظيف تقنيات محددة تجعل من تحقيق هذا المبتغى أمرا ممكنا.
يتقاطع هذا التحديد مع التحديد الذي قدمه دوكرو و انسكومبر (1986) للحجاج في أنه هو أن يقدم المتكلم قولا ق1(أو مجموعة من الأقوال) موجها إلى جعل المخاطب يقبل قولا آخر ق2 (أو مجموعة من الأقوال) على أنه نتيجة له، و ذلك بشكل صريح أو ضمني . بهذا المعنى يكون الحجاج – كما يحيل على ذلك (العزاوي2006: 16):
" إنجاز متواليات من الأقوال بعضها بمثابة الحجج اللغوية و بعضها الآخر هو
بمثابة النتائج التي تستنتج منها."
فالحجاج إذن، علاقة ترابط بين الأقوال في الخطاب يؤطرها عمل المحاجة و تحكمها قيود لغوية. من هنا يركز دوكرو (1980 : 10) على أن الحجاج إنما يكمن في بنية اللغة ذاتها لا في المحتوى الخبري للأقوال و لا في المعطيات البلاغية المقامية. إن تقنيات الحجاج تقنيات خطابية مستمدة من بنية التراكيب اللغوية ذاتها التي يتم توظيفها. انطلاقا من هذا التصور يصبح الخطاب وسيلة الحجاج و منتهاه في آن واحد.
إذا كان دوكرو يربط الحجاج ببنية اللغة، فإن شارودو (2008) يربطه برهانات الأوضاع لا بالخصائص اللغوية، بينما يربطه ألرون (1993: 5) بالبنية الفكرية. بقول في تعريفه للحجاج:
" إجراء يسعى من خلاله شخص ما أو مجموعة ما إلى استدراج السامع إلى تبني
موقف [ما]، و ذلك باللجوء إلى عروض أو إثبات حجج تهدف إلى تبيان صحته."
يجمل أولرون انطلاقا من هذا التحديد ثلاثة مميزات للحجاج يوردها كالآتي:
- يدرج عدة أشخاص.
- ليس تمرينا نظريا، بل إجراء يهدف الشخص من خلاله إلى التأثير على الآخر.
- يسوق عناصر التسويغjustification لدعم الطرح المدافع عنه. إنه إجراء يتضمن عناصر عقلية و تجعله مرتبطا بالتعليل و المنطق.
تنبني هذه المميزات على تصنيف أولرون (1987) الحجاج في إطار فئة الأفعال الإنسانية التي تهدف إلى الإقناع والاستمالة، بل يجعله يتخطى ذلك إلى توجيه المخاطب نحو الفعل، و ذلك عبر توجيه رؤيته للأشياء، لذلك نراه يستمد خصوصيته من تفعيل التعليل في الوضع التواصلي . إن فاعل الحجاج كما أكد كراي (1990 : 41) لا يرى في المخاطب موضوعا للمناورة manipulation فقط، و إنما يرى فيه الأنا الآخرalter ego الذي ينبغي أن يتقاسم معه رؤية مشتركة و هو التصور الذي نراه يتكرر عند بلونتين (1996: 146). يقول في تعريفه للحجاج:
" هو العملية التي من خلالها يسعى المتكلم إلى تغيير نظام المعتقدات و التصورات لدى مخاطبه بواسطة الوسائل اللغوية."
و لعل هذا التصور هو ما جعل بلنجير (1996) يعتبر أن الحجاج ممارسة نفسية- منطقية" تؤطرها ثقافة معينة و توجهها الرغبة في التفاعل مع "الممارسة-النفسية-المنطقية" للشركاء المعنيين. من هذا المنظور يمكن أن نفهم الإلحاح على ضرورة التأثير باستخدام أساليب مختلفة و متعددة يتحكم في تحديد طبيعتها السياق الذي يجعلها تارة تميل إلى توضيح بعض مظاهر الأشياء، و تارة إلى حجب مظاهر أخرى و تارة إلى اقتراح مظاهر جديدة لم تكن مطروحة سلفا. ينقلنا هذا التنوع إلى تصور أوسع للحجاج باعتباره محاولة تعديل أو تحويل أو تقوية رؤية محددة باللجوء إلى اللغة، و ما تتيحه من إمكانات تعبيرية عديدة. و الواقع أن الأمر لا يقف عند حدود محاولة الإقناع برؤية محددة، بل يتخطاه ليشمل محاولة الإقناع بطرائق التفكير، بل و بطبيعة الإحساس أيضا.
نخلص إلى القول إن تنوع مقاربات الحجاج و التراكمات التي حققتها يجعل من الصعب ضبط الطرق التي نضجت بها نظرية الحجاج . يضعنا هذا المعطى أمام تصور واسع للحجاج يجعله مرادفا للبلاغة و يجعل أنماط الخطاب المتعددة أنماطا فرعية للخطاب الحجاجي، و بالتالي يجعل إشكالات الحجاج متعالقة مع الإشكالات المؤسسة للبلاغة و التواصل و فن المناورة. بل و متعالقة أيضا مع وظيفية الحركية الشاملة للخطاب، و هذا ما يسمح بربط الخطاب بالوضع التواصلي الملموس، و ربط الحجاج بالعوامل اللغوية و النفسية الاجتماعية، و هي في مجملها عوامل تتسم بخصائص أجملها بيرلمان كالآتي:
- التوجه إلى مستمع.
- التعبير عنه بلغة طبيعية.
- مسلماته احتمالية.
- لا يفتقر تقدمه و تناميه إلى ضرورة منطقية.
- ليست نتائجه ملزمة.
و هي خصائص تجعل مصادر الحجاج متعددة الروافد، إذ تشمل علوم اللغة و علم النفس و علم الاجتماع، كما تشمل الديالكتيك و المنطق و البلاغة و غيرها. بل يتعدى الأمر إلى حدود ربطه بوسائل تواصلية غير كلامية كتعبيرات الوجه و الحركات.
2 - التقنيات الحجاجية
إن البعد الحجاجي لا يكون حاضرا بشكل مباشر في كل أنماط الخطاب، بل قد يتخذ منحى غير مباشر، وهذا ما يجعل محاولة الإقناع هي بدورها غير مباشرة و غير معلن عنها، غير أنه يمكن استنباطها من كيفية توظيف الخطاب لألفاظه و تراكيبه، من ذلك ما نجد في الخطاب الإخباري و الوصفي والمحكي و الإشهاري، حيث إن طريقة تشكيل الخطاب هي التي توجه المخاطب إلى النظر إلى الأشياء بطريقة معينة. ولعل هذا هو الأمر الذي دعا برلمان إلى اعتبار أن جوهر نظرية الحجاج هو دراسة التقنيات الخطابية التي توجه الآخر نحو تبني وجهة النظر المطروحة .
يشير بلنجر 1996 إلى أن مقاربة الإقناع تتم من ثلاثة زوايا هي:
أ - زاوية بنية وسائل الاتصال (مقاربة سياسية و سوسيولوجية): من يتحكم في الخبر و يوجهه).
ب - زاوية محتوى الرسائل (أنماط الحجة و طبيعة الرسالة و خصائصها).
ج - زاوية الآثار التي يحدثها الإقناع (تحليل النماذج الخاصة بتغير الموقف).
في الاتجاه نفسه ينظر كابفيرر إلى الإقناع باعتباره " كلا تضبطه ست عمليات" يجملها كالآتي:
أ - تلقي الرسائل بما في ذلك كيفية هذا التلقي و أسبابه.
ب - تفكيك الرسائل، و ذلك انطلاقا من إجراءات توجيهية و تحويلية تتيح استيعاب الخطاب.
ج - قبول الرسالة (التصديق) أي كيف يتم إعداد مسلسل قبول القصد الإقناعي للرسالة أو رفضه و كيف يتم المرور من الفهم إلى الإقناع.
د - إدماج القبول في الموقف الشخصي: بأي معالجات سيكولوجية نمر من مسلسل القبول إلى تكوين موقف جديد (بداية الميل إلى حزب معين مثلا).
هـ - تعميق القبول و الحفاظ عليه: كيف تتطور المواقف في الزمن و هل تتمتع التغييرات بما يكفي من أسباب المقاومة.
و - تقيد السلوك الشخصي بالقبول: كيف يترجم تغيير الموقف إلى تغيير للسلوك.
إن هذه العوامل جميعها تصب في اتجاه إستراتيجية أساسية تتلخص في التأثير و الإقناع. تجعل هذه الإستراتيجية الخطاب الحجاجي مرتبطا بأغراض أربعة يجملها ككليون (1995 : 353) كالآتي:
- الإقناع.
- المداولة.
- التسويغ.
- التموضع في مقارنة مع الآخر.
تتقاطع هذه الأغراض بالأغراض التي تسعى البلاغة في تحقيقها، و التي يمكن إجمالها تبعا لمايير (1993 : 17 – 18) كالتالي:
- الإقناع و خلق القبول.
- الإرضاء أو الإغواء أو المناورة و تسويغ الأفكار قصد تمريرها.
- تمرير الرأي و المحتمل بعلل و حجج جيدة.
- اقتراح الضمني بواسطة الصريح.
- إنشاء معنى مجازي يكون منطلقا لفهم المعنى الحرفي و الاستدلال عليه.
- استعمال اللغة المجازية ومأسلبة stylisé والأدبية.
- الكشف عن نوايا المتكلم أو الكاتب و القدرة على تعليل ما يقولان انطلاقا مما يقولانه.
إن مقارنة بسيطة بين أغراض الحجاج و أغراض البلاغة تبين لنا أن هناك تقاطعات عديدة بينهما. تجعل هذه التقاطعات التقنيات الحجاجية في جزء منها على الأقل تقنيات بلاغية. على اعتبار أن مدار الدرس البلاغي هو البحث عن تقنيات التأثير التي هي في جوهرها تقنيات حجاجية. يقول أولرون(1993 : 10):
" من وجهة نظر اجتماعية يعد الحجاج صورة لتقنيات التأثير التي يفعلها الأفراد
و الجماعات بأشكال و بأهداف متعددة، بمجرد أن يبدأ الأشخاص العيش معا،
و بمجرد أن الحياة الجماعية تولد التعاون و الصراعات."
فأولرون (1993) يربط الحجاج بتفعيل تقنيات التأثير، على اعتبار أن الخطاب الحجاجي يميل إلى توجيه كيفيات النظر وفق برمجة محكومة بهدف محدد، لذلك يلجأ إلى توظيف تقنيات حجاجية متعددة، تتيح له إنجاز فعل الإقناع.
تنبني هذه العمليات التي تشكل أساس فعل الإقناع على الاستدلالraisonnement. تعد الاستدلال منطلقا استراتيجيا أساسيا في بناء الخطاب الحجاجي. إنه يعتمد على توظيف عمليات عقلية ينتقل بها الفكر من قضية إلى أخرى. تقوم هذه العمليات على نمطين من التقنيات الحجاجية:
- تقنيات منطقية صورية.
- تقنيات بلاغية.
2 -1 – التقنيات المنطقية الصورية:
هي عبارة عن مجموعة من التقنيات المتنوعة التي يقتبسها فاعل الحجاج من المنطق، نذكر منها ما يلي:
- الاستقراء induction: يتحدد الاستقراء تبعا لأرسطو باعتباره إجراء يتم عبره الانطلاق من الخاص إلى العام، و استنباط ما هو كلي. إنه يحيل – كما يشير إلى ذلك ككليون (5199 : 355) على المعطيات (أي يترسخ في الملموس)، و يتيح فحص الممكنات (أي يترسخ في الموضوعية).
- الاستنباط déduction: و هو عملية عقلية ينتقل بها الفكر من التعميم إلى التخصيص أي إخراج الجزئي مما هو كلي. يتعالق القياس مع الاستنباط المتضمن لمقدمتين منطقيتين ( واحدة كبرى و الأخرى صغرى) و نتيجة. يسوق ككليون في هذا الإطار في هذا الإطار المثال الشهير:
1 - الإنسان فان.
- سقراط إنسان.
- سقراط فان.
يشير ككليون إلى أنه يمكن أن نجد هذا النمط من التعليل في عدة حالات من المعيش اليومي، و يمثل لذلك بالخطاب الإشهاري:
2 - س يحقق أحلامكم.
- حلمت ب: أ.
- أ حققه س.
يمكن أن يحيل الاستنباط أيضا على القياس المنفصل. من نحو المثال الذي يسوقه ككليون (1995 :356) في (3) كالتالي:
3 - ce qui rêvent de dieu sont fous ou idéalistes.
- Or ils ne sont pas fous ,
- Donc ils sont idéalistes.
هنا ينظر المتكلم إلى كل الإمكانات كي يقيم الحكم النهائي، و رغم الجزئية الظاهرة فهو يوحي بالشمولية و يقوي بالتالي صحة استنتاجه. لكن هنا لتكون النتيجة صحيحة لابد من:
- استنفاذ الممكنات.
- ضمان صحة الرابط بين المقدمات و النتيجة.
يتضمن الاستدلال الاستنباطي الاستدلال الشرطي الذي يمكن صوغه في صورة قياس شرطي، من نحو ما نجده عند ككليون(1995: 356) في الجملة (4):
4 - إذا كانت الحقيقة موجودة فينبغي ايجادها.
- الحقيقة موجودة.
- إذن ينبغي إيجادها.
يشير ككليون إلى أن استعمال القياس لا يكفي لجعل الحجاج مقنعا، إذ لا بد أيضا من أن تكون المقدمات قابلة للتصديق. هنا ينظر المتكلم إلى كل الإمكانات كي يقيم النتيجة النهائية رغم الجزئية الظاهرة.
- المماثلة: تسمح المماثلة بالنقل من عالم على آخر. إن هذا النقل له فعالية دلالية قوية، كما هو واضح من الجملة (5) التي نقتبسها من ككليون:
5- ماذا تريدون؟ نقل الشيوعية إلى فرنسا، كي ننتهي مثل الروس.
يربط شارودو (2008) المماثلة بالتعليل بالمقايسة الذي يعتبره:
" يقوم على التقريب بين معطيين أو معرفتين أو حكمين أو سلوكين الخ على
الأقل...حيث يقدم أحدهما، كما لو أنه يملك سلطة معينة مؤسسة سلفا."
و يعتبر في هذا الإطار أن هذه الخاصية هي التي تجعل للحجة التي تقارن به قوة السلطة.
- الاستدلال السببي و هو حركة فكرية تقوم على ربط الأسباب بالمسببات. و هو ما ينعته شارودو(2008) بالتعليل بالاستنباط الذي يتعلق بأنماط الروابط السببية التي يمكن أن نقيمها بين الخبر و سببه أو الخبر و نتيجته. لتقريب ذلك يسوق شارودو((2008 الزوج الجملي التالي
6 – أ - لماذا ينبغي أن أصوت؟
- ب - لأنك مواطن صالح.
حيث يجعل الرابط قائما على الحتمية و يجعل الحجة قائمة على ما يسميه ب"الضامن"
بالإضافة إلى هذه التقنيات توجد تقنيات أخرى يجملها ككليون في:
- الحذف: يسمح بحذف الممكنات و إسقاطها و الحفاظ على فرضية واحدة مقبولة.يمكن ربط هذه التقنية بإستراتيجية تحديد الموقف التي تقتضي ضرورة الانتقاء من
بين موقفين متناقضين موقفا واحدا و واحدا فقط
- الاستدلال الجدلي و هو حركة فكرية تنتقل من الأطروحة إلى نقيضها ثم إلى نقيض النقيض.
2 - 2 – التقنيات البلاغية بين لعبة الهوية و الاختلاف:
إن تصور بيرلمان و تتيكا(1958) للحجاج يتجاوز تصور أرسطو، فإذا كان الغرض من الحجاج عند أرسطو هو الإقناع، فإن الغرض منه في تصورهما هو الحصول على الاقتناع الذي بغيب فيه فعل الفرض و الإجبار و يجعل من فعل الاختيار و المناقشة و القابلية للأخذ و الرد فعلا ممكنا حتى يحصل القبول و التسليم، و بالتالي التأثير و التأثر.
يقودنا هذا المعطى إلى تحديد مميزات الحجاج من خلال موضعة الإشكالات التي يطرحها وفق مستويين اثنين يحددهما ككليون (1995 : 344) في:
- مستوى علاقة الإنسان بالعالم.
- مستوى علاقة الإنسان بالإنسان.
يقول أولرون (1993 : 10-11) بهذا الخصوص:
" في كل رابط إنساني يمكن ملاحظة لعبة الهوية و الاختلاف. إذا كانت الأولى تشير إلى ما يقربنا بصفة عامة، فإن الأخرى تسم التعارض و الإقصاء. إن البلاغة هي صورة هذا الجانب الذي تصبح فيه الهوية اختلاف و الاختلاف هوية في لعبة دقيقة من التقاربات و الابتعادات."
إن فعل التأثير الذي يعد المحرك لفعل الحجاج مداره لعبة الهوية و الاختلاف التي هي مجال بلاغي بامتياز، فالبلاغة تمدنا بمجموعة من الأساليب الذي تتسم بوظيفية مزدوجة تجمع مابين الهوية و الاختلاف، منها الاستعارة مثلا الذي يمكن اعتبارها من التقنيات الحجاجية التي توظف للتوحيد بين عنصرين مختلفين و إيهام المتلقي بأن لهما هوية واحدة، ففي قولنا:
7 - زيد أسد
نلحظ تماهيا بلاغيا بين المكون "زيد" و المكون "الأسد"، حيث إذا تتبعنا ظاهر اللفظ يمكن فهم الجملة 7 على النحو التالي:
7 – أ زيد = أسد.
بالنظر إلى أنه تم تحديد هوية زيد في أنه أسد و ما يمثله ذلك من رصد لجملة من التشابهات و التقاربات, غير أنه إذا تجاوزنا ظاهر اللفظ، و ربطنا الجملة 7 بالوحدات الدلالية الصغرى التي يتألف منها المكونان، فسنفهم أنها لا تعني إجراء تماثل كلي بين زيد و الأسد، فالمفارقة دائما قائمة بين هوية زيد و هوية الأسد، إذ في واقع الأمر:
7 - ب زيد≠ أسد
في ضوء هذه الصورة تؤول الجملة 7 بأنها لا تحيل على تماثل كلي بين زيد و الأسد، و إنما على تماثل جزئي يمكن حصره في خاصية دلالية محددة هي خاصية الشجاعة. من هنا يمكن أن نفهم لعبة الهوية كالتالي:
7– ج - شجاعة زيد = شجاعة الأسد.
إن هذه الخاصية الدلالية هي التي تجعل من الجملة 7 خطابا متلاحما و مقبولا. و هي راجعة في نهاية التحليل – في تصور ككليون (1995 :357) إلى برهنة قياسية تتخذ الصورة التالية:
7- د - كل أسد شجاع.
- زيد شجاع.
- إذن زيد أسد.
و تتيح الانتقال من المعنى الحرفي إلى المعنى المجازي .
توظف الاستعارة أيضا للإشارة إلى موضوع بواسطة موضوع آخر يشكل معه مجموعا، بحيث يكون وجود أحدهما متضمن في وجود الآخر. هنا تتأسس اللعبة على إجراء تماثل في الهوية بين الكل و الجزء، ففي الجملة (8أ):
8- أ - خالد عين.
يمكن أن نحيل على قياس من نمط:
8– ب - خالد = عين.
أي : الكل = الجزء.
حيث يلاحظ أنه قد تم في هذه القراءة تغييب كل المميزات الأخرى التي يتميز بها خالد لصالح ميزة واحدة و محددة بشكل خاص، و هي كونه عينا، و ذلك لكي يقنع فاعل الحجاج المتلقي بأن خالدا جاسوس.
تعد الكناية أيضا من ضمن الأساليب البلاغية التي توظف في لعبة الهوية و الاختلاف، و هي تقوم على الإشارة إلى موضوع باسم موضوع آخر يستمد منه ذاته أو وجوده أو طريقة وجوده. إن الكناية حجاج يقوم على إبراز سمة مقابل محو السمات الأخرى نحو الجملة(9) التي يسوقها ككليون(1995 : 357) كالتالي:
9 - Picasso, l honneur de l Espagne.
بيكاسو شرف إسبانيا
إن التركيب هنا من نمط قياسي أيضا و هو يؤدي إلى لعبة تشخيصية من نمط:
10– أ - أ هو ب، ب يملك س, إذن أ هو.س
التي في ضوئها يمكن قراءة الجملة 9 بالشكل التالي:
1 – شرف إسبانيا هو الرسم، بيكاسو رسام، إذن بيكاسو هو شرف إسبانيا.
خلاصة القول إن الأساليب البلاغية المقدمة تحيل على لعبة الهوية و الاختلاف، و هي بذلك تقدم لنا تقنية من تقنيات الخطاب الحجاجي التي لا يمكن تمريرها إلا عبر إرساء مجموعة من المسلمات و الأفكار و ترسيخ المعارف المشتركة بين فاعل الحجاج و المتلقي من جهة و إدراج مفهوم المعاني التخييلية من جهة أخرى.
ما يجمع بين هذه الأنماط من الاستعارة هو كونها تسند للحجة دورا في استمرارية ثنائية هوية /اختلاف، و كلها تعد إشارات للسامع بأنه ينبغي أن يقوم بتعليل استنباطي مؤسس على نسيج قياسي. وهذه كلها خصائص تصب في اتجاه واحد هو الإقناع بموقف معين أو تعديل رأي أو الحث على الفعل. يقول ككليون (1995 : 351):
" إننا نستعمل الحجاج لأننا نحاول دائما الذهاب مما هو غير أكيد نحو ما هو أكيد
و لأننا نحاول دائما أن نتفاوض، أن نفرض يقيننا المؤقت على الذين لا يشتركون
معنا فيه."
في هذا الإطار يشير إلى أننا نلجأ إلى الحجاج لأن علاقة الإنسان بالعالم هي علاقة تساؤل و شك، فالحجاج يمارس في محيط يحكمه اللبس و الغموض و الاختلاف ، و تؤسسه مفاهيم غير محددة المعالم، من هنا تتحدد الوظيفة الأساسية للحجاج في البحث عن توافق في واقع تطبعه الاختلافات بين الناس و الجماعات، لذلك يكون الوضع الحجاجي – كما يشير إلى ذلك كريستيان بلونطان (2005 : 53)- قائما على المواجهة بين وجهات نظر تقدم أجوبه مختلفة للمسألة نفسها. إن الفكرة القائلة إن الحجاج يولد حيث يولد الاختلاف هي فكرة قديمة سبق أن أشار إليها أرسطو، حينما أكد على أننا لا نحاجج على المسائل المتفق عليها أو المسلم بها . و هي الفكرة نفسها التي تتردد عند بيرلمان في اعتباره أن الحجاج لا يتدخل إلا حين يكون فيها اليقين موضع طعن.
إن أساس الحجاج إذن ينبني على إيجاد وسائل تمكن من تبني وجهة نظر واحدة و إقصاء وجهات النظر البديلة أو المنافسة ، و ذلك عن طريق توظيف مجموعة من القضايا الداعمة أو الداحضة و هي في مجملها قضايا لا ترتبط بالخصائص الضمنية للحجج و إنما بكيفيات تقويم المتلقين لها .
نخلص إلى القول إن الحجاج نشاط اجتماعي يوجه نحو الآخر، و هو فضلا عن ذلك نشاط تعليلي، و هذا يقتضي من فاعل الحجاج أن يكون واعيا بالتقنيات الحجاجية و كيفية تفعيلها قصد حث المخاطب على الفعل و تغيير وجهة نظره بما ينسجم مع وجهة نظر فاعل الحجاج ويخدمها، و هذا ما يدفع بفاعل الحجاج إلى استعمال التعليل أو اللجوء إلى حث العواطف، و ذلك عن طريق تفعيل نسق معين من التفكير، بطريقة صريحة أو ضمنية. من هنا يصبح محرك كل إنتاج خطابي هو الحجاج بالضرورة و يصبح محرك الحجاج هو الإجراءات المنطقية التي تنبني عادة على المقاصد التالية:
- نقل قناعة و تبرير أفكار بشكل يجعلها صادقة.
- خلق القبول و التصديق.
- اقتراح الضمني بواسطة الواضح.
- كشف مقاصد المتكلم و القدرة على إسناد علل للأقوال.
تتقاطع هذه المقاصد مع أبعاد ثلاثة يجملها السومري (2010) فيما يلي:
- البعد العملي المتمثل في الحصول على رد فعل.
- البعد الفكري المتمثل في الحصول على تأييد.
- البعد الأخلاقي المتمثل في تغيير سلوك العملية.
تجعل هذه الأبعاد الثلاثة الخطاب الحجاجي محور تقاطع بين المنطقي logos و الأخلاقي
Ethos و العاطفي pathos ، و هي تقاطعات تربطه بالمجال النفسي الاجتماعي الذي تؤثثه مجالات العقل و العرف و الوجدان. إن هذه المجالات تبعد الخطاب الحجاجي عن الحقيقة العلمية و تنأى به عن الوضوح و البداهة أو المنطق و إن كان يستعين بها للإقناع - كما يؤكد بيرلمان و تتيكا (1958) - و تضعه في قلب الملائم و المشاكل و المعقول و المحتمل ، و تقرنه بكسب التأييد و الموافقة و الإقناع و التأثير و هي مقاصد تدفع بفاعل الحجاج إلى أن يسلك شبكة من مسارات حجاجية يرى أنه من الضروري إتباعها لبلوغ الهدف المتوخى. يقول شكري مبخوت(1999) إن:
" العلاقة بين الحجة و النتيجة غير ملزمة بصفة مطلقة إذ يمكن استخلاص النتيجة و ضدها شريطة المرور بالمواضع التي تمثل مصفاة لإتباع هذا المسا ر أو ذاك. و هذا ما يفسر كون الحجاج مفتوحا على احتمالات شتى، بما أنه لا يقدم حقائق مطلقة."
في هذا الإطار يشير محمد العمري(2005) إلى أن البلاغة هي علم الخطاب الاحتمالي الذي يتوخى التأثير أو الإقناع أو هما معا إيهاما أو تصديقا و ما يفرضه ذلك من اعتبار حال المستمع، و هو اعتبار يطرح مدى صلابة المنطلقات الحجاجية. إن هذه المنطلقات الحجاجية ينبغي أن تتأسس على جملة من الأفكار المقبولة التي يتقاسمها فاعل الحجاج مع المستمع و التي تشكل أداة يوظفها لكي يسحبه نحو قضيته، و هذا بالضبط ما يجعل فاعل الحجاج متميزا عن فاعل البرهان الذي يتوجه إلى مستمع كوني، لأنه صاحب أطروحات لا قضايا و هو معطى يؤسس للتمايز الذي ينبغي أن نقيمه بين الحجاج من جهة و البرهان من جهة أخرى.
2 - الحد بين الحجاج و البرهان:
إن التقنيات الحجاجية سواء المنطقية منها أو البلاغية تقوم على القياس. يعد القياس من ضمن التقنيات المستمدة من البرهان، على اعتبار أن الجامع بين الحجاج و البرهان هو تحقيق الاقتناع، غير أن هذا لا ينبغي أن يوهمنا بوجود تماهي بين الخطاب الحجاجي و الخطاب البرهاني، إذ هناك حدود فاصلة بين هذين النمطين الخطابيين، يشير إليها العزاوي (2006) في إطار مقارنته بين مفهوم الحجاج و مفهوم البرهنة بقوله تأسيسا على ما ورد عند دوكرو و انسكومبر إن الحجاج:
" لا يقدم براهين و أدلة منطقية و لا يقوم على مبادئ الاستنتاج المنطقي، فلفظة
الحجاج لا تعني البرهنة على صدق إثبات ما أو إظهار الطابع الصحيح
لاستدلال ما."
يؤكد دوكرو على أن الحجاج مغاير للبرهان، من حيث كونه مؤسسا على بنية الأقوال ذاتها و تسلسلها و اشتغالها داخل الخطاب، فهو موجود في الخطاب فقط. إن الحجاج ذو بعد لغوي دلالي تحكمه جملة من التعالقات القائمة بين الأقوال، على خلاف البرهان الذي يتأسس من أقوال مستقلة يعبر كل قول منها عن قضية، و بالتالي فتسلسل الأقوال في البرهان يقوم على اعتقاد المتكلم بحالة الأشياء. بعبارة أخرى إن ترابط الأحداث و الوقائع في البرهان ليس مؤسسا على الأقوال نفسها، و إنما على القضايا المتضمنة و التعالقات القائمة بينها، لذلك نجده يخضع لمعيار الصدق و الكذب على خلاف الحجاج.
إن هذا التمييز بين الحجاج و البرهان وارد أيضا عند بيرلمان، الذي يؤكد على أن ما يميز الخطاب الحجاجي هو أنه خطاب غير برهاني، و بالتالي فإن الاستدلالات التي يوظفها لا تتماهى مع الحساب الآلي أو الاستدلالات الصورية التي يمكن ملاحظتها في الخطاب البرهاني، من ثم نجده يبني نظريته في الحجاج على الخطاب غير البرهاني و هو بذلك يضع فصلا بين مجال الحجاج الذي هو البلاغة و مجال البرهان الذي هو المنطق. و قديما ميز أرسطو بين البرهان و الاستدلال الجدلي raisonnement dialectique يتميز هذا الأخير بتوفره على مقدماتprémisses هي عبارة عن معارف "صحيحة" أو " أولى" تشكل مقدمات منطقية، في حين أن الاستدلال مؤسس على "الآراء المقبولة" (و ليس على حقائق مبرهن عليها). يعود جوهر الاختلاف إذن إلى أن الحجاج يقتضي تفاعل الذوات، في حين أن البرهان ينفي الذات، لذا فهو صارم لكونه بمنأى عن جميع تأثيرات اللغة و العواطف، كما هو بمنأى عن ظروف المكان و الزمان التي يستعمل فيه.
نخلص إذن إلى أن البرهان ينبني على الانطلاق من مقدمات لاستنباط نتائج تفضي إليها تلك المقدمات بالضرورة ، لذلك يعتبر بيرلمان و تتيكا (1958) أنه يصبو إلى الحقيقة، أما الحجاج فيصبو إلى التأييد و الموافقة adhésion فالنتيجة فيه ليست ضرورية و لا مضمونه و لا واحدة. إن الحجاج لا يدعي أبدا اليقين، و إنما يغلب عليه الطابع النسبي و الذاتي، و ذلك لكون الحجج اللغوية متسمة بالمميزات التالية:
- إنها سياقية بحكم أن السياق هو الذي يجعلها حجة.
- إنها نسبية بحكم أن لكل حجة قوة حجاجية معينة.
- إنها قابلة للإبطال و الدحض.
و هي مميزات تجعل من الحجاج مرنا و تدريجيا و احتماليا ، بخلاف البرهان الذي يتميز بكونه صارما و مطلقا و حتميا. في الاتجاه نفسه يوضح ألرون (1993) أن البرهنة المعنية هنا هي البرهنة الصورية الخاصة بالرياضيات و المنطق.
غير أن هذا التمايز القائم بين الحجاج و المنطق لم يمنع مايير(1993) من أن يحاول الربط بين الحجاج و المنطق في اعتباره للحجاج بأنه ليس قياسا ضعيفا مفتقرا إلى المقدمات المنطقية. إن سلسلة اللوغوس يمكن أن تنتقل من الاستعارة إلى المنطق مرورا بالحجاج و من الجواب السريع و السهل إلى الجواب المؤسس.
نختم نقاشنا لهذه النقطة بما أورده العمري (2005) الذي أجمل نقاط الاختلاف القائمة بين الحجاج و البرهنة فيما يلي:
- يقترن الحجاج بمستمع معين خاص أو متخصص و هذا ما يجعل المقدمات الحجاجية غير بديهية و لا منطقية و لا مبرهن عليها و إنما هي قضايا مقبولة و متفق عليها.
- استعمال اللغة الطبيعية في الحجاج و هي لغة ملبسة ألفاظها و هذا يفتح المجال واسعا لتعدد الدلالات و القراءات المحتملة.
- مسار الحجاج لا يأخذ طريق الصرامة البرهانية إلا في اتجاه السلب أي إثبات ما ليس ممكنا.
- إن الحجاج سجال من حيث كونه يعارض على الدوام و لو ضمنيا.
الروابط الحجاجية
إذا كان ككليون(1995) يحاول أن يربط الحجاج بالمنطق و ينظر إليه في علاقته بالتقنيات التي تفرضها قواعد القياس فإن دوكرو (1973 – 1980) قد اتجه في إطار التداولية المدمجة إلى البحث عن الحجاج في بنية اللغة و في القواعد الداخلية المرتبطة بمستوياتها المتنوعة الصوتية منها و الصرفية و التركيبية و المعجمية و الدلالية. .إن هذه القواعد هي التي تخلق منطقا خاصا باللغة منبثقا من داخلها. إن منطق اللغة – حسب رأيه- يمكن تلمسه من خلال أوسام لغوية يفعلها المتكلم لتوجيه خطابه وجهة ما، وذلك في أفق تحقيق الوظيفة الحجاجية. تقسم هذه الأوسام اللغوية التي تحقق الترابط بين عناصر النص الحجاجي إلى قسمين:
- روابط حجاجية: و هي عبارة عن عناصر نحوية من حيث طبيعتها تربط بين القول الأول و القول الثاني، من نحو أدوات الاستئناف (الواو- الفاء- لكن- إذن..).
- عوامل حجاجية : تتجسد فيما تمثله الأقوال ذاتها من أساليب كأسلوب النفي و الحصر اللذين يعبر عنهما بمكونات معينة مثل (إلا- لم...) أو مكونات معجمية تتميز في غالب الأحيان بإحالة غير مباشرة مثل: منذ الظرفية و تقريبا و أبدا...
في هذا الاتجاه يعمد دوكرو إلى استخلاص الوظيفة الحجاجية بالاستناد إلى التسلسلات الخطابية التي تتأسس انطلاقا من ثلاثة أبعاد رئيسة:
- الوقائع التي تحيل عليها الأقوال.
- بنية الأقوال.
- المواد التي يتم تشغيلها .
تجعل هذه الأبعاد الثلاثة دوكرو و انسكومبر يحددان موضوع الحجاج في بيان ما يتضمنه القول من قوة حجاجية غير منفصلة عن معناه و لا عن الترابطات الحجاجية المتضمنة فيه . و بعبارة أخرى غير منفصلة عن البنية الداخلية للخطاب.
نخلص إلى القول إن الحجاج غير مرتهن عند دوكرو و انسكومبر ببنية استدلالية توجد خارج اللغة و تعمل على توجيهه، فللغة منطقها الخاص الذي يرسم وجهة القول و كيفياته و قوانين اللغة المستقلة هي التي تقود المتكلم إلى تبني وجهة حجاجية محددة. من هنا يتم تحليل القول- حسب التداولية المدمجة- باللجوء إلى نوعين من المكونات هما:
- المكون اللغوي الذي يختزل المعطيات اللغوية.
- المكون البلاغي الذي يختزل المعطيات غير اللغوية.
يتفاعل هذان المكونان معا في تحديد دلالة الخطاب، فإذا انطلقنا من الجملة التالية:
10 – أنا مرهق، لكني سأشتغل.
نجد أن المكون اللغوي يجعل الرابط " لكن" يقرن بين محتويين خطابيين من جهة (أنا مرهق) و (سأشتغل) و يتحكم في توجيه الكيفية التي ينبغي أن يتم بها التأويل من جهة أخرى.
أما المكون البلاغي فيستدعى بواسطته السياق الذي أنجز فيه الخطاب، و ذلك لكي يتم ربطه بالظروف المقامية بما فيها زمان و مكان القول و اعتبارات التخاطب و غيرها من الوسائط التي يتيح استحضارها ربط دلالة القول بسياقه و توجيه الذهن إلى التأويل الملائم، و بالتالي توجيه السامع وجهة حجاجية معينة تجعل من القول حجة لهذه النتيجة أو تلك تبعا للروابط الحجاجية المتضمنة فيه. تحيل هذه الروابط الحجاجية إلى المكونات اللغوية التي تضبط الاحتمالات الحجاجية و تحدد أوجه الربط بين النتيجة و حجتها. لتوضيح ذلك يسوق شكري مبخوت (1999) الجملة (11أ):
11 –أ - لن تفتقر فما ثمن التذكرة إلا 30 دينارا.
في مقارنة مع ج (11 ب):
11– ب -٭ ستفتقر فما ثمن التذكرة إلا 30 دينارا.
حيث يرجع لحن الجملة (11 ب) إلى أن استعمال الرابط الحجاجي غير متلائم مع دلالة الجملة (11ب) بخلاف الجملة (11أ) الذي تعد مقبولة لتلاؤم هذا الرابط مع الوجهة الحجاجية التي تعبر عنها الجملة.
إذن يتضح أن الفكرة الأساسية التي يؤكد عليها دوكرو و انسكومبر من خلال مقاربتهما لكل من الروابط الحجاجية و العوامل الحجاجية هو أن التعالق الذي نلاحظه في بنية الأقوال هو - من حيث وظيفته - تعالق موجه للقول وجهة حجاجية محددة، و هو في أصله غير مستمد من أي قاعدة من قواعد الاستدلال المنطقي، بل هو مستمد من بنية اللغة ذاتها. إن هذا التعالق هو الذي يحدد درجة الربط بين القول الأول و القول الذي يليه، و بعبارة أخرى هو الذي يؤسس السلم الحجاجي الذي تنتظم وفقه الأقوال.
يعد السلم الحجاجي فئة حجاجية موجهة للتراتبية القائمة بين الأقوال و الحجج وفقا لارتباطها بالنتائج و استلزام بعضها للبعض، و هو تتميز بالخصائص التالية:
- التأشير لتراتبية بين الأقوال من الأقل قوة إلى الأكثر قوة، و ذلك في اتجاه تصاعدي.
- وجود منطق خاص يربط بين القول و نتيجته.
في إطار السلم الحجاجي و التراتبية التي تحكمه يمكن ضبط درجة قوة الحجة أو ضعفها بحيث يتيح التمييز بين حجة حاسمة و حجة ممكنة و حجة قوية و حجة ضعيفة. يمثل دوكرو لعلاقة الترتيب التي تكون السلم الحجاجي كالتالي:
ن
ق
ق
السلالم الحجاجية و قوانين الخطاب
يشير عبد الله صولة (1999) في هذا الإطار إلى أن السلم الحجاجي بتركيزه على مبدأ التدرج في توجيه الحجج، يبين أن المحاجة اللغوية ليست رهينة المحتوى و لا رهينة إحالة هذا المحتوى على مرجع محدد، بل هي رهينة القوة و الضعف و رهينة الخصوصية و الذاتية، و بالتالي فهي لا تخضع لمنطق الصدق و الكذب.
ننتهي إلى القول إن الوقوف عند الحجاج و التقنيات التي يفعلها بهدف خلق الإقناع و الاقتناع تستوجب التوليف بين دراسة البنية اللغوية و البنى المعرفية و الأوضاع التواصلية. إن هذا التوليف هو الذي يمكن من تقديم مقاربة وافية لتقنيات التأثير و أشكاله الظاهرة و الخفية، و ذلك لا يتأتى إلا في إطار مقاربة تشابكية تسعى إلى الإلمام بهذه الظاهرة في كل جوانبها العديدة و المتشعبة.
الهوامش
1- بيرلمان 1977.
2- و هذا الحمل على قبول ق2 على أنه نتيجة للحجة ق1، يسمى عمل محاجة، كما يشير إلى ذلك شكري المبخوت1999.
3- أموسي2010.
4- إمرين و آخرون 1996.
5-أبو بكر العزاوي (2006).
6 - نحيل هنا على مناظرة فالادوديد التي ساقها كاريير(1992 : 168 – 169) و أوردها شارودو (2008). دارت هذه
المناظرة بين الأب دومينكان و لاس كازا المدافع عن الهنود و بين لويس سلديفا الفيلسوف المناهض لهم . استخدم
لويس سلديفا تقنية الحذف باعتبارها مبدأ منطقيا يعتمد اختيار إحدى الفرضيتين دون الأخرى.
7- - نشير هنا إلى أن هذه الهوية تضحى اختلافا إذا ما تم توظيف هذا الخطاب في مقام السخرية، الذي يعطي بشكل
مباشر قراءة مناقضة تماما للجملة7 بحيث تصبح خاصية الائتلاف بين الأسد و زيد التي هي الشجاعة محيلة بشكل
مباشر على نقيضها(ككليون1995).
8-- من ضمن ما جاء به بيرلمان إبطال مفعول بلاغة المحسنات و إدراج الاستعارة و التشبيه ضمن بلاغة الحجاج
(العمري2005).
9- أولرون (1993 : 9)
10- مايير( 2005 : 15)
11- و هذا ما يؤكده أبو بكر العزاوي (2006) في إشارته إلى أن الخطاب الحجاجي مؤسس على الإقناع الذي يروم إما
تغيير رأي أو حكم أو الحث على الفعل، و بالتالي يربط الحجاج بتحديد إستراتيجية الأكفى لطرح قضية معينة و إقناع
المخاطب بها و دحض الطرح المناقض .
12- و لعل هذا ما جعل شارودو (2008) يعتبر أن موضوع تحليل الخطاب ليس هو الكشف عن الحقيقة و إنما الكشف عن الآليات التي يتم عبرها تفعيلا لحقيقة و
يحصر من ضمن هذه الآليات فعلي: اعتقد " و "جعل يعتقد.
13- - السومري (2010).
14 - يعتبر شارودو (2008) أن هذا البعد يؤسس كل فعل لغوي و هو يستمد خصائصه من الوضع التواصلي الذي يدرج
فيه.
15 - يعتبر شارودو(2008) أن هذا البعد يفعل استراتيجيات خطابية تهويلية يكون القصد منها حصر المستمع في محيط
انفعالي خاص
من شأنه أن يجعله خاضعا للمتكلم الذي يحثه على التحرك في اتجاه محدد.
16 - في هذا الإطار يشير محمد العمري(2005) إلى أن المنطقة التي يتقاطع فيها التخييل و التداول هي منطقة الاحتمال
انطلاقا من أن البلاغة هي علم الخطاب الاحتمالي الهادف إلى التأثير أو الإقناع أو هما معا إيهاما أو تصديقا.
17-لمزيد من التفصيل أبو بكر العزاوي (2006 ).
18- - السومري(2010 : 20)..
19- ما يؤكد هذا الأمر إشارة بيرلمان إلى أنه حين يود خصمان أن يقنع أحدهما الآخر فسيلاحظ أن آراءهما التي انطلقا منها قبل الحجاج قد طرأ عليها تغيير بعد الحجاج، مرد ذلك رغبتهما في الوصول إلى توافق ما. إن هذه الرغبة هي التي أدت في نهاية الحجاج إلى الوصول إلى أطروحة مختلفة عن الأطروحتين المنطلق منهما. يبين هذا الأمر أن الاستدلال في الحجاج غير مؤسس على نسق استنباطي ثابت بخلاف البرهنة الصورية (محمد العمري 2005 :32)
20- تنطلق نظرية دوكرو من فكرة "إننا نتكلم بقصد التأثير" و هي تبين أن للغة وظيفة حجاجية. تتعارض نظرية
الحجاج في اللغة مع البلاغة الحديثة (برلمان) و البلاغة الكلاسيكية (أرسطو). للمزيد من التفصيل ينظر العزاوي
(2006).
21- شكري مبخوت1999
22- العزاوي(2006.
23- شكري المبخوت (1999)
المراجع
العزاوي. أبو بكر2006 اللغة و الحجاج. مطبعة الأحمدية. الدار البيضاء.
صولة عبد الله 1999: الحجاج :أطره و منطلقاته و تقنياته من خلال مصنف في الحجاج-الخطابة الجديدة لبرلمان و تيتيكاه وهو فصل من كتاب : أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم .إشراف حمادي صمود منشورات كلية الآداب منوبة سلسلة آداب ص 297 – 350.
السومري عبد الرزاق2010 : الحجاج: منطلقاته، تقنياته و مفاهيمه كتاب الحيوان للجاحظ
نموذجا. منتديات تخاطب.
محمد العمري2005 : البلاغة الجديدة بين التخييل و التداول. دار أفريقيا الشرق.
العمري .محمد 2007 : بلاغة الخطاب السياسي الهوية و الرسالة الاتحاد الاشتراكي 02 –
10 -2007
بلينجر .ل: 1996 : الآليات الحجاجية للتواصل ترجمة عبد الرفيق بوركي علامات -2004
المبخوت. شكري :1999 نظرية الحجاج في اللغة وهو فصل من كتاب: أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم .إشراف حمادي صمود منشورات كلية
الآداب منوبة- سلسلة آداب ص351 - 385.
صلاح. فضل بلاغة الخطاب و علم النص سلسلة عالم المعرفة عدد 164 المجلس الوطني
للثقافة و الفنون و الآداب الكويت.
شارودو. بيير 2008:الحجاج و إشكال التأثير. ترجمة ربيعة العربي مقال سيظهر في كتاب الحجاج و الاستدلال الحجاجي. منشورات فريق البحث في اللغة و التواصل و الحجاج إعداد حافيظ إسماعيلي علوي.
Amossy. R 2010 : L’argumentation dans le discours .Armand Colin. Paris.
Anscombre. J& Ducrot. O 1986 : Argumentavité et informativité .in Meyer ; M(éd) De la métaphysique à la rhétorique ;Bruxelles université de Bruxelles.
Blanché. R 1970 :La logique et son histoire d’ Aristote à Russel. Paris.
Blanché. R 1973 : Le raisonnement P.U.F. Paris
Carriere.J.C. 1992 : La controverse de Valladolid Belfond. . Paris.
Charaudeau. P 2008 : L’argumentation dans une problématique d influence. In :L’ analyse du discours au prisme de l’ argumentation groupe Addrar La revue électronique
http://aad.revues.org/index193.ht
Ducrot. O 1972 ire et ne pas dire. Hermann. . Paris.
Ducrot. O. 1973 :La preuve et le dire.Mame. . Paris.
Ducrot. O. 1980 : Les échelles argumentatives. Minuit . Paris.
Eemeren. F. H.V.R GRootendorst. F. Snoeck Henkermans 1996 :Fundamental of argumentation theory :a handbook of historical backgrounds .Lawrence Erlbaum Associates ;Inc
Ghiglione. R 1995 : L’ argumentation. In Cours de psychologie. Processus et application .Dunod. Paris
Meyer. M 1993 : questions de rhétorique . librairie Générale française. . Paris.
Meyer. M.2005 : Qu’ est ce que l argumentation .Vrin collection chemins philosophiques. . Paris.
Oleron. P. 1987 : L argumentation ;PUF .Paris.
Oleron. P 1993 : L’argumentation. P.U.F (nlle édition). Paris.
Perlman. C 1977 : L empire rhétorique. Vrin. . Paris.
Perleman. C &Tyteca. L 1958 O Traite de l argumentation:La nouvelle rhétorique Presses universitaires de France éditions de l’université de Bruxelles 1988. Bruxelles
Plantin. C. 1996 : L Argumentation. Seuil .Paris.
Plantin. C 2005 : L argumentation : Histoire ; théories et perspectives : Presses Universitaires de Frances. Paris.
Toulman. S.E 1958: The uses of argument. Cambridge
نبحث عن دليل مطلق يحيل على الكلي بقدر ما نبحث عن "صحة ظرفية" في الإطار المحدود للوضعي.
باتريك شارودو
يعد الخطاب بكل أنماطه مجالا واسعا للحجاج، و هذا ما يجعله مرتبطا بالإشكالات التي تثيرها البلاغة و لسانيات الخطاب و التواصل. إن الحجاج- كما يشير إلى ذلك أولرون(1987)- ينتمي إلى فئة الأفعال الإنسانية التي تهدف إلى الإقناع، و من هنا يستمد خصوصيته المتمثلة في تفعيل التعليل في الوضع التواصلي و تفعيل تقنياته، و ذلك بهدف تحقيق فعل التأثير.
انطلاقا من هذه الزاوية يمكن أن نفهم الإقناع في بعده الشامل، أي باعتباره استعمالا للغة في محاولة لتعديل أو تحويل أو تقوية رؤية المستمع بما تتضمنه هذه الرؤية من مشاعر و مواقف و طرائق تفكير.
هذه الورقة هي محاولة لمقاربة بعض الإشكالات التي يطرحها الحجاج، و التي نصوغها كالتالي:
- ما هو الحجاج و ما علاقة الخطاب الحجاجي بالخطاب البرهاني؟
- ما هي التقنيات التي يتم اللجوء إليها في إطار الحجاج للتأثير على الآخر؟
- ما هي استراتيجيات بناء الخطاب الحجاجي؟
و غيرها من الإشكالات التي تتضافر في إطار تحقيق إستراتيجية محددة لهذه الورقة و التي تتلخص في إبراز أوجه التعالق القائمة بين البلاغة و الحجاج من جهة، و مظاهر الائتلاف القائمة بين الأساليب البلاغية و التقنيات التي يفعلها الحجاج قصد إحداث فعل التأثير من جهة أخرى.
1 - تعريف الحجاج
أصبح الحجاج في العقود الأخيرة بؤرة اهتمام الدارسين، و ذلك من خلال الكتابات و الأبحاث الكثيرة التي صيغت بخصوصه، و التي لا تقتصر على مجال واحد، بل تهم مجالات متعددة. إن الحجاج جزء من معيشنا اليومي، فهو يمتد إلى جميع أنماط الخطاب و يتمظهر بأشكال مختلفة. إن مختلف أشكال الحياة اليومية و العائلية و السياسية توفر لنا كما هائلا من أمثلة الحجاج البلاغي ، فالحجاج يحضر بقوة في كل الممارسات الخطابية و يطبع كل أشكال العلاقات الإنسانية.
في 1958 ظهر كتاب تولمان "the uses of argument" و كتاب برلمان و تتيكا " le traité de l argumentation. شكل هذان العملان مصدر نمذجة أساسية لنظريات الحجاج باعتباره فن الإقناع، حيث عرفه برلمان و تتيكا(1958: 5) بأنه:
" دراسة تقنيات الخطاب التي تقود الأذهان إلى أن تسلم بما يعرض عليها من
أطروحات أو أن تزيد في درجة ذلك التسليم."
بذلك تم ربط الحجاج بإثارة أو تقوية الانخراط في الأطروحات المقدمة. إنه حوار من أجل الوصول إلى الاقتناع دون حمل على الإقناع، فغاية الحجاج في تصورهما إحداث التأثير المؤدي إلى الفعل. إنه ينطلق من تفعيل الفكر ليصل إلى تفعيل العمل و تحقيقه. وسيلته في ذلك خطابية، و قناته هي التأثير في ذهن المتلقي. إن غاية الحجاج و منتهاه إذن هو إقناع العقول بما يطرح عليها، و ذلك عبر توظيف تقنيات محددة تجعل من تحقيق هذا المبتغى أمرا ممكنا.
يتقاطع هذا التحديد مع التحديد الذي قدمه دوكرو و انسكومبر (1986) للحجاج في أنه هو أن يقدم المتكلم قولا ق1(أو مجموعة من الأقوال) موجها إلى جعل المخاطب يقبل قولا آخر ق2 (أو مجموعة من الأقوال) على أنه نتيجة له، و ذلك بشكل صريح أو ضمني . بهذا المعنى يكون الحجاج – كما يحيل على ذلك (العزاوي2006: 16):
" إنجاز متواليات من الأقوال بعضها بمثابة الحجج اللغوية و بعضها الآخر هو
بمثابة النتائج التي تستنتج منها."
فالحجاج إذن، علاقة ترابط بين الأقوال في الخطاب يؤطرها عمل المحاجة و تحكمها قيود لغوية. من هنا يركز دوكرو (1980 : 10) على أن الحجاج إنما يكمن في بنية اللغة ذاتها لا في المحتوى الخبري للأقوال و لا في المعطيات البلاغية المقامية. إن تقنيات الحجاج تقنيات خطابية مستمدة من بنية التراكيب اللغوية ذاتها التي يتم توظيفها. انطلاقا من هذا التصور يصبح الخطاب وسيلة الحجاج و منتهاه في آن واحد.
إذا كان دوكرو يربط الحجاج ببنية اللغة، فإن شارودو (2008) يربطه برهانات الأوضاع لا بالخصائص اللغوية، بينما يربطه ألرون (1993: 5) بالبنية الفكرية. بقول في تعريفه للحجاج:
" إجراء يسعى من خلاله شخص ما أو مجموعة ما إلى استدراج السامع إلى تبني
موقف [ما]، و ذلك باللجوء إلى عروض أو إثبات حجج تهدف إلى تبيان صحته."
يجمل أولرون انطلاقا من هذا التحديد ثلاثة مميزات للحجاج يوردها كالآتي:
- يدرج عدة أشخاص.
- ليس تمرينا نظريا، بل إجراء يهدف الشخص من خلاله إلى التأثير على الآخر.
- يسوق عناصر التسويغjustification لدعم الطرح المدافع عنه. إنه إجراء يتضمن عناصر عقلية و تجعله مرتبطا بالتعليل و المنطق.
تنبني هذه المميزات على تصنيف أولرون (1987) الحجاج في إطار فئة الأفعال الإنسانية التي تهدف إلى الإقناع والاستمالة، بل يجعله يتخطى ذلك إلى توجيه المخاطب نحو الفعل، و ذلك عبر توجيه رؤيته للأشياء، لذلك نراه يستمد خصوصيته من تفعيل التعليل في الوضع التواصلي . إن فاعل الحجاج كما أكد كراي (1990 : 41) لا يرى في المخاطب موضوعا للمناورة manipulation فقط، و إنما يرى فيه الأنا الآخرalter ego الذي ينبغي أن يتقاسم معه رؤية مشتركة و هو التصور الذي نراه يتكرر عند بلونتين (1996: 146). يقول في تعريفه للحجاج:
" هو العملية التي من خلالها يسعى المتكلم إلى تغيير نظام المعتقدات و التصورات لدى مخاطبه بواسطة الوسائل اللغوية."
و لعل هذا التصور هو ما جعل بلنجير (1996) يعتبر أن الحجاج ممارسة نفسية- منطقية" تؤطرها ثقافة معينة و توجهها الرغبة في التفاعل مع "الممارسة-النفسية-المنطقية" للشركاء المعنيين. من هذا المنظور يمكن أن نفهم الإلحاح على ضرورة التأثير باستخدام أساليب مختلفة و متعددة يتحكم في تحديد طبيعتها السياق الذي يجعلها تارة تميل إلى توضيح بعض مظاهر الأشياء، و تارة إلى حجب مظاهر أخرى و تارة إلى اقتراح مظاهر جديدة لم تكن مطروحة سلفا. ينقلنا هذا التنوع إلى تصور أوسع للحجاج باعتباره محاولة تعديل أو تحويل أو تقوية رؤية محددة باللجوء إلى اللغة، و ما تتيحه من إمكانات تعبيرية عديدة. و الواقع أن الأمر لا يقف عند حدود محاولة الإقناع برؤية محددة، بل يتخطاه ليشمل محاولة الإقناع بطرائق التفكير، بل و بطبيعة الإحساس أيضا.
نخلص إلى القول إن تنوع مقاربات الحجاج و التراكمات التي حققتها يجعل من الصعب ضبط الطرق التي نضجت بها نظرية الحجاج . يضعنا هذا المعطى أمام تصور واسع للحجاج يجعله مرادفا للبلاغة و يجعل أنماط الخطاب المتعددة أنماطا فرعية للخطاب الحجاجي، و بالتالي يجعل إشكالات الحجاج متعالقة مع الإشكالات المؤسسة للبلاغة و التواصل و فن المناورة. بل و متعالقة أيضا مع وظيفية الحركية الشاملة للخطاب، و هذا ما يسمح بربط الخطاب بالوضع التواصلي الملموس، و ربط الحجاج بالعوامل اللغوية و النفسية الاجتماعية، و هي في مجملها عوامل تتسم بخصائص أجملها بيرلمان كالآتي:
- التوجه إلى مستمع.
- التعبير عنه بلغة طبيعية.
- مسلماته احتمالية.
- لا يفتقر تقدمه و تناميه إلى ضرورة منطقية.
- ليست نتائجه ملزمة.
و هي خصائص تجعل مصادر الحجاج متعددة الروافد، إذ تشمل علوم اللغة و علم النفس و علم الاجتماع، كما تشمل الديالكتيك و المنطق و البلاغة و غيرها. بل يتعدى الأمر إلى حدود ربطه بوسائل تواصلية غير كلامية كتعبيرات الوجه و الحركات.
2 - التقنيات الحجاجية
إن البعد الحجاجي لا يكون حاضرا بشكل مباشر في كل أنماط الخطاب، بل قد يتخذ منحى غير مباشر، وهذا ما يجعل محاولة الإقناع هي بدورها غير مباشرة و غير معلن عنها، غير أنه يمكن استنباطها من كيفية توظيف الخطاب لألفاظه و تراكيبه، من ذلك ما نجد في الخطاب الإخباري و الوصفي والمحكي و الإشهاري، حيث إن طريقة تشكيل الخطاب هي التي توجه المخاطب إلى النظر إلى الأشياء بطريقة معينة. ولعل هذا هو الأمر الذي دعا برلمان إلى اعتبار أن جوهر نظرية الحجاج هو دراسة التقنيات الخطابية التي توجه الآخر نحو تبني وجهة النظر المطروحة .
يشير بلنجر 1996 إلى أن مقاربة الإقناع تتم من ثلاثة زوايا هي:
أ - زاوية بنية وسائل الاتصال (مقاربة سياسية و سوسيولوجية): من يتحكم في الخبر و يوجهه).
ب - زاوية محتوى الرسائل (أنماط الحجة و طبيعة الرسالة و خصائصها).
ج - زاوية الآثار التي يحدثها الإقناع (تحليل النماذج الخاصة بتغير الموقف).
في الاتجاه نفسه ينظر كابفيرر إلى الإقناع باعتباره " كلا تضبطه ست عمليات" يجملها كالآتي:
أ - تلقي الرسائل بما في ذلك كيفية هذا التلقي و أسبابه.
ب - تفكيك الرسائل، و ذلك انطلاقا من إجراءات توجيهية و تحويلية تتيح استيعاب الخطاب.
ج - قبول الرسالة (التصديق) أي كيف يتم إعداد مسلسل قبول القصد الإقناعي للرسالة أو رفضه و كيف يتم المرور من الفهم إلى الإقناع.
د - إدماج القبول في الموقف الشخصي: بأي معالجات سيكولوجية نمر من مسلسل القبول إلى تكوين موقف جديد (بداية الميل إلى حزب معين مثلا).
هـ - تعميق القبول و الحفاظ عليه: كيف تتطور المواقف في الزمن و هل تتمتع التغييرات بما يكفي من أسباب المقاومة.
و - تقيد السلوك الشخصي بالقبول: كيف يترجم تغيير الموقف إلى تغيير للسلوك.
إن هذه العوامل جميعها تصب في اتجاه إستراتيجية أساسية تتلخص في التأثير و الإقناع. تجعل هذه الإستراتيجية الخطاب الحجاجي مرتبطا بأغراض أربعة يجملها ككليون (1995 : 353) كالآتي:
- الإقناع.
- المداولة.
- التسويغ.
- التموضع في مقارنة مع الآخر.
تتقاطع هذه الأغراض بالأغراض التي تسعى البلاغة في تحقيقها، و التي يمكن إجمالها تبعا لمايير (1993 : 17 – 18) كالتالي:
- الإقناع و خلق القبول.
- الإرضاء أو الإغواء أو المناورة و تسويغ الأفكار قصد تمريرها.
- تمرير الرأي و المحتمل بعلل و حجج جيدة.
- اقتراح الضمني بواسطة الصريح.
- إنشاء معنى مجازي يكون منطلقا لفهم المعنى الحرفي و الاستدلال عليه.
- استعمال اللغة المجازية ومأسلبة stylisé والأدبية.
- الكشف عن نوايا المتكلم أو الكاتب و القدرة على تعليل ما يقولان انطلاقا مما يقولانه.
إن مقارنة بسيطة بين أغراض الحجاج و أغراض البلاغة تبين لنا أن هناك تقاطعات عديدة بينهما. تجعل هذه التقاطعات التقنيات الحجاجية في جزء منها على الأقل تقنيات بلاغية. على اعتبار أن مدار الدرس البلاغي هو البحث عن تقنيات التأثير التي هي في جوهرها تقنيات حجاجية. يقول أولرون(1993 : 10):
" من وجهة نظر اجتماعية يعد الحجاج صورة لتقنيات التأثير التي يفعلها الأفراد
و الجماعات بأشكال و بأهداف متعددة، بمجرد أن يبدأ الأشخاص العيش معا،
و بمجرد أن الحياة الجماعية تولد التعاون و الصراعات."
فأولرون (1993) يربط الحجاج بتفعيل تقنيات التأثير، على اعتبار أن الخطاب الحجاجي يميل إلى توجيه كيفيات النظر وفق برمجة محكومة بهدف محدد، لذلك يلجأ إلى توظيف تقنيات حجاجية متعددة، تتيح له إنجاز فعل الإقناع.
تنبني هذه العمليات التي تشكل أساس فعل الإقناع على الاستدلالraisonnement. تعد الاستدلال منطلقا استراتيجيا أساسيا في بناء الخطاب الحجاجي. إنه يعتمد على توظيف عمليات عقلية ينتقل بها الفكر من قضية إلى أخرى. تقوم هذه العمليات على نمطين من التقنيات الحجاجية:
- تقنيات منطقية صورية.
- تقنيات بلاغية.
2 -1 – التقنيات المنطقية الصورية:
هي عبارة عن مجموعة من التقنيات المتنوعة التي يقتبسها فاعل الحجاج من المنطق، نذكر منها ما يلي:
- الاستقراء induction: يتحدد الاستقراء تبعا لأرسطو باعتباره إجراء يتم عبره الانطلاق من الخاص إلى العام، و استنباط ما هو كلي. إنه يحيل – كما يشير إلى ذلك ككليون (5199 : 355) على المعطيات (أي يترسخ في الملموس)، و يتيح فحص الممكنات (أي يترسخ في الموضوعية).
- الاستنباط déduction: و هو عملية عقلية ينتقل بها الفكر من التعميم إلى التخصيص أي إخراج الجزئي مما هو كلي. يتعالق القياس مع الاستنباط المتضمن لمقدمتين منطقيتين ( واحدة كبرى و الأخرى صغرى) و نتيجة. يسوق ككليون في هذا الإطار في هذا الإطار المثال الشهير:
1 - الإنسان فان.
- سقراط إنسان.
- سقراط فان.
يشير ككليون إلى أنه يمكن أن نجد هذا النمط من التعليل في عدة حالات من المعيش اليومي، و يمثل لذلك بالخطاب الإشهاري:
2 - س يحقق أحلامكم.
- حلمت ب: أ.
- أ حققه س.
يمكن أن يحيل الاستنباط أيضا على القياس المنفصل. من نحو المثال الذي يسوقه ككليون (1995 :356) في (3) كالتالي:
3 - ce qui rêvent de dieu sont fous ou idéalistes.
- Or ils ne sont pas fous ,
- Donc ils sont idéalistes.
هنا ينظر المتكلم إلى كل الإمكانات كي يقيم الحكم النهائي، و رغم الجزئية الظاهرة فهو يوحي بالشمولية و يقوي بالتالي صحة استنتاجه. لكن هنا لتكون النتيجة صحيحة لابد من:
- استنفاذ الممكنات.
- ضمان صحة الرابط بين المقدمات و النتيجة.
يتضمن الاستدلال الاستنباطي الاستدلال الشرطي الذي يمكن صوغه في صورة قياس شرطي، من نحو ما نجده عند ككليون(1995: 356) في الجملة (4):
4 - إذا كانت الحقيقة موجودة فينبغي ايجادها.
- الحقيقة موجودة.
- إذن ينبغي إيجادها.
يشير ككليون إلى أن استعمال القياس لا يكفي لجعل الحجاج مقنعا، إذ لا بد أيضا من أن تكون المقدمات قابلة للتصديق. هنا ينظر المتكلم إلى كل الإمكانات كي يقيم النتيجة النهائية رغم الجزئية الظاهرة.
- المماثلة: تسمح المماثلة بالنقل من عالم على آخر. إن هذا النقل له فعالية دلالية قوية، كما هو واضح من الجملة (5) التي نقتبسها من ككليون:
5- ماذا تريدون؟ نقل الشيوعية إلى فرنسا، كي ننتهي مثل الروس.
يربط شارودو (2008) المماثلة بالتعليل بالمقايسة الذي يعتبره:
" يقوم على التقريب بين معطيين أو معرفتين أو حكمين أو سلوكين الخ على
الأقل...حيث يقدم أحدهما، كما لو أنه يملك سلطة معينة مؤسسة سلفا."
و يعتبر في هذا الإطار أن هذه الخاصية هي التي تجعل للحجة التي تقارن به قوة السلطة.
- الاستدلال السببي و هو حركة فكرية تقوم على ربط الأسباب بالمسببات. و هو ما ينعته شارودو(2008) بالتعليل بالاستنباط الذي يتعلق بأنماط الروابط السببية التي يمكن أن نقيمها بين الخبر و سببه أو الخبر و نتيجته. لتقريب ذلك يسوق شارودو((2008 الزوج الجملي التالي
6 – أ - لماذا ينبغي أن أصوت؟
- ب - لأنك مواطن صالح.
حيث يجعل الرابط قائما على الحتمية و يجعل الحجة قائمة على ما يسميه ب"الضامن"
بالإضافة إلى هذه التقنيات توجد تقنيات أخرى يجملها ككليون في:
- الحذف: يسمح بحذف الممكنات و إسقاطها و الحفاظ على فرضية واحدة مقبولة.يمكن ربط هذه التقنية بإستراتيجية تحديد الموقف التي تقتضي ضرورة الانتقاء من
بين موقفين متناقضين موقفا واحدا و واحدا فقط
- الاستدلال الجدلي و هو حركة فكرية تنتقل من الأطروحة إلى نقيضها ثم إلى نقيض النقيض.
2 - 2 – التقنيات البلاغية بين لعبة الهوية و الاختلاف:
إن تصور بيرلمان و تتيكا(1958) للحجاج يتجاوز تصور أرسطو، فإذا كان الغرض من الحجاج عند أرسطو هو الإقناع، فإن الغرض منه في تصورهما هو الحصول على الاقتناع الذي بغيب فيه فعل الفرض و الإجبار و يجعل من فعل الاختيار و المناقشة و القابلية للأخذ و الرد فعلا ممكنا حتى يحصل القبول و التسليم، و بالتالي التأثير و التأثر.
يقودنا هذا المعطى إلى تحديد مميزات الحجاج من خلال موضعة الإشكالات التي يطرحها وفق مستويين اثنين يحددهما ككليون (1995 : 344) في:
- مستوى علاقة الإنسان بالعالم.
- مستوى علاقة الإنسان بالإنسان.
يقول أولرون (1993 : 10-11) بهذا الخصوص:
" في كل رابط إنساني يمكن ملاحظة لعبة الهوية و الاختلاف. إذا كانت الأولى تشير إلى ما يقربنا بصفة عامة، فإن الأخرى تسم التعارض و الإقصاء. إن البلاغة هي صورة هذا الجانب الذي تصبح فيه الهوية اختلاف و الاختلاف هوية في لعبة دقيقة من التقاربات و الابتعادات."
إن فعل التأثير الذي يعد المحرك لفعل الحجاج مداره لعبة الهوية و الاختلاف التي هي مجال بلاغي بامتياز، فالبلاغة تمدنا بمجموعة من الأساليب الذي تتسم بوظيفية مزدوجة تجمع مابين الهوية و الاختلاف، منها الاستعارة مثلا الذي يمكن اعتبارها من التقنيات الحجاجية التي توظف للتوحيد بين عنصرين مختلفين و إيهام المتلقي بأن لهما هوية واحدة، ففي قولنا:
7 - زيد أسد
نلحظ تماهيا بلاغيا بين المكون "زيد" و المكون "الأسد"، حيث إذا تتبعنا ظاهر اللفظ يمكن فهم الجملة 7 على النحو التالي:
7 – أ زيد = أسد.
بالنظر إلى أنه تم تحديد هوية زيد في أنه أسد و ما يمثله ذلك من رصد لجملة من التشابهات و التقاربات, غير أنه إذا تجاوزنا ظاهر اللفظ، و ربطنا الجملة 7 بالوحدات الدلالية الصغرى التي يتألف منها المكونان، فسنفهم أنها لا تعني إجراء تماثل كلي بين زيد و الأسد، فالمفارقة دائما قائمة بين هوية زيد و هوية الأسد، إذ في واقع الأمر:
7 - ب زيد≠ أسد
في ضوء هذه الصورة تؤول الجملة 7 بأنها لا تحيل على تماثل كلي بين زيد و الأسد، و إنما على تماثل جزئي يمكن حصره في خاصية دلالية محددة هي خاصية الشجاعة. من هنا يمكن أن نفهم لعبة الهوية كالتالي:
7– ج - شجاعة زيد = شجاعة الأسد.
إن هذه الخاصية الدلالية هي التي تجعل من الجملة 7 خطابا متلاحما و مقبولا. و هي راجعة في نهاية التحليل – في تصور ككليون (1995 :357) إلى برهنة قياسية تتخذ الصورة التالية:
7- د - كل أسد شجاع.
- زيد شجاع.
- إذن زيد أسد.
و تتيح الانتقال من المعنى الحرفي إلى المعنى المجازي .
توظف الاستعارة أيضا للإشارة إلى موضوع بواسطة موضوع آخر يشكل معه مجموعا، بحيث يكون وجود أحدهما متضمن في وجود الآخر. هنا تتأسس اللعبة على إجراء تماثل في الهوية بين الكل و الجزء، ففي الجملة (8أ):
8- أ - خالد عين.
يمكن أن نحيل على قياس من نمط:
8– ب - خالد = عين.
أي : الكل = الجزء.
حيث يلاحظ أنه قد تم في هذه القراءة تغييب كل المميزات الأخرى التي يتميز بها خالد لصالح ميزة واحدة و محددة بشكل خاص، و هي كونه عينا، و ذلك لكي يقنع فاعل الحجاج المتلقي بأن خالدا جاسوس.
تعد الكناية أيضا من ضمن الأساليب البلاغية التي توظف في لعبة الهوية و الاختلاف، و هي تقوم على الإشارة إلى موضوع باسم موضوع آخر يستمد منه ذاته أو وجوده أو طريقة وجوده. إن الكناية حجاج يقوم على إبراز سمة مقابل محو السمات الأخرى نحو الجملة(9) التي يسوقها ككليون(1995 : 357) كالتالي:
9 - Picasso, l honneur de l Espagne.
بيكاسو شرف إسبانيا
إن التركيب هنا من نمط قياسي أيضا و هو يؤدي إلى لعبة تشخيصية من نمط:
10– أ - أ هو ب، ب يملك س, إذن أ هو.س
التي في ضوئها يمكن قراءة الجملة 9 بالشكل التالي:
1 – شرف إسبانيا هو الرسم، بيكاسو رسام، إذن بيكاسو هو شرف إسبانيا.
خلاصة القول إن الأساليب البلاغية المقدمة تحيل على لعبة الهوية و الاختلاف، و هي بذلك تقدم لنا تقنية من تقنيات الخطاب الحجاجي التي لا يمكن تمريرها إلا عبر إرساء مجموعة من المسلمات و الأفكار و ترسيخ المعارف المشتركة بين فاعل الحجاج و المتلقي من جهة و إدراج مفهوم المعاني التخييلية من جهة أخرى.
ما يجمع بين هذه الأنماط من الاستعارة هو كونها تسند للحجة دورا في استمرارية ثنائية هوية /اختلاف، و كلها تعد إشارات للسامع بأنه ينبغي أن يقوم بتعليل استنباطي مؤسس على نسيج قياسي. وهذه كلها خصائص تصب في اتجاه واحد هو الإقناع بموقف معين أو تعديل رأي أو الحث على الفعل. يقول ككليون (1995 : 351):
" إننا نستعمل الحجاج لأننا نحاول دائما الذهاب مما هو غير أكيد نحو ما هو أكيد
و لأننا نحاول دائما أن نتفاوض، أن نفرض يقيننا المؤقت على الذين لا يشتركون
معنا فيه."
في هذا الإطار يشير إلى أننا نلجأ إلى الحجاج لأن علاقة الإنسان بالعالم هي علاقة تساؤل و شك، فالحجاج يمارس في محيط يحكمه اللبس و الغموض و الاختلاف ، و تؤسسه مفاهيم غير محددة المعالم، من هنا تتحدد الوظيفة الأساسية للحجاج في البحث عن توافق في واقع تطبعه الاختلافات بين الناس و الجماعات، لذلك يكون الوضع الحجاجي – كما يشير إلى ذلك كريستيان بلونطان (2005 : 53)- قائما على المواجهة بين وجهات نظر تقدم أجوبه مختلفة للمسألة نفسها. إن الفكرة القائلة إن الحجاج يولد حيث يولد الاختلاف هي فكرة قديمة سبق أن أشار إليها أرسطو، حينما أكد على أننا لا نحاجج على المسائل المتفق عليها أو المسلم بها . و هي الفكرة نفسها التي تتردد عند بيرلمان في اعتباره أن الحجاج لا يتدخل إلا حين يكون فيها اليقين موضع طعن.
إن أساس الحجاج إذن ينبني على إيجاد وسائل تمكن من تبني وجهة نظر واحدة و إقصاء وجهات النظر البديلة أو المنافسة ، و ذلك عن طريق توظيف مجموعة من القضايا الداعمة أو الداحضة و هي في مجملها قضايا لا ترتبط بالخصائص الضمنية للحجج و إنما بكيفيات تقويم المتلقين لها .
نخلص إلى القول إن الحجاج نشاط اجتماعي يوجه نحو الآخر، و هو فضلا عن ذلك نشاط تعليلي، و هذا يقتضي من فاعل الحجاج أن يكون واعيا بالتقنيات الحجاجية و كيفية تفعيلها قصد حث المخاطب على الفعل و تغيير وجهة نظره بما ينسجم مع وجهة نظر فاعل الحجاج ويخدمها، و هذا ما يدفع بفاعل الحجاج إلى استعمال التعليل أو اللجوء إلى حث العواطف، و ذلك عن طريق تفعيل نسق معين من التفكير، بطريقة صريحة أو ضمنية. من هنا يصبح محرك كل إنتاج خطابي هو الحجاج بالضرورة و يصبح محرك الحجاج هو الإجراءات المنطقية التي تنبني عادة على المقاصد التالية:
- نقل قناعة و تبرير أفكار بشكل يجعلها صادقة.
- خلق القبول و التصديق.
- اقتراح الضمني بواسطة الواضح.
- كشف مقاصد المتكلم و القدرة على إسناد علل للأقوال.
تتقاطع هذه المقاصد مع أبعاد ثلاثة يجملها السومري (2010) فيما يلي:
- البعد العملي المتمثل في الحصول على رد فعل.
- البعد الفكري المتمثل في الحصول على تأييد.
- البعد الأخلاقي المتمثل في تغيير سلوك العملية.
تجعل هذه الأبعاد الثلاثة الخطاب الحجاجي محور تقاطع بين المنطقي logos و الأخلاقي
Ethos و العاطفي pathos ، و هي تقاطعات تربطه بالمجال النفسي الاجتماعي الذي تؤثثه مجالات العقل و العرف و الوجدان. إن هذه المجالات تبعد الخطاب الحجاجي عن الحقيقة العلمية و تنأى به عن الوضوح و البداهة أو المنطق و إن كان يستعين بها للإقناع - كما يؤكد بيرلمان و تتيكا (1958) - و تضعه في قلب الملائم و المشاكل و المعقول و المحتمل ، و تقرنه بكسب التأييد و الموافقة و الإقناع و التأثير و هي مقاصد تدفع بفاعل الحجاج إلى أن يسلك شبكة من مسارات حجاجية يرى أنه من الضروري إتباعها لبلوغ الهدف المتوخى. يقول شكري مبخوت(1999) إن:
" العلاقة بين الحجة و النتيجة غير ملزمة بصفة مطلقة إذ يمكن استخلاص النتيجة و ضدها شريطة المرور بالمواضع التي تمثل مصفاة لإتباع هذا المسا ر أو ذاك. و هذا ما يفسر كون الحجاج مفتوحا على احتمالات شتى، بما أنه لا يقدم حقائق مطلقة."
في هذا الإطار يشير محمد العمري(2005) إلى أن البلاغة هي علم الخطاب الاحتمالي الذي يتوخى التأثير أو الإقناع أو هما معا إيهاما أو تصديقا و ما يفرضه ذلك من اعتبار حال المستمع، و هو اعتبار يطرح مدى صلابة المنطلقات الحجاجية. إن هذه المنطلقات الحجاجية ينبغي أن تتأسس على جملة من الأفكار المقبولة التي يتقاسمها فاعل الحجاج مع المستمع و التي تشكل أداة يوظفها لكي يسحبه نحو قضيته، و هذا بالضبط ما يجعل فاعل الحجاج متميزا عن فاعل البرهان الذي يتوجه إلى مستمع كوني، لأنه صاحب أطروحات لا قضايا و هو معطى يؤسس للتمايز الذي ينبغي أن نقيمه بين الحجاج من جهة و البرهان من جهة أخرى.
2 - الحد بين الحجاج و البرهان:
إن التقنيات الحجاجية سواء المنطقية منها أو البلاغية تقوم على القياس. يعد القياس من ضمن التقنيات المستمدة من البرهان، على اعتبار أن الجامع بين الحجاج و البرهان هو تحقيق الاقتناع، غير أن هذا لا ينبغي أن يوهمنا بوجود تماهي بين الخطاب الحجاجي و الخطاب البرهاني، إذ هناك حدود فاصلة بين هذين النمطين الخطابيين، يشير إليها العزاوي (2006) في إطار مقارنته بين مفهوم الحجاج و مفهوم البرهنة بقوله تأسيسا على ما ورد عند دوكرو و انسكومبر إن الحجاج:
" لا يقدم براهين و أدلة منطقية و لا يقوم على مبادئ الاستنتاج المنطقي، فلفظة
الحجاج لا تعني البرهنة على صدق إثبات ما أو إظهار الطابع الصحيح
لاستدلال ما."
يؤكد دوكرو على أن الحجاج مغاير للبرهان، من حيث كونه مؤسسا على بنية الأقوال ذاتها و تسلسلها و اشتغالها داخل الخطاب، فهو موجود في الخطاب فقط. إن الحجاج ذو بعد لغوي دلالي تحكمه جملة من التعالقات القائمة بين الأقوال، على خلاف البرهان الذي يتأسس من أقوال مستقلة يعبر كل قول منها عن قضية، و بالتالي فتسلسل الأقوال في البرهان يقوم على اعتقاد المتكلم بحالة الأشياء. بعبارة أخرى إن ترابط الأحداث و الوقائع في البرهان ليس مؤسسا على الأقوال نفسها، و إنما على القضايا المتضمنة و التعالقات القائمة بينها، لذلك نجده يخضع لمعيار الصدق و الكذب على خلاف الحجاج.
إن هذا التمييز بين الحجاج و البرهان وارد أيضا عند بيرلمان، الذي يؤكد على أن ما يميز الخطاب الحجاجي هو أنه خطاب غير برهاني، و بالتالي فإن الاستدلالات التي يوظفها لا تتماهى مع الحساب الآلي أو الاستدلالات الصورية التي يمكن ملاحظتها في الخطاب البرهاني، من ثم نجده يبني نظريته في الحجاج على الخطاب غير البرهاني و هو بذلك يضع فصلا بين مجال الحجاج الذي هو البلاغة و مجال البرهان الذي هو المنطق. و قديما ميز أرسطو بين البرهان و الاستدلال الجدلي raisonnement dialectique يتميز هذا الأخير بتوفره على مقدماتprémisses هي عبارة عن معارف "صحيحة" أو " أولى" تشكل مقدمات منطقية، في حين أن الاستدلال مؤسس على "الآراء المقبولة" (و ليس على حقائق مبرهن عليها). يعود جوهر الاختلاف إذن إلى أن الحجاج يقتضي تفاعل الذوات، في حين أن البرهان ينفي الذات، لذا فهو صارم لكونه بمنأى عن جميع تأثيرات اللغة و العواطف، كما هو بمنأى عن ظروف المكان و الزمان التي يستعمل فيه.
نخلص إذن إلى أن البرهان ينبني على الانطلاق من مقدمات لاستنباط نتائج تفضي إليها تلك المقدمات بالضرورة ، لذلك يعتبر بيرلمان و تتيكا (1958) أنه يصبو إلى الحقيقة، أما الحجاج فيصبو إلى التأييد و الموافقة adhésion فالنتيجة فيه ليست ضرورية و لا مضمونه و لا واحدة. إن الحجاج لا يدعي أبدا اليقين، و إنما يغلب عليه الطابع النسبي و الذاتي، و ذلك لكون الحجج اللغوية متسمة بالمميزات التالية:
- إنها سياقية بحكم أن السياق هو الذي يجعلها حجة.
- إنها نسبية بحكم أن لكل حجة قوة حجاجية معينة.
- إنها قابلة للإبطال و الدحض.
و هي مميزات تجعل من الحجاج مرنا و تدريجيا و احتماليا ، بخلاف البرهان الذي يتميز بكونه صارما و مطلقا و حتميا. في الاتجاه نفسه يوضح ألرون (1993) أن البرهنة المعنية هنا هي البرهنة الصورية الخاصة بالرياضيات و المنطق.
غير أن هذا التمايز القائم بين الحجاج و المنطق لم يمنع مايير(1993) من أن يحاول الربط بين الحجاج و المنطق في اعتباره للحجاج بأنه ليس قياسا ضعيفا مفتقرا إلى المقدمات المنطقية. إن سلسلة اللوغوس يمكن أن تنتقل من الاستعارة إلى المنطق مرورا بالحجاج و من الجواب السريع و السهل إلى الجواب المؤسس.
نختم نقاشنا لهذه النقطة بما أورده العمري (2005) الذي أجمل نقاط الاختلاف القائمة بين الحجاج و البرهنة فيما يلي:
- يقترن الحجاج بمستمع معين خاص أو متخصص و هذا ما يجعل المقدمات الحجاجية غير بديهية و لا منطقية و لا مبرهن عليها و إنما هي قضايا مقبولة و متفق عليها.
- استعمال اللغة الطبيعية في الحجاج و هي لغة ملبسة ألفاظها و هذا يفتح المجال واسعا لتعدد الدلالات و القراءات المحتملة.
- مسار الحجاج لا يأخذ طريق الصرامة البرهانية إلا في اتجاه السلب أي إثبات ما ليس ممكنا.
- إن الحجاج سجال من حيث كونه يعارض على الدوام و لو ضمنيا.
الروابط الحجاجية
إذا كان ككليون(1995) يحاول أن يربط الحجاج بالمنطق و ينظر إليه في علاقته بالتقنيات التي تفرضها قواعد القياس فإن دوكرو (1973 – 1980) قد اتجه في إطار التداولية المدمجة إلى البحث عن الحجاج في بنية اللغة و في القواعد الداخلية المرتبطة بمستوياتها المتنوعة الصوتية منها و الصرفية و التركيبية و المعجمية و الدلالية. .إن هذه القواعد هي التي تخلق منطقا خاصا باللغة منبثقا من داخلها. إن منطق اللغة – حسب رأيه- يمكن تلمسه من خلال أوسام لغوية يفعلها المتكلم لتوجيه خطابه وجهة ما، وذلك في أفق تحقيق الوظيفة الحجاجية. تقسم هذه الأوسام اللغوية التي تحقق الترابط بين عناصر النص الحجاجي إلى قسمين:
- روابط حجاجية: و هي عبارة عن عناصر نحوية من حيث طبيعتها تربط بين القول الأول و القول الثاني، من نحو أدوات الاستئناف (الواو- الفاء- لكن- إذن..).
- عوامل حجاجية : تتجسد فيما تمثله الأقوال ذاتها من أساليب كأسلوب النفي و الحصر اللذين يعبر عنهما بمكونات معينة مثل (إلا- لم...) أو مكونات معجمية تتميز في غالب الأحيان بإحالة غير مباشرة مثل: منذ الظرفية و تقريبا و أبدا...
في هذا الاتجاه يعمد دوكرو إلى استخلاص الوظيفة الحجاجية بالاستناد إلى التسلسلات الخطابية التي تتأسس انطلاقا من ثلاثة أبعاد رئيسة:
- الوقائع التي تحيل عليها الأقوال.
- بنية الأقوال.
- المواد التي يتم تشغيلها .
تجعل هذه الأبعاد الثلاثة دوكرو و انسكومبر يحددان موضوع الحجاج في بيان ما يتضمنه القول من قوة حجاجية غير منفصلة عن معناه و لا عن الترابطات الحجاجية المتضمنة فيه . و بعبارة أخرى غير منفصلة عن البنية الداخلية للخطاب.
نخلص إلى القول إن الحجاج غير مرتهن عند دوكرو و انسكومبر ببنية استدلالية توجد خارج اللغة و تعمل على توجيهه، فللغة منطقها الخاص الذي يرسم وجهة القول و كيفياته و قوانين اللغة المستقلة هي التي تقود المتكلم إلى تبني وجهة حجاجية محددة. من هنا يتم تحليل القول- حسب التداولية المدمجة- باللجوء إلى نوعين من المكونات هما:
- المكون اللغوي الذي يختزل المعطيات اللغوية.
- المكون البلاغي الذي يختزل المعطيات غير اللغوية.
يتفاعل هذان المكونان معا في تحديد دلالة الخطاب، فإذا انطلقنا من الجملة التالية:
10 – أنا مرهق، لكني سأشتغل.
نجد أن المكون اللغوي يجعل الرابط " لكن" يقرن بين محتويين خطابيين من جهة (أنا مرهق) و (سأشتغل) و يتحكم في توجيه الكيفية التي ينبغي أن يتم بها التأويل من جهة أخرى.
أما المكون البلاغي فيستدعى بواسطته السياق الذي أنجز فيه الخطاب، و ذلك لكي يتم ربطه بالظروف المقامية بما فيها زمان و مكان القول و اعتبارات التخاطب و غيرها من الوسائط التي يتيح استحضارها ربط دلالة القول بسياقه و توجيه الذهن إلى التأويل الملائم، و بالتالي توجيه السامع وجهة حجاجية معينة تجعل من القول حجة لهذه النتيجة أو تلك تبعا للروابط الحجاجية المتضمنة فيه. تحيل هذه الروابط الحجاجية إلى المكونات اللغوية التي تضبط الاحتمالات الحجاجية و تحدد أوجه الربط بين النتيجة و حجتها. لتوضيح ذلك يسوق شكري مبخوت (1999) الجملة (11أ):
11 –أ - لن تفتقر فما ثمن التذكرة إلا 30 دينارا.
في مقارنة مع ج (11 ب):
11– ب -٭ ستفتقر فما ثمن التذكرة إلا 30 دينارا.
حيث يرجع لحن الجملة (11 ب) إلى أن استعمال الرابط الحجاجي غير متلائم مع دلالة الجملة (11ب) بخلاف الجملة (11أ) الذي تعد مقبولة لتلاؤم هذا الرابط مع الوجهة الحجاجية التي تعبر عنها الجملة.
إذن يتضح أن الفكرة الأساسية التي يؤكد عليها دوكرو و انسكومبر من خلال مقاربتهما لكل من الروابط الحجاجية و العوامل الحجاجية هو أن التعالق الذي نلاحظه في بنية الأقوال هو - من حيث وظيفته - تعالق موجه للقول وجهة حجاجية محددة، و هو في أصله غير مستمد من أي قاعدة من قواعد الاستدلال المنطقي، بل هو مستمد من بنية اللغة ذاتها. إن هذا التعالق هو الذي يحدد درجة الربط بين القول الأول و القول الذي يليه، و بعبارة أخرى هو الذي يؤسس السلم الحجاجي الذي تنتظم وفقه الأقوال.
يعد السلم الحجاجي فئة حجاجية موجهة للتراتبية القائمة بين الأقوال و الحجج وفقا لارتباطها بالنتائج و استلزام بعضها للبعض، و هو تتميز بالخصائص التالية:
- التأشير لتراتبية بين الأقوال من الأقل قوة إلى الأكثر قوة، و ذلك في اتجاه تصاعدي.
- وجود منطق خاص يربط بين القول و نتيجته.
في إطار السلم الحجاجي و التراتبية التي تحكمه يمكن ضبط درجة قوة الحجة أو ضعفها بحيث يتيح التمييز بين حجة حاسمة و حجة ممكنة و حجة قوية و حجة ضعيفة. يمثل دوكرو لعلاقة الترتيب التي تكون السلم الحجاجي كالتالي:
ن
ق
ق
السلالم الحجاجية و قوانين الخطاب
يشير عبد الله صولة (1999) في هذا الإطار إلى أن السلم الحجاجي بتركيزه على مبدأ التدرج في توجيه الحجج، يبين أن المحاجة اللغوية ليست رهينة المحتوى و لا رهينة إحالة هذا المحتوى على مرجع محدد، بل هي رهينة القوة و الضعف و رهينة الخصوصية و الذاتية، و بالتالي فهي لا تخضع لمنطق الصدق و الكذب.
ننتهي إلى القول إن الوقوف عند الحجاج و التقنيات التي يفعلها بهدف خلق الإقناع و الاقتناع تستوجب التوليف بين دراسة البنية اللغوية و البنى المعرفية و الأوضاع التواصلية. إن هذا التوليف هو الذي يمكن من تقديم مقاربة وافية لتقنيات التأثير و أشكاله الظاهرة و الخفية، و ذلك لا يتأتى إلا في إطار مقاربة تشابكية تسعى إلى الإلمام بهذه الظاهرة في كل جوانبها العديدة و المتشعبة.
الهوامش
1- بيرلمان 1977.
2- و هذا الحمل على قبول ق2 على أنه نتيجة للحجة ق1، يسمى عمل محاجة، كما يشير إلى ذلك شكري المبخوت1999.
3- أموسي2010.
4- إمرين و آخرون 1996.
5-أبو بكر العزاوي (2006).
6 - نحيل هنا على مناظرة فالادوديد التي ساقها كاريير(1992 : 168 – 169) و أوردها شارودو (2008). دارت هذه
المناظرة بين الأب دومينكان و لاس كازا المدافع عن الهنود و بين لويس سلديفا الفيلسوف المناهض لهم . استخدم
لويس سلديفا تقنية الحذف باعتبارها مبدأ منطقيا يعتمد اختيار إحدى الفرضيتين دون الأخرى.
7- - نشير هنا إلى أن هذه الهوية تضحى اختلافا إذا ما تم توظيف هذا الخطاب في مقام السخرية، الذي يعطي بشكل
مباشر قراءة مناقضة تماما للجملة7 بحيث تصبح خاصية الائتلاف بين الأسد و زيد التي هي الشجاعة محيلة بشكل
مباشر على نقيضها(ككليون1995).
8-- من ضمن ما جاء به بيرلمان إبطال مفعول بلاغة المحسنات و إدراج الاستعارة و التشبيه ضمن بلاغة الحجاج
(العمري2005).
9- أولرون (1993 : 9)
10- مايير( 2005 : 15)
11- و هذا ما يؤكده أبو بكر العزاوي (2006) في إشارته إلى أن الخطاب الحجاجي مؤسس على الإقناع الذي يروم إما
تغيير رأي أو حكم أو الحث على الفعل، و بالتالي يربط الحجاج بتحديد إستراتيجية الأكفى لطرح قضية معينة و إقناع
المخاطب بها و دحض الطرح المناقض .
12- و لعل هذا ما جعل شارودو (2008) يعتبر أن موضوع تحليل الخطاب ليس هو الكشف عن الحقيقة و إنما الكشف عن الآليات التي يتم عبرها تفعيلا لحقيقة و
يحصر من ضمن هذه الآليات فعلي: اعتقد " و "جعل يعتقد.
13- - السومري (2010).
14 - يعتبر شارودو (2008) أن هذا البعد يؤسس كل فعل لغوي و هو يستمد خصائصه من الوضع التواصلي الذي يدرج
فيه.
15 - يعتبر شارودو(2008) أن هذا البعد يفعل استراتيجيات خطابية تهويلية يكون القصد منها حصر المستمع في محيط
انفعالي خاص
من شأنه أن يجعله خاضعا للمتكلم الذي يحثه على التحرك في اتجاه محدد.
16 - في هذا الإطار يشير محمد العمري(2005) إلى أن المنطقة التي يتقاطع فيها التخييل و التداول هي منطقة الاحتمال
انطلاقا من أن البلاغة هي علم الخطاب الاحتمالي الهادف إلى التأثير أو الإقناع أو هما معا إيهاما أو تصديقا.
17-لمزيد من التفصيل أبو بكر العزاوي (2006 ).
18- - السومري(2010 : 20)..
19- ما يؤكد هذا الأمر إشارة بيرلمان إلى أنه حين يود خصمان أن يقنع أحدهما الآخر فسيلاحظ أن آراءهما التي انطلقا منها قبل الحجاج قد طرأ عليها تغيير بعد الحجاج، مرد ذلك رغبتهما في الوصول إلى توافق ما. إن هذه الرغبة هي التي أدت في نهاية الحجاج إلى الوصول إلى أطروحة مختلفة عن الأطروحتين المنطلق منهما. يبين هذا الأمر أن الاستدلال في الحجاج غير مؤسس على نسق استنباطي ثابت بخلاف البرهنة الصورية (محمد العمري 2005 :32)
20- تنطلق نظرية دوكرو من فكرة "إننا نتكلم بقصد التأثير" و هي تبين أن للغة وظيفة حجاجية. تتعارض نظرية
الحجاج في اللغة مع البلاغة الحديثة (برلمان) و البلاغة الكلاسيكية (أرسطو). للمزيد من التفصيل ينظر العزاوي
(2006).
21- شكري مبخوت1999
22- العزاوي(2006.
23- شكري المبخوت (1999)
المراجع
العزاوي. أبو بكر2006 اللغة و الحجاج. مطبعة الأحمدية. الدار البيضاء.
صولة عبد الله 1999: الحجاج :أطره و منطلقاته و تقنياته من خلال مصنف في الحجاج-الخطابة الجديدة لبرلمان و تيتيكاه وهو فصل من كتاب : أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم .إشراف حمادي صمود منشورات كلية الآداب منوبة سلسلة آداب ص 297 – 350.
السومري عبد الرزاق2010 : الحجاج: منطلقاته، تقنياته و مفاهيمه كتاب الحيوان للجاحظ
نموذجا. منتديات تخاطب.
محمد العمري2005 : البلاغة الجديدة بين التخييل و التداول. دار أفريقيا الشرق.
العمري .محمد 2007 : بلاغة الخطاب السياسي الهوية و الرسالة الاتحاد الاشتراكي 02 –
10 -2007
بلينجر .ل: 1996 : الآليات الحجاجية للتواصل ترجمة عبد الرفيق بوركي علامات -2004
المبخوت. شكري :1999 نظرية الحجاج في اللغة وهو فصل من كتاب: أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم .إشراف حمادي صمود منشورات كلية
الآداب منوبة- سلسلة آداب ص351 - 385.
صلاح. فضل بلاغة الخطاب و علم النص سلسلة عالم المعرفة عدد 164 المجلس الوطني
للثقافة و الفنون و الآداب الكويت.
شارودو. بيير 2008:الحجاج و إشكال التأثير. ترجمة ربيعة العربي مقال سيظهر في كتاب الحجاج و الاستدلال الحجاجي. منشورات فريق البحث في اللغة و التواصل و الحجاج إعداد حافيظ إسماعيلي علوي.
Amossy. R 2010 : L’argumentation dans le discours .Armand Colin. Paris.
Anscombre. J& Ducrot. O 1986 : Argumentavité et informativité .in Meyer ; M(éd) De la métaphysique à la rhétorique ;Bruxelles université de Bruxelles.
Blanché. R 1970 :La logique et son histoire d’ Aristote à Russel. Paris.
Blanché. R 1973 : Le raisonnement P.U.F. Paris
Carriere.J.C. 1992 : La controverse de Valladolid Belfond. . Paris.
Charaudeau. P 2008 : L’argumentation dans une problématique d influence. In :L’ analyse du discours au prisme de l’ argumentation groupe Addrar La revue électronique
http://aad.revues.org/index193.ht
Ducrot. O 1972 ire et ne pas dire. Hermann. . Paris.
Ducrot. O. 1973 :La preuve et le dire.Mame. . Paris.
Ducrot. O. 1980 : Les échelles argumentatives. Minuit . Paris.
Eemeren. F. H.V.R GRootendorst. F. Snoeck Henkermans 1996 :Fundamental of argumentation theory :a handbook of historical backgrounds .Lawrence Erlbaum Associates ;Inc
Ghiglione. R 1995 : L’ argumentation. In Cours de psychologie. Processus et application .Dunod. Paris
Meyer. M 1993 : questions de rhétorique . librairie Générale française. . Paris.
Meyer. M.2005 : Qu’ est ce que l argumentation .Vrin collection chemins philosophiques. . Paris.
Oleron. P. 1987 : L argumentation ;PUF .Paris.
Oleron. P 1993 : L’argumentation. P.U.F (nlle édition). Paris.
Perlman. C 1977 : L empire rhétorique. Vrin. . Paris.
Perleman. C &Tyteca. L 1958 O Traite de l argumentation:La nouvelle rhétorique Presses universitaires de France éditions de l’université de Bruxelles 1988. Bruxelles
Plantin. C. 1996 : L Argumentation. Seuil .Paris.
Plantin. C 2005 : L argumentation : Histoire ; théories et perspectives : Presses Universitaires de Frances. Paris.
Toulman. S.E 1958: The uses of argument. Cambridge