علي عطا - سجال إشكالي بين مستشرق إسباني وعالم مصري حول الأندلس انطلقت المناظرة من ديوان ابن قزمان القرطبي إمام شعراء الزجل القرطبي

يتضمن كتاب "على هامش ديوان ابن قزمان: مناظرة عبد العزيز الأهواني وغارثيا غوميث... مشهدٌ نبيل من حوار الحضارات" ستة مقالات، نُشرِت في سبعينيات القرن الماضي، لاثنين من أبرز الباحثين في مجال الأدب الأندلسي، يتبادلان من خلالها سجالاً خلَّاقاً، في سياق تناوُل منجزِ واحدٍ من الشعراء الكبار في الحقبة العربية الإسلامية في إسبانيا. الكتاب صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، من تحرير خيري دومة وفهر محمود شاكر، وتقديم سليمان العطار. وبحسب سليمان العطار (1945 – 2020) فإن الحوار بين هاتين القامتين العلميتين؛ "هو طرح حضاري وراءه ثقافتان مختلفتان، ورغم النقد اللاذع المتبادل، فلم يتجاوز أي منهما حدود الاحترام المتبادل، بل تبادل كل منهما الثناء على الآخر. ويضيف أن ذلك الحوار هو كذلك "نموذجٌ في غاية الرقي لهذا المشهد الجاد والنادر لحوار الحضارات".


عبد العزيز الأهواني (1915- 1980)، الطرفُ الأول في هذا السجال، رحلَ عن عالمنا في مثل هذه الأيام، قبل 43 عاماً. وكان قسم اللغة العربية في كلية الآداب في جامعة القاهرة، والذي تخرج فيه الأهواني عام 1938، يشهد سنوياً في ذكرى رحيله، حتى وقت قريب، محاضرة تذكارية يلقيها واحدٌ من الأساتذة الكبار، علماً أن من بين تلاميذه جابر عصفور وعبد المحسن طه بدر وسيد البحراوي وسيزا قاسم ونصر أبو زيد وعبد المنعم تليمة وسليمان العطار. والأهواني هو صاحب كتاب "الزجل في الأندلس" وهو أطروحته للدكتوراه التي حصل عليها من جامعة القاهرة عام 1953، ويتضمن فصلاً عن ديوان ابن قزمان. وكما يقول دومة وشاكر، فإن الأهواني خاض رحلة طويلة وشاقة من البحث وراء فنون الأدب الشعبي والعامي في ثقافتنا العربية، تجلت خصوصاً في كتابه "الزجل في الندلس"، وفي كتابه عن "ابن سناء الملك"، فضلاً عن عدد وفير من التحقيقات والمقالات التي لم تنشر في كتب حتى الآن. ومن هنا فإنه تنبغي الإشارة إلى أن الكتاب الذي نعرض له هنا يعد الأول في سلسلة كتب تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب تحت عنوان "من تراث عبد العزيز الأهواني".
أما الطرف الثاني فهو شيخ المستعربين الإسبان إيميليو غارثيا غومِث (1905 – 1995) الذي ترجم الكثير من النصوص العربية إلى الإسبانية، منها "رايات المبرزين"، لابن سعيد المغربي و"طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي، و"رسالة الشقندي في فضل أهل الأندلس الواردة في كتاب نفح الطيب للمقري"، و"الأيام" لطه حسين، كما ترجم شعر الكثير من الشعراء الأندلسيين مثل ابن الزقاق وابن زمرك، وكتب بحوثاً مهمة حول قصر الحمراء في غرناطة مثل "قصائد عربية على جدران الحمراء"، و"أضواء قديمة على قصر الحمراء".
وابن قزمان (1078 –1160) الذي ولد في قرطبة وعاش في إشبيلية، يعد إمام الزجالين وواحداً من مبتكري هذا الفن ورواده. ولا يزال ديوانه "إصابة الأغراض في ذكر الأعراض" موضع درس وخلاف وتأويل لأسباب عدة، يوجزها دومة وشاكر في أنه كان النموذج لفن من فنون العامة المغضوب عليها، لم توثقه الكتب ولم يهتم به دارسو الأدب العربي. إنه كما يقول غومث في رده على الأهواني عمل ذو قيمة فنية غير عادية، وله معالم مفردة وخاصة بكل معنى الكلمة. ومن أسباب اتصال الجدل بشأن هذا الديوان أيضاً أنه – وفقاً لدومة وشاكر – يأتينا من زمن ومكان خاص في الحضارة العربية، من الأندلس حيث التقت لغتان وحضارتان وتفاعلتا وتصارعتا على كل المستيات. فضلاً عن أن جسَّد تفاعلاً خاصاً، ليس فقط بين العامية والفصحى في عربية الأندلس، لكن أيضاً بين عربية الأندلس وإسبانيتها في ما يعرف باسم اللغة الرومانثية. ويضاف إلى ما سبق أن هذا الديوان كما قال غومث وصلنا مهلهلاً، وفي حالة يرثى لها. ومن ثم فإن هذه أمور تجعل من ديوان ابن قزمان نفسه ومن هذه المقالات التي تتضمن خلاف الأهواني وغومث حول أصل الكلمات والعبارات الواردة في الديوان، كتاباً بالغ الصعوبة لقارئ اليوم، بل بالنسبة لأي قارئ، بحيث لا يكاد يفهم منه شيئاً؛ لن الكلام فيه هو عن لعة خاصة وعروض خاص وتركيب فني ولغوي يجتهد المتخصصون في استكشافه.
تعليق مطوَّل
عندما كان خيري دومة وفهر شاكر، وهما من المسؤولين في قسم اللغة العربية في كلية الآداب في جامعة القاهرة، يعملان على تجميع تراث الأهواني الذي لم يتتلمذا مباشرة عليه، تكوَّن لديهما - بحسب ما يذكرانه في تقديهما للكتاب الذي نعرض لمحتواه هنا - ما يشكل على الأقل ثلاثة كتب. عثرا على ثلاثة مقالات مطوَّلة، نشرها الأهواني أواسط السبعينيات في مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد، ولاحظا أنها تؤلف تعليقاً مطولاً على تحقيق غومث لديوان ابن قزمان "إصابة الأغراض في ذكر الأعراض" والذي يرجع تاريخه إلى العام 555 هـ - 1160م. وهو الديوان الذي انشغل به الأهواني منذ أن كان يحفر وراء الرجل وغيره من ظواهر وأشكال الأدب العامي والشعبي، وظل يقيم لهذا الغرض في مكتبة الأسكوريال لسنوات عدة. لم يكتف الأهواني بدراسته عن الرجل ونشأته وتطوره في الأندلس، بل نشر بعدها عدداً كبيراً من المقالات وحقق عدداً من الكتب، كلها تبحث في هذه الظواهر الشعبية في الأدب العربي القديم والوسيط. ثم اكتشف دومة وشاكر ثلاثة مقالات أخرى في حوذة سليمان العطار، أستاذ الأندلسيات وأقرب تلاميذ الأهواني إلى عقله وقلبه وتخصصه، كتبها غومِث بالإسبانية ونشرها في مجلة "الأندلس"؛ رداً على مقالات الأهواني. وتبيّن أن العطار ترجم مقالات غومِث تلك إلى اللغة العربية. وهكذا اكتمل متن هذا الكتاب، باحتوائه المقالات الستة، ومقدمة كتبها العطار الذي رحل في أزار (مارس) 2020 قبل أن يرى الكتاب مطبوعاً، وقد استهله محرراه بوثيقة عثرا عليها في مكتبته وهي رسالة من الأهواني مؤرَّخة في كانون الثاني (يناير) 1974، يتحدث فيها إلى العطار، مخاطباً إياه بـ "ولدي" تحبباً، عن مقالاته عن ديوان ابن قزمان التي أرسلها لتنشر في مجلة المعهد الإسلامي في مدريد، وعن ردود غومث عليها، ويوصيه بها خيراً.
إبداع جدير بالتقدير
واستهل الأهواني مقالته الأولى قائلاً: "تحية تقدير وإكبار أهديها خالصة إلى الأستاذ الجليل والصديق العزيز إميليو غارثيا غومث لما بذله من جهد رائع في عمله الكبير الجامع حول ابن قزمان". وأوضح، تالياً أنه سيقتصر في هذه المقالة على ما جاء في ديوان ابن قزمان من ألفاظ وجمل أعجمية... "وأبدأ بما أعتقد أنني اكتشفته منها، مما لم يشر إليه من سبقوا إلى دراسة هذا الموضوع، ثم أناقش بعض ما اكتشف منها من قبل، وخاصة ما انفرد به الأستاذ إميليو غارثيا غومث في كتابه الأخير". والجدير بالذكر أن تحقيق غومث لديوان ابن قزمان جاء في ثلاثة مجلدات ضخمة، تشتمل على نص الأزجال كلها، ما وجِد في الديوان وفي غيره، مكتوبة بحروف لاتينية، وترجمة إسبانية منظومة، وتعليقات كثيرة، كما ألحقت به دراسة مستفيضة عن قضية الأوزان والألفاظ الأعجمية.
ويعبر ابن قزمان في ديوانه الإشكالي هذا عن "مستوى من المجون والظرف، يتجاوز قدرات القارئ العربي على قبوله، وهذا سبب إضافي لعدم تدوينه بجانب السبب الأساسي، وهو أنه مكتوب بالعامية" بحسب العطار. فقد درج مؤرخو الأدب العربي على تجاهل أي إبداع باللهجات العامية، "ففقدنا الكثير من تراثنا مما يمثل روح هذه الأمة، لكن بضغوط أصدقاء يقدرون إبداعه – وهو إبداع جدير بالتقدير – وبعد سنين من المماطلة كتب ابن قزمان بخط يده أزجاله في ديوان كبير الحجم وكثر نساخُه. لكن آفة العداء للعامية أدت إلى فقدان هذا الأصل وضياع كل المخطوطات المنسوخة عنه، وفي ضربة للحظ تظهر في الربع الأول من القرن التاسع عشر مخطوطة وحيدة معروضة للبيع في بغداد".
ومما يلفت النظر في الحوار بين الأهواني وغومِث، هو ميْل الأول للحل الرومانثي في تفسير بعض الكلمات الملغزة، بينما كان الثاني يميل إلى الحل العربي. وفي تصور العطار فإن ذلك يعكس الحياد والروح العلمية المتحضرة.
وسبق أن أنجز المستشرق الإسباني فيديريكو كورينتي (1940 – 2020) تحقيقاً عن الديوان نفسه، وتمت ترجمته إلى العربية بتقديم أستاذ الأدب الأندلسي محمد علي مكي، وصدرت الترجمة عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر. وأنجز كوريينتي لاحقاً كتاباً بعنوان "ابن قزمان: الزجَّال الأندلسي". وفي واقع الأمر، فإن هذا الديوان حظي باهتمام عدد كبير من المستشرقين، مثل كراتشكوفسكي، وأنغل غونثالث بالنثيا وكولان، ومن رموز الحضارة الإسلامية، مثل ابن خلون وصفي الدين الحلبي، بما أنه يعبر عن تمازج بين تلك الحضارة، ونظيرتها الأيبيرية، وكذلك لحضور اللغة الرومانثية الكبير في ثناياه.
ويشار إلى أن المخطوطة الوحيدة لديوان ابن قزمان، محفوظة في المتحف الآسيوي في مدينة بطرسبرغ، منذ عام 1819م بعدما اشترتها الحكومة الروسية من جامع مخطوطات عثر عليها في حلب. وفي أثناء فهرسة المستشرق البارون فيكتور دي روزون عام 1881 لمكتبة ذلك المتحف تنبه لوجود ذلك الديوان في زويا النسيان، بل الجهل بقيمته العظمى، بتعبير العطار. وفي برلين عام 1896 قام مستشرق آخر هو دافيد دي جونز بورغ بتصوير مخطوطة الديوان على أمل تحقيقها وشرحها ودراستها في ما بعد. وفي 1972 أنجز غومث تحقيقه لهذا الديوان. بينما عكف الأهواني على تحقيق الديوان نفسه لأكثر من ثلاثين عاماً، ووافته المنية قبل إنجاز هذه المهمة الصعبة.
__________________
* اندبندنت عربية 29 مارس 2023

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
المناظرات والمحاورات
المشاهدات
410
آخر تحديث
أعلى