إلهام بوصفارة مسيوغة - مظاهر السخرية وأبعادها في رسالة الغفران للمعرّي

سنتولّى في هذا المقال السخرية باعتبارها وسيلة فنّيّة وظّفها المعرّي أوّلا للاستهزاء من شخصيّة ابن القارح وفضح نواياه، وثانيا للتعبير عن مشاغل ملكت فكره.
في البدء سننزّل رسالة الغفران في إطارها الأدبيّ العام.وثانيا سنرصد تجلّيات السخرية وتقنياتها متّبعين أطوار رحلة ابن القارح إلى الجنّة: حيث تجلّت في الثناء على ابن القارح عبر المبالغة، ثم في يوم الحشر عبر الأحوال والأقوال، ثم ّفي الجنّة عبر الأفعال والمواقف وأخيرا في وصف أحوال أهل الجنّة عبر المفارقة. لننتهي إلى أبعاد هذه السّخرية: على المستوى العقائدي والفكري \ على المستوى النقدي والأدبي \ على المستوى السياسي والاجتماعي.

1) مفهوم الرسالة:
رسالة الغفران نموذج من أدب الترسّل الذي ازدهر في القرنين الرابع والخامس هـ. إذ كانت للرسالة في القديم توجّهاتٌ رسميّة لأنّها كانت تحتوي على التوجّهات الكبرى التي يرسمها الحاكم أو الخليفة لولاته وعماله.
ومع أبي عثمان الجاحظ تغيّر مفهوم الرّسالة وأصبحت تتعلّق بجملة من المسائل اللّغويّة والفلسفيّة والأدبيّة. فظهرت بذلك الرّسائل الإخوانيّة (إخوان الصّفاء) وابن شهيد الأندلسي، إذ كان بعض المفكّرين يثيرون مسألة ما في رسالة ثمّ يبعثون بها إلى صديق له ويطالبه بالإجابة عنها والتحرير في المسألة المطروحة بحثا يسمّى رسالة (ومنه جاءت التسميات الحديثة: رسالة دكتوراه أو ماجستير).
ولقد كان لهذه الطريقة الفنيّة دور هام في تنشيط الحركة الفكريّة والأدبيّة عموما. وكانت رسالة الغفران وليدة هذه المطارحات الفكرية.

2) مواطن السخريّة وتقنياتها في رسالة الغفران:
2-1-السخرية عبر المبالغةفي الثناء،
لسنا في حاجة إلى أن نقف عند سيرة ابن القارح علي بن منصور، وتلميح المعرّي لعدم أمانته لأنّه أضاع رسالة الزهرجي ولم يوصلها إلى المعرّي، لكن سنقف عند أوّل مظاهر السخرية في رسالة الغفران، حيث بالغ في الثناء على رسالة ابن القارح "كشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء" وفي سياق السخرية مثّل هذه الشجرة الطيّبة بـ"ذات أنواط"(وهي شجرة كانت تعبد في الجاهليّة، سمّيت كذلك لأنّ المشركين ينوطون بها سلاحهم). ثمّ بالغ في إسناد صفات إيجابيّة إلى الرسالة تؤكّد قدسيّتها على مستوى الشكل والمضمون: فـامتدح بلاغة الرسالة إذ "كلّ حرف منها شبح نور" و"في تلك السطور كلم كثير، كلّه عند الباري -تقدّس- أثير." فهي رسالة مقدّسة تضمّنت مواعظ دينيّة وحكما كثيرة، تتمحور حول الأمر باتّباع الأحكام الشرعيّة ولوم التاركين للأصول إلى الفروع باعتبار الأصل هو قواعد الإسلام الثابتة، والفرع هو جملة الأحكام الشرعيّة المحدّدة لعلاقة الإنسان بالإنسان.
ثم بالغ المعرّي في انبهاره بصاحبها، فضخّم مقدرته الأدبيّة إذ هو "بليغ مُجيد"، وهو الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وقد "أنطقه الله بكلّ فضل". فبدا لنا في الرسالة شيخا جليلا ومتديّنا، رجل قول وفعل، رجلا وقورا مستقرّا، مستحقّا للجنّة، وإمعانا في السخرية منه يستعمل المعرّي جملة اعتراضيّة كثيرا ما يردّدها في رسالته وهي "أدام الله تمكينه"، تلميحا ضمنيّا إلى إمكانيّة خروجه من الجنّة، ولا سيّما أنّ هذا الوصف يتناقض مع سيرته الذاتية ولا ينسجم مع ما كان عليه، إذ كان رجلا ماجنا بين النّاس، مدمنا على الخمر، مرتكبا للمعاصي والمنكرات، متهافتا على ضروب اللّذّة.
وهذه المبالغة في الثناء تنخرط في باب الذمّ في قالب مدح، وهيمن أهمّ تقنيات السخرية في هذه الرسالة، وهذه الرسالة "من قرأها مأجور"، يعني هي شفيعة وكفيلة بأن يستحقّ ابن القارح الغفران ويظفر بالثواب ويدخل إلى الجنّة لكلماته الطيّبة التي أسقطت عنه أعماله الدّنيويّة المتعارضة مع صورته في متن الرسالة. واتّخذها على وجه السخرية حجّة للتعريج بابن القارح إلى الجنّة.

2-2-السخرية عبر الأحوال والأقوال في الحشر،
وتجلّى ذلك في يوم الحشر، إذ جعل المناخ للمحشر امتدادا للمناخ الأرضيّ وغير مختلف عنه "اشتدّ الظمأ والومد" حتّى يستهزئ من أحوال ابن القارح في هذا المناخ الجافّ غير الملائم وتصويره في صورة هزليّة: فكان في حالة ذعر وخوف وقد انتفض انتفاضا من الرَّيْم أي القبر محاولا إزالة كلّ ما علق به من تراب القبر، وهو تراب يشبه الجصّ، فجمع بين الإضحاك من جهة وهول الموقف من جهة أخرى. وهذا الجمع بين الهزل والهول دليل السخرية والاستهزاء من التصوّر المادّي للمحشر ومن فكرة البعث.
فصوّره رجلا "ضعيفا منينا"، مهيافا أي سريع العطش، فأحوال ابن القارح وصفاته تتمثّل في الهزال والضعف الجسماني ظاهريّا، أمّا باطنيّا فهو جبان خبيث ضعيف العزيمة. فالمعرّي جعلها امتدادا لصفاته في الدّار الفانية، فهو ذو "نفس كاذبة" ماكرة وخبيثة أُرهقت بكثرة ذنوب صاحبها. وقد جعل المعرّي ابن القارح يتحدّث عن نفسه في بعض مواطن الرّسالة وكشف بذلك عن خفايا نفسه. وأكّد كثرة سيّئاتهبتشبيه أقامه بين قلّة حسناته وقلّة الرّياض في العام الأرمل أي قليل المطر "فوجدت حسناتي قليلة كالنّفإ في العام الأرمل". وتجلّى ذلك في توسّله رضوان خازن الجنان وهو يناديه نداء استغاثة ويقدّم حُرمته أي صكّ التوبة: " قد استطلت مدّة الحساب، ومعي صكّ بالتوبة، وهي للذنوب كلِّها ماحية، وقد مدحتك بأشعار كثيرة ووسمتها باسمك... فجئت بشيء منه إليك لعلّك تأذن لي بالدّخول إلى الجنّة في هذا الباب"، هذا القول يستجدي به رضوان لاتّباع سلوك مشين لا شرعي يتنافى مع إرادة ربّ العزّة، ما جعل رضوان يتّهمه بأنّه "غبين" أي ضعيف الفكر والرّأي ويتّهمه بالخروج عن طاعة اللّه "أ تأمل أن آذن لك بغير إذن ربّ العزّة؟ هيهات هيهات.." وبالتالي يؤكّد لا شرعيّة دخول ابن القارح إلى الجنّة.
وقد انعكست هذه الصفات الموغلة في السلبيّة على سلوكه، فظهرت حركاته في الجنّة متقلّبة موبوءة بالفشل "فما نجح ولا غيّر"، وبهلوانيّة مثيرة للضحك، تضعه في صورة أخرى هزليّة تعبّر عن رغبته في التهرّب من الحساب العادل، وتتعارض مع الجمل الاعتراضيّة الواردة في سياق دعاء في بداية النص.
وفي طريق الجنّة يحاول ابن القارح عبور الصّراط إلّا أنّه يفقد توازنه و"لا يستمسك"، فتأمر فاطمة الزهراء جارية من جواريها بأن تجيزه. لكنّ ابن القارح يطلب منها أن تحمله زقفونة. وأمام باب الجنّة يرفض رضوان دخوله، ثم جذبه إبراهيم(ابن الرّسول محمد) جذبة حصّله بها في الجنّة. فمشهد دخوله الجنّة هزليّ مضحك جعله هزأة المتهكّمين وسلوة السّاخرين.

2-3- السخرية في الجنّة عبر الأفعال والمواقف
تجسّدت في تصوير حركات ابن القارح وأفعاله في الجنّة. إذ صوّر المعرّي ابن القارح يطوف في الجنّة، بين أشجارها وأنوارها ويتلذّد بمآكلها ومشاربها، وقد سما المعرّي بالمكان بفضل خياله إلى فضاء يوفّر متعا حسّيّة ومادّية لابن القارح، فجعل الكثبان من العنبر وغرس بخياله الأشجار الطيّبة في الصحراء، وجعل الجوّ معتدلا لا حرّ فيه ولا قرّ، فوفّر له إطارا ممتعا ملائما للنزهة، يلامس حواسّ ابن القارح.
وجمال الإطار وفّر لابن القارح المتعة والمسرّة فراح يسير على غير منهج ويستغلّ جميع حواسّه للتمتّع بملذّات الجنّة ويغنّي وينشد شعر غيره. وفي ذلك فضح لنواياه، وهي نوايا منفعيّة ذاتيّة تتنافى مع تعاليم الدّين وأغراض التوبة الحقيقيّة.
وأثّث المكان بملذّات دنيويّة مثل النجيب وطعام الخلود وخبز الرقاق وقطعة الحوت.. تعكس أنواع المتع الموجودة في عصر المعرّي وفي مجالس اللّهو والمجون التي أفاض الشعراء العرب في نعتها على مدى العصور. إلّا أنّ المعرّي أعدم فيها العيوب الأرضيّة فجعل اللّبن لا يتغيّر بفعل الزمن والخمرة تشفي الصّداع، فجعل الجنّة عالما مكتظّا بالملذّات الحسّيّة المثاليّة بحرا وبرّا حتّى توافق أهواء ابن القارح ويمكّنه من جميع المتع التي كان يتلهّف عليها في الدار العاجلة ويطمع فيها في الدّار الآخرة. وفي تصويره لهذه الملذّات سخرية لاذعة من ابن القارح الذي يريد دخول الجنّة دون التخلّص من نزعاته المادّيّة.

2-4- السخرية عبر المفارقةمن أحوال أهل الجنّة
المفارقة بين الجنّة وسلوك أهلها حقّقت سخرية لاذعة من نخبة الأدباء والشعراء،فالمعرّي لم تقتصر سخريّتة على ابن القارح فحسب، بل تعدّاه إلى شعراء الجاهليّة، على غرار ميمون بن قيس وهو الأعشى الذي جعله في مواقف هزليّة ساخرة، إذ نجده مستنجدا بالرّسول صارخا: "أغثني يا محمد"، وبذلك يُفرغ المعرّي يوم القيامة من قداسته ويضفي عليه بعض خصائص الحياة اليوميّة كالهرج والمرج و"النّاس يهتفون من كلّ صوب" وتشتدّ الحركة في الجنّة وتتعالى فيها الأصوات، وهي صورة تتعارض مع التمثّل العامّ للجنّة، وهي مفارقة حقّقت السخرية من الأعشى الذي دخل الجنّة عن طريق حُرمة تتمثّل في أبيات شعريّة مدح فيها الأعشى الرسول وشهد أنّه نبيّ مرسل"نبيّ يرى ما لا يرون، وذكره أغار لعمري في البلاد وأنجدا"، فكان بها خلاصُه من الدّرك الأسفل من الجنّة بشرط أن يشرب في الجنّة اللّبن بدل الخمرة. لكنّ المعرّي تأوّل فعل "أغار" في هذه الأبيات وحمّله دلالة مناقضة لغرض المدح للسخرية من نوايا الأعشى المعروف بإدمانه الخمرة على غرار ابن القارح وتلميحا إلى أنّه لم يكن يستحقّ الغفران.
ثم جعل الأعشى في خصومة مع النابغة الجعدي، خصومة مشحونة بالعنف اللّفظي "خليع، كافر، جاهل، جبان"، والعنف المادّي "ضربه بكوز من ذهب"، إثر سؤال طرحه النابغة الجعدي على الأعشى: يا أبا بصير أ هذه الرّباب التي ذكرها السعدي هي ربابك التي ذكرتها؟" فرأى فيه الأعشى استفزازا وكان ردّه عنيفا، فانطلقت الخصومة بينهما. ما يتنافى مع التمثّل القرآني للجنّة القائم على الخير المطلق.

3) أبعاد السخرية في رسالة الغفران
باعتبار السخرية نوعا من أنواع الهزل، فإنّ هذا الهزل يحمل بين طيّاته أبعادا نقديّة أدبيّة واجتماعيّة وسياسيّة ودينيّة. إذ أنّ المعرّي أراد انتقاد:

أ+ المستوى العقائدي والفكري: سخر المعرّي من ابن القارح أو الأعشى للتأكيد على عدم شرعيّة دخولهما للجنّة، وسخر من عالم الجنّة التي حوت مجموعة من المذنبين الذين لا يستحقّونها، فهي امتداد للعالم الأرضي. فالمعرّي بالغ في الثناء على الرسالة ليسخر من فهمٍ أو اعتقاد سائدِ عند العرب والمسلمين في عصر المعرّي مفاده أنّ الكلام الطيّب والحسن يُدخل صاحبه الجنّة مدعّمين ذلك بحجج دينيّة، أوردها في نصّ الرسالة لنقدها.
وأرجع المعرّي الأمر إلى مشيئة الله التي تبدو في نظره غير موضوعيّة " لكنّ الأقضية جرت كما شاء الله... ولو جاز الغلط على ربّ العزّة لقلتُ: إنّك غُلط بك" كما أورده على لسان الجعدي، والمعرّي رغم سخريته من هذه المشيئة لا يبدو أنّه أدرك مرحلة اليقين في تعامله مع بعض القضايا الغيبيّة كالقضاء والقدر والعدالة الإلهيّة لأنّه سلّط عقله على هذه القضايا فوصل إلى الحيرة والتأرجح بين إثبات الشيء وإنكاره، لأنّ العقل البشريّ عاجز عن التوصّل إلى الحقائق اليقينيّة في قضايا ماورائيّة خارجة عن حدود الزمان والمكان.
وتعكس سخريته أيضا حيرته إزاء قضيّة البعث، وهي حيرة تجلّت في لزوميّاته، فمرّة يثبته وأخرى ينكره، والحيرة مرحلة ضروريّة لبلوغ اليقين. والمفارقة بين صورة الجسد في الدّارين وردت على سبيل السخرية والاستهزاء من اعتقاد ساد مجتمعه يرى أنّ كلّ عاهة أو محنة في الدّنيا ترفع في الآخرة، فأسند إلى الأعشى صفات: "وإذا هو بشابّ غُرانق (أبيض) غبَرَ في النعيم المُفانق (العيش النّاعم)، وقد صار عشاه حورا معروفا، وانحناء ظهره قَواما موصوفا"، يعني تحوّل جذري حاصل في صورة الأعشى، فهذا زهير بن أبي سلمى يصبح شابّا كالزهرة، وتصبح توفيق السّوداء أنصع من الكافور، وحمدون الحلبيّة تصبح "أطيب نساء الجنة نشرا"، وفي هذه السخرية الكامنة في الوصف والتصوير الجسدي شكّ قويّ في فكرةالبعث المادّي، وكان قد أشار إلى ذلك في لزوميّاته:
زعموا أنّي سأرجع شرخا °° كيف لي وذاك التماسي.
وقد وظّف السخرية لطرح بعض المسائل الفكريّة الإنسانيّة، فهذه الصورة لابن القارح تمثّل صورة الإنسان المجبول على الشرّ والغدر، فهو شرّير بطبعه، إذ أنّ الظروف لا تغيّر من سلوكه وطباعه. فبقي ابن القارح على خبثه وريائه في الآخرة كما كان في الدّنيا.

ب+المستوى السياسي والاجتماعي:
يظهر ذلك حين اشتدّت الحركة في الجنّة وتعالت فيها الأصوات واحتدّت من كلّ صوب، فتحوّل يوم القيامة إلى صورة من الحياة الاجتماعيّة ضمّنها موقفه من السّاسة والمجتمع في عصره. فالله منشغل عن الحساب لذلك لجأ الأعشى إلى الرّسول لنيل الغفران، ولعلّه ينتقد بذلك ملوك عصره الذين كانوا منصرفين عن شؤون الرّعيّة ومنغمسين في الملذّات بجميع ضروبها، كما أنّ الوزراء نسجوا على منوال الحكّام ففوّضوا الأمور للحاشية، فقد قال الرّسول" يا علي بادره وانظر ما حُرمته"، وجعل الرّسول يشفع للأعشى لأنّه مدحه شعرا، وفي ذلك نقد ساخر لسلوك الحكّام في الحكم إذ كان الحاكم يعفو عن المذنبين وفق مقاييس ذاتيّة لا صله لها بالقوانين والتشريعات.
ثم عبّر من خلال السخرية عن ظاهرة الوساطة في مجتمعه حين جعل ابن القارح يتّخذ الشعر أداة للتقرّب من رضوان لدخول الجنّة، إذ كان الأدباء يتقرّبون إلى الملوك بالشعر المدحي لخدمة مآربهم الشخصيّة، كما طعن المعرّي في قيمة الشعر المدحي الذي يبنى على التكلّف ولا يعبّر عن صدق الشاعر، ساخرا من بعض معتقدات الشعراء المتطرّفة التي ترى أنّ التشيّع لآل البيت والتقرّب منهم سبيل لدخول الجنّة. فابن القارح أوصله حمزة إلى علي بن أبي طالب، ثم اتّصل بفاطمة الزهراء التي طلبت من إبراهيم إيصاله إلى الرّسول.
وانتقد أيضا في سخرية الطبقيّة السائدة في الحياة الفانية وانقلاب القيم، إذ النّاس في الجنّة العلائيّة فئات وطبقات: فرضوان يمثّل فئة من الحاشية ممتثلة لأوامر الحاكم، وعلي وحمزة وفاطمة يمثلون فئة أخرى محدودة هي آل البيت. والأعشى مثلا ينتمي إلى فئة حرمت من شرب الخمرة، بينما تمتّع بعض الشعراء بجميع الملذّات وسكنوا القصور. أمّا البعض الآخر، فكان ينتمي إلى فئة وضيعة كالحطيئة الذي سكن كوخا حقيرا في آخر الجنّة "رجل ليس عليه نور سكّان الجنّة"، وجعل الحطيئة يحصل على الشفاعة بفضل صدقه في هجاء نفسه ببيتين. وكأنّه يقول: من كان صادقا أذلّوه.

ج+ المستوى الأدبي والنقدي:
من وراء السخرية أراد المعرّي انتقاد أجواء السباب والشتم والضرب التي كانت تسود المجالس العلمية والأدبيّة في عصره، وانتقد مقاييس تقييم شاعريّة الشعراء في المدح، وشكّك عبر السخرية في المرتبة الشعريّة التي احتلّها الأعشى في كتاب "طبقات فحول الشعراء" لابن سلّام الجمحي، فجعل الجعدي يشكّك في شرعيّة التقسيمات التي سنّها الجمحي بترتيب الشعراء وتصنيفهم حسب الطبقات، داعيا ضمنيّا إلى إعادة النظر في مقاييس النقد الأدبي وهو نقد انطباعي لا يقيّم الشعر من حيث بنيتُه وأساليبه، بل يعالج مضامينه ومدى تلاؤمه مع السّائد من الأخلاق والقيم. وقد طعن المعرّي في شاعريّة ابن القارح، إذ أنّه ليس مبدعا بل مجرّد منتحل استولى على أشعار غيره مثل امرئ القيس وجرير وأورد بعضها في غير محلّها.
بل انتقد المعرّي مفهوم الشعر برمّته حين جعل ابن القارح يعرّف الشعر لرضوان ليدخل الجنّة، وفي هذا التعريف ردّ على مفهوم الشعر السائد الوارد في تعريف قدامى بن جعفر هو "كلام موزون"، وفي هذا التعريف تركيز على الشكل دون المضمون. أمّا الشعر عند المعرّي فهو "كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط إذا زاد أو نقص أبانه الحسّ"، فلا يؤثّر في السّامع إلّا إذا انسجم فيه الشكل مع المضمون وحرّك في المتخيّل مشاعره وأحاسيسه. وهو ردّ على ظاهرة التكلّف والصنعة التي سادت الكتابات الأدبيّة في القرن 4 و5 هـ.
الختام:
رسالة الغفران" للمعرّي (ق4ه \ 10م) من أجمل ما يوجد من النثر الأدبي، فهي رحلة خيالية مدهشة إلى الدار الآخرة، إلى الجنّة ثم إلى الجحيم. وتقوم الرحلة على حوارات بين ابن القارح البطل وشعراء وأدباء. والأجواء في نص الغفران تحمل أبعادا فنّيّة مسرحيّة قابلة للتمثيل لأنّها تبدو مماثلة تماما للعالم الأرضي، فالتصوير الهزلي لحالة النّاس في يوم الحشر ليس إلّا سخرية من التصوّرات المشوّهة لابن القارح والنّاس ليوم القيامة. وقد سعى من خلال السخرية إلى نقد بعض التصوّرات السائدة دينيّا واجتماعيّا وسياسيّا. فجاءت السخرية في قسم الرّدّ شكلا وأسلوبا لإبداء رأيه في بعض المسائل معتمدا منهجا جدليّا يؤكّد التزامه بالمنزع العقلي.
وأثارت هذه الرّسالة اهتمام الدّارسين والنقّاد فتُرجمت إلى لغات عديدة، حيث تُرجمت هذه الرّسالة 1264م إلى القشتالية واللاتينية والفرنسية. المخيال العربي فنّ مبدع تروم الأمم الأخرى النسج على منواله،حتّى أنّ المؤلّف الإيطاليّ "دانتي" (ق13م) اقتبس "الكوميديا الإلهيّة" من رسالة الغفران. لكنّ الأوساط الإيطالية أنكرت ذلك.

بقلم الأستاذة إلهام بوصفارة مسيوغة،

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى