العمل الجمعوي عملٌ تطوُّعي. وكل عمل تطوُّعي، إذا كان نابعاً من قناعة، هو عملٌ نبيلٌ يسعى إلى ترسيخ بعض القيم الإنسانية كالتَّضامن والتَّعاون والتَّآزر والٍتَّساكن والٍرأفة والتَّسامح والتَّعاطف… وهذا العمل التَّطوُّعي يمكن أن يستهدفَ أفرادا أو عائلاتٍ أو جماعاتٍ من الأفراد. والعمل الجمعوي مؤطَّرٌ ومنظم قانونيا وانشغالاتُه عديدة ومتنوِّعة تشمل الحقلَين الاجتماعي والاقتصادي، أي كل ما من شأنه تحسين ظروف عيش الأفراد والجماعات أو تدبير الشأن العام. وقد تشمل هذه الانشغالات الحقلَ الثقافي (موسيقى، مسرح، تشكيل، قراءة، ندوات…) والرياضي والبيئي.
والعمل الجمعوي يمكن أن يُمارسَ على الصعيد المحلي أو الجهوي أو الوطني. كما يمكن أن تكونَ أنشطتُه قاريةً أو عالمية. كما يمكن أن يكونَ مكمِّلاً أو مرافقاً أو مقوِّياً للعمل الذي تقوم به الحكومات في إطار سياساتها العمومية أو العمل الذي تقوم به الجماعات التُّرابية في إطار برامجها التَّنموية. وهذا يعني أن الجمعيات، التي هي جزءٌ من المجتمع المدني، تُعتبر، نوعا ما، وسيلةً أو امتدادا، أو إن صحَّ القولُ، أداةً تلعبُ دورَ الوسيط بين السلطات العمومية أو أي شريكٍ آخر والمواطنين من أجل تقوية الخدمات التي تندرج في خدمة الصالح العام. والعمل الجمعوي هو، في الحقيقة أصلا واصطلاحا، كلُّه موجَّهٌ لخدمة الصالح العام. ومَن يقوم بالعمل الجمعوي؟
يقوم به، أولا وقبل كل شيء، أشخاصٌ من ذوي النيات الحسنة. أشخاصٌ مستعدون، عن قناعة، لوضع تجاربهم وخبراتهم وقدراتهم، وبالأخص وقتهم، رهنَ إشارة الآخرين من أجل إسعادهم أو تمكينهم من العيش الكريم أو تثقيفهم أو تنويرهم أو النهوض بمستواهم المادي، الاجتماعي، الفكري… بعيدا عن كل مقابل مالي. والأشخاص الذين يمارسون العملَ الجمعوي عن قناعة، يجدون فيه ضالَّتَهم من الناحية المعنوية لأنه يُشبِع رغبتَهم وميولَهم إلى فعل الخير. وهذا هو ما يفرض على كل شخصٍ يريد أن ينخرطَ في العمل الجمعوي التَّحلِّي بأهم صفة من صفات التَّطوُّع ألاَ وهي نُكرانُ الذات.
وما يميٍِز العملَ الجمعوي عن غيره من الأعمال، هو أن الجمعيات التي تقوم به مستقلة عن الأحزاب السياسية وعن السلطات العمومية والترابية وعن النقابات، وبصفة عامة، عن كل الأجهزة التابعة للدولة، أي أنها تتمتّع باستقلالية تامة فيما يتعلَّق بأداء مهامها. وبعبارة أخرى، جمعيات المجتمع المدني، هي في الحقيقة، نوعٌ من السلطة المضادة للسلطة القائمة. وكلمة "مضادة" لا يجب إدراكُها هنا بالمعنى السلبي. بل يجب إدراكُها بالقوة الاجتماعية التي تنتصر للحق وللعدل والقانون. وهذا يعني أن جمعيات المجتمع المدني لا ترضخ، نظريا، لأية ضغوطات أو إغراءاتٍ مهما كان مصدرُها، وبالأخص، من الجهات المانحة أو تلك التي تساهم في تمويل العمل الجمعوي. ولهذا، فعلى الجمعيات أن تختارَ بعناية فائقة الجهات التي ستساهم في تمويل أنشطتها. جهاتٌ تؤمن بالعمل الجمعوي وباستقلاليته وبفائدته بالنسبة لشرائح عريضة من المجتمع.
هذا من جهة و من جهة أخرى، كل جمعية تحترم نفسَها وتحترم القانون وأخلاقيات العمل الجمعوي éthique du mouvement associatif، يجب أن تكونَ ممارساتُها مبنيةً على الشفافية transparence فيما يخصُّ مصادر موارد تمويل أنشطتِها وكيفية استعمالها حتى يتبيَّن للعموم أنها تعمل حسب ما تفرضه عليها أهدافُها وليس نزولاً عند رغبة أو توجيهات المموِّلين. الشفافية تُقوِّي مصداقيةَ الجمعيات وتجعل منها، كما سبق الذكرُ، سلطةً مضادةً. وبصفة عامة، كل جمعية تريد أن تكونَ مكانَ احترامٍ وتقديرٍ في المجتمع، يجب أن يتَّصفَ مُسيّْروها بالخِصال التالية :
-التَّحفيز، أي الإيمانُ بأهمية العمل الجمعوي داخل المجتمع وبمساهمته في التَّنمية البشرية، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية،
-المواطنة، أي الإحساسُ بالانتماء للوطن والسعي إلى رؤيته في أحسن الأحوال،
-التَّطوُّع، أي تقديم الخدمات للغير بدون مقابل مادي،
-نكران الذات، أي الاستعداد لتقديم المصلحة العامة على المصلحة الشخصية،
-الاستقلالية، أي الحرية في اتخاذ القرارات والمبادرة وتنفيذ البرامج واختيار الشركاء والممولين، لكن في نطاق ما ينصُّ عليه القانون،
-الشفافية، أي أن يتَّسِمَ ما تقوم به الجمعيات من أعمالٍ وما تحصل عليه من موارد مالية بالوضوح التام، تمشِّيا مع ما تفرضُه أخلاقيات العمل الجمعوي…
بعد هذا التَّوضيح، أعود إلى عنوان هذه المقالة : "هل أفلتَ العملُ الجمعوي من قبضة الفساد؟". أو بعبارةٍ أخرى، هل المشهد الجمعوي في بلادنا لا يزال محتفِظا بنقاوة الضمير وبنُبلِ مهامه و وظائفه الاجتماعية؟ يكفي أن نُلقيَ نظرةً على ما يجري في محيطنا الاجتماعي، السياسي، الاقتصادي والثقافي لنقولَ بدون تردُّدٍ : "لا، العمل الجمعوي لم يُفلِتْ من قبضة الفساد". بل إنه غارقٌ فيه حتى النُّخاع مثلُه مثل السياسة والإدارة والتعليم والصحة والاقتصاد… لماذا؟ لانه من المستحيل أن يرقى العملُ الجمعوي إلى النُّبل والاستقامة والشفافية… في بلادٍ مشهدها السياسي منخورٌ بالفساد حتى النخاع! وإذا فسدت السياسة، أفسدت، بدورها كلَّ شيء. تُفسِد المجتمعَ الذي جزءٌ كبير منه يُطبِّع مع الفساد بل ويجد فيه ضالَّتَه بطريقة أو أخرى. تفسِد الاقتصادَ بفتحِ باب الريع على مصراعيه وبفَتح باب الاغتناء السريع وغير المشروع وباب اقتسام الغنائم… تُفسِد الثقافةَ بفتح باب الوصولية والتَّطاول على مِهنٍ تتطلَّب أصلا الكفاءةَ والدراية والنَّكوين والباعَ الطويل… العملَ الجمعوي لا يمكن أن يصمُدَ وسط بحرٍ أمواجُه يُحرِّكها الفسادُ وخصوصا أن الاستقامةَ ونكرانَ الذات والشفافية والمواطنة أشياءٌ أصبحت نادرةً في مجتمع قد يُوصفُ مَن يتحلَّى بها بالأحمق أو المغفَّل أو الساذج أو كما يُقالُ بالدارجة "نِيَّة".
و الدليلُ على ذلك، العددُ الهائل من الجمعيات الذي يؤثِّثُ المشهد الجمعوي في بلادنا والذي يُعدُّ بعشرات الآلاف علما أن السوادَ الأعظمَ من هذه الجمعيات لا يهمها إلا المساعدات المالية التي تُوفِّرها لها السلطات العمومية أو المؤسسات الخاصة المحلية، الجهوية أو الوطنية أو الدولية. فضلا عن الجمعيات التي تولد ميتة والجمعيات التي هي أبواقٌ لجهات معينة أو الجمعيات التي أصبحت مِلكاً خاصا لمَن أنشأها أول مرة وتدرُّ عليه أموالاَ طائلة تُستعمل بدون حسيب ولا رقيبٍ والجمعيات التي أنشئت على المقاس والتي لها دورٌ مقتصرٌ على الوقوف سدا منيعاً ضد جمعيات أخرى والجمعيات الحاصلة على خاصية "المنفعة العامة" وتستعملها لتحقيق أغراض لا علاقةَ لها بالعمل الجمعوي…
العمل الجمعوي، في هذه البلاد، غير ناضج على الإطلاق. لا يمكن أن ينضُجَ في وسطٍ ينخُره الفسادُ من كل جهة. ونُضجُه من نُضجِ السياسة. ونُضجُ السياسة لا يستقيمُ إلا باحترام الدستور وتطبيق القانون تطبيقاً صارما. وتطبيق القانون تطبيقا صارما يحتاجُ إلى إرادةٍ سياسيةٍ قوية. فلماذا لا تأتي هذه الإرادة السياسية بعد مُضِيِّ أكثر من 60 سنة على استقلال البلاد؟
والعمل الجمعوي يمكن أن يُمارسَ على الصعيد المحلي أو الجهوي أو الوطني. كما يمكن أن تكونَ أنشطتُه قاريةً أو عالمية. كما يمكن أن يكونَ مكمِّلاً أو مرافقاً أو مقوِّياً للعمل الذي تقوم به الحكومات في إطار سياساتها العمومية أو العمل الذي تقوم به الجماعات التُّرابية في إطار برامجها التَّنموية. وهذا يعني أن الجمعيات، التي هي جزءٌ من المجتمع المدني، تُعتبر، نوعا ما، وسيلةً أو امتدادا، أو إن صحَّ القولُ، أداةً تلعبُ دورَ الوسيط بين السلطات العمومية أو أي شريكٍ آخر والمواطنين من أجل تقوية الخدمات التي تندرج في خدمة الصالح العام. والعمل الجمعوي هو، في الحقيقة أصلا واصطلاحا، كلُّه موجَّهٌ لخدمة الصالح العام. ومَن يقوم بالعمل الجمعوي؟
يقوم به، أولا وقبل كل شيء، أشخاصٌ من ذوي النيات الحسنة. أشخاصٌ مستعدون، عن قناعة، لوضع تجاربهم وخبراتهم وقدراتهم، وبالأخص وقتهم، رهنَ إشارة الآخرين من أجل إسعادهم أو تمكينهم من العيش الكريم أو تثقيفهم أو تنويرهم أو النهوض بمستواهم المادي، الاجتماعي، الفكري… بعيدا عن كل مقابل مالي. والأشخاص الذين يمارسون العملَ الجمعوي عن قناعة، يجدون فيه ضالَّتَهم من الناحية المعنوية لأنه يُشبِع رغبتَهم وميولَهم إلى فعل الخير. وهذا هو ما يفرض على كل شخصٍ يريد أن ينخرطَ في العمل الجمعوي التَّحلِّي بأهم صفة من صفات التَّطوُّع ألاَ وهي نُكرانُ الذات.
وما يميٍِز العملَ الجمعوي عن غيره من الأعمال، هو أن الجمعيات التي تقوم به مستقلة عن الأحزاب السياسية وعن السلطات العمومية والترابية وعن النقابات، وبصفة عامة، عن كل الأجهزة التابعة للدولة، أي أنها تتمتّع باستقلالية تامة فيما يتعلَّق بأداء مهامها. وبعبارة أخرى، جمعيات المجتمع المدني، هي في الحقيقة، نوعٌ من السلطة المضادة للسلطة القائمة. وكلمة "مضادة" لا يجب إدراكُها هنا بالمعنى السلبي. بل يجب إدراكُها بالقوة الاجتماعية التي تنتصر للحق وللعدل والقانون. وهذا يعني أن جمعيات المجتمع المدني لا ترضخ، نظريا، لأية ضغوطات أو إغراءاتٍ مهما كان مصدرُها، وبالأخص، من الجهات المانحة أو تلك التي تساهم في تمويل العمل الجمعوي. ولهذا، فعلى الجمعيات أن تختارَ بعناية فائقة الجهات التي ستساهم في تمويل أنشطتها. جهاتٌ تؤمن بالعمل الجمعوي وباستقلاليته وبفائدته بالنسبة لشرائح عريضة من المجتمع.
هذا من جهة و من جهة أخرى، كل جمعية تحترم نفسَها وتحترم القانون وأخلاقيات العمل الجمعوي éthique du mouvement associatif، يجب أن تكونَ ممارساتُها مبنيةً على الشفافية transparence فيما يخصُّ مصادر موارد تمويل أنشطتِها وكيفية استعمالها حتى يتبيَّن للعموم أنها تعمل حسب ما تفرضه عليها أهدافُها وليس نزولاً عند رغبة أو توجيهات المموِّلين. الشفافية تُقوِّي مصداقيةَ الجمعيات وتجعل منها، كما سبق الذكرُ، سلطةً مضادةً. وبصفة عامة، كل جمعية تريد أن تكونَ مكانَ احترامٍ وتقديرٍ في المجتمع، يجب أن يتَّصفَ مُسيّْروها بالخِصال التالية :
-التَّحفيز، أي الإيمانُ بأهمية العمل الجمعوي داخل المجتمع وبمساهمته في التَّنمية البشرية، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية،
-المواطنة، أي الإحساسُ بالانتماء للوطن والسعي إلى رؤيته في أحسن الأحوال،
-التَّطوُّع، أي تقديم الخدمات للغير بدون مقابل مادي،
-نكران الذات، أي الاستعداد لتقديم المصلحة العامة على المصلحة الشخصية،
-الاستقلالية، أي الحرية في اتخاذ القرارات والمبادرة وتنفيذ البرامج واختيار الشركاء والممولين، لكن في نطاق ما ينصُّ عليه القانون،
-الشفافية، أي أن يتَّسِمَ ما تقوم به الجمعيات من أعمالٍ وما تحصل عليه من موارد مالية بالوضوح التام، تمشِّيا مع ما تفرضُه أخلاقيات العمل الجمعوي…
بعد هذا التَّوضيح، أعود إلى عنوان هذه المقالة : "هل أفلتَ العملُ الجمعوي من قبضة الفساد؟". أو بعبارةٍ أخرى، هل المشهد الجمعوي في بلادنا لا يزال محتفِظا بنقاوة الضمير وبنُبلِ مهامه و وظائفه الاجتماعية؟ يكفي أن نُلقيَ نظرةً على ما يجري في محيطنا الاجتماعي، السياسي، الاقتصادي والثقافي لنقولَ بدون تردُّدٍ : "لا، العمل الجمعوي لم يُفلِتْ من قبضة الفساد". بل إنه غارقٌ فيه حتى النُّخاع مثلُه مثل السياسة والإدارة والتعليم والصحة والاقتصاد… لماذا؟ لانه من المستحيل أن يرقى العملُ الجمعوي إلى النُّبل والاستقامة والشفافية… في بلادٍ مشهدها السياسي منخورٌ بالفساد حتى النخاع! وإذا فسدت السياسة، أفسدت، بدورها كلَّ شيء. تُفسِد المجتمعَ الذي جزءٌ كبير منه يُطبِّع مع الفساد بل ويجد فيه ضالَّتَه بطريقة أو أخرى. تفسِد الاقتصادَ بفتحِ باب الريع على مصراعيه وبفَتح باب الاغتناء السريع وغير المشروع وباب اقتسام الغنائم… تُفسِد الثقافةَ بفتح باب الوصولية والتَّطاول على مِهنٍ تتطلَّب أصلا الكفاءةَ والدراية والنَّكوين والباعَ الطويل… العملَ الجمعوي لا يمكن أن يصمُدَ وسط بحرٍ أمواجُه يُحرِّكها الفسادُ وخصوصا أن الاستقامةَ ونكرانَ الذات والشفافية والمواطنة أشياءٌ أصبحت نادرةً في مجتمع قد يُوصفُ مَن يتحلَّى بها بالأحمق أو المغفَّل أو الساذج أو كما يُقالُ بالدارجة "نِيَّة".
و الدليلُ على ذلك، العددُ الهائل من الجمعيات الذي يؤثِّثُ المشهد الجمعوي في بلادنا والذي يُعدُّ بعشرات الآلاف علما أن السوادَ الأعظمَ من هذه الجمعيات لا يهمها إلا المساعدات المالية التي تُوفِّرها لها السلطات العمومية أو المؤسسات الخاصة المحلية، الجهوية أو الوطنية أو الدولية. فضلا عن الجمعيات التي تولد ميتة والجمعيات التي هي أبواقٌ لجهات معينة أو الجمعيات التي أصبحت مِلكاً خاصا لمَن أنشأها أول مرة وتدرُّ عليه أموالاَ طائلة تُستعمل بدون حسيب ولا رقيبٍ والجمعيات التي أنشئت على المقاس والتي لها دورٌ مقتصرٌ على الوقوف سدا منيعاً ضد جمعيات أخرى والجمعيات الحاصلة على خاصية "المنفعة العامة" وتستعملها لتحقيق أغراض لا علاقةَ لها بالعمل الجمعوي…
العمل الجمعوي، في هذه البلاد، غير ناضج على الإطلاق. لا يمكن أن ينضُجَ في وسطٍ ينخُره الفسادُ من كل جهة. ونُضجُه من نُضجِ السياسة. ونُضجُ السياسة لا يستقيمُ إلا باحترام الدستور وتطبيق القانون تطبيقاً صارما. وتطبيق القانون تطبيقا صارما يحتاجُ إلى إرادةٍ سياسيةٍ قوية. فلماذا لا تأتي هذه الإرادة السياسية بعد مُضِيِّ أكثر من 60 سنة على استقلال البلاد؟