"الاعترافات" (2008) عنوان رواية ربيع جابر اللبناني الأخيرة، وكان صدر له من قبل روايات عديدة وكتاب عن بيروت بثلاثة أجزاء. وليس ربيع جابر هو الذي يدلي باعترافاته، فهو ليس الراوي في روايته، إنه المروي عليه/ له، ومن يروي هو مارون وفي صفحة من صفحات الرواية يذكر الراوي اسم ربيع. ومارون هو مارون وليس مارون، وهو يذكر، في غير صفحة من الرواية، إنه شخصان: أنا لست أنا. لماذا وما هي قصته؟
في الحرب الأهلية اللبنانية في العامين 1975 و1976، يقتل فيكلس الآخرين بجنون. لماذا؟ لأنه فقد ابنه مارون الصغير، إذ قتله الطرف الثاني، وهكذا يقرر فيكلس أن ينتقم، ويفعل هذا ويمارس القتل بوحشية. إنه يتحول إلى وحش، وذات نهار، وعلى خط التماس بين بيروت الغربية وبيروت الشرقية يطلق النار على سيارة مدنية، قد يكون سائقها ضل الطريق، بوحشية فيقتل كل من فيها، وينجو طفل صغير بأعجوبة، ما يجعل فيكلس يداويه ويحتضنه ويربيه ويسميه باسم ابنه الذي فقده: مارون. وفي سنوات لاحقة يبحث مارون عن اسمه الحقيقي وعن أهله الذين قتلوا، دون أن يتوصل إلى نتيجة.
يقيم الصغير الذي غدا مارون مع أسرة مسيحية ويغدو واحداً من أفرادها ويدرس، حين يكبر، الهندسة في الجامعة الأميركية في بيروت، وتكون الحرب قد وضعت أوزارها، وفي تلك اللحظة يؤرقه سؤال الهوية: من أنا. ولا يقص مارون سيرة أهله البيولوجيين، فهو لا يعرف عنهم شيئاً، ولكنه يقص قصة أهله الذين ربوه ونشأ بينهم، ويغدو فيكلس أباه، وتغدو زوجة فيكلس أمه، ما يذكرنا برواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا" (1969) وقصة سيدنا سليمان مع المرأتين، القصة التي بنى عليها (برتولد بريخت) مسرحيته الشهيرة: "دائرة الطباشير القوقازية". في "عائد إلى حيفا" يربي ايفرات وميريام خلدون الذي تخلى عنه والده في غمرة أحداث العام 1948 وعادا ليرياه في إثر حرب .1967 تخليا عنه لا طوعاً ولا رغبة وإنما خطأ في لحظة جنون شهدته المدينة بسبب الحرب، وهكذا غدا (ايفرات) اليهودي والد خلدون/ دوف، وغدت ميريام أمه. وحين يعود الوالدان لاسترداد ابنهما يرفض العودة، ويصر على البقاء مع والديه اللذين ربياه. لكن والدي مارون الذي لا يعرف حتى هو اسمه الحقيقي لا يعودان، فقد قتلا. وفي قصة سيدنا سليمان تعود الأم البيولوجية لتطالب بابنها، ولا تستحقه، لأنها تخلت عنه، وفي "اعترافات" ربيع جابر، حيث يعترف مارون، لا تعود الأم، فيحيا مع أمه التي ربته، وحين يشرع في البحث عن أصوله وجذوره تخونه الأرشيفات ويظل سؤال الهوية قائماً: من أنا؟
هل ثمة أبعاد رمزية في رواية ربيع جابر "الاعترافات"؟ هل مارون، في النهاية، هو اللبناني، ولبنان، في حربها الأهلية تأكل أبناءها؟
"الاعترافات" لربيع جابر رواية عن جنون الحرب. عن القتل والثأر والهمجية، حيث لا رأفة ولا شفقة. والطريف أن هؤلاء القتلة لا يخلون من بعض أخلاق، ففيكلس الذي يتحول إلى وحش، فيقتل ويقتل ويقتل يرفض أن يسرق، ويفخر هو ومعارفه بأن يده ظلت نظيفة، فهو لا يريد غنائم حرب، وحين يشك في أن أحد أبنائه، ممن يقتلون أيضاً بوحشية، يحضر إلى البيت غنائم حرب يهدده الأب بالقتل، ذلك أن يد الأب نظيفة، فماذا سيقول عنه معارفه.
و"الاعترافات" هي واحدة من روايات الحرب. الحرب اللبنانية. ولا يدري المرء عدد الروايات التي كتبت في هذا الموضوع في لبنان. في الثمانينيات كانت رواية "الشياح" للكويتي اسماعيل فهد اسماعيل هي الأولى التي تقارب هذا الموضوع، وفي السنوات الأخيرة قرأت أنا شخصياً "يالو" لإلياس خوري، ولم تكن هذه روايته الأولى التي يقارب فيها موضوع الحرب اللبنانية، وقرأت أيضاً رواية "يا سلام" لنجوى بركات، و"مريم الحكايا" لعلوية صبح، ولم أعد أذكر عنوان إحدى المجموعات القصصية التي صدرت في سلسلة كتاب في جريدة، وأظنها ليوسف الأشقر، وكلها تدور في أثناء الحرب الأهلية. وربما ما هو مشترك بين الروايات المذكورة ورواية ربيع جابر، غير موضوع الحرب وجنونها والتحولات التي ألمت بلبنان وسكانه، هو كثرة المنامات في الروايات، ولقد برزت المنامات بروزاً لافتاً في رواية الياس خوري "كأنها نائمة"، وإن لم يكن موضوعها، أساساً، الحرب الأهلية اللبنانية، كما هو حال "يالو"، ولعل المهتمين بفن المنامات، لا المقامات، يجدون مادة ثرية لهم في الروايات المذكورة.
كنت مؤخراً حضرت فيلماً إسرائيلياً عنوانه "رقصة فالس لأجل بشير" (أنجزت عنه مقالة في "الأيام"، في 12/7/2009) يبدأ الفيلم بمشهد كلاب مسعورة عددها ستة وعشرون كلباً، تهاجم وتهاجم. والبشر في "الاعترافات" يتحولون الى كلاب مسعورة وأكثر، فنحن في ص36 من الرواية نقرأ الفقرة التالية:
"رأت في "منامها" هؤلاء يتسللون في الليل من وراء أكياس الرمل وأنهم كانوا أناساً، مثل الناس، مثلنا، لكن وجوههم طويلة وتشبه وجه الكلب، وأظافرهم طويلة، ويخطفون الأطفال من أسرّة الأطفال الصغيرة، ويصرخون ويركضون ويختفون ولا يبقى منهم أثر إلا الرائحة الغريبة".
وربما تذكر المرء مفتتح رواية عبد الرحمن منيف "شرق المتوسط" وما أورده عن الإنسان/ الوحش، الإنسان الذي قتل الحيوانات كلها وروضها، ولم يجد أمامه إلا أن يقتل نفسه. هل نحن شرسون الى هذه الدرجة وسيقول من يشاهد المجازر والقتل على الهوية: وأكثر.
الطريف أن الراوي، في نهاية الرواية، وبعد معرفته الحقيقة، وإدراكه أنه هو وليس هو، وإخفاقه في معرفة من هم أهله الحقيقيون، وبعد مقاربة الحرب على الانتهاء، يذهب الى كافتيريا ويأكل الكاتو و... "أكلت القطعة كلها وشعرت بالسعادة" (ص142).
هل يتذكر قارئ هذه الرواية ويلاحظ نهايتها كتابات الكتاب العرب في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين؟ ربما. "الاعترافات" لربيع جابر واحدة من روايات الحرب الأهلية اللبنانية. إنها رواية عن جنون الحرب.
في الحرب الأهلية اللبنانية في العامين 1975 و1976، يقتل فيكلس الآخرين بجنون. لماذا؟ لأنه فقد ابنه مارون الصغير، إذ قتله الطرف الثاني، وهكذا يقرر فيكلس أن ينتقم، ويفعل هذا ويمارس القتل بوحشية. إنه يتحول إلى وحش، وذات نهار، وعلى خط التماس بين بيروت الغربية وبيروت الشرقية يطلق النار على سيارة مدنية، قد يكون سائقها ضل الطريق، بوحشية فيقتل كل من فيها، وينجو طفل صغير بأعجوبة، ما يجعل فيكلس يداويه ويحتضنه ويربيه ويسميه باسم ابنه الذي فقده: مارون. وفي سنوات لاحقة يبحث مارون عن اسمه الحقيقي وعن أهله الذين قتلوا، دون أن يتوصل إلى نتيجة.
يقيم الصغير الذي غدا مارون مع أسرة مسيحية ويغدو واحداً من أفرادها ويدرس، حين يكبر، الهندسة في الجامعة الأميركية في بيروت، وتكون الحرب قد وضعت أوزارها، وفي تلك اللحظة يؤرقه سؤال الهوية: من أنا. ولا يقص مارون سيرة أهله البيولوجيين، فهو لا يعرف عنهم شيئاً، ولكنه يقص قصة أهله الذين ربوه ونشأ بينهم، ويغدو فيكلس أباه، وتغدو زوجة فيكلس أمه، ما يذكرنا برواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا" (1969) وقصة سيدنا سليمان مع المرأتين، القصة التي بنى عليها (برتولد بريخت) مسرحيته الشهيرة: "دائرة الطباشير القوقازية". في "عائد إلى حيفا" يربي ايفرات وميريام خلدون الذي تخلى عنه والده في غمرة أحداث العام 1948 وعادا ليرياه في إثر حرب .1967 تخليا عنه لا طوعاً ولا رغبة وإنما خطأ في لحظة جنون شهدته المدينة بسبب الحرب، وهكذا غدا (ايفرات) اليهودي والد خلدون/ دوف، وغدت ميريام أمه. وحين يعود الوالدان لاسترداد ابنهما يرفض العودة، ويصر على البقاء مع والديه اللذين ربياه. لكن والدي مارون الذي لا يعرف حتى هو اسمه الحقيقي لا يعودان، فقد قتلا. وفي قصة سيدنا سليمان تعود الأم البيولوجية لتطالب بابنها، ولا تستحقه، لأنها تخلت عنه، وفي "اعترافات" ربيع جابر، حيث يعترف مارون، لا تعود الأم، فيحيا مع أمه التي ربته، وحين يشرع في البحث عن أصوله وجذوره تخونه الأرشيفات ويظل سؤال الهوية قائماً: من أنا؟
هل ثمة أبعاد رمزية في رواية ربيع جابر "الاعترافات"؟ هل مارون، في النهاية، هو اللبناني، ولبنان، في حربها الأهلية تأكل أبناءها؟
"الاعترافات" لربيع جابر رواية عن جنون الحرب. عن القتل والثأر والهمجية، حيث لا رأفة ولا شفقة. والطريف أن هؤلاء القتلة لا يخلون من بعض أخلاق، ففيكلس الذي يتحول إلى وحش، فيقتل ويقتل ويقتل يرفض أن يسرق، ويفخر هو ومعارفه بأن يده ظلت نظيفة، فهو لا يريد غنائم حرب، وحين يشك في أن أحد أبنائه، ممن يقتلون أيضاً بوحشية، يحضر إلى البيت غنائم حرب يهدده الأب بالقتل، ذلك أن يد الأب نظيفة، فماذا سيقول عنه معارفه.
و"الاعترافات" هي واحدة من روايات الحرب. الحرب اللبنانية. ولا يدري المرء عدد الروايات التي كتبت في هذا الموضوع في لبنان. في الثمانينيات كانت رواية "الشياح" للكويتي اسماعيل فهد اسماعيل هي الأولى التي تقارب هذا الموضوع، وفي السنوات الأخيرة قرأت أنا شخصياً "يالو" لإلياس خوري، ولم تكن هذه روايته الأولى التي يقارب فيها موضوع الحرب اللبنانية، وقرأت أيضاً رواية "يا سلام" لنجوى بركات، و"مريم الحكايا" لعلوية صبح، ولم أعد أذكر عنوان إحدى المجموعات القصصية التي صدرت في سلسلة كتاب في جريدة، وأظنها ليوسف الأشقر، وكلها تدور في أثناء الحرب الأهلية. وربما ما هو مشترك بين الروايات المذكورة ورواية ربيع جابر، غير موضوع الحرب وجنونها والتحولات التي ألمت بلبنان وسكانه، هو كثرة المنامات في الروايات، ولقد برزت المنامات بروزاً لافتاً في رواية الياس خوري "كأنها نائمة"، وإن لم يكن موضوعها، أساساً، الحرب الأهلية اللبنانية، كما هو حال "يالو"، ولعل المهتمين بفن المنامات، لا المقامات، يجدون مادة ثرية لهم في الروايات المذكورة.
كنت مؤخراً حضرت فيلماً إسرائيلياً عنوانه "رقصة فالس لأجل بشير" (أنجزت عنه مقالة في "الأيام"، في 12/7/2009) يبدأ الفيلم بمشهد كلاب مسعورة عددها ستة وعشرون كلباً، تهاجم وتهاجم. والبشر في "الاعترافات" يتحولون الى كلاب مسعورة وأكثر، فنحن في ص36 من الرواية نقرأ الفقرة التالية:
"رأت في "منامها" هؤلاء يتسللون في الليل من وراء أكياس الرمل وأنهم كانوا أناساً، مثل الناس، مثلنا، لكن وجوههم طويلة وتشبه وجه الكلب، وأظافرهم طويلة، ويخطفون الأطفال من أسرّة الأطفال الصغيرة، ويصرخون ويركضون ويختفون ولا يبقى منهم أثر إلا الرائحة الغريبة".
وربما تذكر المرء مفتتح رواية عبد الرحمن منيف "شرق المتوسط" وما أورده عن الإنسان/ الوحش، الإنسان الذي قتل الحيوانات كلها وروضها، ولم يجد أمامه إلا أن يقتل نفسه. هل نحن شرسون الى هذه الدرجة وسيقول من يشاهد المجازر والقتل على الهوية: وأكثر.
الطريف أن الراوي، في نهاية الرواية، وبعد معرفته الحقيقة، وإدراكه أنه هو وليس هو، وإخفاقه في معرفة من هم أهله الحقيقيون، وبعد مقاربة الحرب على الانتهاء، يذهب الى كافتيريا ويأكل الكاتو و... "أكلت القطعة كلها وشعرت بالسعادة" (ص142).
هل يتذكر قارئ هذه الرواية ويلاحظ نهايتها كتابات الكتاب العرب في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين؟ ربما. "الاعترافات" لربيع جابر واحدة من روايات الحرب الأهلية اللبنانية. إنها رواية عن جنون الحرب.