يا ما سمعنا هذه العبارة و قرأناها و كتبناها وتداولناها! لكن هل فعلا توقفنا عندها بعض الوقت لِسَبْرِ أغوارها وما تنطوي عليه من أفكار.
لنبدأ أولا بمحاولة تفسير هذه العبارة. "تقليدٌ" مصدر "قلَّدَ". و يُقال فلان قلَّدَ فلانا، أي حذا حذوه في الأقوال والأفعال والحركات واللباس، الخ. وحينما يكون التقليد بدون تفكير مُسبق وبدون تأمل، فإننا نقول إن هذا التقليد "تقليد أعمى"، أي تقليد من أجل التقليد، بدون تبصُّر. خلافا للتقليد المتبصِّر والهادف الذي يفيد صاحبَه وربما مجتمعا بأكمله وخصوصا إذا ترتبت عنه قيمات مضافة.
وخير مثال يمكن سياقُه فيما يخص التقليد المتبصِّر والهادف يتعلّق بالنهضة العلمية العربية الإسلامية التي بلغت بالخصوص أوجها ما بين القرن الثامن والثالث عشر ميلادي. و ذلك بفضل تقليد وترجمة ما أنتجه الإغريق من علوم كانت منطلقاً لإنتاج معارف وعلوم جديدة أدت إلى العديد من النظريات والاختراعات في شتى ميادين المعرفة وعلى رأسها الطب والرياضيات والفلسفة والفيزياء والكيمياء وعلم النبات والصيدلة، الخ. والتقليد المتبصِّر والهادف يتميّز بكون المُقَلِّدَ، قبل الإقبال على التّقليد، تكون له فكرة مسبقة لا تقتصر فقط على مجرد التقليد بل هذا الأخير ليس إلا وسيلة يُستفادُ منها لخطو خطوات جديدةً إلى الأمام. وهذا النوع من التقليد محمود ومرغوب فيه وجاري به العمل في شتى المجالات. وقد يتخذ شكل اقتباسات في ميادين الفن والمسرح والتشكيل والموسيقى والتاريخ والأدب، الخ. و هنا تجدر الإشارة إلى أن جميع الأبحاث، التي تتم داخل أو خارج المختبرات في العلوم الطبيعية أو في العلوم الدقيقة أو في العلوم الإنسانية، تعتمد دائما على ما أنتجه الآخرون من معارف. التقليد المتبصِّر والهادف يأتي دائما بإضافات جديدة تُفيد التقدم العلمي والمجتمع الذي من الممكن هو الآخر أن يستفيد من هذه الإضافات. وهذا هو ما تُلخِّصه المقولة التالية : "ما الفائدة من ماض لا مستقبلَ له ومن مستقبل بدون ماض؟".
أما التقليد الأعمى، فإنه بدون تردد من أخطر عوامل تفكُّك وتخريب المجتعات. وما يؤكد ذلك أن التقليد الأعمى يطمسُ الفكرَ النقدي ويجعل مِن مَن تبنّاه سجينا و حبيسا في دائرة مُغلقة لا يمكن أن يخطوَ خطوةً إلى الأمام. بل أكثر من هذا، ليس له ولو أدنى تنظير حول ما يقلِّده. وبالتالي، فلا وجودَ له كفكر نقدي، فعال ومُنْتِج. وهذا النوع من الناس له حضور كبير في المجتمع شبابا وكهولا وشيبا. وقد لا أبالغ إذا قلتُ إنه ليس له أية إضافة في مجال التنمية وذلك لسبب بسيط هو أن هذه الأخيرةَ ليستْ فقط إنتاج واقتصاد وتكنولوجيا، الخ. بل هي كذلك وبالأخص سلوك و أخلاق و فكر...
وهنا، لا بد من توضيح : "إن أغلبَ المُقلِّدين العُمْيان لا ذنبَ لهم فيما هم فيه لأن المؤسسة، التي كان من المفروض أن تحميَهم من هذه الآفة، عَجَزَتْ في أداء مهمَّتها". و أعني بهذه المؤسسة المدرسة. فأين سيكتسِب الناس الفكرَ النقدي؟ وكيف سيكتسبونه إذا تُرِكوا لحالهم ولأهوائهم ولعفويتهم ولسذاجتهم؟
وعندما قلتُ أعلاه إن التقليد الأعمى من أخطر عوامل تفكُّك وتخريب المجتعات، فإن المدرسة تتحمَّل نصيبا من المسئولية في هذا التفكُّك. وهذا لا يعني أن المدرسةَ ستقضي على التقليد الأعمى، لكنها على الأقل ستحدُّ منه بتنوير المتردِّدين عليها معرفيا وفكريا.
فما هي مظاهر التقليد الأعمى التي تشكِّل خطرا على تماسك المجتمع؟
إنها كثيرة ومتنوِّعة. لكن الخطورة كل الخطورة هي عندما تصبحُ شريحةٌ عريضةٌ من الشباب عُرضةً أو ضحيةً للتقليد الأعمى. حينها، يفقد هذا الشباب شخصيتَه بل هويتَه من جراء دخوله في دوامة الاستلاب الثقافي والفكري. والأخطر من هذا وذاك، هو أن يقلِّدَ الشباب تفاهاتٍ وأفكارا سطحيةً! فتصبحُ العادة هي التي تُسيِّرُ هذا الشبابَ وليس أدنى قدر من التفكير. وفي هذه الحالة، حدِّث ولا حرج حيث أن التقليدَ يشملُ قَصَّ الشعر واللباسَ والمِشيةَ والكلامَ والطعامَ والغناءَ والرقص وتزيينَ الأنف و الأذن، الخ.
أقل ما يمكن قولُه عن هذه الظاهرة هو أنها ناتجة عن أفكار متلقّاة تُصبِح هي التي تصوغ عالم المُقلِّد وليس فكرُه النقدي. فماذا يُرجى من شباب لا تعترف به المدرسةُ إلا كوعاء تُفَرِّغُ فيه معلوماتٍ و معارفَ محكوم عليها بالتَّبخُّر مباشرةً بعد الامتحانات؟
فما هو دور المدرسة إن لم يكن تربية الشباب على التَّفتُّح والتحرُّر الفكريين؟ فأي نفع يجلبُه الشباب من مدرسةٍ أصبحتْ عبارةً عن آلة ميكانيكية تنقل المعرفةَ من الكتب إلى أدمغة المتعلمين؟
فما الذي سينفع الشبابَ عندما يدخلون الحياة العمليةَ؟ هل الأدمغةُ المملوءة بدون جدوى أم الأدمغة المتناسقة التركيب القادرة على الاستقلال الفكري واتخاذ القرارات والمبادرات والتي تكون واعيةً بأن كل سلوك أو حركة أو عمل أو فعل لا يمكن أن يأتي من فراغ. بل كل هذه الأشياء يكون وراءها (يسبقها) تفكير و تنظير ولو بسيط.
و هنا بيت القصيد. فماذا يُنْتَظَرُ من شباب ألبسَتْه المدرسةُ رداء فشلها ولم تحاولْ أن تُنْعِشَ قدراتِه الفكريةَ التي لا تنتظر إلا من يُخْرِجها من سباتها؟ فلا غرابةَ إذن أن يصبحَ هذا الشباب عُرضةً للاستلاب الثقافي. ولا غرابة أن يستهويه التَّقليد الأعمى لأنه غير مُحصَّن فكريا. ولا غرابةَ أن يَظُنَّ أن ما يقوم بتقليده من سلوك و أفعال و لباس... يندرج في الحداثة.
و المؤسف هنا هو أن هذا الشبابَ المُقَلِّدَ لا يُدرك بتاتا ما معنى الحداثة. إنه يقلِّد مظاهرها ولا يعرف شيئا عن أسسها النظرية، أي كيف ظهرتْ وما هي أهدافها ومَن هم رُوادها وما هي انعكاساتها على المستوى الفكري، السلوكي، الاجتماعي، الاقتصادي، الخ. الحداثة تيار فكري فلسفي ظهر في الغرب ويتمثّل في رفض كل ما هو قديم أو تقليدي أو متوارث. ويتجلى هذا التيار الفكري على أرض الواقع بشتى المظاهر التي تتبلور على مستوى السلوك واللباس والأكل والثقافة والفن والبناء وقصِّ الشعر والأدب، الخ. و هنا، يمكن أن نقولَ إن "حركة الهيبي Hippie" التي ظهرتْ في الستينيات تعدُّ وجه من وجوه الحداثة. وباختصار، الحداثة تطغى فيها الحرية الفردية على الحرية الجماعية.
فأين شبابنا من هذه الاعتبارات؟ إنه بجهله لها، يصبح لقمةً سائغةً للتَّقليد الأعمى وشخصاً ضائعا وبدون هوية يتيه بين القشور السطحية لتيارات فكرية لا يعرف عنها شيئا وكما يُقالُ باللغة العامية : "الريح إلاَ جا يديه".
فكيف سيساهم هذا الشباب في بناء بلاده فكريا، حضاريا، اجتماعيا، اقتصاديا، ثقافيا، الخ.؟ النتيجة : فراغ فكري، تسيُّب، جنوح، تمرُّد، سلوكات غير أخلاقية، عدم احترام الغير، الخ. أليستْ هذه الصفات عوامل تؤدي إلى تفكُّك المجتمع؟
يكفي أن نلقيَ نظراتٍ من حولنا لنلاحظ أن التفكُّكَ الاجتماعي أصبح حقيقةً وليس تنبؤا!
لنبدأ أولا بمحاولة تفسير هذه العبارة. "تقليدٌ" مصدر "قلَّدَ". و يُقال فلان قلَّدَ فلانا، أي حذا حذوه في الأقوال والأفعال والحركات واللباس، الخ. وحينما يكون التقليد بدون تفكير مُسبق وبدون تأمل، فإننا نقول إن هذا التقليد "تقليد أعمى"، أي تقليد من أجل التقليد، بدون تبصُّر. خلافا للتقليد المتبصِّر والهادف الذي يفيد صاحبَه وربما مجتمعا بأكمله وخصوصا إذا ترتبت عنه قيمات مضافة.
وخير مثال يمكن سياقُه فيما يخص التقليد المتبصِّر والهادف يتعلّق بالنهضة العلمية العربية الإسلامية التي بلغت بالخصوص أوجها ما بين القرن الثامن والثالث عشر ميلادي. و ذلك بفضل تقليد وترجمة ما أنتجه الإغريق من علوم كانت منطلقاً لإنتاج معارف وعلوم جديدة أدت إلى العديد من النظريات والاختراعات في شتى ميادين المعرفة وعلى رأسها الطب والرياضيات والفلسفة والفيزياء والكيمياء وعلم النبات والصيدلة، الخ. والتقليد المتبصِّر والهادف يتميّز بكون المُقَلِّدَ، قبل الإقبال على التّقليد، تكون له فكرة مسبقة لا تقتصر فقط على مجرد التقليد بل هذا الأخير ليس إلا وسيلة يُستفادُ منها لخطو خطوات جديدةً إلى الأمام. وهذا النوع من التقليد محمود ومرغوب فيه وجاري به العمل في شتى المجالات. وقد يتخذ شكل اقتباسات في ميادين الفن والمسرح والتشكيل والموسيقى والتاريخ والأدب، الخ. و هنا تجدر الإشارة إلى أن جميع الأبحاث، التي تتم داخل أو خارج المختبرات في العلوم الطبيعية أو في العلوم الدقيقة أو في العلوم الإنسانية، تعتمد دائما على ما أنتجه الآخرون من معارف. التقليد المتبصِّر والهادف يأتي دائما بإضافات جديدة تُفيد التقدم العلمي والمجتمع الذي من الممكن هو الآخر أن يستفيد من هذه الإضافات. وهذا هو ما تُلخِّصه المقولة التالية : "ما الفائدة من ماض لا مستقبلَ له ومن مستقبل بدون ماض؟".
أما التقليد الأعمى، فإنه بدون تردد من أخطر عوامل تفكُّك وتخريب المجتعات. وما يؤكد ذلك أن التقليد الأعمى يطمسُ الفكرَ النقدي ويجعل مِن مَن تبنّاه سجينا و حبيسا في دائرة مُغلقة لا يمكن أن يخطوَ خطوةً إلى الأمام. بل أكثر من هذا، ليس له ولو أدنى تنظير حول ما يقلِّده. وبالتالي، فلا وجودَ له كفكر نقدي، فعال ومُنْتِج. وهذا النوع من الناس له حضور كبير في المجتمع شبابا وكهولا وشيبا. وقد لا أبالغ إذا قلتُ إنه ليس له أية إضافة في مجال التنمية وذلك لسبب بسيط هو أن هذه الأخيرةَ ليستْ فقط إنتاج واقتصاد وتكنولوجيا، الخ. بل هي كذلك وبالأخص سلوك و أخلاق و فكر...
وهنا، لا بد من توضيح : "إن أغلبَ المُقلِّدين العُمْيان لا ذنبَ لهم فيما هم فيه لأن المؤسسة، التي كان من المفروض أن تحميَهم من هذه الآفة، عَجَزَتْ في أداء مهمَّتها". و أعني بهذه المؤسسة المدرسة. فأين سيكتسِب الناس الفكرَ النقدي؟ وكيف سيكتسبونه إذا تُرِكوا لحالهم ولأهوائهم ولعفويتهم ولسذاجتهم؟
وعندما قلتُ أعلاه إن التقليد الأعمى من أخطر عوامل تفكُّك وتخريب المجتعات، فإن المدرسة تتحمَّل نصيبا من المسئولية في هذا التفكُّك. وهذا لا يعني أن المدرسةَ ستقضي على التقليد الأعمى، لكنها على الأقل ستحدُّ منه بتنوير المتردِّدين عليها معرفيا وفكريا.
فما هي مظاهر التقليد الأعمى التي تشكِّل خطرا على تماسك المجتمع؟
إنها كثيرة ومتنوِّعة. لكن الخطورة كل الخطورة هي عندما تصبحُ شريحةٌ عريضةٌ من الشباب عُرضةً أو ضحيةً للتقليد الأعمى. حينها، يفقد هذا الشباب شخصيتَه بل هويتَه من جراء دخوله في دوامة الاستلاب الثقافي والفكري. والأخطر من هذا وذاك، هو أن يقلِّدَ الشباب تفاهاتٍ وأفكارا سطحيةً! فتصبحُ العادة هي التي تُسيِّرُ هذا الشبابَ وليس أدنى قدر من التفكير. وفي هذه الحالة، حدِّث ولا حرج حيث أن التقليدَ يشملُ قَصَّ الشعر واللباسَ والمِشيةَ والكلامَ والطعامَ والغناءَ والرقص وتزيينَ الأنف و الأذن، الخ.
أقل ما يمكن قولُه عن هذه الظاهرة هو أنها ناتجة عن أفكار متلقّاة تُصبِح هي التي تصوغ عالم المُقلِّد وليس فكرُه النقدي. فماذا يُرجى من شباب لا تعترف به المدرسةُ إلا كوعاء تُفَرِّغُ فيه معلوماتٍ و معارفَ محكوم عليها بالتَّبخُّر مباشرةً بعد الامتحانات؟
فما هو دور المدرسة إن لم يكن تربية الشباب على التَّفتُّح والتحرُّر الفكريين؟ فأي نفع يجلبُه الشباب من مدرسةٍ أصبحتْ عبارةً عن آلة ميكانيكية تنقل المعرفةَ من الكتب إلى أدمغة المتعلمين؟
فما الذي سينفع الشبابَ عندما يدخلون الحياة العمليةَ؟ هل الأدمغةُ المملوءة بدون جدوى أم الأدمغة المتناسقة التركيب القادرة على الاستقلال الفكري واتخاذ القرارات والمبادرات والتي تكون واعيةً بأن كل سلوك أو حركة أو عمل أو فعل لا يمكن أن يأتي من فراغ. بل كل هذه الأشياء يكون وراءها (يسبقها) تفكير و تنظير ولو بسيط.
و هنا بيت القصيد. فماذا يُنْتَظَرُ من شباب ألبسَتْه المدرسةُ رداء فشلها ولم تحاولْ أن تُنْعِشَ قدراتِه الفكريةَ التي لا تنتظر إلا من يُخْرِجها من سباتها؟ فلا غرابةَ إذن أن يصبحَ هذا الشباب عُرضةً للاستلاب الثقافي. ولا غرابة أن يستهويه التَّقليد الأعمى لأنه غير مُحصَّن فكريا. ولا غرابةَ أن يَظُنَّ أن ما يقوم بتقليده من سلوك و أفعال و لباس... يندرج في الحداثة.
و المؤسف هنا هو أن هذا الشبابَ المُقَلِّدَ لا يُدرك بتاتا ما معنى الحداثة. إنه يقلِّد مظاهرها ولا يعرف شيئا عن أسسها النظرية، أي كيف ظهرتْ وما هي أهدافها ومَن هم رُوادها وما هي انعكاساتها على المستوى الفكري، السلوكي، الاجتماعي، الاقتصادي، الخ. الحداثة تيار فكري فلسفي ظهر في الغرب ويتمثّل في رفض كل ما هو قديم أو تقليدي أو متوارث. ويتجلى هذا التيار الفكري على أرض الواقع بشتى المظاهر التي تتبلور على مستوى السلوك واللباس والأكل والثقافة والفن والبناء وقصِّ الشعر والأدب، الخ. و هنا، يمكن أن نقولَ إن "حركة الهيبي Hippie" التي ظهرتْ في الستينيات تعدُّ وجه من وجوه الحداثة. وباختصار، الحداثة تطغى فيها الحرية الفردية على الحرية الجماعية.
فأين شبابنا من هذه الاعتبارات؟ إنه بجهله لها، يصبح لقمةً سائغةً للتَّقليد الأعمى وشخصاً ضائعا وبدون هوية يتيه بين القشور السطحية لتيارات فكرية لا يعرف عنها شيئا وكما يُقالُ باللغة العامية : "الريح إلاَ جا يديه".
فكيف سيساهم هذا الشباب في بناء بلاده فكريا، حضاريا، اجتماعيا، اقتصاديا، ثقافيا، الخ.؟ النتيجة : فراغ فكري، تسيُّب، جنوح، تمرُّد، سلوكات غير أخلاقية، عدم احترام الغير، الخ. أليستْ هذه الصفات عوامل تؤدي إلى تفكُّك المجتمع؟
يكفي أن نلقيَ نظراتٍ من حولنا لنلاحظ أن التفكُّكَ الاجتماعي أصبح حقيقةً وليس تنبؤا!