لي مقال منشور على موقع الأنطولوجيا بعنوان علم الكارثة, ولما حلت علينا كارثة استحضرت العنوان المميز للمقال إلى ذهني مرة أخرى. وجاء في مدخله:-
الكوارث العظمى,إذا ما استثنينا كل جريمة قتل,أو ظلم باعتبارها مصيبة في حد ذاتها,بلية من إبتلاءات الزمن والقدر. فإن الكارثة هي واقعة وقعت بما يسبب ضررا عظيما في مدة زمنية تكون قصيرة في العادة. وجرى الاعتبار أن هذا الضرر يتحدد (إحصائيا) بمقدار زوال الأنفس والأموال. أي جمع بين القتل والظلم. ظلم في الحياة والممات.
وقد تكون خاصة برقعة جغرافية محددة,مثل الزلزال الذي نتناوله في هذا المقال,أو خاصة برقعة جغرافية واسعة,مثل الطاعون والمغول والحربين العالميتين.
والكارثة, فكرة بشرية بإمتياز,لأن الحيوان لا يشعر عادة -عند الواقعة أو الكارثة الفردية أو الجماعية- سوى بالخوف, ولا يعمل عقله إلا بمقدار ما ينجيه من هذا الخوف / الخطر. أما أن يقوم الإنسان بإستيعاب كل هذا الضرر, وفق عمليات معقدة مثل الإحصاء والإصلاح ومحاولة النجاة مما هو واقع ومحاولة التنبؤ بما سيقع. كل هذا تحت مسمى الكارثة فهو من صنيع الإنسان. وعليه فإن الكوارث الجحيمية لما قبل وطء قدمه الأرض لا تعنيه بالمرة. كما لا يشغله هول الكوارث التي لازالت قائمة في الفضاء الحديث -بعد التخلي عن النزعة التأملية والإستكشافية- إلا بقدر ما يشكله من تهديد على وجوده. ناهيك عن التهديدات الموجودة على الأرض نفسها.
وإن كان الإنسان,يعمل مثل الحيوان وفق مبدأ / غريزة البقاء. إلا أن مساهمته كانت كبيرة حقا في باب (الكارثة).
ولقد قمت بتقسيم الكارثة بوصفها ظاهرة طبيعية وإجتماعية تقع في إحدى نوعين بحسب المسبب
كوارث طبيعية تحدث بسبب مجريات الدورة الحياتية للنظام الطبيعي القائم عليه الكون,مثل الأعاصير والزلازل والبراكين والفيضانات والجفاف وخلافه.
كوارث بشرية تحدث بسبب خلل في النظام الذي بناه البشر,أو بسبب إستهداف مباشر لإحداث الضرر في حالة التخريب المتعمد. أي أنها لا تخرج عن ثنائية (إهمال أو تخريب). وإذا تجاوز الضرر ما كان مخطط له,إنتقل التصنيف مرة أخرى من إستهداف مباشر إلى خلل في النظام.
إن مصطلح (علم الكارثة) معناه تخصيص حقول علمية واسعة لخدمة غرض واحد وهو معرفة الكارثة. أي القدرة على التنبؤ بها قبل حدوثها,والقدرة على استيعابها عند حدوثها, والقدرة على التطوير والتنمية بعد حدوثها.
وهذا يستدعي معرفة بعلم البيئة (التوعية بخطورة مركبات الديوكسين على سبيل المثال) وعلم العمرانيات والبنى التحتية. إن علم البيئة في حد ذاته يعد علما للكارثة,ويستدعي علما ثالثا للذاكرة (أو الحاضرة) وهو علم النفايات.
ومثلما يصف فلاسفة الوجودية بأن الألم هو انقطاع أو تمزق في نسيج الجسد / الذهن,فإن الكارثة هي تمزق في نسيج المجتمع. إن لم يكن في بعض الأحوال احتراق لهذا النسيج وللمجتمع.
إن الكارثة حدث ولا كل الأحداث,ولا يوجد حدث يضاهيه في قوته إلا حدث الموت نفسه. أو يمكننا عد الكارثة نوع من تضخم الموت (لأن فيه كثير من فناء الأنفس). فالكوارث جزء مهم من دراسات الموت,لأنها تعبر عن واحدة من حالات الموت الرئيسية مثل القتل والحادث والإنتحار والمرض وغيره. إلا أن نكبتها أكبر بسبب حجم الخسائر والضحايا. كما أنها تحتمل كل الأنواع الأخرى بما في ذلك الحرب والمجاعات وغيره.
والكوارث جزء من التاريخ البشري,رغم أنها حاضرة قبل وجود البشر على الأرض,إن التغيرات المادية للطبيعة لا تعبأ بوقعها على الأحياء العقلاء منهم أو غير العقلاء. ثم كان للإنسان مساهماته الكبرى في هذا الصدد. وبسببها يمكن تشبيه التاريخ بستارة سوداء في السماء لا تشرق الشمس إلا عبر ثقوب يعبر الضوء من خلالها. ولهذا تلقى الكوارث عناية كبيرة من المؤرخين,وعلى رأسهم ابن خلدون في دراسته القيمة عن قيام وإنهيار الأمم,وهذه الدراسة الخلدونية تعد نواة لكل الدراسات التاريخية اللاحقة.
وفي النظر إلى أول التاريخ يكثر الحديث عن الحضارات المفقودة.
وفي النظر إلى نهاية التاريخ يكثر الحديث عن نهاية العالم.
الكارثة ألم ممض يظل حاضرا في الذاكرة,متغلغلا في الثقافة,متقولبا بأشكال عديدة,حتى الفكاهية / الإعلامية منها. هذا المسار تحديدا لا يسعنا تناول كل محاوره الأساسية هنا,ولكننا سوف نركز,في معرض حديثنا المقتضب شديد الإيجاز,عن الأثر الثقافي الذي تخلفه الكارثة بالذهن البشري,الفردي والجماعي. ولأن المجتمع هو مؤسسة قائمة على فكرة الجماعة داخل المدينة وعبر التاريخ (أي الفرد بين المكان والزمان). فإن الثقافة على نحو أو آخر,تتشكل عبر تعاطينا مع المدينة,وتماهينا مع الوضع. إنه تردد أو تكرار يتخلل نسيج الوعي داخل المجتمع / المدينة. مما قد يولد تماهي أو تقمص أو ترميز على مستوى الإنسان / الحيوان. حين يلحق بالحيوان ما في حقيقته ليس إلا انعكاسا لما تبديه أيادينا وما نسببه من دمار للطبيعة ولذواتنا البشرية. وإن حقيقة الوضع لا يمكن التعبير عنها سوى أنها (الجنس البشري ضد الحضارة الإنسانية).
وهاك قائمة عن الكوارث البشرية المقترنة بذوات حيوانية
-الخنازير / الكورونا
-القرود / جدري القرود
-الكلب / السعار
-الأسد / نكبة شعب
-الحصان / حصان طروادة
ينسى الإنسان أنه السبب فيما حدث حوله,بل وقد ينسى ما يحدث حوله,طالما بطنه ليست فارغة,وجلده مكسوا,وفوق رأسه سقف,وتحت قدميه أرض ثابتة مستقرة. هذا الثبات الذي إذا اهتز اهتزت معه ثقتنا بأنفسنا,خاصة مع ما حدث حيث ضرب زلزال بقوة 7.8 ريختر كل من تركيا أولا ثم سوريا في اليوم السادس من الشهر الثاني لهذا العام ذو المطلع أو الطالع غير السعيد.
وتستمر المآسي بعد الكارثة,الأسد يرفض أن يمد المساعدات إلى أكثر من نصف بلاده, والمساعدات أصلا تذهب إلى تركيا (الدولة القوية التي قد لا تحتاج مساعدة والقادرة على احتواء الموقف) أكثر بفارق مما يذهب إلى سوريا. ناهيك عن بعض التنمر الإعلامي مما يشبه الشماتة والتشفي من قبل الإعلام المصري,وربما النظام المصري. وهي شماتة تشكل جزء من الثقافة المصرية والعربية,ولكن أقله مدت السلطات المصرية يد المساعدة إلى سوريا,التي تخلى حاكمها عن شعبه الكريم.
هذا غير التأخر في أخذ الاحتياطات اللازمة لتبعات الزلزال التي لم تتوقف بعد. أو النظر إلى الأسباب الأولية لحدوث الزلازل. هي أسباب بشرية بالمناسبة,أو على الأقل الإنسان مساهم بها بقدر وافي. معروف أن الزلازل تحدث نتيجة لتحركات الفوالق التكتونية الموجودة تحت الأرض. وهو ما حدث تركيا وسوريا,وما يحدث في أي بقعة من العالم. لكن من الأسباب الشائعة هو سحب العصارة السائلة التي تشكل بدورها طبقة غير مستقرة, وطبيعي عندما تزول هذه الطبقة,تسقط الطبقة التي فوقها على ما تحتها أو يحدث انزلاق أو احتكاك بين الطبقات يؤدي إلى هزة أرضية قوية هي ما نسميه زلزالا.
أيضا تستدعي الكوارث إلى الذاكرة نوع آخر من الشماتة البشرية الناتجة عن الهيمنة الذكورية في مجتمعاتنا,كما يعبر المثل الدارج (اللي اختشوا ماتوا) أذكر حادثة لا أذكر تفاصيلها. عن امرأة خرجت وجسدها شبه عاري بسبب تمزق ثيابها. وكان المطلوب بحسب ما جرى تداوله عبر وسائل التواصل الاجتماعي أن تموت (العاريات) تحت الأنقاض حفظا لعزة الإسلام (التي لا يمسها الموقف لا من قريب ولا من بعيد). الحياء مسألة تخرج عن اعتبار شخصي في المقام الأول,لا عن اعتبار ديني أو قومي. كما أنه لا حياء في الموت كما لا حياء في العلم. هذا ما يؤكده الكثير من (الغيورين) الذين قد يضطرون للذهاب بزوجاتهم إلى طبيب نساء وليس طبيبة,لاعتبارات ظرفية أو مادية أو علمية (كأن يكون استشاري كبير).
كما أنه يستدعي إلى الذهن التفكير في صورة الطفلة آلاء وشقيقها التي جرى تداولها على وسائل الإعلامي البثي والشبكي,عبر الصور ومقاطع الفيديو والنصوص الرقمية. على أنه سلوك غير حميد,فيه جانب سلبي. حمدا لله على سلامتها,وأثناء حدوث الحدث لا يمكن أن تغيب أعيننا أو أعين الكاميرات عنها,ولا حتى بعد حدوث الحدث لأنها لازالت غير آمنة بالنسبة لي على الأقل طالما هي في سوريا,والزلازل لازالت جارية. إذن ما المطلوب؟. الطفلة الآء عاشت,ولكن الطفلة آلاء قدوم ماتت. ماتت ضحية للعدوان الصهيوني. وهذا غيث من فيض عن أكوام الجثث الطفولية هنا وهناك.
ليس هذا فحسب,بل لا يجب أن نغفل عدد كبير من الضحايا من الأطفال أو النساء (سعاد حسني ونيرة أشرف) أو العجائز أو العاجزين عن الإتيان بقوت يومهم. ضحايا يموتون يوما عقب يوم. والأيام تمرّ.
من التبعات الثقافية (الإيجابية) التي يجب أن نأخذها في الاعتبار,مشروعان,الأول هو مشروع حول توثيق التراث الفلسطيني الضائع والمنهوب,وهو مشروع وثقته ساسة بوست -ونوثقه مرة أخرى هنا على مدينة- عبر مقال إبراهيم أبو جازية الذي كتب فيه:-
"ومنذ أن قامت إسرائيل،عملت الدولة الجديدة على ممارسة الاحتلال والنهب المادي والمعنوي للفكر والتراث الفلسطيني؛ بدايةً من الكتب والتاريخ، مرورًا بالأطعمة واللهجات، ونهايةً بالألحان والأغاني والملابس وغيرهم. وذلك من أجل التفرد وفرض السيطرة، وذلك بسبب عدم وجود تاريخ أو حضارة أو تراث للدولة الجديدة لتفتخر به، فضلًا عن وقف محاولات تربية جيل من البراعم والشباب الفلسطينيين على التراث القديم، بل العمل على محاولة تشكيل وعي جديد مزيف من قبل الدولة الإسرائيلية".
ونقل فيه:-
"إن اختلاق الإرث هو ممارسة كثيرًا ما استغلتها السلطات بوصفها أداة حكم في المجتمعات ذات التجمعات البشرية، فهو منهج لاستخدام الذاكرة الجمعية بشكل انتقائي من خلال التلاعب بقطع معينة من الماضي القومي، وذلك بطمس بعضها وإبراز بعضها الآخر بأسلوب توظيفي بكل ما في الكلمة من معنى. ومن هنا، ليست الذاكرة بالضرورة ذاكرة أصيلة، بل هي على الأصح، ذاكرة نافعة. – إدوارد سعيد".
وإميلي جاسر هي فنانة بصرية وصانعة أفلام فلسطينية,محترفة في صناعة الأفلام والأفلام القصيرة والفيديو,والتصوير الفوتوغرافي,وتركيب الصور والكولاج,والتمثيل,وجمع واقتناء التحف والآثار. وهي شقيقة المخرجة الفلسطينية العظيمة آن ماري جاسر.
وما تفعله إميلي جاسر يقابله ما يفعله أحمد سعد زايد (واحد ضمن كثيرين) على قناته اليوتيوبية (الإعلامية متنكرة بصورة قناة فكرية),في عنوان لأحد حلقاته على سبيل المثال (ما فعله العثماني بيافا لم تفعله اسرائيل),وهكذا يقرر فجأة,استناد إلى كتاب أو كتابين,ودون أي دراسة موضوعية أو تاريخية أو إحصائية تقارن بين الماضي والحاضر,ودون أي اعتبار لعمر حضارة كاملة مثل الدولة العثمانية (وأي حضارة عمرت من الزمن شطرا كافيا لها نكباتها),ودون أي اعتبار لضرورات الحرب,بالمقارنة مع شبه دولة مثل إسرائيل. لنتساءل عن الغرض من وراء مدرار مقاطع الفيديو الذي لا ينتهي. بزعم أنه مفكر. وأنا أقول أنه غرض علماني حقير (مع احترامي للعلمانية فهي بريئة منه).
المشروع الثاني هو مشروع مدينة نفسها,عن مدونة مدينة الرقمية,
يركز مشروع مدينة البصري في توثيق صور انتقائية أو عشوائية لشرائح معينة من المجتمع,أو حتى لأفراد بعينهم والذي لا ينفي جهلنا بهم فرديتهم. هذا التوجه الذي اعتقده في رسالة الموقع,والذي آمل يميل فريق محرريها قليلا إلى توثيق الصور الشخصية لأشخاص لا نعرفهم (وهو مشروع قائم بالفعل أعمل عليه,وآمل به أن يمثل تعاونا بيني وبين منصة مدينة الرائعة).
كما أنه يرصد كتابيا وبصريا التبعات الثقافية للمتغيرات الطبيعية أو العمرانية أو السياسية أو الاجتماعية في مناطق مختلفة من المدينة. ويرسم خريطة افتراضية (وربما تفاعلية) لهذه المدينة. هذا التفاعل الذي أتمنى أن يستمر بقبول مجموعتي القصصية (التفاعلية) عن المدينة.
وهذا الرصد الصحافي -الذي تقوم به مدينة- الفريد من نوعه,غير أنه يحلل بنيات وعينا الثقافي,فهو يثريه أيضا, ويعمق وعينا المعرفي بثقافتنا. على سبيل المثال يمكننا أن نتعرف على الارتباط الثقافي بين أسماء بعض المناطق والظروف التي مرّت بتلك المناطق. وذكرا لا حصر نورد مساكن الزلزال الواقعة شمال التي تأثرت ثقافيا بزلزال 92,ثم واقعة سقوط هضبة / صخرة المقطم جنوب المقطم بالقرب من منشأة ناصر حيث أسكن هناك. أو منطقة (عب الجرب) الواقعة في حيّ المرج داخل منطقة الفلاحة بالقرب من شارع محمد نجيب. لأنها وكر للمارقين والهاربين من العدالة,وتجار المخدرات والسلاح. وأنا أسكن أيضا هناك. وكلها مسميات حديثة بعيدا عن الأسماء ذات المرجعيات التاريخية القديمة,فالمقطم نفسه سمي بذلك منذ عهد ياقوت الحموي,الذي فسرّ التسمية بأنها مأخوذة عن القطم وهو القطع كأنه منقطع الشجر والنبات لذلك سمى مقطما.
الكوارث العظمى,إذا ما استثنينا كل جريمة قتل,أو ظلم باعتبارها مصيبة في حد ذاتها,بلية من إبتلاءات الزمن والقدر. فإن الكارثة هي واقعة وقعت بما يسبب ضررا عظيما في مدة زمنية تكون قصيرة في العادة. وجرى الاعتبار أن هذا الضرر يتحدد (إحصائيا) بمقدار زوال الأنفس والأموال. أي جمع بين القتل والظلم. ظلم في الحياة والممات.
وقد تكون خاصة برقعة جغرافية محددة,مثل الزلزال الذي نتناوله في هذا المقال,أو خاصة برقعة جغرافية واسعة,مثل الطاعون والمغول والحربين العالميتين.
والكارثة, فكرة بشرية بإمتياز,لأن الحيوان لا يشعر عادة -عند الواقعة أو الكارثة الفردية أو الجماعية- سوى بالخوف, ولا يعمل عقله إلا بمقدار ما ينجيه من هذا الخوف / الخطر. أما أن يقوم الإنسان بإستيعاب كل هذا الضرر, وفق عمليات معقدة مثل الإحصاء والإصلاح ومحاولة النجاة مما هو واقع ومحاولة التنبؤ بما سيقع. كل هذا تحت مسمى الكارثة فهو من صنيع الإنسان. وعليه فإن الكوارث الجحيمية لما قبل وطء قدمه الأرض لا تعنيه بالمرة. كما لا يشغله هول الكوارث التي لازالت قائمة في الفضاء الحديث -بعد التخلي عن النزعة التأملية والإستكشافية- إلا بقدر ما يشكله من تهديد على وجوده. ناهيك عن التهديدات الموجودة على الأرض نفسها.
وإن كان الإنسان,يعمل مثل الحيوان وفق مبدأ / غريزة البقاء. إلا أن مساهمته كانت كبيرة حقا في باب (الكارثة).
ولقد قمت بتقسيم الكارثة بوصفها ظاهرة طبيعية وإجتماعية تقع في إحدى نوعين بحسب المسبب
كوارث طبيعية تحدث بسبب مجريات الدورة الحياتية للنظام الطبيعي القائم عليه الكون,مثل الأعاصير والزلازل والبراكين والفيضانات والجفاف وخلافه.
كوارث بشرية تحدث بسبب خلل في النظام الذي بناه البشر,أو بسبب إستهداف مباشر لإحداث الضرر في حالة التخريب المتعمد. أي أنها لا تخرج عن ثنائية (إهمال أو تخريب). وإذا تجاوز الضرر ما كان مخطط له,إنتقل التصنيف مرة أخرى من إستهداف مباشر إلى خلل في النظام.
إن مصطلح (علم الكارثة) معناه تخصيص حقول علمية واسعة لخدمة غرض واحد وهو معرفة الكارثة. أي القدرة على التنبؤ بها قبل حدوثها,والقدرة على استيعابها عند حدوثها, والقدرة على التطوير والتنمية بعد حدوثها.
وهذا يستدعي معرفة بعلم البيئة (التوعية بخطورة مركبات الديوكسين على سبيل المثال) وعلم العمرانيات والبنى التحتية. إن علم البيئة في حد ذاته يعد علما للكارثة,ويستدعي علما ثالثا للذاكرة (أو الحاضرة) وهو علم النفايات.
ومثلما يصف فلاسفة الوجودية بأن الألم هو انقطاع أو تمزق في نسيج الجسد / الذهن,فإن الكارثة هي تمزق في نسيج المجتمع. إن لم يكن في بعض الأحوال احتراق لهذا النسيج وللمجتمع.
إن الكارثة حدث ولا كل الأحداث,ولا يوجد حدث يضاهيه في قوته إلا حدث الموت نفسه. أو يمكننا عد الكارثة نوع من تضخم الموت (لأن فيه كثير من فناء الأنفس). فالكوارث جزء مهم من دراسات الموت,لأنها تعبر عن واحدة من حالات الموت الرئيسية مثل القتل والحادث والإنتحار والمرض وغيره. إلا أن نكبتها أكبر بسبب حجم الخسائر والضحايا. كما أنها تحتمل كل الأنواع الأخرى بما في ذلك الحرب والمجاعات وغيره.
والكوارث جزء من التاريخ البشري,رغم أنها حاضرة قبل وجود البشر على الأرض,إن التغيرات المادية للطبيعة لا تعبأ بوقعها على الأحياء العقلاء منهم أو غير العقلاء. ثم كان للإنسان مساهماته الكبرى في هذا الصدد. وبسببها يمكن تشبيه التاريخ بستارة سوداء في السماء لا تشرق الشمس إلا عبر ثقوب يعبر الضوء من خلالها. ولهذا تلقى الكوارث عناية كبيرة من المؤرخين,وعلى رأسهم ابن خلدون في دراسته القيمة عن قيام وإنهيار الأمم,وهذه الدراسة الخلدونية تعد نواة لكل الدراسات التاريخية اللاحقة.
وفي النظر إلى أول التاريخ يكثر الحديث عن الحضارات المفقودة.
وفي النظر إلى نهاية التاريخ يكثر الحديث عن نهاية العالم.
الكارثة ألم ممض يظل حاضرا في الذاكرة,متغلغلا في الثقافة,متقولبا بأشكال عديدة,حتى الفكاهية / الإعلامية منها. هذا المسار تحديدا لا يسعنا تناول كل محاوره الأساسية هنا,ولكننا سوف نركز,في معرض حديثنا المقتضب شديد الإيجاز,عن الأثر الثقافي الذي تخلفه الكارثة بالذهن البشري,الفردي والجماعي. ولأن المجتمع هو مؤسسة قائمة على فكرة الجماعة داخل المدينة وعبر التاريخ (أي الفرد بين المكان والزمان). فإن الثقافة على نحو أو آخر,تتشكل عبر تعاطينا مع المدينة,وتماهينا مع الوضع. إنه تردد أو تكرار يتخلل نسيج الوعي داخل المجتمع / المدينة. مما قد يولد تماهي أو تقمص أو ترميز على مستوى الإنسان / الحيوان. حين يلحق بالحيوان ما في حقيقته ليس إلا انعكاسا لما تبديه أيادينا وما نسببه من دمار للطبيعة ولذواتنا البشرية. وإن حقيقة الوضع لا يمكن التعبير عنها سوى أنها (الجنس البشري ضد الحضارة الإنسانية).
وهاك قائمة عن الكوارث البشرية المقترنة بذوات حيوانية
-الخنازير / الكورونا
-القرود / جدري القرود
-الكلب / السعار
-الأسد / نكبة شعب
-الحصان / حصان طروادة
ينسى الإنسان أنه السبب فيما حدث حوله,بل وقد ينسى ما يحدث حوله,طالما بطنه ليست فارغة,وجلده مكسوا,وفوق رأسه سقف,وتحت قدميه أرض ثابتة مستقرة. هذا الثبات الذي إذا اهتز اهتزت معه ثقتنا بأنفسنا,خاصة مع ما حدث حيث ضرب زلزال بقوة 7.8 ريختر كل من تركيا أولا ثم سوريا في اليوم السادس من الشهر الثاني لهذا العام ذو المطلع أو الطالع غير السعيد.
وتستمر المآسي بعد الكارثة,الأسد يرفض أن يمد المساعدات إلى أكثر من نصف بلاده, والمساعدات أصلا تذهب إلى تركيا (الدولة القوية التي قد لا تحتاج مساعدة والقادرة على احتواء الموقف) أكثر بفارق مما يذهب إلى سوريا. ناهيك عن بعض التنمر الإعلامي مما يشبه الشماتة والتشفي من قبل الإعلام المصري,وربما النظام المصري. وهي شماتة تشكل جزء من الثقافة المصرية والعربية,ولكن أقله مدت السلطات المصرية يد المساعدة إلى سوريا,التي تخلى حاكمها عن شعبه الكريم.
هذا غير التأخر في أخذ الاحتياطات اللازمة لتبعات الزلزال التي لم تتوقف بعد. أو النظر إلى الأسباب الأولية لحدوث الزلازل. هي أسباب بشرية بالمناسبة,أو على الأقل الإنسان مساهم بها بقدر وافي. معروف أن الزلازل تحدث نتيجة لتحركات الفوالق التكتونية الموجودة تحت الأرض. وهو ما حدث تركيا وسوريا,وما يحدث في أي بقعة من العالم. لكن من الأسباب الشائعة هو سحب العصارة السائلة التي تشكل بدورها طبقة غير مستقرة, وطبيعي عندما تزول هذه الطبقة,تسقط الطبقة التي فوقها على ما تحتها أو يحدث انزلاق أو احتكاك بين الطبقات يؤدي إلى هزة أرضية قوية هي ما نسميه زلزالا.
أيضا تستدعي الكوارث إلى الذاكرة نوع آخر من الشماتة البشرية الناتجة عن الهيمنة الذكورية في مجتمعاتنا,كما يعبر المثل الدارج (اللي اختشوا ماتوا) أذكر حادثة لا أذكر تفاصيلها. عن امرأة خرجت وجسدها شبه عاري بسبب تمزق ثيابها. وكان المطلوب بحسب ما جرى تداوله عبر وسائل التواصل الاجتماعي أن تموت (العاريات) تحت الأنقاض حفظا لعزة الإسلام (التي لا يمسها الموقف لا من قريب ولا من بعيد). الحياء مسألة تخرج عن اعتبار شخصي في المقام الأول,لا عن اعتبار ديني أو قومي. كما أنه لا حياء في الموت كما لا حياء في العلم. هذا ما يؤكده الكثير من (الغيورين) الذين قد يضطرون للذهاب بزوجاتهم إلى طبيب نساء وليس طبيبة,لاعتبارات ظرفية أو مادية أو علمية (كأن يكون استشاري كبير).
كما أنه يستدعي إلى الذهن التفكير في صورة الطفلة آلاء وشقيقها التي جرى تداولها على وسائل الإعلامي البثي والشبكي,عبر الصور ومقاطع الفيديو والنصوص الرقمية. على أنه سلوك غير حميد,فيه جانب سلبي. حمدا لله على سلامتها,وأثناء حدوث الحدث لا يمكن أن تغيب أعيننا أو أعين الكاميرات عنها,ولا حتى بعد حدوث الحدث لأنها لازالت غير آمنة بالنسبة لي على الأقل طالما هي في سوريا,والزلازل لازالت جارية. إذن ما المطلوب؟. الطفلة الآء عاشت,ولكن الطفلة آلاء قدوم ماتت. ماتت ضحية للعدوان الصهيوني. وهذا غيث من فيض عن أكوام الجثث الطفولية هنا وهناك.
ليس هذا فحسب,بل لا يجب أن نغفل عدد كبير من الضحايا من الأطفال أو النساء (سعاد حسني ونيرة أشرف) أو العجائز أو العاجزين عن الإتيان بقوت يومهم. ضحايا يموتون يوما عقب يوم. والأيام تمرّ.
من التبعات الثقافية (الإيجابية) التي يجب أن نأخذها في الاعتبار,مشروعان,الأول هو مشروع حول توثيق التراث الفلسطيني الضائع والمنهوب,وهو مشروع وثقته ساسة بوست -ونوثقه مرة أخرى هنا على مدينة- عبر مقال إبراهيم أبو جازية الذي كتب فيه:-
"ومنذ أن قامت إسرائيل،عملت الدولة الجديدة على ممارسة الاحتلال والنهب المادي والمعنوي للفكر والتراث الفلسطيني؛ بدايةً من الكتب والتاريخ، مرورًا بالأطعمة واللهجات، ونهايةً بالألحان والأغاني والملابس وغيرهم. وذلك من أجل التفرد وفرض السيطرة، وذلك بسبب عدم وجود تاريخ أو حضارة أو تراث للدولة الجديدة لتفتخر به، فضلًا عن وقف محاولات تربية جيل من البراعم والشباب الفلسطينيين على التراث القديم، بل العمل على محاولة تشكيل وعي جديد مزيف من قبل الدولة الإسرائيلية".
ونقل فيه:-
"إن اختلاق الإرث هو ممارسة كثيرًا ما استغلتها السلطات بوصفها أداة حكم في المجتمعات ذات التجمعات البشرية، فهو منهج لاستخدام الذاكرة الجمعية بشكل انتقائي من خلال التلاعب بقطع معينة من الماضي القومي، وذلك بطمس بعضها وإبراز بعضها الآخر بأسلوب توظيفي بكل ما في الكلمة من معنى. ومن هنا، ليست الذاكرة بالضرورة ذاكرة أصيلة، بل هي على الأصح، ذاكرة نافعة. – إدوارد سعيد".
وإميلي جاسر هي فنانة بصرية وصانعة أفلام فلسطينية,محترفة في صناعة الأفلام والأفلام القصيرة والفيديو,والتصوير الفوتوغرافي,وتركيب الصور والكولاج,والتمثيل,وجمع واقتناء التحف والآثار. وهي شقيقة المخرجة الفلسطينية العظيمة آن ماري جاسر.
وما تفعله إميلي جاسر يقابله ما يفعله أحمد سعد زايد (واحد ضمن كثيرين) على قناته اليوتيوبية (الإعلامية متنكرة بصورة قناة فكرية),في عنوان لأحد حلقاته على سبيل المثال (ما فعله العثماني بيافا لم تفعله اسرائيل),وهكذا يقرر فجأة,استناد إلى كتاب أو كتابين,ودون أي دراسة موضوعية أو تاريخية أو إحصائية تقارن بين الماضي والحاضر,ودون أي اعتبار لعمر حضارة كاملة مثل الدولة العثمانية (وأي حضارة عمرت من الزمن شطرا كافيا لها نكباتها),ودون أي اعتبار لضرورات الحرب,بالمقارنة مع شبه دولة مثل إسرائيل. لنتساءل عن الغرض من وراء مدرار مقاطع الفيديو الذي لا ينتهي. بزعم أنه مفكر. وأنا أقول أنه غرض علماني حقير (مع احترامي للعلمانية فهي بريئة منه).
المشروع الثاني هو مشروع مدينة نفسها,عن مدونة مدينة الرقمية,
يركز مشروع مدينة البصري في توثيق صور انتقائية أو عشوائية لشرائح معينة من المجتمع,أو حتى لأفراد بعينهم والذي لا ينفي جهلنا بهم فرديتهم. هذا التوجه الذي اعتقده في رسالة الموقع,والذي آمل يميل فريق محرريها قليلا إلى توثيق الصور الشخصية لأشخاص لا نعرفهم (وهو مشروع قائم بالفعل أعمل عليه,وآمل به أن يمثل تعاونا بيني وبين منصة مدينة الرائعة).
كما أنه يرصد كتابيا وبصريا التبعات الثقافية للمتغيرات الطبيعية أو العمرانية أو السياسية أو الاجتماعية في مناطق مختلفة من المدينة. ويرسم خريطة افتراضية (وربما تفاعلية) لهذه المدينة. هذا التفاعل الذي أتمنى أن يستمر بقبول مجموعتي القصصية (التفاعلية) عن المدينة.
وهذا الرصد الصحافي -الذي تقوم به مدينة- الفريد من نوعه,غير أنه يحلل بنيات وعينا الثقافي,فهو يثريه أيضا, ويعمق وعينا المعرفي بثقافتنا. على سبيل المثال يمكننا أن نتعرف على الارتباط الثقافي بين أسماء بعض المناطق والظروف التي مرّت بتلك المناطق. وذكرا لا حصر نورد مساكن الزلزال الواقعة شمال التي تأثرت ثقافيا بزلزال 92,ثم واقعة سقوط هضبة / صخرة المقطم جنوب المقطم بالقرب من منشأة ناصر حيث أسكن هناك. أو منطقة (عب الجرب) الواقعة في حيّ المرج داخل منطقة الفلاحة بالقرب من شارع محمد نجيب. لأنها وكر للمارقين والهاربين من العدالة,وتجار المخدرات والسلاح. وأنا أسكن أيضا هناك. وكلها مسميات حديثة بعيدا عن الأسماء ذات المرجعيات التاريخية القديمة,فالمقطم نفسه سمي بذلك منذ عهد ياقوت الحموي,الذي فسرّ التسمية بأنها مأخوذة عن القطم وهو القطع كأنه منقطع الشجر والنبات لذلك سمى مقطما.