طبائع الإنسان ومواهبه متماثلة حيثما حل من بقاع الأرض، ومجتمعاته متشابهة الظواهر أينما قامت. تتشعب بين أفراد كل مجتمع إنساني عوامل التعاون والتنافس والتحاب والتباغض والمطامع والمخاوف، غير أن للبيئة أثرها في تشكيل المجتمع الإنساني الذي تحيط به، بما تعرض أمام أبصاره وأذهانه من مناظر ومسائل تحجب عنه غيرها، وما تفرض عليه من أعمال يمارسها دون سواها، ويكون لهذا وذاك أثره البين في لغة المجتمع وأدبه، مقروناً إلى أثر الطبائع والمواهب التي تشترك فيها الأمم جمعاء.
فللبيئة في أدب كل لغة ثلاثة آثار بعيدة المدى: فهي أولاً تؤثر في مبنى اللغة وأصواتها وألفاظها وتعابيرها وتشبيهاتها ومجازاتها وأمثالها السائرة وحكمها المتواترة، فكل ذلك منتزع من طبيعة الإقليم؛ وهي ثانياً تؤثر في مهن المجتمع وعلومه وفنونه وعمرانه وينعكس كل ذلك في مرآة الأدب؛ وهي أخيراً تعرض دائماً أبداً أمام أنظار الأدباء وحواسهم مناظر طبيعية بذاتها، تسترعي انتباههم وتستجيش نفوسهم وتلهمهم كل ما تجود به قرائحهم في باب عظيم الخطر من أبواب الأدب هو باب الوصف الطبيعي.
وأثر البيئة في الأدبين العربي والإنجليزي واضح وضوحاً شديداً يكاد لروعته يخفي أثر الطبيعة الإنسانية التي تشترك فيها الأمتان ويتفق عندها الأدبان، فإن تباين البيئتين تبايناً شديداً أدى إلى اختلاف اللغة والمهن والعمران والمناظر في المجتمعين، وأدى بالتالي إلى اختلاف أشكال الأدبين وصورهما ومواضيعهما وأساليبهما؛ ويمكن إيجاز التعبير عن الفرق بين الأدبين بالقول بأن أحدهما شب في بيئة صحراوية والآخر ترعرع في بيئة بحرية.
نشأ العرب في البادية فجاءت لغتهم مشرقة الديباجة متينة البناء قوية التعبير غنية الاشتقاق منتظمة أوزان الشعر متعددتها وحفلت بأسماء ظواهر الطبيعة البرية وحالاتها، وأسماء حيوان البادية وأطوار حياته، واشتقت تشبيهاتها ومجازاتها وأمثالها من القمر والنجوم والكثيب والقطا، والمُنبتِّ الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، وورود الماء بماء أكيس، وإلقاء الحبل على الغارب. ولعدم ملاءمة البادية لغير الأدب من الفنون عظمت مكانته بينهم.
واشتغل العرب في البادية بالتجارة ينقلونها بين الشرق والغرب، فامتلأت لغتهم بمصطلحات التجارة بعضها عربي وبعضها منقول عن الأمم التي بادلوها التجارة، وامتلأ أدبهمبالتشبيهات المنتزعة من أحوال التجارة: فالقرآن الكريم يكرر في غير موضع تشبيه الخير والشر بالنجدين، وذكر الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم؛ وعنترة يقول:
حصاني كان دلال المنايا ... فخاض غمارها وشرى وباعا
وبثت حياة البادية في العرب صفات الحمية والشجاعة والحرية والأنفة أن يدينوا لملك، وظهر أثر كل ذلك جلياً في أدبهم؛ وأشهر أمثلة ذلك معلقة عمرو بن كلثوم، فهي ديوان العرب في الحماسة؛ وأدى إباؤهم ودوام انتجاعهم الكلأ إلى استمرار المناوشات والوقائع بين قبائلهم، وانعكس ذلك في مفاخراتهم ومنافراتهم نثراً وشعراً.
وهذه الصفات الشماء التي تلزم حياة التبدي جعلت العرب ينظرون شزراً إلى الزراعة والصناعة اللتين لم يكن لهما مجال في البادية، ويحتقرون الزراع والصناع الذين تسترقهم الأرض وتستعبدهم المادة، ولا يرون الشرف والعزة إلى في رعي الإبل والتجارة والقتال. فالأخطل يعيّر بني النجار بمساحيهم، وآخر يفاخر غريمه فيقول:
لحا الله أَلاْمَنَا نسبا - وأجدرنا أن ينفخ الكيرَ خاله - يصوغ الشنوف والقروط بيثربا
والحق أن الشعر الجاهلي مهما يكن قد داخله من تزييف يمثل الجانب الاجتماعي من حياة العرب في الجاهلية تمثيلاً رائعاً؛ ولا يمكن تصور حالة العرب في ذلك العهد إلا على ما وصِفت في أشعار طرفة ومهلهل وأمثالهما.
أما مناظر البادية الطبيعية المتشابهة الشديدة الوطأة، فيبدو أنها لم تُشرب العرب من حب الطبيعة مقدار ما بثت في نفوسهم من رهبتها والحرص على اتقائها، ولم تلهمهم من أشعارٍ في وصف محاسنها قدر ما أوحت إليهم من أشعار في التأمل في أحوالها والاستعبار والخشوع، فلا غرو لم تخرج الصحراء شعراء طبيعيين يصفون محاسن المناظر، كتلك التي تحفل بها الإلياذة والأوديسة، وإنما أخرجت أنبياء وحكماء في شتى عصورها.
وتحضّر الشعب الإنجليزي في جزيرة تحيط بها البحار، وتجري فيها الأنهار، وتتخللها البحيرات، وتتوالى عليها الأمطار والثلوج والسحاب والضباب، ويتعاقب فيها الصحو والدجن، وتنتشر في أرجائها الغابات والآجام، وتتتابع فيها الربى والقيعان، فامتلأت لغتهم بأوصاف البحر والغاب، وأسماء ما أسكنوهما من جان، واشتُقت منهما تشبيهاتهم وأمثالهم، فاستُعير الضباب لحالة الشك والإبهام، والسحاب للحزن والقلق، وقالوا في أمثالهم إن الوقت والمدَّ لا ينتظرون إنسانا، وحلت السفينة من مخيلتهم ما كان للجمل لدى العرب من منزلة: فبينما ترى حسان يشبه تراقص الخمر في إنائها بتهادي الناقة المسرعة فيقول:
بزجاجة رقصت بما في قعرها ... رقص القلوص براكب مستعجل
يُشّبَه ملتون (دليلة) وهي شاخصة في عظم جرمها وتمام زينتها وعتادها إلى (سمسون الجبار) لاختداعه عن سر قوته بالسفينة المنشورة الشراع.
وامتلأت قلوب الإنجليز بحب البحر، وظهر أثر ذلك في أدبهم في كل العصور: في روايات شكسبير كالعاصفة وتاجر البندقية، وفي تواريخ أمراء البحر الإنجليز ككتاب (وستوْرَدهو!) الذي سماه مؤلفه كنجزلي بأسم البلدة التي أنجبت معظم أولئك البحارين الذين يسمون بأفذاذ ديفون، وككتاب سَوْذي عن نلسون، والروايات الخرافية عن البحارة الذين لاقوا الأهوال وطوفوا في مسالك البحار، أمثال روبنسون كروزو، واسكندر سلكرك، وجليفر؛ واوصاف البحر وقصصه تكون جانباً كبيراً مما يعرف بأدب الأطفال.
ولم يشغف الإنجليز بالبحر وحده، بل بالماء حيث حل من البقاع، وأياً اتخذ من الأشكال، فهاموا حباً بالأنهار والبحيرات، ونال إقليم البحيرات في غرب إنجلترا مكانة سامية في قلوب شعراء الإنجليز، واتخذه شعراء النهضة الرومانسية مستراداً ومقاماً، وحفلت دواوينهم بأوصافه ومحاسنه، فحل في إنجلترا محل جبال برناس التي كانت ترتادها آلهة الشعر في بلاد اليونان.
وحفل الأدب الإنجليزي كذلك بذكر الغاب ووصفه في مختلف أوقات العام، واتخذ مسرحاً لروايتي (كما تشاء) و (حلم ليلة في منتصف الصيف) لشكسبير، وفي الأخيرة تمتزج الحقيقة بالخيال، وتختلط الأناسي بعرائس الغاب وعفاريته، وفي تلك العرائس المتخيلة نظمت أشعار كثيرة، وفي تلك الغابات كان يعيش روبن هود وجماعته ذات الوقائع الممتعة، وبالجملة بثت طبيعة بلاد الإنجليز المتعددة المنظر والحالات أُلفة الطبيعة والشغف بها في نفوس الإنجليز، فاحتلت من أدبهم موضعاً مكيناً.
ولموقع الجزيرة وإحاطة البحار بها اشتغل الإنجليز بالتجارة، ينقلونها بين العالمين القديم والجديد، وقد مارسوها بحراً على حين مارسها العرب براً، فدخلت تعبيراتها وأوصافها في أدبهم؛ واشتغلوا بالزراعة لملاءمة الإقليم وحفل جانب من أدبهم بوصف سكان القرى والبلدان الريفية، وحياتهم ومجتمعاتهم، وكثر ذلك خاصة في العصور الحديثة حين تقدم فن القصص وأزداد التفات الأدباء إلى الحياة اليومية والطبقات الوسطى والدنيا. ومن خير أمثلة ذلك روايات جين أوستن وتوماس هاردي؛ واشتغل الإنجليز كذلك بالصناعة الكبيرة لوفرة المعادن في بيئتهم، فقام نوع من الأدب يدرس مشاكل الصناعة ويصور مجتمع الصناع، وانصرف بعض الروائيين، كأرنولد بنيت، إلى وصف حياة الرأسماليين، وبعضهم، كتشارلز دكنز، إلى درس أحوال العمال والمناداة بتحسينها.
هكذا تأثر كلا الأدبين بالبيئة التي قام فيها، فاختلفا لذلك مناحي ومواضيع وأشكالاً؛ بيد أن البيئة التي تقدم ذكرها إن هي إلا البيئة المحلية المحض، وهي على عظيم تثيرها في المجتمع والأدب قلما تنفرد بالتأثير فيهما، بل تشاركها في ذلك بيئة أوسع أطرافاً هي البيئة العالمية، أي العالم كله بما فيه من ظواهر طبيعية وما يسكنه من أقوام، فهيهات أن يعيش مجتمع في بيئته المحلية غير متأثر بالعالم الخارجي تأثراً قل أو كثر، عن طريق التجارة والغارة والرحلة، وذلك الأثر العالمي يعرض أمام أفراد المجتمع من الظواهر والمشاكل ما كانوا عنه بنجوة، ويُدخل في لغتهم وأدبهم ما كانوا به جاهلين.
تأثر الشعبان العربي والإنجليزيبأحوال العالم الخارجي، أي البيئة الكبرى، ولكنهما اختلفا في هذه البيئة كما اختلفا في البيئة المحلية، إذ تأثر كل منهما بما يليه مباشرة من أجزاء تلك البيئة العالمية: وما يلي بلاد العرب هو الأمم الشرقية من فرس وهند وروم شرقيين ومصريين، ذات الحضارة الشرقية العتيدة والملكيات القديمة؛ وما يلي الإنجليز هو الأمم الغربية الوراثة لحضارة الإغريق والرومان ذوي التاريخ الحافل بالنظم الحكومية والآراء الحرة في السياسة والاجتماع، وبذلك ازدادت صبغتا الأدب تبياناً.
تأثر العرب بحضارة الأمم التي كانوا ينقلون متاجرها. ولا سيما الفرس والروم، وكانت لهم بهؤلاء علاقات سياسية لأكابرهم إلى ملوكهم سفرات، والى اشتغال قريش بتلك التجارة ومخالطتها تلك الأمم يرجع ذلك الرقي الأدبي والمادي الذي بلغته قبيل الإسلام، وظهورها على القبائل في الثروة والجاه والشرف واللغة، وإنجابها عظماء الرجال الذين على أيديهم توطدت دولة الإسلام في حال من التمدن وسط بين همجية البداوة ونعومة الحضارة.
ولو استمر العرب بالبيئة الخارجية طبيعياً محدوداً هكذا لازدادوا رقياً وازدادت لغتهم بهاء وأدبهم ازدهاراً؛ ولكن التوسع الخارجي الذي أعقب نجاح المسلمين الحربي المفاجئ أوقف ذلك التأثر البطيء، وأحدث انقلاباً تاماً في مجرى الأمور، فلم يعد تأثر الأدب العربي بالعالم الخارجي مقصوراً على النقل التدريجي، بل انتقل الأدب ذاته جملة من وطنه الأصلي وهجر بيئته الأولى إلى بيئة أو بيئات جديدة في الشام والعراق ومصر والأندلس وغيرها، والأدب العربي في انتقاله هذا ومهاجرته هذه من وطن إلى وطن نسيج وحدة بين آداب الأمم.
وجد الأدب العربي نفسه في بيئة جديدة، في أراض مزروعة مثمرة، وأمم مترفة مستقرة، وبلدان عامرة متحضرة، ذات علوم وصناعات، فتأثر بهذه البيئة الجديدة في ثلاث النواحي سالفة الذكر: في مفردات اللغة وتعبيراتها التي ازدادت بالنقل والتعريب، وفي المهن ومظاهر العمران، وفي وصف مناظر الطبيعة الجديدة، فكثر في الأدب ذكر الرياض والأزهار.
على أن تأثر الأدب في الناحيتين الأولى والثالثة كان قليلاً نسبياً لفني اللغة في الاشتقاق الذي أغناها عن الإمعان في التعريب، ومحافظة العرب التي نفَّرتهم من استعمال ألفاظ اللغات الأخرى وأخيلتها إلا ما جاء عفواً أو ضرورة، وحرصهم على احتذاء أسلافهم حتى ظلوا يقلدونهم في وصف البيد والخيام والنؤى والعيس، وهم يعيشون بين الأرياف والعواصم، فقامت هذه التقليدات للمتقدمين في الأدب العربي كالمتحجرات في عالم الجيولوجيا: قد فقدت كل حياة ولم تعد إلا رموزاً للماضي.
ولم يشغف العرب شغفاً حاراً بمظاهر الطبيعة التي صادفوها في بيئتهم الجديدة، وكأن نفرتهم القديمة من قسر الطبيعة لم تفارق نفوسهم، وكأن كل ما كانوا يطمحون إليه بعد أن طووا الأميال ضرباً في فلوات الجزيرة وهواجرها، ظلّ ظليل وماء سبيل وهواء بليل، تريح الجسوم وترويها وترفه عنها بعد طول الكد، فغص أدبهم الطبيعي بذكر راحة الجسم ولذات الحواس، دون طويل تأمل في محاسن الطبيعة واجتلاء لأسرارها وتقصٍّ للذكريات والآمال عندها، وأجمع الأمثلة لذلك قول الشاعرة الأندلسية:
وقانا لفحة الرمضاء واد ... سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحه فحنا علينا ... حنوِّ المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالاً ... ألذ من المدامة للنديم
يصد الشمس أنى واجهتنا ... فيحجبها، ويأذن للنسيم
إنما كان أشد تأثر الأدب العربي في بيئته الجديدة بالناحية الثانية، ناحية العمران، ناحية الحياة المستقرة في البلدان، المعتمدة على الزراعة والصناعة، الخاضعة للملكية، وهي عكس حياتهم في البادية تماماً، فانغمر الأدباء في جو المدن، واعتزلوا الطبيعة وتكأكأوا على بيت الأمراء، وتزاحموا على مجالس الطرب والشراب، واستفرغوا جهدهم في انتهاب فرص الحياة من جاه ومال ورفاهية ولهو، وتأثر الأدب بذلك: فلم يعد يتغنى بالنجدة والبأس والقناعة، بل طاب له الاستظلال بسلطان الحاكمين، يترنم بمدحهم بعد أن كان أمثال عمر بن كلثوم يثورون على نيرهم، وتفنن في وصف مظاهر التحضر وضروب الترف واللهو في المدن.
أما الأدب الإنجليزي، فتأثر بالبيئة العالمية في النواحي الثلاث - نواحي مبنى اللغة ومظاهر العمران ومنظر الطبيعة - تأثراً كبيراً: فاللغة الإنجليزية تدين للغات الأجنبية ولا سيما اللاتينية بأكثر مفرداتها وطرق اشتقاقها وكثير من تعابيرها ومجازاتها؛ والمجتمع الإنجليزي تأثر بالمجتمع الإيطالي في عصر الإحياء، وبالمجتمع الفرنسي في عصر لويس الرابع عشر؛ ولم يخلُ في عصر من التأثر بحالة العمران في أوربا، إذ كانت الحضارة الأوربية الحديثة مشتركة بين شتى الأمم؛ وباطلاع الإنجليز على أوصاف الطبيعة في الآداب الكلاسيكية ازدادوا شغفاً بمفاتن بلادهم، وزادوا فوصفوا محاسن الطبيعة في إيطاليا وبلاد اليونان وغيرهما.
تأثر الأدب الإنجليزي بالبيئة العالمية في شتى النواحي، ولكنه لاستقراره في وطنه الأول وبيئته المحلية جاء تأثره بالأولى بطيئاً محدوداً لم يطغ على خواصه المحلية، بل ظلت للبيئة المحلية المكانة الأولى والآثار الواضحة في الأدب، ولم يزد الأثر الخارجي على أن أضاف إلى العناصر المحلية ما يناسبها ويخصبها من العناصر الأجنبية، وكلما احتجن الأدب جانباً من تلك العناصر مثَّلها ومزجها بنفسه وصبغها بصبغته الخاصة.
فالأدبان العربي والإنجليزي قد نشأ في بيئتين طبيعيتين مختلفتين وترعرعا في مجتمعين متباينين، وتأثرا بعوامل عالمية مختلفة، وهاجر أحدهما من بيئته الأولى إلى بيئة جديدة بينما ظل الآخر في وطنه الأول، فلا غرو أن يختلف الأدبان في الصبغة والمناحي والأوضاع والأغراض والأخيلة، اختلافاً يروع الناظر فيهما فيخيل إليه أن ليس هناك تشابه بينهما فقط، ولا وجه للموازنة والمقابلة، ويكاد يخفي ما فيهما من تعبير مشترك عن شتى النوازع النفسية والظواهر الاجتماعية، التي تتفق فيها الطباع الإنسانية، في شتى المجتمعات، ومختلف البيئات.
فخري أبو السعود
مجلة الرسالة - العدد 177
بتاريخ: 23 - 11 - 1936
فللبيئة في أدب كل لغة ثلاثة آثار بعيدة المدى: فهي أولاً تؤثر في مبنى اللغة وأصواتها وألفاظها وتعابيرها وتشبيهاتها ومجازاتها وأمثالها السائرة وحكمها المتواترة، فكل ذلك منتزع من طبيعة الإقليم؛ وهي ثانياً تؤثر في مهن المجتمع وعلومه وفنونه وعمرانه وينعكس كل ذلك في مرآة الأدب؛ وهي أخيراً تعرض دائماً أبداً أمام أنظار الأدباء وحواسهم مناظر طبيعية بذاتها، تسترعي انتباههم وتستجيش نفوسهم وتلهمهم كل ما تجود به قرائحهم في باب عظيم الخطر من أبواب الأدب هو باب الوصف الطبيعي.
وأثر البيئة في الأدبين العربي والإنجليزي واضح وضوحاً شديداً يكاد لروعته يخفي أثر الطبيعة الإنسانية التي تشترك فيها الأمتان ويتفق عندها الأدبان، فإن تباين البيئتين تبايناً شديداً أدى إلى اختلاف اللغة والمهن والعمران والمناظر في المجتمعين، وأدى بالتالي إلى اختلاف أشكال الأدبين وصورهما ومواضيعهما وأساليبهما؛ ويمكن إيجاز التعبير عن الفرق بين الأدبين بالقول بأن أحدهما شب في بيئة صحراوية والآخر ترعرع في بيئة بحرية.
نشأ العرب في البادية فجاءت لغتهم مشرقة الديباجة متينة البناء قوية التعبير غنية الاشتقاق منتظمة أوزان الشعر متعددتها وحفلت بأسماء ظواهر الطبيعة البرية وحالاتها، وأسماء حيوان البادية وأطوار حياته، واشتقت تشبيهاتها ومجازاتها وأمثالها من القمر والنجوم والكثيب والقطا، والمُنبتِّ الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، وورود الماء بماء أكيس، وإلقاء الحبل على الغارب. ولعدم ملاءمة البادية لغير الأدب من الفنون عظمت مكانته بينهم.
واشتغل العرب في البادية بالتجارة ينقلونها بين الشرق والغرب، فامتلأت لغتهم بمصطلحات التجارة بعضها عربي وبعضها منقول عن الأمم التي بادلوها التجارة، وامتلأ أدبهمبالتشبيهات المنتزعة من أحوال التجارة: فالقرآن الكريم يكرر في غير موضع تشبيه الخير والشر بالنجدين، وذكر الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم؛ وعنترة يقول:
حصاني كان دلال المنايا ... فخاض غمارها وشرى وباعا
وبثت حياة البادية في العرب صفات الحمية والشجاعة والحرية والأنفة أن يدينوا لملك، وظهر أثر كل ذلك جلياً في أدبهم؛ وأشهر أمثلة ذلك معلقة عمرو بن كلثوم، فهي ديوان العرب في الحماسة؛ وأدى إباؤهم ودوام انتجاعهم الكلأ إلى استمرار المناوشات والوقائع بين قبائلهم، وانعكس ذلك في مفاخراتهم ومنافراتهم نثراً وشعراً.
وهذه الصفات الشماء التي تلزم حياة التبدي جعلت العرب ينظرون شزراً إلى الزراعة والصناعة اللتين لم يكن لهما مجال في البادية، ويحتقرون الزراع والصناع الذين تسترقهم الأرض وتستعبدهم المادة، ولا يرون الشرف والعزة إلى في رعي الإبل والتجارة والقتال. فالأخطل يعيّر بني النجار بمساحيهم، وآخر يفاخر غريمه فيقول:
لحا الله أَلاْمَنَا نسبا - وأجدرنا أن ينفخ الكيرَ خاله - يصوغ الشنوف والقروط بيثربا
والحق أن الشعر الجاهلي مهما يكن قد داخله من تزييف يمثل الجانب الاجتماعي من حياة العرب في الجاهلية تمثيلاً رائعاً؛ ولا يمكن تصور حالة العرب في ذلك العهد إلا على ما وصِفت في أشعار طرفة ومهلهل وأمثالهما.
أما مناظر البادية الطبيعية المتشابهة الشديدة الوطأة، فيبدو أنها لم تُشرب العرب من حب الطبيعة مقدار ما بثت في نفوسهم من رهبتها والحرص على اتقائها، ولم تلهمهم من أشعارٍ في وصف محاسنها قدر ما أوحت إليهم من أشعار في التأمل في أحوالها والاستعبار والخشوع، فلا غرو لم تخرج الصحراء شعراء طبيعيين يصفون محاسن المناظر، كتلك التي تحفل بها الإلياذة والأوديسة، وإنما أخرجت أنبياء وحكماء في شتى عصورها.
وتحضّر الشعب الإنجليزي في جزيرة تحيط بها البحار، وتجري فيها الأنهار، وتتخللها البحيرات، وتتوالى عليها الأمطار والثلوج والسحاب والضباب، ويتعاقب فيها الصحو والدجن، وتنتشر في أرجائها الغابات والآجام، وتتتابع فيها الربى والقيعان، فامتلأت لغتهم بأوصاف البحر والغاب، وأسماء ما أسكنوهما من جان، واشتُقت منهما تشبيهاتهم وأمثالهم، فاستُعير الضباب لحالة الشك والإبهام، والسحاب للحزن والقلق، وقالوا في أمثالهم إن الوقت والمدَّ لا ينتظرون إنسانا، وحلت السفينة من مخيلتهم ما كان للجمل لدى العرب من منزلة: فبينما ترى حسان يشبه تراقص الخمر في إنائها بتهادي الناقة المسرعة فيقول:
بزجاجة رقصت بما في قعرها ... رقص القلوص براكب مستعجل
يُشّبَه ملتون (دليلة) وهي شاخصة في عظم جرمها وتمام زينتها وعتادها إلى (سمسون الجبار) لاختداعه عن سر قوته بالسفينة المنشورة الشراع.
وامتلأت قلوب الإنجليز بحب البحر، وظهر أثر ذلك في أدبهم في كل العصور: في روايات شكسبير كالعاصفة وتاجر البندقية، وفي تواريخ أمراء البحر الإنجليز ككتاب (وستوْرَدهو!) الذي سماه مؤلفه كنجزلي بأسم البلدة التي أنجبت معظم أولئك البحارين الذين يسمون بأفذاذ ديفون، وككتاب سَوْذي عن نلسون، والروايات الخرافية عن البحارة الذين لاقوا الأهوال وطوفوا في مسالك البحار، أمثال روبنسون كروزو، واسكندر سلكرك، وجليفر؛ واوصاف البحر وقصصه تكون جانباً كبيراً مما يعرف بأدب الأطفال.
ولم يشغف الإنجليز بالبحر وحده، بل بالماء حيث حل من البقاع، وأياً اتخذ من الأشكال، فهاموا حباً بالأنهار والبحيرات، ونال إقليم البحيرات في غرب إنجلترا مكانة سامية في قلوب شعراء الإنجليز، واتخذه شعراء النهضة الرومانسية مستراداً ومقاماً، وحفلت دواوينهم بأوصافه ومحاسنه، فحل في إنجلترا محل جبال برناس التي كانت ترتادها آلهة الشعر في بلاد اليونان.
وحفل الأدب الإنجليزي كذلك بذكر الغاب ووصفه في مختلف أوقات العام، واتخذ مسرحاً لروايتي (كما تشاء) و (حلم ليلة في منتصف الصيف) لشكسبير، وفي الأخيرة تمتزج الحقيقة بالخيال، وتختلط الأناسي بعرائس الغاب وعفاريته، وفي تلك العرائس المتخيلة نظمت أشعار كثيرة، وفي تلك الغابات كان يعيش روبن هود وجماعته ذات الوقائع الممتعة، وبالجملة بثت طبيعة بلاد الإنجليز المتعددة المنظر والحالات أُلفة الطبيعة والشغف بها في نفوس الإنجليز، فاحتلت من أدبهم موضعاً مكيناً.
ولموقع الجزيرة وإحاطة البحار بها اشتغل الإنجليز بالتجارة، ينقلونها بين العالمين القديم والجديد، وقد مارسوها بحراً على حين مارسها العرب براً، فدخلت تعبيراتها وأوصافها في أدبهم؛ واشتغلوا بالزراعة لملاءمة الإقليم وحفل جانب من أدبهم بوصف سكان القرى والبلدان الريفية، وحياتهم ومجتمعاتهم، وكثر ذلك خاصة في العصور الحديثة حين تقدم فن القصص وأزداد التفات الأدباء إلى الحياة اليومية والطبقات الوسطى والدنيا. ومن خير أمثلة ذلك روايات جين أوستن وتوماس هاردي؛ واشتغل الإنجليز كذلك بالصناعة الكبيرة لوفرة المعادن في بيئتهم، فقام نوع من الأدب يدرس مشاكل الصناعة ويصور مجتمع الصناع، وانصرف بعض الروائيين، كأرنولد بنيت، إلى وصف حياة الرأسماليين، وبعضهم، كتشارلز دكنز، إلى درس أحوال العمال والمناداة بتحسينها.
هكذا تأثر كلا الأدبين بالبيئة التي قام فيها، فاختلفا لذلك مناحي ومواضيع وأشكالاً؛ بيد أن البيئة التي تقدم ذكرها إن هي إلا البيئة المحلية المحض، وهي على عظيم تثيرها في المجتمع والأدب قلما تنفرد بالتأثير فيهما، بل تشاركها في ذلك بيئة أوسع أطرافاً هي البيئة العالمية، أي العالم كله بما فيه من ظواهر طبيعية وما يسكنه من أقوام، فهيهات أن يعيش مجتمع في بيئته المحلية غير متأثر بالعالم الخارجي تأثراً قل أو كثر، عن طريق التجارة والغارة والرحلة، وذلك الأثر العالمي يعرض أمام أفراد المجتمع من الظواهر والمشاكل ما كانوا عنه بنجوة، ويُدخل في لغتهم وأدبهم ما كانوا به جاهلين.
تأثر الشعبان العربي والإنجليزيبأحوال العالم الخارجي، أي البيئة الكبرى، ولكنهما اختلفا في هذه البيئة كما اختلفا في البيئة المحلية، إذ تأثر كل منهما بما يليه مباشرة من أجزاء تلك البيئة العالمية: وما يلي بلاد العرب هو الأمم الشرقية من فرس وهند وروم شرقيين ومصريين، ذات الحضارة الشرقية العتيدة والملكيات القديمة؛ وما يلي الإنجليز هو الأمم الغربية الوراثة لحضارة الإغريق والرومان ذوي التاريخ الحافل بالنظم الحكومية والآراء الحرة في السياسة والاجتماع، وبذلك ازدادت صبغتا الأدب تبياناً.
تأثر العرب بحضارة الأمم التي كانوا ينقلون متاجرها. ولا سيما الفرس والروم، وكانت لهم بهؤلاء علاقات سياسية لأكابرهم إلى ملوكهم سفرات، والى اشتغال قريش بتلك التجارة ومخالطتها تلك الأمم يرجع ذلك الرقي الأدبي والمادي الذي بلغته قبيل الإسلام، وظهورها على القبائل في الثروة والجاه والشرف واللغة، وإنجابها عظماء الرجال الذين على أيديهم توطدت دولة الإسلام في حال من التمدن وسط بين همجية البداوة ونعومة الحضارة.
ولو استمر العرب بالبيئة الخارجية طبيعياً محدوداً هكذا لازدادوا رقياً وازدادت لغتهم بهاء وأدبهم ازدهاراً؛ ولكن التوسع الخارجي الذي أعقب نجاح المسلمين الحربي المفاجئ أوقف ذلك التأثر البطيء، وأحدث انقلاباً تاماً في مجرى الأمور، فلم يعد تأثر الأدب العربي بالعالم الخارجي مقصوراً على النقل التدريجي، بل انتقل الأدب ذاته جملة من وطنه الأصلي وهجر بيئته الأولى إلى بيئة أو بيئات جديدة في الشام والعراق ومصر والأندلس وغيرها، والأدب العربي في انتقاله هذا ومهاجرته هذه من وطن إلى وطن نسيج وحدة بين آداب الأمم.
وجد الأدب العربي نفسه في بيئة جديدة، في أراض مزروعة مثمرة، وأمم مترفة مستقرة، وبلدان عامرة متحضرة، ذات علوم وصناعات، فتأثر بهذه البيئة الجديدة في ثلاث النواحي سالفة الذكر: في مفردات اللغة وتعبيراتها التي ازدادت بالنقل والتعريب، وفي المهن ومظاهر العمران، وفي وصف مناظر الطبيعة الجديدة، فكثر في الأدب ذكر الرياض والأزهار.
على أن تأثر الأدب في الناحيتين الأولى والثالثة كان قليلاً نسبياً لفني اللغة في الاشتقاق الذي أغناها عن الإمعان في التعريب، ومحافظة العرب التي نفَّرتهم من استعمال ألفاظ اللغات الأخرى وأخيلتها إلا ما جاء عفواً أو ضرورة، وحرصهم على احتذاء أسلافهم حتى ظلوا يقلدونهم في وصف البيد والخيام والنؤى والعيس، وهم يعيشون بين الأرياف والعواصم، فقامت هذه التقليدات للمتقدمين في الأدب العربي كالمتحجرات في عالم الجيولوجيا: قد فقدت كل حياة ولم تعد إلا رموزاً للماضي.
ولم يشغف العرب شغفاً حاراً بمظاهر الطبيعة التي صادفوها في بيئتهم الجديدة، وكأن نفرتهم القديمة من قسر الطبيعة لم تفارق نفوسهم، وكأن كل ما كانوا يطمحون إليه بعد أن طووا الأميال ضرباً في فلوات الجزيرة وهواجرها، ظلّ ظليل وماء سبيل وهواء بليل، تريح الجسوم وترويها وترفه عنها بعد طول الكد، فغص أدبهم الطبيعي بذكر راحة الجسم ولذات الحواس، دون طويل تأمل في محاسن الطبيعة واجتلاء لأسرارها وتقصٍّ للذكريات والآمال عندها، وأجمع الأمثلة لذلك قول الشاعرة الأندلسية:
وقانا لفحة الرمضاء واد ... سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحه فحنا علينا ... حنوِّ المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالاً ... ألذ من المدامة للنديم
يصد الشمس أنى واجهتنا ... فيحجبها، ويأذن للنسيم
إنما كان أشد تأثر الأدب العربي في بيئته الجديدة بالناحية الثانية، ناحية العمران، ناحية الحياة المستقرة في البلدان، المعتمدة على الزراعة والصناعة، الخاضعة للملكية، وهي عكس حياتهم في البادية تماماً، فانغمر الأدباء في جو المدن، واعتزلوا الطبيعة وتكأكأوا على بيت الأمراء، وتزاحموا على مجالس الطرب والشراب، واستفرغوا جهدهم في انتهاب فرص الحياة من جاه ومال ورفاهية ولهو، وتأثر الأدب بذلك: فلم يعد يتغنى بالنجدة والبأس والقناعة، بل طاب له الاستظلال بسلطان الحاكمين، يترنم بمدحهم بعد أن كان أمثال عمر بن كلثوم يثورون على نيرهم، وتفنن في وصف مظاهر التحضر وضروب الترف واللهو في المدن.
أما الأدب الإنجليزي، فتأثر بالبيئة العالمية في النواحي الثلاث - نواحي مبنى اللغة ومظاهر العمران ومنظر الطبيعة - تأثراً كبيراً: فاللغة الإنجليزية تدين للغات الأجنبية ولا سيما اللاتينية بأكثر مفرداتها وطرق اشتقاقها وكثير من تعابيرها ومجازاتها؛ والمجتمع الإنجليزي تأثر بالمجتمع الإيطالي في عصر الإحياء، وبالمجتمع الفرنسي في عصر لويس الرابع عشر؛ ولم يخلُ في عصر من التأثر بحالة العمران في أوربا، إذ كانت الحضارة الأوربية الحديثة مشتركة بين شتى الأمم؛ وباطلاع الإنجليز على أوصاف الطبيعة في الآداب الكلاسيكية ازدادوا شغفاً بمفاتن بلادهم، وزادوا فوصفوا محاسن الطبيعة في إيطاليا وبلاد اليونان وغيرهما.
تأثر الأدب الإنجليزي بالبيئة العالمية في شتى النواحي، ولكنه لاستقراره في وطنه الأول وبيئته المحلية جاء تأثره بالأولى بطيئاً محدوداً لم يطغ على خواصه المحلية، بل ظلت للبيئة المحلية المكانة الأولى والآثار الواضحة في الأدب، ولم يزد الأثر الخارجي على أن أضاف إلى العناصر المحلية ما يناسبها ويخصبها من العناصر الأجنبية، وكلما احتجن الأدب جانباً من تلك العناصر مثَّلها ومزجها بنفسه وصبغها بصبغته الخاصة.
فالأدبان العربي والإنجليزي قد نشأ في بيئتين طبيعيتين مختلفتين وترعرعا في مجتمعين متباينين، وتأثرا بعوامل عالمية مختلفة، وهاجر أحدهما من بيئته الأولى إلى بيئة جديدة بينما ظل الآخر في وطنه الأول، فلا غرو أن يختلف الأدبان في الصبغة والمناحي والأوضاع والأغراض والأخيلة، اختلافاً يروع الناظر فيهما فيخيل إليه أن ليس هناك تشابه بينهما فقط، ولا وجه للموازنة والمقابلة، ويكاد يخفي ما فيهما من تعبير مشترك عن شتى النوازع النفسية والظواهر الاجتماعية، التي تتفق فيها الطباع الإنسانية، في شتى المجتمعات، ومختلف البيئات.
فخري أبو السعود
مجلة الرسالة - العدد 177
بتاريخ: 23 - 11 - 1936