خالد جهاد - قلوب لغتها المطر

لا يقارن شغف البدايات رغم جماله باستقرار المشاعر عقب اتضاح رؤيتنا.. حتى وإن كانت الصورة قاتمة، فالوضوح يختصر مشواراً من الآلام والدموع ويضع النقطة في مكانها على سطورنا بدلاً من فواصل لا معنى لها، كوننا نبحث دوماً في داخلنا وفيما حولنا عن إجاباتٍ لأسئلتنا المتدفقة، والتي لا ندرك فعلاً أنها كذلك إلا بعد تجربةٍ ونضوجٍ وثبات يستطيع أن يقودنا ويروض إحساسنا مهما تمرد علينا، ليضعنا على الطريق الأكثر أماناً وإن بدى موحشاً في عينينا..

فبرغم اختلاف مفهوم الحب ومعنى الحياة من سنٍ لآخر ومن حالة ٍ لأخرى، تظل هناك صفات تجمع بني البشر رغم حاجز الغربة الذي يفصل كلاً منهم بعد تفشي وباء الخوف الذي لا لقاح له، رغم أننا نحيط أنفسنا بالكثير من الدروع الواقية والأسلاك الشائكة مخافة أن يصل إلينا من يؤذينا بإسم الحب والصداقة، تلك التجارب التي علمتنا مهابتها كما نهاب رؤية طائرات الغزاة في سماواتنا، وأصبحت تذكرنا بلحظات الذعر في الملاجىء والأركان وأحضان الغرف المعتمة، بأنفاسٍ محتبسة تضبط شهيقها وزفيرها على إيقاع القصف ونشيج الدموع عقب صافرات الإنذار المتوالية..

تلك الصافرات التي تخترق الشطر الآخر من الروح لتيقظ العشاق والأطفال الذين استوطنوها لكنهم لم يعيشوا فيها حتى الآن، عاشوا في انتظار الحياة وانتظار الحب وانتظار قطارٍ لن يمر بطريقهم أبداً، عاشوا رهينة الساعات، بين لدغات عقاربها ورهبة أرقامها التي تمضي دون تسأل، وتأخذ قبل أن نأذن، ولا حوار بيننا سوى بالنظرات فكلانا أبناء الصمت والحيرة، نقضي ليالينا في انتظار الصباح وكلما جاء.. هرعنا إلى شرفاتنا نرقب المساء بحثاً عن السكينة فيه والإختباء في عبائته، معتقدين أنها ستخفينا بداخلها وتخبأ معها ملامحنا وأوجاعنا، تلك التي تنهشنا مع الوحدة ونحتاج فيها إلى من يجدنا رغم رغبتنا في الإختفاء..

وكلما طال الإنتظار ازداد القلب اغتراباً، ازداد دهشةً من قدرة السنين على تبديل كل شيء، لتصبح المرآة جزءاً من الماضي الذي لا يؤثر في حاضرنا، وتتحول إلى شاشةٍ سينمائيةٍ جديدة نرى عبرها أيامنا بنكهة ٍ أخرى، فنقترب ونبتعد، نبتسم ونبكي، نصمت ثم نحكي، نجرب ثيابنا القديمة، نتأمل جسدنا وتعابير وجهنا وصوت خطواتنا التي تتناثر من حولنا، تدور كأسطوانةٍ موسيقية، نراقص أحبتنا، نسترجع همساتنا، بريقنا ولهفتنا.. فنلمح وجوههم معلقةً على الحائط وفجأةً.. ينتهي كل شيء بمنتهى الهدوء، نستيقظ من يقظتنا ونسافر من دمعتنا بإتجاه أمنيتنا، ولا يعنينا أن نحزم أمتعتنا، فيكفينا ذاكرةٌ أتت من المجهول وعاشت فيه لتعود من جديدٍ إليه، محملةً بالوجوه والأماكن والأحلام والمخاوف والأصوات والروائح والكلمات المثقلة بالكثير من المعاني..

بدأت قصتها بمشاهد صامتة، حلمت بكتابة حوارٍ شفافٍ يختصر حكايات البشرية، حتى فهمت أن المشاعر تكمن في كل ما لا يحكى وكل ما يهز الوجدان ويلمسه، لذا كان الصمت لغة الكون التي لا يحتكرها بشرٌ، ولا يعلوها سوى قلوبٌ تغسلنا.. من الأوجاع بلغةٍ تشبه ُحضن الأرض وطُهر المطر..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى