د. أحمد الحطاب - سباق محموم، مجنون، مسعور لمن يغنم أكثر من الآخر إلا من رحم ربي

والغنيمة هي ما يغنمه الإنسان خصوصا أثناء الحروب. وقد تكون مالا أو ذهبا أو أنعاما أو محصولا زراعيا أو حتى بشرا (جاهلية). وما يجب أن يشدَّ اهتمامنا هنا ليست الغنيمة في حد ذاتها، لكن فعل "غَنِمَ" الذي يعني : "فاز بالشيء، ربحه أو ناله بلا عناء و لا مشقة".

وهنا بيت القصيد : الحصول على أشياء دون بدل أي مجهود يذكر. والمعروف من قِدم الزمان هو أن كل من أراد الحصول على شيئ (مال، جاه، عمل، علم، مرتبة، منصب، محصول زراعي، تجارة مربحة، الخ.)، لا بد أن يكدَّ ويجتهدَ وأن يتصبّبَ عرقا وأن يسهر الليالي وأن يتحلى بالصدق وكما يقال عامة ب"المعقول".

وخير مثال يمكن سياقه في هذا الصدد، هو الإنسان نفسه حينما ظهر لأول مرة على وجه الأرض. فلولا جهده وتفكيره وعمله وممارسته وتمرّسه وتكيّفه مع ظروف العيش وصموده، الخ.، لما استطاع أن يضمن بقاءه على البسيطة إلى يومنا هذا. كان عليه أن يواجه أخطارا وأعداء كثيرين : الطبيعة، الحيوانات المفترسة، الأوبئة، المجاعات، الغزوات، الفيضانات، التقلبات المناخية، الخ.

وهنا، تجدر الإشارة إلى أنه إذا كانت الغنيمة، في الماضي، مرتبِطةً بالحروب، فإنها اليوم سهلةَ المنال. وإذا كانت، في الماضي، محصورةً تنوّعا وعددا، فإنها في بلدنا "الحبيب" أصبحت متعدِّدة الأشكال والأنواع. الكل، إلا من رحم ربي، يجري جريا مسعورا ومجنونا للحصول على نصيبه من الغنائم. وكأن البلادَ أصبحت عبارة عن حلبة شاسعة الأطراف يتسابق فيها ناس فقدوا وعيَهم وسال لعابُهم أيما سيلان حينما تتراءى لهم في الأفق غنائمٌ كان من المفروض أن يحصلوا عليها بعد جهد جهيد.

ولا داعي للقول إن أخطرَ وأشرسَ المتسابقين سُعارا وحمّاً وجنوناً هم السياسيون بدون سياسة، المُنْتَخَبُون عديمي الضمائر، الوصوليون وأصحاب الريع. وقد تزداد خطورتُهم حينما يشكّلون لوبيات في عالم الاقتصاد وفي البرلمان وفي الجماعات المحلية وفي دواليب الإدارة.

فماذا يُنتظر من هؤلاء المتسابقين؟

أن يحترموا القانون، لا أبدا.

أن يدوسوا بأقدامهم القيم والأخلاق والأعراف، نعم وبدون تردد.

أن يسرقوا حقوق الناس ويغتصبوها ويشتروا الذمم وكرامة الآخرين بثمن بخس، نعم وبدون تردد.

أن يكذبوا وينافقوا ويتملّقوا ويتلوّنوا كالحرباء، هذا فن يتقنونه.

أن يغتنوا بسرعة وبطرق غير مشروعة على حساب الطبقات الأخرى، الضعيفة والمتوسطة، حدث ولا حرج.

أن يكون شعارُهم "أنا و من بعديَ الطوفان"، هذه أقل الأمور إرضاءً لهم.

أن يعيثوا في البلاد فسادا وإفسادا، هذا لا يهمهم.

أن تفشلَ المنظومة التربوية في أداء مهامها، هذا في صالحهم لأن كل ما يقومون به من أعمال من أجل الحصول على الغنائم، قد لا يحتاج لا إلى تربية ولا إلى تعليم بل إلى نصب واحتيال وتزوير وتعسّف وتدليس، الخ.

أن يستهزئوا بالديمقراطية ويجعلونها مطية للحصول على الغنائم، هذا شيء يبرعون فيه. أن...

إنهم يتقنون كل فنون السفاهة والتزوير والمكر والتضليل والخُبث والخديعة والدهاء والكيد والتزييف، الخ. و قد يُنكِر بعضُهم البعضَ الآخر إذا كانت الغنيمة دسِمة وتُسيل فيضاً من اللُّعاب، الشيء الذي يدل على أن تسكانهم يخضع لضوابط هي الأخرى مبنية على الخداع و المكر.

فما هي هذه الغنائم التي غيَّبت إنسانيتَهم وأججت شَرَهَهم وجَشعَهم وطمعهم ونَهمَهم؟ إنها كثيرة ومتنوّعة تهم جميع الميادين التي يجد فيها المتسابقون ضالتهم. إليكم البعضَ منها :

1.مَن ينجح في الانتخابات بالتزوير و الكذب وبيع الأوهام والتّضليل، فنجاحه غنيمة.

2.من يتعاطى للسياسة لحاجات في نفس يعقوب، فإنه يستعد لدخول عالم الغنائم.

3.من يبيع كرامته وعزة نفسه ومبادئه لأحزاب سياسية ولنقابات منحرفة ولمسئولين غير مسئولين، فإن بيعَه هذا يعد غنيمة أولى على أن تليها غنائم أخرى.

4.من يستغلّ مكانتَه الاجتماعية أو منصبَه أو معرفتَه لذوي النفوذ ليعلوَ على القانون، فغنائمه لا حصر لها.

5.من يتقرّب من السلطات ويبادلها التملّق والنفاق، فكلما تراءت له غنيمة في الأفق، فهي له.

6.من وصل لوظيفةٍ أو منصبٍ عن طريق "باك صحبي"، فغنيمةٌ و يا لها من غنيمة.

7.من يطمس الثقافةَ ويُعاديها ولا يسعى لمحو الأمية، فغنيمته أن يبقى الناس جاهلين، غافلين ومغفّلين.

8.من يحصل على رخصة سياقة دون استحقاق، فحصوله هذا يُعتبر أول غنيمة تليها غنيمة أخرى أخطر منها تتمثل في مساهمته في عدم احترام قانون السير بوقاحة وفي واضحة النهار.

9.من يحصل على مأذونية دون استحقاق لاستغلال وسيلة نقل، فإنها غنيمة تفتح الباب للفوضى والتضارب والربح غير المشروع على حساب ناس ضعفاء لا حول ولا قوة لهم.

10.من يتهرب من الضرائب أو يغشّ ويزوّر من أجل تخفيضها أو إلغائها، فهذه غنيمة نكراء تضر بمصلحة الشعب بأكمله.

11.من يحصل على شهادة تعليمية كيفما كان مستواها بطرق ملتوية (رشوة، زبونية، محسوبية، تزوير، قرابة، نقل،...)، فصاحب هذه الغنيمة يشكّل خطرا على المجتمع لأنه، بحكم عدم كفاءته، سيستمر حتما في اصطياد الغنائم وفي نفس الوقت، حرمان آخرين من حقوقهم المشروعة.

12.من يذهب لمقر عمله متأخرا ويخرج منه مبكرا، فغنيمته هذه، إن تم حسابها على طول السنة، فإنها تكبر وتتضخَّم وقد تؤدي للرداءة وحتما إلى هدر المال العام (أجر مقابل عمل).

13.من يحصل "بطريقة مشروعة" على رخصة نقل حضري ولا يعير أي اهتمام لحالة وسيلة نقله الداخلية والخارجية ولا لراحة راكبيها، فإن رخصته، و إن كانت مشروعةً، تصبح غنيمة تؤدي إلى غنيمة أخرى تتمثل في سرقة مال الركاب الذين لا حول ولا قوة لهم.

14.من يحتل الملك العام (مقاهي، فراشة، مهن كثيرة) على مرآى من يهمهم الأمر، فإنه قد نجح نجاحا باهرا في الحصول على غنيمة أقل ما يقال عنها أنها تسيء للمواطنين، المارة منهم والقاطنين، وقد تؤدي إلى تشويه جمالية المنظر، إن لم تحول هذا الأخير إلى مزبلة.

15.من يبيع الأدوية على الرصيف وفي الأسواق على مرآى من يهمهم الأمر، فإنه هو الآخر قد نجح نجاحا باهرا في الحصول على غنيمة قد تكون لها ضحايا كُثُر من الضعفاء والأميين الساذجين.

16.من يشتري سُلطةَ من أُسندت لهم قانونيا مهمةُ مراقبة الطرق والسير على الطرق، فإنه يحصل على غنيمته، وفي نفس الوقت، يمكّن المراقبين من الحصول على غنيمتهم علما أن هؤلاء المراقبين بتصرفهم هذا، يعطون للمشتري الضوء الأخضر لغنيمة أخرى تتمثل في عدم احترام مدونة السير على الطرق، وبالتالي، ارتكاب أبشع حوادث السير ضحاياها أناس أبرياء همهم الوحيد أن يتنقَّلوا بسلامة من مكان إلى آخر.

17.من يُتاجر في حقوق الناس (هذا شيء جاري به العمل في بعض الإدارات العمومية)، فإنه يسعى للحصول على غنيمة قد تكون نقدية أو عينية مستغلا بعمله هذا أميةَ وسذاجةَ ناس يجهلون القانون، وفي غالب الأحيان، يعتبرون الإدارة كعدوّ لهم.

18.من يربي لحية عن غير اقتناع ويجهل الدين فقها وإيمانا، فإنه بكل بساطة يسعى إلى نيل نصيبه من الغنائم وما أكثرها في هذه الحالة : حب الناس السذج له، استرزاقهم، نفوذ، سلطة، كسب الثقة للقيام بأعمال فاحشة في الخفاء، الخ.

19.من حصل على صفقة ليبني مثلا طريقا يربط بين أجزاء مهمشة في العالم القروي ويتواطأ مع مَن يهمهم الأمر (مسئولون، مُنتخَبون، مكاتب دراسات،...) ليتلاعب بجودة المواد المستعملة في هذا البناء، فإنه يقتسم غنيمته مع هؤلاء في غياب تام للمحاسبة وللمراقبة والنتيجة قد تكون هي إتلاف الطريق بعد نزول أول أمطار كثيفة والضحايا هم مواطنون وضعوا ثقتَهم في مُنتخَبين همهم الوحيد هو التنكر لهؤلاء المواطنين لينهبوا المال العام.

20.من يغض الطرف عن المُنكر وعن انتهاك القانون وعن الفوضى وعن قضاء الشارع، فغنيمته أن لا يتدخل حفاظا على كرسيه شعارُه في ذلك "كم حاجات قضيناها بتركها" علما أنه يعي تمام الوعي أن غض طرفه هذا يعرض سلامة وأمن وأملاك وعرض المواطنين للخطر.

21.من (رجل سلطة، مُنتخَب، مهندس بلدي...) يرى السكن العشوائي يتنامى في واضحة النهار ولا يحرك ساكنا، ولا يستعمل قوة القانون ولا ينزعج بما يقع، فلا بد أن تكون الغنيمة مسيلةً للعاب غزير ولو يسيء هذا السكن للمجال الحضري والبيئي ولو تتساقط المنازل على رؤوس أصحابها ولو يتم ذلك على حساب برنامج "مدن بدون صفيح".

22.من يسلِّم رخص البناء ولا يسهر على احترام ضوابط البناء، فلا بد أن يكون هناك تواطؤ بين عدة أطراف (شيخ، مقدم، قائد، باشا، مجلس بلدي، مراقبين...) لاقتسام الغنيمة ضدا على القانون واستهتارا بحياة المواطنين الذين قد يجدون أنفسَهم يوما ما تحت أنقاض منازلهم.

23.من يتهاون في أداء مهامه في مرفق عمومي ويُتقنها في مرفق خاص (هذا شيء معمول به في الجامعات و المدارس العليا و المراكز الاستشفائية...)، فإنه يدرك تمام الإدراك أن غنيمتَه الشهرية مضمونة فلا بأس أن يضيفَ لها غنيمة أخرى ولو تم ذلك على حساب جودة خدماته وحضوره الاجباري في مقر عمله.

24.من يسمح أن تُنهب ثروات البلاد من مقالع ورمال وغابات وأسماك...بدون حسيب ولا رقيب، فلا يمكن أن يتم هذا النّهب بدون غنيمة ولا يمكن أن لا يكون فيه تواطؤ بين عدة أطراف وحينها، فلْتذهب البيئة إلى الجحيم ولْيتمّ الإخلال بتوازنها ولْتُعرَّضْ أنواع من حيواناتها ونباتاتها للانقراض.

25.من ينتقل من حزب سياسي إلى آخر، فبدون شك أن الغنائم المتاحة في الحزب الأول غير مُرضية أو أنه، رغم شطارته ومَكْره، لم يستطع الوصولَ إليها. فتراه يهاجر إلى حزب آخر ثم آخر إلى أن يجد ضالته وذلك بضربه عرض الحائط كل الأعراف والقيم والأخلاق السياسية، هذا إن لم يفقد وعيَه حينما تظهر في الأفق غنيمة ضخمة تُبشّر بغنائم أخرى لا تقل أهمية.

26.من يتغيّب عن جلسات البرلمان غير آبه بما يفرضه عليه القانون وما تفرضه أخلاق المهنة وما يفرضه واجب احترام الثقة التي وضعها فيه الناخبون، فغنيمته أنه أولا، استهزأ بالناخبين ليصل إلى ما يطمح إليه وثانيا، استهزأ بالدولة التي توفر له تعويضات شهرية لا يقابلها التزام.

27.من يتعامل مع الدولة أو مع العديد من مرافقها أو مع الجماعات المحلية من خلال صفقات لإنجاز مشاريع أو تقديم خدمات، وبمجرد ما يحصل على الصفقة، لا يحترم إلا ما أراد من بنود دفتر التحملات، فغنيمته هي أن يتحول ل"مول الشكارة" همه الوحيد هو الريع أي الربح المترتب عن الغش والاحتيال والخداع علما أن هذا التصرف لا يمكن أن يحدث إلا إذا لم يكن هناك حسيب ولا رقيب (وهذا شيء مستبعد) أو إلا إذا كان هناك تواطؤ بين من يهمهم الأمر الذين لهم نصيبهم من الغنيمة.

28.من يشغِّل البشر في معامل ومصانع وشركات ليقوموا بأعمال مرهقة ويدوس على حقهم في التمتع بالضمان الاجتماعي، فلا فرق بينه وبين"مول الشكارة" وغنيمته أنه وفّر مالا على حساب عرق وتعب أناس لا حول ولا قوة لهم، همهم الوحيد هو كسب لقمة عيش وحماية اجتماعية . ولا داعي للقول أن هذا لا يجب ولا يمكن أن يحصل في دولة الحق والقانون إلا إذا كان هناك إهمال من طرف من يهمهم الأمر أو إذا كان هناك تواطؤ علما أن الإهمال في حد ذاته تواطؤ.

29.من له سلطة القانون ولا يطبّقه، فغنيمتُه لها عدة أوجه : لا ربح له في تطبيق القانون، لا يريد مشاكل، كرسيه أغلى من تطبيق القانون، يريد أن يطبق القانون لكنه لا يريد أن يطال أشخاصا معينين،...

من...من...من... ولائحة الغنائم طويلة...

هذا هو حال هذه البلاد التي أصبحت، إلا من رحم ربي، عبارة عن خليط من الأشخاص الفردانيين كل له مملكتُه الصغيرة الضيقة لكن طموحَه الكبير هو أن ينال جزأ أو حقه من المملكة الكبيرة التي هي المغرب. وهنا، لا بد أن نلاحظ أن الغنائم التي أشرتُ إليها أعلاه ليست بالضرورة نقدية أو مالية. بل كل فرد يحدد طبيعة غنيمتِه ويسعى للحصول عليها بكل الطرق إلا القانون.

حينها تغيب القيم والمبادئ التي ينبني عليها العيش الجماعي والتساكن والتكافل. ويغيب حب الوطن (patriotisme) وتغيب المواطنة (citoyenneté) ويغيب حِسُّ الصالح العام (civisme) وتغيب الأخلاق (morale) وتغيب الأخلاقيات (éthique). أين نحن من مغرب الأربعينيات والخمسينيات وشيئا ما الستينيات؟ حين كان لبلدنا رجال ونساء من طينة رفيعة يجري في دمائهم حب الوطن وتُشِعُّ من أعينهم المواطنة.

رجال ونساء يغيرون على بلدهم ولا شيئا آخر غير بلدهم. رجال ونساء مروا من مدرستين، مدرسة التعليم والتربية ومدرسة الحياة. مدرسة التعليم والتربية كانت مدرسة مواطنة متجذرة في المجتمع تنتجه وينتجها. مدرسة الحياة التي تأثرت بمدرسة التعليم والتربية ليتمكن رجالُها ونساءُها من اكتساب خبرة عالية وظفوها لخدمة بلدهم.

وبمجرد ما غاب هؤلاء الرجال والنساء، غاب مغرب الصالح العام والمواطنة وحل محله مغرب الغنائم حيث، إلا من رحم ربي، كل متربص به يشحذ سكينه ليقتطع منه ما تيسر له من غنائم. أما مدرسة المواطنة، فهي الأخرى غابت وحلت محلها مدرسة غريبة عن مجتمعها ومنعزلةٌ عنه.

والخطير في الأمر أن جزأ من الذين رحم ربي أصبح يقول : لِمَ لا آخذ نصيبي من الغنائم قبل فوات الأوان؟

إلى أين نسير؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى