د. أحمد الحطاب - العَالَمُ هَشٌّ

ما هي الهشاشة؟ فيما يتعلَّق بالأفراد، الهشاشة vulnérabilité هي الوضع غير المستقر، اجتماعيا و اقتصاديا على الخصوص، الذي يوجد عليه هؤلاء الأفراد والذي، بحُكم عدم استقراره، يجعلهم معرَّضين بسهولة للأمراض وللفقر وللتَّهميش وللاعتداءات ولفُقدان الكرامة…

وأهم العوامل التي تكون سبباً في تعرُّض الأشخاص للهشاشة هي فقدان مصدر العيش، ضعف الاقتصاد الوطني، البطالة، الحروب، الكوارث الطبيعية، تغيُّر المناخ… ولا داعيَ للقول أن الأشخاصَ الذين يعانون من الهشاشة يصبحون غير قادرين على سد أبسط حاجياتهم اليومية من جراء فُقدانهم لاستقلالية العيش.

أما على مستوى بلد بأكمله، فإن البلدان الفقيرة أو المتخلفة اجتماعيا واقتصاديا، وبصفة عامة، البلدان النامية، تكون أكثر عُرضةً من غيرها للهشاشة. غير أن البلدانَ الغنية ليست هي الأخرى في مأمن من الهشاشة، الاقتصادية على الخصوص. لماذا؟ لأن السببَ الرئيسي لدخول بلد بأكمله في دوامة الهشاشة هو مفهوم "الاكتفاء الذاتي" وخصوصا الاكتفاء الذاتي على المستوى الطاقي والغذائي. وهنا، لا بد من الإشارة أنه لا يوجد، على الإطلاق، بلدٌ في العالم له اكتفاءٌ ذاتي في جميع المجالات. وحتى البلدان القوية اقتصاديا ليس بإمكانها أن يكونَ لها الاكتفاء الذاتي الازم في كل ما هي في حاجة إليه من أجل ضمان تنميتها البشرية، الاجتماعية، الاقتصادية، الصناعية، التِّكنولوجية… فهي إذن مرتبطة، لتحقيق هذه التَّنمية، ببلدان أخرى. و دهذا يعني أن بلدانَ العالم، كيفما كان مستوى تقدمها الاقتصادي، الاجتماعي، العلمي والتِّكنولوجي على الخصوص، مُطالبةٌ بسدِّ الثغرات التي يتركها عدم الاكتفاء الذاتي في العديد من المجالات عبر ما يقوم بينها من تبادلات تجارية. فمن الواضح أن بلدانَ العالم لها مصلحة في ربط هذه التَّبادلات التِّجارية وخصوصا عندما يتعلَّق الأمرُ بمواد حيوية كالطاقة والغذاء.

وهذه التَّبادلات التِّجارية القائمة بين بلدان العالم، منذ القِدم، ما دامت تسير على ما يُرام في أيام السّلم، فإنها توحي بأن هذا العالمَ عالمٌ مستقرٌّ، آمِنٌ و ثابت. لكن هذا الاستقرارَ وهذا الأمن ليسا إلا بُنيانا مُشيَّداً فوق الرمال سرعان ما ينهار بمجرد زوال الرمال من تحته. وبعبارة أخرى، الاستقرار والأمن ليسا قائمين على أرضية صلبة تقاوم كل التَّقلُّبات، السياسية، الاقتصادية والبيئية على الخصوص، التي يمكن أن تحدثَ في العالم بدون سابق إنذار. فيكفي أن تقومَ حربٌ (العالم ليس في مأمنٍ من حرب نووية) بين دولٍ لها وزنٌ ثقيلٌ على المستوى الجيواستراتيجي والجيوسياسي أو أن تحدثَ كارثة بيئية أو طبيعية واسعة النطاق أو أن تنتشرَ الأوبئة ليتحطَّمَ، بين عشية وضحاها، ما كان يُظنُّ أنه استقرارٌ وأمنٌ. والأمثلة كثيرة في هذا الصدد.

فيكفي أن نتذكَّرَ المجاعات التي مر منها العالم منذ القِدم من جراء الحروب أو من جراء انتشار الأوبئة أو من جراء الكوارث الطبيعية، لنلاحظ أن البشرية، مهما تطوَّرت ومهما تقدمت ومهما تقوَّت، فإنها ليست في مأمنٍ من الهشاشة. وخيرُ مثالين يمكن ذكرُهما، في هذا السياق، جائحة كورونا التي يبدو أن العالمَ قد تخلَّصَ منها، و الحرب الروسية الأوكرانية التي طال أمدُها. أزمتان خطيرتان مر منهما العالم في الوقت الحاضر (في بداية الألفية الثالثة و القرن الواحد و العشرين).

الأزمة الأولى تمثلت في انتشار جائحة كورونا التي لم تسلم منها ولو بلادٌ واحدة. جائحةٌ أظهرت بوضوح مدى هشاشة البشرية أمام مخلوق متناهي الصِّغر. بل مخلوق لا يُرى بالعين المجردة ولا يُرى إلا بأقوى المَجَاهِر الإلكترونية. ورغم صغره، فإن البشريةَ بقيت مكتوفةَ الأيدي، طيلة شهور، أمام ما أحدثَه من دمار وخراب على المستوى الإنساني، الاقتصادي والاجتماعي على الخصوص. لقد حَرَمَ البشرَ (على المستوى الأمَمِي و الأسري) من التَّواصل فيما بينهم وجمَّد الاقتصادات والصناعات وأوقف التبادلات التِّجارية بين الدول… وباحتصار، إن الجائحةَ بيَّنت بأن العالمَ هَشٌّ بغض النظر عن قوة بعض دُوله. وبغض النظر كذلك عن قوة الاقتصاد والتقدم العلمي والتِّكنولوجي…

الأزمة الثانية تمثلت في نشوب الحرب التي شنتها روسيا على أوكرانيا. فبمجرد ما اندلعت هذه الحرب بين هذين البلدين حتى تزعزع الاقتصاد على المستوى العالمي من خلال تدبدُب الأسهم في البورصات الدولية. وبما أن روسيا وأوكرانيا من أكبر مصدِّري القمح إلى باقي بلدان العالم، فإن الهلعَ حلَّ بمختلف عواصم العالم التي ليس لها اكتفاء ذاتي فيما يخصُّ هذه المادة الغذائية الحيوية. وبما أن روسيا هي أكبر مزوِّدٍ لأوروبا بالغاز الطبيعي، فإن الدول الأوروبية أصبحت في غير مأمنٍ من ذخولها في أزمة طاقيةٍ لم يسبق لها مثيلٌ. وبما أن اقتصادَ وصناعةَ هذه الدول رهينان إلى حدٍّ كبير بما تستورده من غاز طبيعي من روسيا، فإن هذين الاقتصادَ والصناعة قد يُصابان بالشلل. ومن هنا، تبدأ سلسلةُ المصائب المترتِّبة عن الأزمة الطاقية من فقدان للعملات الصعبة وتفشي البطالة وتراجع التَّصدبر إضافةً إلى المآسي الاجتماعية التي قد تحدث داخل الأسر. والمصائب لا تتوقف عند هذا الحد لأن شللَ الصناعة في بلدان معينة قد يُلحِق أضراراً ببلدان أخرى التي تعتمد في تنميتها على ما تستورده من حاجياتِ تنميتِها من الخارج… حينها، تدخل دول العالم في دوَّامة خسائر لا نهاية لها… وباختصار، الحرب الروسية الأوكرانية أدخلت العالمَ بأسره في سلسلة من المصائب تتداخل فيما بينها، أذكر منها على سبيل المثال :

أولا، عودة التَّطاحن بين المعسكرين الغربي والشرقي. المعسكر الغربي يريد بسطَ نفوذه على جميع البلدان الأوروبية والمعسكر الشرقي يريد بسطَ نفوذه على الدول الأوروبية المجاورة له.

ثانيا، ارتفاع جنوني للأسعار على المستوى العالمي وخصوصا في مجال الطاقة والحبوب والمنتجات الغذائية.

ثالثا، احتمال حدوث أزمة طاقية.

رابعا، المجاعة تُخيِّم على بعض البلدان و خصوصا منها النامية.

خامسا، احتمال تدهور نسبة النمو على المستوى العالمي وارتفاع منتظر في التَّضخُّم.

سادسا، تدهور القدرة الشرائية من جراء ارتفاع الأسعار.

سابعا، ارتفاع عدد النازحين والاجئين.

ثامنا، تدهور السياحة على المستوى العالمي من جراء تدهور القدرة الشرائية علما أن السياحةَ تشكِّل مصدرا أساسيا لجلب العملات الصعبة ولتكريس الناتج الداخلي الخام.

تاسعا، احتمال تعرُّض الامن الغذائي للاختلال وخصوصا في الدول النامية...

أليس ما نشاهده اليوم من تداعيات ناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية هشاشةٌ ما بعدها هشاشة؟

ألا تُبيِّن هذه التَّداعيات أن العالمَ، رغم ما حصل فيه من تقدُّمٍ علمي واجتماعي وتكنولوجيي وثقافي وصناعي… مبنِيٌّ على أسُسٍ هشة سرعان ما تنهار يمجرد تعرُّضِها لآفة من الآفات؟ فأين يوجد الخللُ؟

بكل تأكيد أن الخللَ يوجد في البشر و بالأخص في البشر الذين بسيِّرون شؤونَ العالم، بل في نوعية تفكيرهم ونوعية رؤيتِهم لهذا العالم. إضافةً إلى أن الحروبَ لا يمكن، على الإطلاق، أن تحدثَ خارج إرادة البشر. فتفكيرهم ورؤيتُهم للعالم المبنيان على الهيمنة وعدم الإنصاف بين الدول هما اللذان يعرِّضان هذا العالمَ للهشاشة كلما تصدَّع أحدُ أركانه.

ما هو مؤكَّدٌ هو أن العالم، بحكم ما نهجه و ما ينهجه حكَّامُه الأقوياء، على الخصوص، من سياسات بعيدة كل البعد عن ما تفرضه الحكمة والتَّبصُّرُ والتَّدبير العقلاني لأمور الشعوب وبعيدة كل البعد عن ما تريده هذه الشعوب، يسير نحو مستقبل غامض لا يعلم مآلَه إلا الله. فمتى سيعود هؤلاء الحكام الأقوياء إلى الصواب وإلى رُشدهم و هم يعلمون تمامَ العلم أنهم يقودون بلدانَهم نحو الارتطام بحائط لن ينفعَ معه الندمٌ؟

على ما يبدو، إن هؤلاء الحكَّام ليسوا مستعدين لاستخلاص الدروس من ما يتعرَّض له العالمُ من هشاشة لا من جراء جائحة كورونا و لا من جراء الحروب السابقة و الحالية. ما يهمهم أكثر، هو السيطرة على العالمِ بواسطة العلم والتِّكنولوجيا. بل ما يهمهم، سواءً كانوا منتمين للمعسكر الغربي أو للمعسكر الشرقي، هو امتلاك العالم، ومن خلاله، المجتمعات. حكام يعانون من انفصام فكري يُظهرهم، أمام الملأ، كديمقراطيين، وأمام أنفسهم، كتواقين للسيطرة والهيمنة على العالم وعلى بشريته.

حينها، يصبح التَّنافسُ الشَّرْسُ و الأعمى بين الأقوياء هو سيد الموقف، وبالتالي، كل الدول غير القوية تصيح مجرد تابعة لهذا المعسكر أو ذاك. بل إن الوسائل تصبح أهم من الأهداف مما يؤدي إلى تطاحنٍ قوي في إبداع وابتكار أقوى هذه الوسائل لتحقيق ما يصبون إليه من هيمنة ولو على حساب البشر والطبيعة والبيئة…

و في الختام، كان العالم هشا و لا يزال هشا وحسب رأيي الشخصي، سيظل هشا ما دام حُكامه الاٌقوياء يرون فيه مجرد غنيمة غير قابلة للقسمة وما دامت رؤيتُهم لهذا العالم تسعى للهيمنة عليه من أجل الهيمنة. أو بعبارة أخرى، السياسة لم تعد تلك الوسيلة التي بإمكانها إسعاد البشر وضمان كرامتهم لكن وسيلة مسحَّرة فقط وحصريا للوصول إلى السلطة من أجل السلطة. أما ما أستخلصُه أنا من درس من الحرب الروسية الأوكرانية هو أن السياسةَ بدون سمو في الفكر والسلوك والعمل، ليست إلا مصيبة من المصائب التي نجح الإنسان المعاصر في إبداعها لأغراض بعيدة كل البعد عن الهدف الذي من أجل تحقيقه، خلَقَ الله الإنسانَ الا و هو إعمارُ الأرض إعماراً فيه منفعة لجميع الكائنات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى