الكاتب الأرجنتيني المعروف “إيرنيسطو ساباطو” (Ernesto Sabato) كانت له حكاية طريفة مع الموت، وهو لم يزلْ في عنفوان العمر وشرخ الشباب وريعانه، ذات يومٍ وهو في غربته ومهجره بفرنسا بعيداً عن أهله وذويه وبلده عندما إدلهمّت، وإسودّت الدنيا في عينيْه . فقد أشار في مختلف المناسبات ضمن أحاديث وحوارات عديدة أنّ الحياة – في منظوره- قصيرة جدّاً على الرّغم من عمره المديد (عاش زهاء قرن من الزّمان)، وأنّ مهنة العيش صعبة وشاقة للغاية، ومن متناقضات الحياة وسخريتها فى نظره أنّه عندما يبلغ الإنسان سنّ النضج، ويبدأ في إدراك خبايا الأمور، والتعمق فيها يداهمه المرضُ، ويهدّه الوهنُ، ويحدّ العياءُ من نشاطه، وحيويته، وحركاته، ثمّ أخيراً يأتيه الموت ويباغته”، كان يقول قبيل وفاته: إنّه ما زال يتعلّم أصولَ العيش، وفنَّ الحياة التي تحفل بالآلام، والآمال والمحن، والأحزان، وحياة الكاتب أو الفنّان أكثر خطراً وتعقيداً لحساسيته المفرطة، وأنّ المرء في بعض الأحيان يتمنّى الموت ويشعر بميل له لجعل حدّ لحياته، وهذا ما حدث له بالفعل عندما كان في مقتبل العمر، وعليه فإنّ هذا المشهد كثيراً ما يتكرّر في كتاباته، إلاّ أنّ أبطاله على النقيض من ذلك ينتهون دائماً نهايات سعيدة، ينتهون بمعانقة الحياة، وإقصاء التهلكة عنهم، ولهذا فليس هناك أيّ دين يبيح الإنتحار، بل إنّ جميع الأديان تحرّمه.
الأدب مُنقذنا..!
إيرنيسطو ساباطو حسب ما رواه لنا بالفعل فقد أنقذه الأدب من مخالب موت مُحقق، إذ أنّه في شتاء عام 1935 عندما كان يقيم في باريس، كان يشعر أنّ الدنيا قد ادلهمّت واسودّت في عينيْه وأثقلت كاهلَه، وقصمت ظهرَه، حيث كان يعيش أقسى، وأعتى، وأمرّ سني عمره، وكان يشعر أنّ هوّة سحيقة عميقة مظلمة تنفتح تحت قدميه روحياً ومادياً، عندئذ فكّر في أن يجعل حدّاً لحياته، وأن يلقي بنفسه في نهرالسّين الباريسي، إلاّ أنّه حدث له ما لم يكن فى الحسبان فيقول : فقد سرقتُ كتاباً من إحدى المكتبات وهي مكتبة جِيلبيرْ جُونْ، وذهبتُ إلى أحد المقاهي في الحيّ اللاتيني، وفتحت الكتابَ في صفحته الأولى وقلت مع نفسي سأقرأ هذا الكتاب أوّلاً ثمّ أنتحر..! إلاّ أنّ الذي حدث هو أنّ الكتاب شدّني إليه، وأعادني إلى الحياة بقوّة، وبسط أمامي مباهجَ الدنيا، وفضيلة التعلّق بها، فكنت كمن يحاول الفرار من الجحيم إلى الفردوس، كتبتُ على الفور إلى أمّي فى الأرجنتين، وطلبتُ منها بأن ترسل لي بعضَ النقود لأعود إلى بلدي حيث التحقتُ بمعهد للعلوم وتحوّلت إلى باحث في العلوم، وبعد أن حصلت على الدكتوراه في هذا الحقل عدت من جديد إلى مدينة النور باريس، التي ولدت فيها من جديد، وأقنعتني إتصالاتي، وقراءاتي، وصداقاتي مع العديد من الكتّاب، والرسّامين السّورياليين بأن أهجرَ عِلْمَ وعالمَ الرياضيات والعلوم من جديد وأن أرتمي في أحضان الأدب، والشعر، والموسيقى، والخلْق، والعطاء، والإبداع. فهذه المعاني الجميلة في آخر المطاف هي التي شدّتني الى الحياة وأنقذتني من موت مُحقّق.
ويشير ساباطو أنّ عودته هذه في الواقع هي عودة إلى حبّه القديم، الى فلسفته الفوضوية إذ كان يعتقد انّنا نعيش نهايةَ عهدٍ، وبدايةَ عهدٍ آخر جديد، وأنّ العهودَ الحديثة منذرة بغير قليل من الأخطار، والأعاصير الحياتية والمفاجآت، ففي هنيهة واحدة قد نختفي من على ظهرهذه البسيطة، أو من على تضاريس هذه الخارطة بسبب تلك الكارثة التي تسمّى الطاقة الذريّة، ولهذا فإنّ البشرية لابدّ أن تبدأ من جديد في تركيب وترتيب، وتمحيص وتفحيص أفكار الماضي واستخراج ما هو صالح منها، ونبذ كلّ ما طالح بها. كان ساباطو يقول وعن وظيفة الفنّ: إنه يصلح لإنقاذ صانعه، ومبتكره، ومتلقّيه، وقارئيه من الانهيار، بل إنه يساعدنا علي مواجهة بعض اللحظات الحالكة، والصّعبة في حياتنا، لحظات العزلة، والوحدة، والحيرة، والغضب، والمعاناة، والمرارة، والقلق، والإحباط، والارتياب حيال التساؤلات الكبرى، والألغاز المحيّرة للوجود التي تُطرَح على المرء في لحظاتٍ مّا من عمره.
أحفاد سقراط الأكثر سعادةً
ويشير ساباطو إلى أنّ الإغريق كانوا خيرَ مربّين لشعوبهم على المستويين التعليمي والتربوي، فبحّارة مرفأ مدينة “بيريّوس” لم يكونوا متعلمين بل أمييّن، مع ذلك كانوا يرتادون المسرح لمشاهدة سوفوكليس، ويوربيديس، وأنيكزوفانيس وسواهم، وكانوا يبكون، ويضعون نصب أعينهم مواقف تساعدهم على إنقاذ ذواتهم، وأنفسهم، ممّا كان يجعلهم أكثرَ سعادة، واستعداداً لمواصلة العيش، وفهم الحياة بشكل أحسن، أيّ فهم واستيعاب الجوانب الإيجابية والعناصر الصالحة فيها. ويرى ساباطو أنّ تلك هي وظيفة أو رسالة أيّ فنّ عظيم، حتى وإن كان يبدو ذلك متناقضاً، بخاصّة في ما يتعلق بالتراجيديا. ليس معنى ذلك أنّ هذا اللون من التعبير لا يقدّم أيّ شكل من أشكال الجمال، فالعكس هو الصحيح، فالجمال الحقيقي هو ليس من باب الجمال الذي يقدّم لنا ديكوراً في إناء مزركشاً، أو رسماً بديعاً على فخار، بل إنّه جمال معنوي، يخاطب الرّوحَ والوجدانَ أكثرَ ممّا يخاطبُ العينَ والأذنَ. ويختم الكاتب السّاخر حديثه بالقول: إنّ مثل هذه الأحاديث أملته عليه السّنون، فليس له في هذه السنّ المتقدّمة سوى الحديث بعدما خَبَا ضياءُ عينيْه، وشحّ نظرُه حتى كاد يفقده، وبعدما كان قد توقف عن القيام بأيّ نشاط عضوي، سوى المشي قليلاً بتؤدةٍ وتأنٍّ بضعَ خطواتٍ في باحةِ بيته. وكأنّ ساباطو في هذا المعنى يذكّرنا ببيتيْ أبي عليٍّ البصير الذي يقول فيهما:
لئن كان يهديني الغلامُ لوجهتي / ويقتادُني في السّير إذ أنا راكبُ/
فقد يستضيُ القومُ بي فى أمُورهم / ويخبُو ضياءُ العينِ والرّأيُ ثاقبُ.
أو وكأنّه يُعيد لأذهاننا معنى بيتي أبي العلاء المعرّي القاسييْن القائليْن:
ضحكنا وكان الضحكُ منّا سفاهةً / وحُقّ لأهلِ البسيطةِ أن يُبكُوا…
تُحطّمنا الأيّامُ حتى كأنّنا / زجاجٌ ولكنْ لا يُعاد له سبكُ.
حياته وأعماله
يعتبر إرنيسطو ساباطو من أكبر الكتّاب المعاصرين سواء في بلده الأرجنتين أو في سائر بلدان أميركا اللاتينية والعالم الناطق باللغة الإسبانية ،إنه صاحب الأعمال الرّوائية الذائعة الصّيت مثل: عن الأبطال والقبور، والنّفق، وملاك الظلام، وأبادّون المهلك وسواها من الأعمال الأدبية التي بصم فيها عصرَه بكلّ ما تميّزت به بلادُه الأرجنتين بالذات من فتن، وقلاقل، واضطرابات، ناهيك عن الجرائم التي ارتكبتها الدكتاتورية العسكريّة فيها، حيث ناءت كاهلَه مهمّةٌ شاقةٌ عانى منها الكثير عندما كلّف بها إبّانئذ وهي رئاسته للّجنة الوطنية للبحث عن المفقودين خلال حكم الرئيس الأرجنتيني راؤول ألفونسين. سبق لأرنيسطو ساباطو أن حصل عام 1984 على جائزة مرموقة تحمل اسمَ ميغيل دي سيرفانتيس صاحب دُونْ كيخوتِه دِي لاَ مَانشا، التي تنظّم بإسبانيا والتي تعتبر بمثابة نوبل في الآداب الاسبانية. كما حصل على سواها من الجوائز الأدبية والتكريمية الهامة الأخرى داخل بلاده وخارجها.
د. محمد محمد الخطابي
> توفّي ساباتوعام 2011، عن سنٍّ تناهز 99 عاماً.
الأدب مُنقذنا..!
إيرنيسطو ساباطو حسب ما رواه لنا بالفعل فقد أنقذه الأدب من مخالب موت مُحقق، إذ أنّه في شتاء عام 1935 عندما كان يقيم في باريس، كان يشعر أنّ الدنيا قد ادلهمّت واسودّت في عينيْه وأثقلت كاهلَه، وقصمت ظهرَه، حيث كان يعيش أقسى، وأعتى، وأمرّ سني عمره، وكان يشعر أنّ هوّة سحيقة عميقة مظلمة تنفتح تحت قدميه روحياً ومادياً، عندئذ فكّر في أن يجعل حدّاً لحياته، وأن يلقي بنفسه في نهرالسّين الباريسي، إلاّ أنّه حدث له ما لم يكن فى الحسبان فيقول : فقد سرقتُ كتاباً من إحدى المكتبات وهي مكتبة جِيلبيرْ جُونْ، وذهبتُ إلى أحد المقاهي في الحيّ اللاتيني، وفتحت الكتابَ في صفحته الأولى وقلت مع نفسي سأقرأ هذا الكتاب أوّلاً ثمّ أنتحر..! إلاّ أنّ الذي حدث هو أنّ الكتاب شدّني إليه، وأعادني إلى الحياة بقوّة، وبسط أمامي مباهجَ الدنيا، وفضيلة التعلّق بها، فكنت كمن يحاول الفرار من الجحيم إلى الفردوس، كتبتُ على الفور إلى أمّي فى الأرجنتين، وطلبتُ منها بأن ترسل لي بعضَ النقود لأعود إلى بلدي حيث التحقتُ بمعهد للعلوم وتحوّلت إلى باحث في العلوم، وبعد أن حصلت على الدكتوراه في هذا الحقل عدت من جديد إلى مدينة النور باريس، التي ولدت فيها من جديد، وأقنعتني إتصالاتي، وقراءاتي، وصداقاتي مع العديد من الكتّاب، والرسّامين السّورياليين بأن أهجرَ عِلْمَ وعالمَ الرياضيات والعلوم من جديد وأن أرتمي في أحضان الأدب، والشعر، والموسيقى، والخلْق، والعطاء، والإبداع. فهذه المعاني الجميلة في آخر المطاف هي التي شدّتني الى الحياة وأنقذتني من موت مُحقّق.
ويشير ساباطو أنّ عودته هذه في الواقع هي عودة إلى حبّه القديم، الى فلسفته الفوضوية إذ كان يعتقد انّنا نعيش نهايةَ عهدٍ، وبدايةَ عهدٍ آخر جديد، وأنّ العهودَ الحديثة منذرة بغير قليل من الأخطار، والأعاصير الحياتية والمفاجآت، ففي هنيهة واحدة قد نختفي من على ظهرهذه البسيطة، أو من على تضاريس هذه الخارطة بسبب تلك الكارثة التي تسمّى الطاقة الذريّة، ولهذا فإنّ البشرية لابدّ أن تبدأ من جديد في تركيب وترتيب، وتمحيص وتفحيص أفكار الماضي واستخراج ما هو صالح منها، ونبذ كلّ ما طالح بها. كان ساباطو يقول وعن وظيفة الفنّ: إنه يصلح لإنقاذ صانعه، ومبتكره، ومتلقّيه، وقارئيه من الانهيار، بل إنه يساعدنا علي مواجهة بعض اللحظات الحالكة، والصّعبة في حياتنا، لحظات العزلة، والوحدة، والحيرة، والغضب، والمعاناة، والمرارة، والقلق، والإحباط، والارتياب حيال التساؤلات الكبرى، والألغاز المحيّرة للوجود التي تُطرَح على المرء في لحظاتٍ مّا من عمره.
أحفاد سقراط الأكثر سعادةً
ويشير ساباطو إلى أنّ الإغريق كانوا خيرَ مربّين لشعوبهم على المستويين التعليمي والتربوي، فبحّارة مرفأ مدينة “بيريّوس” لم يكونوا متعلمين بل أمييّن، مع ذلك كانوا يرتادون المسرح لمشاهدة سوفوكليس، ويوربيديس، وأنيكزوفانيس وسواهم، وكانوا يبكون، ويضعون نصب أعينهم مواقف تساعدهم على إنقاذ ذواتهم، وأنفسهم، ممّا كان يجعلهم أكثرَ سعادة، واستعداداً لمواصلة العيش، وفهم الحياة بشكل أحسن، أيّ فهم واستيعاب الجوانب الإيجابية والعناصر الصالحة فيها. ويرى ساباطو أنّ تلك هي وظيفة أو رسالة أيّ فنّ عظيم، حتى وإن كان يبدو ذلك متناقضاً، بخاصّة في ما يتعلق بالتراجيديا. ليس معنى ذلك أنّ هذا اللون من التعبير لا يقدّم أيّ شكل من أشكال الجمال، فالعكس هو الصحيح، فالجمال الحقيقي هو ليس من باب الجمال الذي يقدّم لنا ديكوراً في إناء مزركشاً، أو رسماً بديعاً على فخار، بل إنّه جمال معنوي، يخاطب الرّوحَ والوجدانَ أكثرَ ممّا يخاطبُ العينَ والأذنَ. ويختم الكاتب السّاخر حديثه بالقول: إنّ مثل هذه الأحاديث أملته عليه السّنون، فليس له في هذه السنّ المتقدّمة سوى الحديث بعدما خَبَا ضياءُ عينيْه، وشحّ نظرُه حتى كاد يفقده، وبعدما كان قد توقف عن القيام بأيّ نشاط عضوي، سوى المشي قليلاً بتؤدةٍ وتأنٍّ بضعَ خطواتٍ في باحةِ بيته. وكأنّ ساباطو في هذا المعنى يذكّرنا ببيتيْ أبي عليٍّ البصير الذي يقول فيهما:
لئن كان يهديني الغلامُ لوجهتي / ويقتادُني في السّير إذ أنا راكبُ/
فقد يستضيُ القومُ بي فى أمُورهم / ويخبُو ضياءُ العينِ والرّأيُ ثاقبُ.
أو وكأنّه يُعيد لأذهاننا معنى بيتي أبي العلاء المعرّي القاسييْن القائليْن:
ضحكنا وكان الضحكُ منّا سفاهةً / وحُقّ لأهلِ البسيطةِ أن يُبكُوا…
تُحطّمنا الأيّامُ حتى كأنّنا / زجاجٌ ولكنْ لا يُعاد له سبكُ.
حياته وأعماله
يعتبر إرنيسطو ساباطو من أكبر الكتّاب المعاصرين سواء في بلده الأرجنتين أو في سائر بلدان أميركا اللاتينية والعالم الناطق باللغة الإسبانية ،إنه صاحب الأعمال الرّوائية الذائعة الصّيت مثل: عن الأبطال والقبور، والنّفق، وملاك الظلام، وأبادّون المهلك وسواها من الأعمال الأدبية التي بصم فيها عصرَه بكلّ ما تميّزت به بلادُه الأرجنتين بالذات من فتن، وقلاقل، واضطرابات، ناهيك عن الجرائم التي ارتكبتها الدكتاتورية العسكريّة فيها، حيث ناءت كاهلَه مهمّةٌ شاقةٌ عانى منها الكثير عندما كلّف بها إبّانئذ وهي رئاسته للّجنة الوطنية للبحث عن المفقودين خلال حكم الرئيس الأرجنتيني راؤول ألفونسين. سبق لأرنيسطو ساباطو أن حصل عام 1984 على جائزة مرموقة تحمل اسمَ ميغيل دي سيرفانتيس صاحب دُونْ كيخوتِه دِي لاَ مَانشا، التي تنظّم بإسبانيا والتي تعتبر بمثابة نوبل في الآداب الاسبانية. كما حصل على سواها من الجوائز الأدبية والتكريمية الهامة الأخرى داخل بلاده وخارجها.
د. محمد محمد الخطابي
> توفّي ساباتوعام 2011، عن سنٍّ تناهز 99 عاماً.