1- صلة الشرق بالغرب
في العام 1987 تلقيت الرسالة الاولى والأخيرة من سلمى الخضراء الجيوسي، وفيها تطلب مني أن أتعاون معها لاصدار موسوعة الأدب الفلسطيني، فقد زكاني لديها، هي التي لم تكن تسمع باسمي، احد اصدقائي. كانت سلمى التي كان اطلاعها على الحركة القصصية في فلسطين المحتلة، بسبب تشتت الشعب الفلسطيني وعدم تواصله لأسباب لا تخفى، غير كاف، كانت تريد، حين تصدر موسوعتها التي تضم القصة القصيرة، تمثيلات جيدة لهذا الفن، بخاصة لكتابه الذين يقيمون في الارض المحتلة في العام 1948 والعام 1967، ولما كنت أنجزت رسالة ماجستير في القصة القصيرة في الضفة والقطاع ما بين 1967 و 1981 وراقت لبعض اصدقائي، فقد زكاني لديها، واتصلت هي بدورها بي، لعلني اساعدها، فتكون موسوعتها شافية كافية صادرة عن فريق تترأسه متمكن من ادواته وملم في الوقت نفسه الماماً جيداً بالحركة الادبية.
لم أتمكن، في حينه، من مساعدتها كما تريد، لقد اقترحت عليها اسماء قصصية اخترت نماذج لها اتكأ اصحابها في بنائها على التراث العربي والاسلامي. ولم ادرك انا يومها أن المتلقي الغربي غير المتلقي العربي، فما تعنيه لي شخصية النابغة الذبياني او الزير سالم او المتنبي شيء، وما تعنيه للقارئ الغربي، إن فهم مراميها ومقاصدها، شيء آخر، وما لم ادركه انا ادركته سلمى التي كانت تدرس في الجامعات الاميركية وتعرف حق المعرفة طلابها. ولهذا لم تدرج أي نموذج من النماذج التي اقترحتها أنا، وأدرجت نماذج مختلفة قرأتها ورأيت فيها قصص تصور الواقع. وحين درست هذه القصص ادركت لماذا اختارتها صاحبة الموسوعة، فهي تريد ان تطلع القارئ الاوروبي والاميركي على حياة الفلسطينيين ومعاناتهم منذ العام 1917، وليس افضل من القصص الواقعية الخالية من الرموز التراثية وغير التراثية مثالاً يمكن اختياره وترجمته وتدريسه.
ولعل سلمى التي تهتم بالجانب الفني للقصة يهمها اكثر من هذا الموضوع الذي تصوره، فهي بحكم تدريسها واطلاعها على الآداب العالمية، بخاصة الانكليزية والاميركية تدرك جيداً ان قصة قصيرة او رواية او قصيدة لا تعكس الواقع الفلسطيني او العربي، حتى لو كانت آية فنية، لا تعني الكثير للقارئ الاوروبي والاميركي. انها مثل الباحثة والدارسة الالمانية (آنيماري شيمل) صاحبة انتولوجيا الشعر العربي المعاصر بالالمانية. لقد نقلت هذه نماذج من الشعر العربي المعاصر، ومن ضمنه الشعر الفلسطيني، الى لغتها الأم: الالمانية، وتوقفت في المقدمة النقدية التي صدرت بها المجموعة المختارة أمام أسباب اختيارها، وأشارت مثلاً الى انها راعت في اثناء الاختيار ما يناسب الذوق الغربي الذي قد يختلف، بل انه يختلف، عن الذوق الشعري العربي ، وأتت بأمثلة على ذلك. قالت (شيمل) ان السياب مثلاً تروق اشعاره للقارئ العربي، لكنها لا تروق بالضرورة للقارئ الغربي، ولهذا فقد اكثرت من ترجمة نماذج لعبد الوهاب البياتي، مراعية بذلك الذائقة الغربية.
عموماً يمكن القول ان سلمى الخضراء الجيوسي لم تختلف كثيراً عن (آتيماري شيمل) في هذا الجانب. لماذا مثلاً لم تختر أية قصيدة لمحمود درويش اتكأ فيها على الرموز العربية القديمة، فيما اختارت له قصائد تمس الموضوع الوطني؟ لسبب واضح ومعروف. ان هاجس سلمى الاساس هو ان تقدم الشرق الى الغرب، علّ الاخير يفهم الاول من خلال ادبياته وتصويره واقعه فيها.
ليست الموسوعات التي اصدرتها سلمى هي الوسيلة الوحيدة لتقديم الشرق الى الغرب، وليست النماذج الادبية التي اختارتها وترجمتها الجسر الوحيد للوصول بين عالمين، فاختيارها اميركا وأوروبا لتدرس في جامعاتها هو بحد ذاته جسر آخر، بل جسر مهم يفوق، فيما ارى، ترجمة الادب، إن احتكاك الباحثة والمدرسة بطلابها هو جسر مهم، ومهم جداً، فهي من خلال تدريسها ونشاطها وحواراتها وتفانيها في عملها تقدم نموذجاً للانسان الشرقي الذي تبدو صورته في الغرب مشوهة وسلبية. وكل من يتابع مسيرة حياة سلمى يدرك جيداً اي جسر للوصل بين العالمين، من خلال الوظيفة والتدريس والترجمة والكد والنشاط تمثل وربما احتاج المرء الى العودة الى قائمة كتبها ليعرف مقدار نشاطها وفاعليتها، وهو نشاط استمر على الرغم من تقدم العمر بها. فهي لم تكل ولم تمل، وما زال صوتها عالياً يثني على المثابرين ويقرع المتكاسلين. وقد لمست هذا فيها من خلال اصغائي الى المقابلات التي اجريت معها من خلال بعض القنوات العربية مثل الجزيرة، او من خلال بعض المجلات العربية واسعة الانتشار مثل مجلة العربي، او من خلال لقائي بها، فقد التقيت بها مرتين، مرة في مبنى السكاكيني في رام الله، قبل بداية انتفاضة الاقصى، وثانية في جامعة بيت لحم، في مؤتمر الادب الفلسطيني الذي كانت هي ضيف الشرف فيه، حيث كرمتها الجامعة.
وإذا كان بعض اصحاب المشاريع يكلون ويملون ولا يواصلون اذا ما تعرضوا لاخفاقات اولى، او اذا لم يجدوا من يصغي اليهم، فإن سلمى عكس ذلك.
في إحدى المقابلات التي اجريت معها اتت على كتابها الذي حررته عن جهود العرب في الحضارة الانسانية زمن الاندلس. بدأت المشروع بالاتصال بمجموعة من الباحثين العرب علهم ينجزون ابحاثاً جيدة وذات قيمة، لكنهم لم يفعلوا، وخاب املها فيهم، غير ان هذا لم يثنها ولم يفت من عضدها، فقد واصلت الدرب، واتصلت بباحثين غربيين اكفاء تعاونوا معها، فانجزت كتاباً مهماً في هذا المضمار، يعد صلة وصل بين الحضارات والشعوب.
وتأتي سلمى في اثناء حديثها على جانب آخر كان يسبب لها اشكالات تكاد تفشل مشروعها. انه التمويل. تمويل الكتب التي تترجمها وتنشرها، فهي تدرك ان ترجمة نصوص من الادب العربي الى الانجليزية لن يجد صدى واسعاً، وبالتالي فإن دور النشر لن ترحب بمشروع مثل هذا، وهكذا لا تدفع للمترجمين ولا تمول طباعة الترجمات. ستسعى سلمى شخصياً لتوفير المال اللازم، وستتصل بجهات عربية عديدة، وستعاني، لكنها لا تخيب ولا تحبط.
سأكتفي بهذه الشهادة المتواضعة عن سلمى وجهودها، ولعل موضوعها موسوعتها الادب الفلسطيني التي نشرت بالعربية تقول اكثر مما أقول. وليس لي الا ان أثمن دور هذه الباحثة في تعريف الغرب بأدبنا، دورها في أن تكون صلة وصل بين الشرق والغرب.
***
2- موموسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر
حين يريد المرء أن يثمن جهود سلمى الخضراء الجيوسي في التعريف بالأدب الفلسطيني المعاصر، وأن يبدي رأيه في كتابها الضخم " موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر " فلا مناص من أن يقرأ عبارات التقريظ التي كتبها إدوارد سعيد وفاروق مصطفى وفدوى مالطي دوغلاس وكارول بارد نشتاين، وهي عبارات ألصقها الناشر ماهر الكيالي على صفحة الغلاف، حين أصدر الطبعة العربية.( 1997 ). وليس أمام المرء إلاّ أن يقر بما قاله هؤلاء، وربما أضاف إلى ما قالوه عبارات أخرى توفي هذا العمل حقه.
ولمن لم يطلع على الموسوعة أشير، هنا، إلى أنها في طبعتها العربية، تتشكل من جزءين يقع الأول في (526) صفحة من الحجم الكبير، ويحتوي على إهداء وشكر وعرفان لمن أسهموا في دعم هذا الكتاب، وعلى مقدمة عن الأدب الفلسطيني الحديث، وعلى نماذج شعرية لخمسة وستين شاعراً وشاعرة، ويقع الثاني في(441) صفحة ، وضم نماذج من القصة القصيرة ومختارات من نصوص روائية ونماذج من السيرة الذاتية والأدب التسجيلي؛ يضم نماذج قصصية لستة وعشرين قاصاً وقاصة، ومختارات روائية لثمانية روائيين وروائيات ونصوصاً من السيرة الذاتية والأدب التسجيلي لستة عشر كاتباً وكاتبة.
وأدرك شخصياً مدى الجهد الذي قامت به المؤلفة حتى أنجزت عملها هذا مترجماً إلى الإنجليزية، فقد كنت واحداً ممن اتصلت بهم، عام 1987، لتستشيرهم في النماذج القصصية القصيرة التي تشكل معلماً مهماً في حركة القصة القصيرة في الضفة والقطاع، وحال سفري، إلى ألمانيا الغربية في حينه، دون أن أكتب لها رداً شافياً وافياً، وهكذا لم أتواصل مع مشروعها، في ذلك الوقت، لأعود، بعد سنوات، أدرس، في مساق الأدب الفلسطيني، كتابها الضخم، والاعتقادي بضرورة حصول الطلبة على نسخة من هذا السفر الجامع الوافي إلى حد كبير، على الرغم من المقدمة الموجزة التي تصدرته، وهي مقدمة لا تزيد عن سبعين صفحة، مقدمة لا أظن أن كاتبتها أرادت، من خلالها، دراسة الأدب الفلسطيني بأبعاده كلها.
وعلى الرغم من المديح الذي كيل للموسوعة، وهو مديح تستحقه الدكتورة سلمى الجيوسي والموسوعة، إلاّ أن المرء لا يستطيع أن يغض النظر عن بعض الهفوات والأحكام التي بدت في الطبعة العربية. والملاحظات التي سأبديها لا تقصد إطلاقاً الانتقاص من قيمة هذا الجهد. إنها ملاحظات ستغني العمل وتثريه، ولا شك بأن اطلاع المؤلفة عليها ضروري لمناقشتها قبل الأخذ بها، وهي ملاحظات أبديتها للطلبة في قاعة الدرس، ولا أدري إنْ كان أي منهم نقلها إلى المؤلفة أو إلى الناشر علهما يتداركانها في طبعات لاحقة.
أولاً: أخطاء في عناوين بعض المؤلفات والقصائد:
لقد نقلت الدكتورة ومساعدوها النصوص من العربية إلى الإنجليزية، ولم تعكف هي شخصياً على ترجمة المقدمة التي أنجزتها بالإنجليزية، والذي نقلها إلى العربية هو الدكتور محمد عصفور والتي راجعتها هي مريم عبد الباقي، ويلاحظ قارئ النص العربي أنّ هذين لم يعودا أحياناً إلى النص العربي ليتأكدا من دقة عناوين بعض الكتب وبعض القصائد، وللتدليل على هذا أورد الملاحظات التالية:
1- ورد في ص 42 أن عنوان رواية خليل بيدس هو الوريث لا الوارث. وورد في الصفحة نفسها أن عنوان مجموعته القصصية هو آفاق الفكر (1924) لا مسارح الأذهان.
2- ورد في ص 90 هامش 105 أن عنوان إحدى قصائد محمود درويش هو الخيول تصهل على السفح، والعنوان الصحيح هو صهيل على السفح.
3- ورد في ص 104 و ص 105 في هامش 69 وهامش 76 أن عنوان كتاب فاروق وادي هو ثلاث معالم لا ثلاث علامات.
4- ورد في صفحة 106 هامش 98 أن عنوان ديوان أحمد دحبور الأول هو الضواري والوحوش وأعين الأطفال لا الضواري وعيون الأطفال.
ثانياً: أخطاء في تواريخ حياة بعض المؤلفين أو سنوات إصدار بعض الكتب:
وأورد هنا أمثلة على سبيل التدليل:
1- ورد في ص 195 أن مجموعة راشد حسين " أنا الأرض لا تحرميني المطر " صدرت بعد وفاته، وتحديداً في عام 1982. وكانت المجموعة قد صدرت، هنا في الأرض المحتلة، عقب وفاته عن منشورات البيادر، عام 1977 تقريباً. وصدرت في بيروت عام 1976.
2- ورد في ص 216 أن أحمد دحبور ولد عام 1940، والتاريخ الصحيح هو 1946.
3- ورد في ص 224 أن كتاب درويش " يوميات الحزن العادي " صدر عام 1976، والصحيح هو 1973، والشيء نفسه حول إصدار " تلك صورتها "، فقد أشير إلى أنها صدرت عام 1975، وكانت قد صدرت من قبل.
4- ورد في ص 326 أن عنوان مجموعة فدوى طوقان " تموز والشيء الآخر " هو " تموز والنشيد الآخر".
ثالثاً: أخطاء طباعية، وهذه كثيرة، ولا تلام المؤلفة عليها، ولا أرى ضرورة لإيراد نماذج، فقد درست بعض
القصص الكثيرة ووجدت أنها تحفل بها.
رابعاً: إغفال نصوص لكتاب مشهورين:
لقد توقف الشاعر أحمد دحبور في مقالته التي نشرها في الحياة الجديدة ( رام الله ) أمام هذا الجانب، ولا أعتقد أنني ســأضيف الكثير إلى ما قاله. غير أنني أود لفت النظر إلى إغفال هذه الموسوعة، وتلك التي صدرت عن دائرة منظمة التحرير بالتعاون مع اليونسكو (أنطولوجيا القصة الفلسطينية القصيرة )، لعلم بارز من أعلام القصة القصيرة هو الكاتب نجاتي صدقي. ولا أدري كيف غاب اسمه عن ذهن إبراهيم خليل الذي كتب مقدمة لتلك المختارات، ولا أدري أيضاً لماذا لم تورد الدكتورة الجيوسي والدكتور إبراهيم خليل نماذج من القصة القصيرة التي كتبت قبل عام 1948. وما ورد لمحمود سيف الدين الإيراني، كان، حسب معرفتي، من النماذج التي كتبها بعد هذا العام. لقد أصدر نجاتي صدقي مجموعتين قصصيتين هما " الأخوات الحزينات "(د.ت ) و " الشيوعي المليونير "(1963)، وتضم الأولى قصصاً كتبت قبل عام 1948. وهو له باع طويل في كتابة القصة القصيرة وترجمتها ودراســة بعض أعلامهـا ممن تأثر بهم وترجم لهم مثل ( أنطوان تشيخوف ) و ( مكسيم غوركي ). وأستاذ الأدب الفلسطيني الذي يعتمد على موسوعة الدكتورة الجيوسي يجد نفسه في ورطة حين يتحدث عن القصة القصيرة قبل عام 1948، وتحديداً إذا ما أراد أن يدرس نموذجاً منها، فقصة الإيراني " نفايات " ليست مثالاً جيداً لفن القصة قبل عام 1948، هذا إذا لم تكن أصلاً كتبت بعد هذا العام .
خامساً: أحكام تحتاج إلى إعادة النظر فيها:
وهذه هي النقطة الأهم في ملاحظاتي، وربما في هذه المقالة.
تميز الدكتورة في مقدمتها بين أدباء الداخل وأدباء المنفى من حيث التكوين الثقافي،
وترى أن الأولين " ترعرعوا في ظل ثقافة غربية عن ثقافتهم وتعلم أغلبهم اللغة
العبرية لغة ثانية له أنشأت لديهم وجهة نظر مختلفة ربما أثرت على كتابتهم... ومن
جهة أخرى اتصل الكتاب الفلسطينيون في الشتات اتصالاً مباشراً بالتجارب الجذرية
التي هيمنت على الأدب العربي... " ( ص34 و ص 35 ).
وعلى الرغم من أن هذا القول على قدر من الصحة، إلاّ أنه ليس دقيقاً، وهو كلام
يحتاج إلى أن يعاد النظر فيه، وبخاصة بعد الدراسات التي تناولت أدباء المنفى،
وتحديداً تلك التي درست بعض نصوص غسان كنفاني ومعين بسيسو، وأثبتت أن هذين تأثرا
بالأدب الصهيوني وبالأدب العبري، وأن بعض نصوصهم، مثل " عائد إلى حيفا "
و " وشمشون ودليلة "، ليست سوى رد على الأدب المذكور. ونحن نعرف أن غسان
كنفاني كان أول من اهتم بالأدب الصهيوني، وقد أصدر كتابه الرائد " في الأدب
الصهيوني "(1966)، ونحن نعرف أيضاً أن معين بسيسو ألف كتاباً في هذا المجال
هو كتابه " نماذج من الرواية الإسرائيلية المعاصرة "(1970)، وقد أوضحت
في رسالة الدكتوراة التي أنجزتها عام 1991 " اليهود في الأدب الفلسطيني بين
13-1987 " هذا، وتابعت الموضوع، فيما بعد، في كتابي " الأديب الفلسطيني
والأدب الصهيوني "(1993)، ويبقى ما ذهبت إليه الدكتورة، فيما يخص أدباء
الداخل، صحيحاً، وقد بَيَّنْتُ الصلة بين نصوص درويش وبعض النصوص الصهيونية.
وحين تدرس الدكتورة إبراهيم طوقان تذهب إلى أنه كان " يمزج الهجاء السياسي
بالسخرية اللاذعة كلما سمح المقام "، وترى أن " هذه الموهبة النادرة
التي تمتزج فيها المأساة بالكوميديا وتلتحم النظرة الساخرة فيها بالالتزام العميق
بالقضية التي يتناولها العمل الأدبي، ولم تتكرر في الأدب الفلسطيني على أي مستوى
ذي بال إلاّ في الأعمال القصصية التي كتبها إميل حبيبي الذي يمتلك ناصية
الكوميديا المأساوية "( ص 37 ).
وتذهب إلى ما هو أبعد من ذلك حين تكتب " ولم يُبْدِ أي من الشعراء الفلسطينيين
الذين ظهروا بعد طوقان – وقد يكون بعضهم أفضل منه – أي اهتمام بالفكاهة والسخرية،
بل ساد كتابتهم عادة جو مأساوي أو بطولي ". حتى محمود درويش " على الرغم
من كل ما يتمتع به من مواهب نادرة، فإنه وقع أسيراً لقضية شعبه التي التزم بها،
ووقع كذلك – بالصرامة نفسها – أسيراً للصورة التي اصطنعها لنفسه، ألا وهي صورة
الشاعر الناطق باسم ذلك الشعب على حساب أغلب التجارب الإنسانية الأخرى ".
وتعود الشاعرة في موطنين من مقدمتها لتشير إلى شعراء لم تخلُ أشعارهم من سخرية. الموطن
الأول حين تناولت توفيق صايغ، ففيه كتبت أن صايغ " آثر التحدث بأسلوب ساخر
مليء بالظرف والتلميحات الفنية بالمعاني ... " (ص 51)، والموطن الثاني حين
أتت على الشاعر مريد البرغوثي و زكريا محمد، فالثاني " فاق الآخرين جميعهم
بالتخلي نهائياً عن الموقف البطولي – أي موقف الشاعر البطل المحرر، حامل
المسؤوليات الكبرى -، واتخذ بدلاً من ذلك صوتاً جديداً هو صوت الشاعر الساخر
الناقد للذات " (ص 83)، والأول – أي مريد – كان " يعبر أحياناً تعبيراً
مأساوياً هادئاً ويعبر أحياناً أخرى بلهجة ساخرة بارعة ومتميزة عن سخطه على النظم
السياسية الداخلية والخارجية "(ص85).
وما غاب عن ذهن الدكتورة، وهي تكتب مقدمتها، نصوص معين بسيسو ومحمود درويش وسميح
القاسم التي غلب عليها طابع السخرية. حقاً إنها نصوص خلت من الفكاهة، ولكنها كانت
مليئة بالسخرية. ولا أقول إن نصوصهم كلها كانت كذلك.
لقد تناول أحد طلابي موضوع السخرية في الشعر الفلسطيني، واتى على قصائد بسيسو ودرويش
والقاسم الساخرة، وهي قصائد كتبت قبل أن تنجز الدكتورة مقدمتها، وإن أنجزت دراسة
فراس الحاج - بعد كتابة الدكتورة بسنوات.
وهنا آتي على موقف الكاتبة من موضوع المدينة لدى الشعراء الفلسطينيين والشعراء العرب.
تكتب المؤلفة وجامعة النصوص ما يلي:
إن المدينة والتركيز على ما فيها من نواح سلبية موضوع بارز في الأدب العربي
الحديث، خاصة في الشعر ....... وقد رأى فيها شعراء آخرون [ غير السياب ع.أ ]
مكاناً للرشوة والفساد والمخاطر والانحلال الاجتماعي والتآمر السياسي " وتضيف
" أما الاستثناء الوحيد لهذا الموقف من المدينة فنجده في الأدب الفلسطيني،
فلم يكن الناس فيها يشعرون بالاغتراب والاستلاب لأنها مدينة محاصرة يحتلها
الغاصبون، أو مدينة فقدها أهلها، وفي كلا الوضعين لا يمكن أن يكون اغتراب .......
وهي ليست مدينة ضحية فقط، بل هي أيضاً مكان للبطولة وموطن للمقاومة والنضال الوطني
" ( ص 72، 73 ).
وكلامها صحيح بشـكل عام، ولكن ينقصه الدقة من ناحيتين: الأولى من حيث لجوؤها إلى التعميم،
وهي تنظر إلى الشــعراء، الفلسـطينيين، حيث وضعتهم جميعاً في سلة واحدة دون أن
تميز بين محب للمدنية وآخر تناقض معها وكان موقفه منها مثل موقف الشـعراء العرب،
وهنا أشير إلى الشاعر عبد اللطيف عقل في مجموعاته الأولى، وقد أنجزت شخصياً، ذات
يوم، مقالة مطولة تناولت فيها موضوع المدينة في أشعاره ( انظر مجلة البيادر 1977 )
وبينْتُ موقفه الذي لا يختلف عن موقف الشعراء العرب من المدينة، ولم يختلف موقف
عقل من المدينة الفلسطينية إلاّ في فترات متأخرة، وتحديداً حين كتب عن القدس
ليصورها تصويراً مغايراً كلياً ( حول ذلك انظر دراستي القدس في الشعر العربي
المعاصر، مجلة كنعان أيار 1998 ).
والثانية من حيث نظرتها إلى المدينة الفلسطينية تحت الاحتلال على أنها، باستمرار، مكان للبطولة
وموطن للمقاومة والنضال الوطني. ومن عاش في فلسطين تحت الاحتلال يعرف أنّ هناك
فترات كان فيها المحارب يسترخي استرخاءً طويلاً، ويتحول إلى إنسان يذهب إلى المدن
الإسرائيلية ويشتري من أصحابها الذين كانوا بدورهم يأتون إلى المدن الفلسطينية
ويشترون من أصحابها أيضاً. وفي فترات الاسترخاء هذه كان الشاعر ينظر إلى المدينة
نظرة مختلفة، كان ينظر إليها على أنها تضم الأغنياء والفقراء، وعلى أنها تهاون
المحتل وتنسى احتلاله. تقول فدروى طوقان عن نابلس في أيام السبت:
"من ماتوا ماتوا مرة
وأعاقر
كأس الموت هنا في أيام السبت المرّة
ألفي
مرّة "
أما لماذا تموت يوم السبت ألفي مرة؟ ذلك لأن المدينة في أعوام 70 و 71 و 72 كانت تمتلئ
بالناس، وبخاصة بالعمال الذين ينفقون هذا اليوم، يوم السبت، بالشراء والتسوق لأنه
عطلتهم الأسبوعية، حيث لا تفتح المصانع الإسرائيلية لهم فيه أبوابها. وليس الاحتلال،
هنا، هو ما يسبب للشاعرة الموت.
إنهم العمال أنفسهم هؤلاء الذين منهم من:
"يعمر للوافدين الجدد
ويبني
بيوتاً هناك ويعلي البناء
بغير
انتهاء
بغير
انتهاء ".
ألست
تراه يعيش كريماً ويشبع
ويلهو
بوقت الفراغ على شط يافا
ويرتع
.......
لقد
فتّح الاحتلال المبارك
أبواب
رزقه
ومتعه
بعد طول الهوان بحقه
وهذا
رخاء عظيم
فبارك
على العالمين ".
وتبقى نقطة أخيرة أود الإشارة إليها. تأتي الدكتورة على رواية إميل حبيبي " الوقائع
الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشاتل "(1974) وترى أنه متأثر بها
برواية الأديب التشيكي المعروف( ياروسلاف هاتشيك )" الجندي الطيب تشفايك
" (1923)، وتشير إلى اعتراف إميل بتأثره برواية( فولتير ) " كنديد
" (1759)، ولكنها لا تربط ما بين بطل الرواية وبطل المقامات، وهذا ما أشار
إليه غير دارس. إن بطل المتشائل هو الابن الشرعي لمقامات بديع الزمان الهمذاني،
وإنْ كان هذا لا يعني أنه لم يتأثر ببطل ( هاتشيك ) و ( كنديد ).
وبعد، فإن هذه الكتابة لا تنتقص إطلاقاً من الجهد العظيم الذي أنجزته سلمى الخضراء
الجيوسي، وليس لنا إلاّ نحييها على جهدها ونشد على يديها.
***
3- في رحيل سلمى الخضراء الجيوسي
رحلت في ٢٠/٤/٢٠٢٣ سلمى الخضراء الجيوسي عن عمر يقارب الـ ٩٥ عاماً، وآخر مرة التقيت فيها بها في العام ٢٠١٦. وكنت التقيت بها أيضاً في ٢٠١٢، وذلك بعد لقاء لها موسع مع أدباء الضفة الغربية، في قاعة بلدية البيرة، عقدته لها وزارة الثقافة الفلسطينية، بطلب منها لتناقش معهم جملة من الأسئلة عن الأدب الفلسطيني.
عممت الدكتورة على الحاضرين ورقة تحتوي على أسئلة قالت إنها من وضع مستشرق اسمه (استيفان) يرغب في دراسة الأدب الفلسطيني، ولم يسألها أي من الحاضرين عن هويته أو عن آرائه ومواقفه في القضية الفلسطينية. سجلت الدكتورة النقاش على أشرطة ثم افترق الحضور.
بعد أعوام من اللقاء وعلى هامش معرض الكتاب في رام الله اتصلت بي الدكتورة ودعتني إلى العشاء، ولما سألتها عما آل إليه مشروع المستشرق أجابتني بأنها هي من أنجزت الكتابة، وللأسف فلم أطلب منها نسخة، وحتى الآن لم أقرأ دراستها.
كانت الدكتورة يومها في بداية الثمانين، وعلى الرغم من متاعب جسدها، حيث كانت حركاتها محسوبة، إلا أن ذهنها كان صافياً تماماً، فقد كان تركيزها عالياً وكلامها موزوناً.
أول رسالة وصلتني منها كانت في صيف ١٩٨٧، وكان دافعها للكتابة هو شروعها في إنجاز مشروع (بروتا) - ترجمة الأدب العربي الحديث إلى الإنجليزية - المشروع الذي أسفر عن ترجمة ما لا يقل عن ٤٠ عملاً أدبياً، بالإضافة إلى موسوعات منها موسوعة الأدب الفلسطيني وموسوعة أدب الخليج العربي.
كانت الدكتورة بحاجة إلى فريق عمل وأشخاص تستشيرهم فيما يمكن أن يترجم من أعمال، فمهما كانت ثقافتها من السعة والشمول، فلا يمكن أن تحيط بكل ما صدر في العالم العربي وما يستحق الترجمة منه، ولما كنت أنجزت رسالة ماجستير عن القصة القصيرة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، فقد كتبت إلي كي أرشح لها قصصاً أرى أنها تصلح للترجمة.
يعد مشروع (بروتا) من المشاريع المهمة الناجحة لخدمة الأدب العربي والفلسطيني.
بدأت سلمى حياتها شاعرة، ولكنها بدلاً من أن تواصل كتابة الشعر أخذت تدرسه، فأنجزت فيه رسالة الدكتوراة، وواصلت دراسته وتدريسه في الجامعة، ثم عكفت على ترجمته، وكانت تنطلق في دراستها من ربط الشعر بالمجتمع والتاريخ، مستفيدة من منهج الفرنسيين (هيوبوليت تين) و(برونتير)، ومن هنا جاءت دراستها تركز على «الاتجاهات والحركات» في الشعر العربي، وعلى تطور بنية القصيدة العربية في عصورها المختلفة، واهتمت فوق هذا بحركة الحداثة والشعر الحداثي، فدرست قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة. لقد أغفلت دراسة شعراء مهمين لأن هناك من هو أهم منهم في تيارهم الشعري، وحجتها أن مهمة الناقد الأدبي غير مهمة المؤرخ الأدبي، فالأول يصنف ويميز والثاني يؤرخ ويعدد ويحصي، وما كتبته يندرج في باب النقد لا التأريخ.
ولأنها عاشت في الغرب فلم تهمل قضية التأثر والتأثير، وإذا كانت ركزت على العوامل الاجتماعية في نشأة الشعر وتطوره، فإنها رأت أن هناك عاملاً آخر مهماً هو تأثير الشعر الغربي على الشعر العربي، وقد بدا هذا واضحاً في دراستها «بنية القصيدة العربية عبر القرون؛ المقاومة والتجريب».
والحقيقة أن جهودها في تقديم الأدب العربي إلى الغرب بدأت مع دراستها الشعر العربي لا مع مشروع ترجمته، وكانت فيها تسعى إلى الكشف عن المنجز الحضاري الإنساني للعرب في العصر الحديث وتقديمه للعالم، لتغيير تصوراته عن العرب بأنهم شعب بلا ثقافة.
وقد دحضت الدكتورة في دراستها «بنية القصيدة العربية» نظرية العرق التي هاجم أنصارها الشعر العربي ولم يعتبروه، فهو في نظرهم «شعر أبيات لا شعر قصائد، مخلع، متجزئ تجزؤ العقل العربي نفسه، خطابي، عاطفي، يعاني من رتابة كبيرة مملة بسبب أوزانه وشكله الشعري ذي القافية الواحدة».
وبقي مشروعها الثاني وهو دراسة الحضارة العربية في الأندلس، وغالباً ما تحدثت عنه في المقابلات التي أجريت معها. تحدثت عنه وعن معاناتها في إنجازه، إذ خذلها بعض الدارسين العرب بخلاف الدارسين الغربيين الذين قدموا إسهامات قيمة في الكتابة عن الحضارة العربية في الأندلس.
في رحيل سلمى الخضراء الجيوسي خسر الأدب العربي والفلسطيني رافعة مهمة عملت على إيصاله إلى العالمية، وهنا يجدر التذكير بدورها في تقديم نجيب محفوظ إلى الأكاديمية السويدية للحصول على جائزة نوبل، وقد تحقق ذلك.
(ملاحظة: بعد الانتهاء من كتابة المقال عدت إلى مقابلة مع سلمى الخضراء بثتها فضائية الجزيرة في العام ٢٠٠٨، ضمن برنامج رائدات أدلى مستشرق إنجليزي اسمه استيفان سبيرل شهادة عن علاقته بها وهو يدرس في جامعة في لندن).
عادل الأسطة
2023-05-07
***
في العام 1987 تلقيت الرسالة الاولى والأخيرة من سلمى الخضراء الجيوسي، وفيها تطلب مني أن أتعاون معها لاصدار موسوعة الأدب الفلسطيني، فقد زكاني لديها، هي التي لم تكن تسمع باسمي، احد اصدقائي. كانت سلمى التي كان اطلاعها على الحركة القصصية في فلسطين المحتلة، بسبب تشتت الشعب الفلسطيني وعدم تواصله لأسباب لا تخفى، غير كاف، كانت تريد، حين تصدر موسوعتها التي تضم القصة القصيرة، تمثيلات جيدة لهذا الفن، بخاصة لكتابه الذين يقيمون في الارض المحتلة في العام 1948 والعام 1967، ولما كنت أنجزت رسالة ماجستير في القصة القصيرة في الضفة والقطاع ما بين 1967 و 1981 وراقت لبعض اصدقائي، فقد زكاني لديها، واتصلت هي بدورها بي، لعلني اساعدها، فتكون موسوعتها شافية كافية صادرة عن فريق تترأسه متمكن من ادواته وملم في الوقت نفسه الماماً جيداً بالحركة الادبية.
لم أتمكن، في حينه، من مساعدتها كما تريد، لقد اقترحت عليها اسماء قصصية اخترت نماذج لها اتكأ اصحابها في بنائها على التراث العربي والاسلامي. ولم ادرك انا يومها أن المتلقي الغربي غير المتلقي العربي، فما تعنيه لي شخصية النابغة الذبياني او الزير سالم او المتنبي شيء، وما تعنيه للقارئ الغربي، إن فهم مراميها ومقاصدها، شيء آخر، وما لم ادركه انا ادركته سلمى التي كانت تدرس في الجامعات الاميركية وتعرف حق المعرفة طلابها. ولهذا لم تدرج أي نموذج من النماذج التي اقترحتها أنا، وأدرجت نماذج مختلفة قرأتها ورأيت فيها قصص تصور الواقع. وحين درست هذه القصص ادركت لماذا اختارتها صاحبة الموسوعة، فهي تريد ان تطلع القارئ الاوروبي والاميركي على حياة الفلسطينيين ومعاناتهم منذ العام 1917، وليس افضل من القصص الواقعية الخالية من الرموز التراثية وغير التراثية مثالاً يمكن اختياره وترجمته وتدريسه.
ولعل سلمى التي تهتم بالجانب الفني للقصة يهمها اكثر من هذا الموضوع الذي تصوره، فهي بحكم تدريسها واطلاعها على الآداب العالمية، بخاصة الانكليزية والاميركية تدرك جيداً ان قصة قصيرة او رواية او قصيدة لا تعكس الواقع الفلسطيني او العربي، حتى لو كانت آية فنية، لا تعني الكثير للقارئ الاوروبي والاميركي. انها مثل الباحثة والدارسة الالمانية (آنيماري شيمل) صاحبة انتولوجيا الشعر العربي المعاصر بالالمانية. لقد نقلت هذه نماذج من الشعر العربي المعاصر، ومن ضمنه الشعر الفلسطيني، الى لغتها الأم: الالمانية، وتوقفت في المقدمة النقدية التي صدرت بها المجموعة المختارة أمام أسباب اختيارها، وأشارت مثلاً الى انها راعت في اثناء الاختيار ما يناسب الذوق الغربي الذي قد يختلف، بل انه يختلف، عن الذوق الشعري العربي ، وأتت بأمثلة على ذلك. قالت (شيمل) ان السياب مثلاً تروق اشعاره للقارئ العربي، لكنها لا تروق بالضرورة للقارئ الغربي، ولهذا فقد اكثرت من ترجمة نماذج لعبد الوهاب البياتي، مراعية بذلك الذائقة الغربية.
عموماً يمكن القول ان سلمى الخضراء الجيوسي لم تختلف كثيراً عن (آتيماري شيمل) في هذا الجانب. لماذا مثلاً لم تختر أية قصيدة لمحمود درويش اتكأ فيها على الرموز العربية القديمة، فيما اختارت له قصائد تمس الموضوع الوطني؟ لسبب واضح ومعروف. ان هاجس سلمى الاساس هو ان تقدم الشرق الى الغرب، علّ الاخير يفهم الاول من خلال ادبياته وتصويره واقعه فيها.
ليست الموسوعات التي اصدرتها سلمى هي الوسيلة الوحيدة لتقديم الشرق الى الغرب، وليست النماذج الادبية التي اختارتها وترجمتها الجسر الوحيد للوصول بين عالمين، فاختيارها اميركا وأوروبا لتدرس في جامعاتها هو بحد ذاته جسر آخر، بل جسر مهم يفوق، فيما ارى، ترجمة الادب، إن احتكاك الباحثة والمدرسة بطلابها هو جسر مهم، ومهم جداً، فهي من خلال تدريسها ونشاطها وحواراتها وتفانيها في عملها تقدم نموذجاً للانسان الشرقي الذي تبدو صورته في الغرب مشوهة وسلبية. وكل من يتابع مسيرة حياة سلمى يدرك جيداً اي جسر للوصل بين العالمين، من خلال الوظيفة والتدريس والترجمة والكد والنشاط تمثل وربما احتاج المرء الى العودة الى قائمة كتبها ليعرف مقدار نشاطها وفاعليتها، وهو نشاط استمر على الرغم من تقدم العمر بها. فهي لم تكل ولم تمل، وما زال صوتها عالياً يثني على المثابرين ويقرع المتكاسلين. وقد لمست هذا فيها من خلال اصغائي الى المقابلات التي اجريت معها من خلال بعض القنوات العربية مثل الجزيرة، او من خلال بعض المجلات العربية واسعة الانتشار مثل مجلة العربي، او من خلال لقائي بها، فقد التقيت بها مرتين، مرة في مبنى السكاكيني في رام الله، قبل بداية انتفاضة الاقصى، وثانية في جامعة بيت لحم، في مؤتمر الادب الفلسطيني الذي كانت هي ضيف الشرف فيه، حيث كرمتها الجامعة.
وإذا كان بعض اصحاب المشاريع يكلون ويملون ولا يواصلون اذا ما تعرضوا لاخفاقات اولى، او اذا لم يجدوا من يصغي اليهم، فإن سلمى عكس ذلك.
في إحدى المقابلات التي اجريت معها اتت على كتابها الذي حررته عن جهود العرب في الحضارة الانسانية زمن الاندلس. بدأت المشروع بالاتصال بمجموعة من الباحثين العرب علهم ينجزون ابحاثاً جيدة وذات قيمة، لكنهم لم يفعلوا، وخاب املها فيهم، غير ان هذا لم يثنها ولم يفت من عضدها، فقد واصلت الدرب، واتصلت بباحثين غربيين اكفاء تعاونوا معها، فانجزت كتاباً مهماً في هذا المضمار، يعد صلة وصل بين الحضارات والشعوب.
وتأتي سلمى في اثناء حديثها على جانب آخر كان يسبب لها اشكالات تكاد تفشل مشروعها. انه التمويل. تمويل الكتب التي تترجمها وتنشرها، فهي تدرك ان ترجمة نصوص من الادب العربي الى الانجليزية لن يجد صدى واسعاً، وبالتالي فإن دور النشر لن ترحب بمشروع مثل هذا، وهكذا لا تدفع للمترجمين ولا تمول طباعة الترجمات. ستسعى سلمى شخصياً لتوفير المال اللازم، وستتصل بجهات عربية عديدة، وستعاني، لكنها لا تخيب ولا تحبط.
سأكتفي بهذه الشهادة المتواضعة عن سلمى وجهودها، ولعل موضوعها موسوعتها الادب الفلسطيني التي نشرت بالعربية تقول اكثر مما أقول. وليس لي الا ان أثمن دور هذه الباحثة في تعريف الغرب بأدبنا، دورها في أن تكون صلة وصل بين الشرق والغرب.
***
2- موموسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر
حين يريد المرء أن يثمن جهود سلمى الخضراء الجيوسي في التعريف بالأدب الفلسطيني المعاصر، وأن يبدي رأيه في كتابها الضخم " موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر " فلا مناص من أن يقرأ عبارات التقريظ التي كتبها إدوارد سعيد وفاروق مصطفى وفدوى مالطي دوغلاس وكارول بارد نشتاين، وهي عبارات ألصقها الناشر ماهر الكيالي على صفحة الغلاف، حين أصدر الطبعة العربية.( 1997 ). وليس أمام المرء إلاّ أن يقر بما قاله هؤلاء، وربما أضاف إلى ما قالوه عبارات أخرى توفي هذا العمل حقه.
ولمن لم يطلع على الموسوعة أشير، هنا، إلى أنها في طبعتها العربية، تتشكل من جزءين يقع الأول في (526) صفحة من الحجم الكبير، ويحتوي على إهداء وشكر وعرفان لمن أسهموا في دعم هذا الكتاب، وعلى مقدمة عن الأدب الفلسطيني الحديث، وعلى نماذج شعرية لخمسة وستين شاعراً وشاعرة، ويقع الثاني في(441) صفحة ، وضم نماذج من القصة القصيرة ومختارات من نصوص روائية ونماذج من السيرة الذاتية والأدب التسجيلي؛ يضم نماذج قصصية لستة وعشرين قاصاً وقاصة، ومختارات روائية لثمانية روائيين وروائيات ونصوصاً من السيرة الذاتية والأدب التسجيلي لستة عشر كاتباً وكاتبة.
وأدرك شخصياً مدى الجهد الذي قامت به المؤلفة حتى أنجزت عملها هذا مترجماً إلى الإنجليزية، فقد كنت واحداً ممن اتصلت بهم، عام 1987، لتستشيرهم في النماذج القصصية القصيرة التي تشكل معلماً مهماً في حركة القصة القصيرة في الضفة والقطاع، وحال سفري، إلى ألمانيا الغربية في حينه، دون أن أكتب لها رداً شافياً وافياً، وهكذا لم أتواصل مع مشروعها، في ذلك الوقت، لأعود، بعد سنوات، أدرس، في مساق الأدب الفلسطيني، كتابها الضخم، والاعتقادي بضرورة حصول الطلبة على نسخة من هذا السفر الجامع الوافي إلى حد كبير، على الرغم من المقدمة الموجزة التي تصدرته، وهي مقدمة لا تزيد عن سبعين صفحة، مقدمة لا أظن أن كاتبتها أرادت، من خلالها، دراسة الأدب الفلسطيني بأبعاده كلها.
وعلى الرغم من المديح الذي كيل للموسوعة، وهو مديح تستحقه الدكتورة سلمى الجيوسي والموسوعة، إلاّ أن المرء لا يستطيع أن يغض النظر عن بعض الهفوات والأحكام التي بدت في الطبعة العربية. والملاحظات التي سأبديها لا تقصد إطلاقاً الانتقاص من قيمة هذا الجهد. إنها ملاحظات ستغني العمل وتثريه، ولا شك بأن اطلاع المؤلفة عليها ضروري لمناقشتها قبل الأخذ بها، وهي ملاحظات أبديتها للطلبة في قاعة الدرس، ولا أدري إنْ كان أي منهم نقلها إلى المؤلفة أو إلى الناشر علهما يتداركانها في طبعات لاحقة.
أولاً: أخطاء في عناوين بعض المؤلفات والقصائد:
لقد نقلت الدكتورة ومساعدوها النصوص من العربية إلى الإنجليزية، ولم تعكف هي شخصياً على ترجمة المقدمة التي أنجزتها بالإنجليزية، والذي نقلها إلى العربية هو الدكتور محمد عصفور والتي راجعتها هي مريم عبد الباقي، ويلاحظ قارئ النص العربي أنّ هذين لم يعودا أحياناً إلى النص العربي ليتأكدا من دقة عناوين بعض الكتب وبعض القصائد، وللتدليل على هذا أورد الملاحظات التالية:
1- ورد في ص 42 أن عنوان رواية خليل بيدس هو الوريث لا الوارث. وورد في الصفحة نفسها أن عنوان مجموعته القصصية هو آفاق الفكر (1924) لا مسارح الأذهان.
2- ورد في ص 90 هامش 105 أن عنوان إحدى قصائد محمود درويش هو الخيول تصهل على السفح، والعنوان الصحيح هو صهيل على السفح.
3- ورد في ص 104 و ص 105 في هامش 69 وهامش 76 أن عنوان كتاب فاروق وادي هو ثلاث معالم لا ثلاث علامات.
4- ورد في صفحة 106 هامش 98 أن عنوان ديوان أحمد دحبور الأول هو الضواري والوحوش وأعين الأطفال لا الضواري وعيون الأطفال.
ثانياً: أخطاء في تواريخ حياة بعض المؤلفين أو سنوات إصدار بعض الكتب:
وأورد هنا أمثلة على سبيل التدليل:
1- ورد في ص 195 أن مجموعة راشد حسين " أنا الأرض لا تحرميني المطر " صدرت بعد وفاته، وتحديداً في عام 1982. وكانت المجموعة قد صدرت، هنا في الأرض المحتلة، عقب وفاته عن منشورات البيادر، عام 1977 تقريباً. وصدرت في بيروت عام 1976.
2- ورد في ص 216 أن أحمد دحبور ولد عام 1940، والتاريخ الصحيح هو 1946.
3- ورد في ص 224 أن كتاب درويش " يوميات الحزن العادي " صدر عام 1976، والصحيح هو 1973، والشيء نفسه حول إصدار " تلك صورتها "، فقد أشير إلى أنها صدرت عام 1975، وكانت قد صدرت من قبل.
4- ورد في ص 326 أن عنوان مجموعة فدوى طوقان " تموز والشيء الآخر " هو " تموز والنشيد الآخر".
ثالثاً: أخطاء طباعية، وهذه كثيرة، ولا تلام المؤلفة عليها، ولا أرى ضرورة لإيراد نماذج، فقد درست بعض
القصص الكثيرة ووجدت أنها تحفل بها.
رابعاً: إغفال نصوص لكتاب مشهورين:
لقد توقف الشاعر أحمد دحبور في مقالته التي نشرها في الحياة الجديدة ( رام الله ) أمام هذا الجانب، ولا أعتقد أنني ســأضيف الكثير إلى ما قاله. غير أنني أود لفت النظر إلى إغفال هذه الموسوعة، وتلك التي صدرت عن دائرة منظمة التحرير بالتعاون مع اليونسكو (أنطولوجيا القصة الفلسطينية القصيرة )، لعلم بارز من أعلام القصة القصيرة هو الكاتب نجاتي صدقي. ولا أدري كيف غاب اسمه عن ذهن إبراهيم خليل الذي كتب مقدمة لتلك المختارات، ولا أدري أيضاً لماذا لم تورد الدكتورة الجيوسي والدكتور إبراهيم خليل نماذج من القصة القصيرة التي كتبت قبل عام 1948. وما ورد لمحمود سيف الدين الإيراني، كان، حسب معرفتي، من النماذج التي كتبها بعد هذا العام. لقد أصدر نجاتي صدقي مجموعتين قصصيتين هما " الأخوات الحزينات "(د.ت ) و " الشيوعي المليونير "(1963)، وتضم الأولى قصصاً كتبت قبل عام 1948. وهو له باع طويل في كتابة القصة القصيرة وترجمتها ودراســة بعض أعلامهـا ممن تأثر بهم وترجم لهم مثل ( أنطوان تشيخوف ) و ( مكسيم غوركي ). وأستاذ الأدب الفلسطيني الذي يعتمد على موسوعة الدكتورة الجيوسي يجد نفسه في ورطة حين يتحدث عن القصة القصيرة قبل عام 1948، وتحديداً إذا ما أراد أن يدرس نموذجاً منها، فقصة الإيراني " نفايات " ليست مثالاً جيداً لفن القصة قبل عام 1948، هذا إذا لم تكن أصلاً كتبت بعد هذا العام .
خامساً: أحكام تحتاج إلى إعادة النظر فيها:
وهذه هي النقطة الأهم في ملاحظاتي، وربما في هذه المقالة.
تميز الدكتورة في مقدمتها بين أدباء الداخل وأدباء المنفى من حيث التكوين الثقافي،
وترى أن الأولين " ترعرعوا في ظل ثقافة غربية عن ثقافتهم وتعلم أغلبهم اللغة
العبرية لغة ثانية له أنشأت لديهم وجهة نظر مختلفة ربما أثرت على كتابتهم... ومن
جهة أخرى اتصل الكتاب الفلسطينيون في الشتات اتصالاً مباشراً بالتجارب الجذرية
التي هيمنت على الأدب العربي... " ( ص34 و ص 35 ).
وعلى الرغم من أن هذا القول على قدر من الصحة، إلاّ أنه ليس دقيقاً، وهو كلام
يحتاج إلى أن يعاد النظر فيه، وبخاصة بعد الدراسات التي تناولت أدباء المنفى،
وتحديداً تلك التي درست بعض نصوص غسان كنفاني ومعين بسيسو، وأثبتت أن هذين تأثرا
بالأدب الصهيوني وبالأدب العبري، وأن بعض نصوصهم، مثل " عائد إلى حيفا "
و " وشمشون ودليلة "، ليست سوى رد على الأدب المذكور. ونحن نعرف أن غسان
كنفاني كان أول من اهتم بالأدب الصهيوني، وقد أصدر كتابه الرائد " في الأدب
الصهيوني "(1966)، ونحن نعرف أيضاً أن معين بسيسو ألف كتاباً في هذا المجال
هو كتابه " نماذج من الرواية الإسرائيلية المعاصرة "(1970)، وقد أوضحت
في رسالة الدكتوراة التي أنجزتها عام 1991 " اليهود في الأدب الفلسطيني بين
13-1987 " هذا، وتابعت الموضوع، فيما بعد، في كتابي " الأديب الفلسطيني
والأدب الصهيوني "(1993)، ويبقى ما ذهبت إليه الدكتورة، فيما يخص أدباء
الداخل، صحيحاً، وقد بَيَّنْتُ الصلة بين نصوص درويش وبعض النصوص الصهيونية.
وحين تدرس الدكتورة إبراهيم طوقان تذهب إلى أنه كان " يمزج الهجاء السياسي
بالسخرية اللاذعة كلما سمح المقام "، وترى أن " هذه الموهبة النادرة
التي تمتزج فيها المأساة بالكوميديا وتلتحم النظرة الساخرة فيها بالالتزام العميق
بالقضية التي يتناولها العمل الأدبي، ولم تتكرر في الأدب الفلسطيني على أي مستوى
ذي بال إلاّ في الأعمال القصصية التي كتبها إميل حبيبي الذي يمتلك ناصية
الكوميديا المأساوية "( ص 37 ).
وتذهب إلى ما هو أبعد من ذلك حين تكتب " ولم يُبْدِ أي من الشعراء الفلسطينيين
الذين ظهروا بعد طوقان – وقد يكون بعضهم أفضل منه – أي اهتمام بالفكاهة والسخرية،
بل ساد كتابتهم عادة جو مأساوي أو بطولي ". حتى محمود درويش " على الرغم
من كل ما يتمتع به من مواهب نادرة، فإنه وقع أسيراً لقضية شعبه التي التزم بها،
ووقع كذلك – بالصرامة نفسها – أسيراً للصورة التي اصطنعها لنفسه، ألا وهي صورة
الشاعر الناطق باسم ذلك الشعب على حساب أغلب التجارب الإنسانية الأخرى ".
وتعود الشاعرة في موطنين من مقدمتها لتشير إلى شعراء لم تخلُ أشعارهم من سخرية. الموطن
الأول حين تناولت توفيق صايغ، ففيه كتبت أن صايغ " آثر التحدث بأسلوب ساخر
مليء بالظرف والتلميحات الفنية بالمعاني ... " (ص 51)، والموطن الثاني حين
أتت على الشاعر مريد البرغوثي و زكريا محمد، فالثاني " فاق الآخرين جميعهم
بالتخلي نهائياً عن الموقف البطولي – أي موقف الشاعر البطل المحرر، حامل
المسؤوليات الكبرى -، واتخذ بدلاً من ذلك صوتاً جديداً هو صوت الشاعر الساخر
الناقد للذات " (ص 83)، والأول – أي مريد – كان " يعبر أحياناً تعبيراً
مأساوياً هادئاً ويعبر أحياناً أخرى بلهجة ساخرة بارعة ومتميزة عن سخطه على النظم
السياسية الداخلية والخارجية "(ص85).
وما غاب عن ذهن الدكتورة، وهي تكتب مقدمتها، نصوص معين بسيسو ومحمود درويش وسميح
القاسم التي غلب عليها طابع السخرية. حقاً إنها نصوص خلت من الفكاهة، ولكنها كانت
مليئة بالسخرية. ولا أقول إن نصوصهم كلها كانت كذلك.
لقد تناول أحد طلابي موضوع السخرية في الشعر الفلسطيني، واتى على قصائد بسيسو ودرويش
والقاسم الساخرة، وهي قصائد كتبت قبل أن تنجز الدكتورة مقدمتها، وإن أنجزت دراسة
فراس الحاج - بعد كتابة الدكتورة بسنوات.
وهنا آتي على موقف الكاتبة من موضوع المدينة لدى الشعراء الفلسطينيين والشعراء العرب.
تكتب المؤلفة وجامعة النصوص ما يلي:
إن المدينة والتركيز على ما فيها من نواح سلبية موضوع بارز في الأدب العربي
الحديث، خاصة في الشعر ....... وقد رأى فيها شعراء آخرون [ غير السياب ع.أ ]
مكاناً للرشوة والفساد والمخاطر والانحلال الاجتماعي والتآمر السياسي " وتضيف
" أما الاستثناء الوحيد لهذا الموقف من المدينة فنجده في الأدب الفلسطيني،
فلم يكن الناس فيها يشعرون بالاغتراب والاستلاب لأنها مدينة محاصرة يحتلها
الغاصبون، أو مدينة فقدها أهلها، وفي كلا الوضعين لا يمكن أن يكون اغتراب .......
وهي ليست مدينة ضحية فقط، بل هي أيضاً مكان للبطولة وموطن للمقاومة والنضال الوطني
" ( ص 72، 73 ).
وكلامها صحيح بشـكل عام، ولكن ينقصه الدقة من ناحيتين: الأولى من حيث لجوؤها إلى التعميم،
وهي تنظر إلى الشــعراء، الفلسـطينيين، حيث وضعتهم جميعاً في سلة واحدة دون أن
تميز بين محب للمدنية وآخر تناقض معها وكان موقفه منها مثل موقف الشـعراء العرب،
وهنا أشير إلى الشاعر عبد اللطيف عقل في مجموعاته الأولى، وقد أنجزت شخصياً، ذات
يوم، مقالة مطولة تناولت فيها موضوع المدينة في أشعاره ( انظر مجلة البيادر 1977 )
وبينْتُ موقفه الذي لا يختلف عن موقف الشعراء العرب من المدينة، ولم يختلف موقف
عقل من المدينة الفلسطينية إلاّ في فترات متأخرة، وتحديداً حين كتب عن القدس
ليصورها تصويراً مغايراً كلياً ( حول ذلك انظر دراستي القدس في الشعر العربي
المعاصر، مجلة كنعان أيار 1998 ).
والثانية من حيث نظرتها إلى المدينة الفلسطينية تحت الاحتلال على أنها، باستمرار، مكان للبطولة
وموطن للمقاومة والنضال الوطني. ومن عاش في فلسطين تحت الاحتلال يعرف أنّ هناك
فترات كان فيها المحارب يسترخي استرخاءً طويلاً، ويتحول إلى إنسان يذهب إلى المدن
الإسرائيلية ويشتري من أصحابها الذين كانوا بدورهم يأتون إلى المدن الفلسطينية
ويشترون من أصحابها أيضاً. وفي فترات الاسترخاء هذه كان الشاعر ينظر إلى المدينة
نظرة مختلفة، كان ينظر إليها على أنها تضم الأغنياء والفقراء، وعلى أنها تهاون
المحتل وتنسى احتلاله. تقول فدروى طوقان عن نابلس في أيام السبت:
"من ماتوا ماتوا مرة
وأعاقر
كأس الموت هنا في أيام السبت المرّة
ألفي
مرّة "
أما لماذا تموت يوم السبت ألفي مرة؟ ذلك لأن المدينة في أعوام 70 و 71 و 72 كانت تمتلئ
بالناس، وبخاصة بالعمال الذين ينفقون هذا اليوم، يوم السبت، بالشراء والتسوق لأنه
عطلتهم الأسبوعية، حيث لا تفتح المصانع الإسرائيلية لهم فيه أبوابها. وليس الاحتلال،
هنا، هو ما يسبب للشاعرة الموت.
إنهم العمال أنفسهم هؤلاء الذين منهم من:
"يعمر للوافدين الجدد
ويبني
بيوتاً هناك ويعلي البناء
بغير
انتهاء
بغير
انتهاء ".
ألست
تراه يعيش كريماً ويشبع
ويلهو
بوقت الفراغ على شط يافا
ويرتع
.......
لقد
فتّح الاحتلال المبارك
أبواب
رزقه
ومتعه
بعد طول الهوان بحقه
وهذا
رخاء عظيم
فبارك
على العالمين ".
وتبقى نقطة أخيرة أود الإشارة إليها. تأتي الدكتورة على رواية إميل حبيبي " الوقائع
الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشاتل "(1974) وترى أنه متأثر بها
برواية الأديب التشيكي المعروف( ياروسلاف هاتشيك )" الجندي الطيب تشفايك
" (1923)، وتشير إلى اعتراف إميل بتأثره برواية( فولتير ) " كنديد
" (1759)، ولكنها لا تربط ما بين بطل الرواية وبطل المقامات، وهذا ما أشار
إليه غير دارس. إن بطل المتشائل هو الابن الشرعي لمقامات بديع الزمان الهمذاني،
وإنْ كان هذا لا يعني أنه لم يتأثر ببطل ( هاتشيك ) و ( كنديد ).
وبعد، فإن هذه الكتابة لا تنتقص إطلاقاً من الجهد العظيم الذي أنجزته سلمى الخضراء
الجيوسي، وليس لنا إلاّ نحييها على جهدها ونشد على يديها.
***
3- في رحيل سلمى الخضراء الجيوسي
رحلت في ٢٠/٤/٢٠٢٣ سلمى الخضراء الجيوسي عن عمر يقارب الـ ٩٥ عاماً، وآخر مرة التقيت فيها بها في العام ٢٠١٦. وكنت التقيت بها أيضاً في ٢٠١٢، وذلك بعد لقاء لها موسع مع أدباء الضفة الغربية، في قاعة بلدية البيرة، عقدته لها وزارة الثقافة الفلسطينية، بطلب منها لتناقش معهم جملة من الأسئلة عن الأدب الفلسطيني.
عممت الدكتورة على الحاضرين ورقة تحتوي على أسئلة قالت إنها من وضع مستشرق اسمه (استيفان) يرغب في دراسة الأدب الفلسطيني، ولم يسألها أي من الحاضرين عن هويته أو عن آرائه ومواقفه في القضية الفلسطينية. سجلت الدكتورة النقاش على أشرطة ثم افترق الحضور.
بعد أعوام من اللقاء وعلى هامش معرض الكتاب في رام الله اتصلت بي الدكتورة ودعتني إلى العشاء، ولما سألتها عما آل إليه مشروع المستشرق أجابتني بأنها هي من أنجزت الكتابة، وللأسف فلم أطلب منها نسخة، وحتى الآن لم أقرأ دراستها.
كانت الدكتورة يومها في بداية الثمانين، وعلى الرغم من متاعب جسدها، حيث كانت حركاتها محسوبة، إلا أن ذهنها كان صافياً تماماً، فقد كان تركيزها عالياً وكلامها موزوناً.
أول رسالة وصلتني منها كانت في صيف ١٩٨٧، وكان دافعها للكتابة هو شروعها في إنجاز مشروع (بروتا) - ترجمة الأدب العربي الحديث إلى الإنجليزية - المشروع الذي أسفر عن ترجمة ما لا يقل عن ٤٠ عملاً أدبياً، بالإضافة إلى موسوعات منها موسوعة الأدب الفلسطيني وموسوعة أدب الخليج العربي.
كانت الدكتورة بحاجة إلى فريق عمل وأشخاص تستشيرهم فيما يمكن أن يترجم من أعمال، فمهما كانت ثقافتها من السعة والشمول، فلا يمكن أن تحيط بكل ما صدر في العالم العربي وما يستحق الترجمة منه، ولما كنت أنجزت رسالة ماجستير عن القصة القصيرة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، فقد كتبت إلي كي أرشح لها قصصاً أرى أنها تصلح للترجمة.
يعد مشروع (بروتا) من المشاريع المهمة الناجحة لخدمة الأدب العربي والفلسطيني.
بدأت سلمى حياتها شاعرة، ولكنها بدلاً من أن تواصل كتابة الشعر أخذت تدرسه، فأنجزت فيه رسالة الدكتوراة، وواصلت دراسته وتدريسه في الجامعة، ثم عكفت على ترجمته، وكانت تنطلق في دراستها من ربط الشعر بالمجتمع والتاريخ، مستفيدة من منهج الفرنسيين (هيوبوليت تين) و(برونتير)، ومن هنا جاءت دراستها تركز على «الاتجاهات والحركات» في الشعر العربي، وعلى تطور بنية القصيدة العربية في عصورها المختلفة، واهتمت فوق هذا بحركة الحداثة والشعر الحداثي، فدرست قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة. لقد أغفلت دراسة شعراء مهمين لأن هناك من هو أهم منهم في تيارهم الشعري، وحجتها أن مهمة الناقد الأدبي غير مهمة المؤرخ الأدبي، فالأول يصنف ويميز والثاني يؤرخ ويعدد ويحصي، وما كتبته يندرج في باب النقد لا التأريخ.
ولأنها عاشت في الغرب فلم تهمل قضية التأثر والتأثير، وإذا كانت ركزت على العوامل الاجتماعية في نشأة الشعر وتطوره، فإنها رأت أن هناك عاملاً آخر مهماً هو تأثير الشعر الغربي على الشعر العربي، وقد بدا هذا واضحاً في دراستها «بنية القصيدة العربية عبر القرون؛ المقاومة والتجريب».
والحقيقة أن جهودها في تقديم الأدب العربي إلى الغرب بدأت مع دراستها الشعر العربي لا مع مشروع ترجمته، وكانت فيها تسعى إلى الكشف عن المنجز الحضاري الإنساني للعرب في العصر الحديث وتقديمه للعالم، لتغيير تصوراته عن العرب بأنهم شعب بلا ثقافة.
وقد دحضت الدكتورة في دراستها «بنية القصيدة العربية» نظرية العرق التي هاجم أنصارها الشعر العربي ولم يعتبروه، فهو في نظرهم «شعر أبيات لا شعر قصائد، مخلع، متجزئ تجزؤ العقل العربي نفسه، خطابي، عاطفي، يعاني من رتابة كبيرة مملة بسبب أوزانه وشكله الشعري ذي القافية الواحدة».
وبقي مشروعها الثاني وهو دراسة الحضارة العربية في الأندلس، وغالباً ما تحدثت عنه في المقابلات التي أجريت معها. تحدثت عنه وعن معاناتها في إنجازه، إذ خذلها بعض الدارسين العرب بخلاف الدارسين الغربيين الذين قدموا إسهامات قيمة في الكتابة عن الحضارة العربية في الأندلس.
في رحيل سلمى الخضراء الجيوسي خسر الأدب العربي والفلسطيني رافعة مهمة عملت على إيصاله إلى العالمية، وهنا يجدر التذكير بدورها في تقديم نجيب محفوظ إلى الأكاديمية السويدية للحصول على جائزة نوبل، وقد تحقق ذلك.
(ملاحظة: بعد الانتهاء من كتابة المقال عدت إلى مقابلة مع سلمى الخضراء بثتها فضائية الجزيرة في العام ٢٠٠٨، ضمن برنامج رائدات أدلى مستشرق إنجليزي اسمه استيفان سبيرل شهادة عن علاقته بها وهو يدرس في جامعة في لندن).
عادل الأسطة
2023-05-07
***