هناك من يعتبر «الحرب محاولة متأخرة للحياة». غير أن آخرين، وهم كُثْرٌ، يرون أنها خزان كبير للوجع. وبين هذا الموقف وذاك، يشتغل الأدب على الحرب بتأنّ بارع وهدوء مخاتل، ويضعنا على الطريق السريع للمتع الطائشة، إلى درجة نوع من الإشباع السام.
في الحرب، تمتلئ النصوص الأدبية بالجثث والخرائب والدماء، كما يحتشد الورق بالقنابل المتعددة الصنع، وحُفَر الحرق، واليورانيوم المنضب، وأيضا بالآثار الفورية للعمى الهائل. كل الحواس تنتبه حين يضغط الموتُ بكل عبثيته على الممرات والجسور والأبواب، وحين تصبح الحشرجة «علامة تجارية».
صحيح أن الحرب يصنعها، عادةً، مغامرون أو رماةُ نرد. غير أن السؤال المطروح هنا هو: «هل يمكن الذهاب إلى المستقبل بدون حرب؟»، وهل بوسع الأدب أن ينمو خارج الدماء الهائجة لما يمكن أن نسميه «لحظة الاشتباك مع العدم»؟
الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..
في القطار السريع يمر الوقتُ بطيئا عندما نستعجل لحظة الوصول. أحيانا يفقد السفر متعته فلا ننتبه لأشعة الشمس المتسللة إلى صقيع مارس. في العادة لا يعلو صوت على صوت عجلات القطار، ولكن ذاك اليوم، كان صوت تلك المرأة لا ينفك يرتفع ثم ينخفض. اعتقدت بداية أنها تتحدث مع رفيقها، ثم انتبهت إلى أنها تتحدث في الهاتف، وأن الرجل بجانبها لم يكن سوى رفيق سفر. كلما ارتفع الصوت كنتُ أتوقف عن العمل في حاسوبي وأنظر من النافذة، أنتظر أن أستعيد تركيزي. حديث تلك المرأة كان مجرد قاطع أفكار، هكذا كان الأمر بسيطا ولا علاقة له بالحرب.
أنظر من النافذة ولا أرى الحرب. عندما لا نريد رؤية الأشياء لا نراها، ونتوغل في وهم أننا بعيدون جغرافيا عما يحدث. يعبرنا أناس جدد. ترتفع الأسعار. تختفي سلع محددة، ولكننا لا نرى الحرب. عندما سألتني امرأة برفقة أسرة كاملة في صباح باكر لإرشادها إلى مبنى شؤون اللاجئين، لم أكلف نفسي أن أفعل أكثر من المطلوب، ولم أتوقف قليلا لأحيي أسرتها وأقدم ابتسامة صباحية -على الأقل- لأفرادها واحدا واحدا. عندما ألج إلى المحل التجاري القريب، وإن انتبهت لتغير الجالس أمام الباب على الأرض الباردة، بالكاد ألقي التحية. الجالس هناك يكون قادما من أرض تسودها الحرب. أعرف ذلك من ملامحه، ولكنني لا أرى الحرب.
الحرب هي نزاعٌ بين دولتين أو أكثر. والحرب هي تنازع من أجل فرض القوة والسلطة. أنا التي أريد أن أكون مواطنة في هذا العالم، لا أرى الحدود إلا حواجز لرغبتي في أن أحقق ذلك، لا أمتلك الحق في تقرير حالة الحرب. أتابع كعادتي الأخبار، فأنتبه إلى أن أمر جائحة كورونا قد تم تجاوزه، فبالكاد يذكر في العناوين الثانوية. الحرب الآن ليست مجازية مع كائن أنتجته الطبيعة. الحرب التي تنقلها العناوين الرئيسية، حربٌ يُجنَّدُ لها العتاد والأسلحة. يُرحل فيها النساء والأطفال ويهجرون بينما يتم منع الرجال من السفر وتسخيرهم للدفاع عن الفكرة الوطن.
أسمع الحرب وأقرؤها في الأخبار، كأنها عادت من غياهب بدايات القرن العشرين. تقول لي السيدة الثمانينية: إنني أعرف الحرب. لقد كنت طفلة وكنت أسمع طنينها. أذكر عندما غاب الرجال، وعندما اختبأنا في قعر الأرض. تقول لي: لقد رأيتُ بشاعة الحرب في قطعة الخبز التي قدمها الجندي الألماني لحصانه بينما كنت أموت جوعا. كنا نلتقط حبات القمح المتساقطة من طوابير النازيين لنصنع منها خبزا… لقد عادت الحرب، تردد بصوتٍ خائف.
أنا التي لم أعرف الحرب، أعرف أن الحرب لم تختف يوما. أريد أن أخبر السيدة التي أصيبت بمرض النسيان أن الحرب ظلت تمشي وتلتهم فرح الناس العاديين في الدول الأخرى. تلك الدول التي رُتّبَت أسفل الخريطة وأسفل التاريخ وأسفل الإحصائيات الجيدة. فلا يهم إن مات أطفالها جوعا. وإذا ما رُحِّل سكانها، وُسِموا بالجُبن وبالفشل وبالإرهاب. سيقول لي أحدهم: لكل شعب الحكام الذين يستحقهم. سيقول هذا متجاهلا ما أحدثه أولائك الذين يسكون أعلى الخريطة من جرائم في حق هؤلاء.
يكتبون بعناوين بارزة: إن الحرب على بعد ساعتين. يكتبون ذلك فترتفع الأسعار، وتختفي السلع ويهرع شيخ ليشتري أكبر كمية من ورق التواليت، إضافة إلى أكياس الأرز والمعكرونة والخضر المعلبة. لم أفكر رغم ذلك في الاستعداد للحرب. أنا لا أعرف الحرب. يتجاهل صديقي الذي خبر الحرب، أخبارها ويواصل البحث عن فرصة ليشتم العالم. يعيش كأنه لن يموت أبدا. يعيش كأنه ميت منذ أن هُدِّم منزله.
تسألني السيدة: إسبانية، إسبانية؟
لا، أقول.
تلتفت إلى الركاب الآخرين وتسألهم واحدة واحدا: إسبانية، إسباني؟ يرد الجميع: لا.
تبحث السيدة في قفتها وأكياسها. يا لها من امرأة غير منظمة، يمكنني أن أفكر. إنها حتى لم توظب ملابسها في حقيبة ! تكرر السيدة سؤالها، تلح بشدة. نشعر بالحرج. أشعر بالحرج. حرج مخيف وجبان. لا أحاول أن أسترجع ما تعلمته من كلمات الإسبانية منذ سنوات. تلح السيدة وتبدأ بالبكاء. لا أحد يقدم لها المساعدة.
أوكرانيا، أوكرانيا، أوكرانيا… تنشج بصوت يرتعد يأسا.
الحرب بجانبي، إذن !
أنا التي لا أعرف ماهية الحرب. أحاول ألا أجزع من حكاية الطالب السوري الذي يخبرني بابتسامة عن جوع والده. يجب أن تدرس الآن، آمره. كأن الحرب حدث عابر. كأنها خبر يمكن أن نغلق عنه قنوات الإرسال.
الحرب العادلة، حسب القديس توما، هي التي تدافع عن قضية عادلة. ولكن أليس من يحدد ما هو عادلا هو الذي يملك القوة؟ !
الكاتب : إعداد: سعيد منتسب
بتاريخ : 19/04/2022
في الحرب، تمتلئ النصوص الأدبية بالجثث والخرائب والدماء، كما يحتشد الورق بالقنابل المتعددة الصنع، وحُفَر الحرق، واليورانيوم المنضب، وأيضا بالآثار الفورية للعمى الهائل. كل الحواس تنتبه حين يضغط الموتُ بكل عبثيته على الممرات والجسور والأبواب، وحين تصبح الحشرجة «علامة تجارية».
صحيح أن الحرب يصنعها، عادةً، مغامرون أو رماةُ نرد. غير أن السؤال المطروح هنا هو: «هل يمكن الذهاب إلى المستقبل بدون حرب؟»، وهل بوسع الأدب أن ينمو خارج الدماء الهائجة لما يمكن أن نسميه «لحظة الاشتباك مع العدم»؟
الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..
في القطار السريع يمر الوقتُ بطيئا عندما نستعجل لحظة الوصول. أحيانا يفقد السفر متعته فلا ننتبه لأشعة الشمس المتسللة إلى صقيع مارس. في العادة لا يعلو صوت على صوت عجلات القطار، ولكن ذاك اليوم، كان صوت تلك المرأة لا ينفك يرتفع ثم ينخفض. اعتقدت بداية أنها تتحدث مع رفيقها، ثم انتبهت إلى أنها تتحدث في الهاتف، وأن الرجل بجانبها لم يكن سوى رفيق سفر. كلما ارتفع الصوت كنتُ أتوقف عن العمل في حاسوبي وأنظر من النافذة، أنتظر أن أستعيد تركيزي. حديث تلك المرأة كان مجرد قاطع أفكار، هكذا كان الأمر بسيطا ولا علاقة له بالحرب.
أنظر من النافذة ولا أرى الحرب. عندما لا نريد رؤية الأشياء لا نراها، ونتوغل في وهم أننا بعيدون جغرافيا عما يحدث. يعبرنا أناس جدد. ترتفع الأسعار. تختفي سلع محددة، ولكننا لا نرى الحرب. عندما سألتني امرأة برفقة أسرة كاملة في صباح باكر لإرشادها إلى مبنى شؤون اللاجئين، لم أكلف نفسي أن أفعل أكثر من المطلوب، ولم أتوقف قليلا لأحيي أسرتها وأقدم ابتسامة صباحية -على الأقل- لأفرادها واحدا واحدا. عندما ألج إلى المحل التجاري القريب، وإن انتبهت لتغير الجالس أمام الباب على الأرض الباردة، بالكاد ألقي التحية. الجالس هناك يكون قادما من أرض تسودها الحرب. أعرف ذلك من ملامحه، ولكنني لا أرى الحرب.
الحرب هي نزاعٌ بين دولتين أو أكثر. والحرب هي تنازع من أجل فرض القوة والسلطة. أنا التي أريد أن أكون مواطنة في هذا العالم، لا أرى الحدود إلا حواجز لرغبتي في أن أحقق ذلك، لا أمتلك الحق في تقرير حالة الحرب. أتابع كعادتي الأخبار، فأنتبه إلى أن أمر جائحة كورونا قد تم تجاوزه، فبالكاد يذكر في العناوين الثانوية. الحرب الآن ليست مجازية مع كائن أنتجته الطبيعة. الحرب التي تنقلها العناوين الرئيسية، حربٌ يُجنَّدُ لها العتاد والأسلحة. يُرحل فيها النساء والأطفال ويهجرون بينما يتم منع الرجال من السفر وتسخيرهم للدفاع عن الفكرة الوطن.
أسمع الحرب وأقرؤها في الأخبار، كأنها عادت من غياهب بدايات القرن العشرين. تقول لي السيدة الثمانينية: إنني أعرف الحرب. لقد كنت طفلة وكنت أسمع طنينها. أذكر عندما غاب الرجال، وعندما اختبأنا في قعر الأرض. تقول لي: لقد رأيتُ بشاعة الحرب في قطعة الخبز التي قدمها الجندي الألماني لحصانه بينما كنت أموت جوعا. كنا نلتقط حبات القمح المتساقطة من طوابير النازيين لنصنع منها خبزا… لقد عادت الحرب، تردد بصوتٍ خائف.
أنا التي لم أعرف الحرب، أعرف أن الحرب لم تختف يوما. أريد أن أخبر السيدة التي أصيبت بمرض النسيان أن الحرب ظلت تمشي وتلتهم فرح الناس العاديين في الدول الأخرى. تلك الدول التي رُتّبَت أسفل الخريطة وأسفل التاريخ وأسفل الإحصائيات الجيدة. فلا يهم إن مات أطفالها جوعا. وإذا ما رُحِّل سكانها، وُسِموا بالجُبن وبالفشل وبالإرهاب. سيقول لي أحدهم: لكل شعب الحكام الذين يستحقهم. سيقول هذا متجاهلا ما أحدثه أولائك الذين يسكون أعلى الخريطة من جرائم في حق هؤلاء.
يكتبون بعناوين بارزة: إن الحرب على بعد ساعتين. يكتبون ذلك فترتفع الأسعار، وتختفي السلع ويهرع شيخ ليشتري أكبر كمية من ورق التواليت، إضافة إلى أكياس الأرز والمعكرونة والخضر المعلبة. لم أفكر رغم ذلك في الاستعداد للحرب. أنا لا أعرف الحرب. يتجاهل صديقي الذي خبر الحرب، أخبارها ويواصل البحث عن فرصة ليشتم العالم. يعيش كأنه لن يموت أبدا. يعيش كأنه ميت منذ أن هُدِّم منزله.
تسألني السيدة: إسبانية، إسبانية؟
لا، أقول.
تلتفت إلى الركاب الآخرين وتسألهم واحدة واحدا: إسبانية، إسباني؟ يرد الجميع: لا.
تبحث السيدة في قفتها وأكياسها. يا لها من امرأة غير منظمة، يمكنني أن أفكر. إنها حتى لم توظب ملابسها في حقيبة ! تكرر السيدة سؤالها، تلح بشدة. نشعر بالحرج. أشعر بالحرج. حرج مخيف وجبان. لا أحاول أن أسترجع ما تعلمته من كلمات الإسبانية منذ سنوات. تلح السيدة وتبدأ بالبكاء. لا أحد يقدم لها المساعدة.
أوكرانيا، أوكرانيا، أوكرانيا… تنشج بصوت يرتعد يأسا.
الحرب بجانبي، إذن !
أنا التي لا أعرف ماهية الحرب. أحاول ألا أجزع من حكاية الطالب السوري الذي يخبرني بابتسامة عن جوع والده. يجب أن تدرس الآن، آمره. كأن الحرب حدث عابر. كأنها خبر يمكن أن نغلق عنه قنوات الإرسال.
الحرب العادلة، حسب القديس توما، هي التي تدافع عن قضية عادلة. ولكن أليس من يحدد ما هو عادلا هو الذي يملك القوة؟ !
الكاتب : إعداد: سعيد منتسب
بتاريخ : 19/04/2022
وقت مستقطع من الحرب (15) : فاطمة الزهراء الرغيوي: لا أعرف الحرب - AL ITIHAD
هناك من يعتبر «الحرب محاولة متأخرة للحياة». غير أن آخرين، وهم كُثْرٌ، يرون أنها خزان كبير للوجع. وبين هذا الموقف
alittihad.info