د. أحمد الحطاب - المسئولية و ما أدراك ما المسئولية

سئِمَ المغاربة من قراءة وسماع كلمة "مسئولية" في الآعلام، في الخطب السياسية، في الحملات الانتخابية، في السياسات العمومية، في حديث المقاهي، في تصريحات الحكومة، في جلسات البرلمان، في مؤتمرات وتجمُّعات الأحزاب السياسية…

والغريب في الأمر أن المواطنين، حينما يبحثون عن المسئولية في المكان الذي من المفترض أن تكون متواجدةً فيه، فغالبا ما لا يجدونها. قبل الإبحار في منعطفات "المسئولية"، فما هي المسئولية؟

نقول مثلا :

1.فلان مسئول عن ذاته، أي هو الوحيد الذي بإمكانه (ملزم) الحِفاظ عليها من كل أذى سواءً صدر عنه أو عن غيره أو عن الوسط المحيط به. إن حافظ عليها، فهذا معناه أنه اتخذ كل الإجراءات الازمة لصونها. وإن أصابها أذى، فهذا معناه أنه تخاذل في اتخاذ هذه الإجراءات. فلن يلومَ إلا نفسَه.

2.فلان مسئول عن أقواله وأفعاله، أي هو الوحيد الذي يتحمَّل تَبِعات (أو عواقب) هذه الأقوال والأفعال، سواء إيجاباً أو سلبا.

3.فلان مسئول أمام جهة معيَّنة (مجتمع، سلطة، وطن، شعب، رأي عام، حزب، تجمُّع…)، أي يقع عليه واجب من الواجبات وهو ملزم بتأدية هذا الواجب كما هو مطلوب منه علما أن هذه الجهة المعيَّنة من حقها مُحاسبتُه لتقييم كيفية الأداء كما هو مرغوب فيه.

وهنا، لا بد من توضيح. فعندما نسمع عبارةَ "ربط المسئولية بالمحاسبة"، فأول ما يتبادر للذهن هو الجانب السلبي لهذه المحاسبة. لا أبدا. المحاسبة تقييم للأداء. والأداء يمكن أن يكون إيجابيا أو سلبيا. فإن كان إيجابيا، وهذا هو المرغوب فيه، فالمًحَاسَب يستحق التَّنويهَ والاحترامَ والتَّقدير. وإن كان سلبيا، أي مخالفا للواجب ومُخِلاًّ بالالتزام، فالمُحَاسَب يستحق العقابَ. وهنا بيت القصيد. لماذا بيت القصيد؟

لأن مبدأَ "ربط المسئولية بالمحاسبة" منصوص علية في دستور البلاد وأنشأت الدولةُ لتفعيله المجلس الأعلى للحسابات والمجالس الجهوية للحسابات، لكن هذا المبدأ يبقى متعثِّرا من حيث التنفيذ. عادةً، المجلس يقوم بمراقبة استعمال المال العام من طرف منشآت الدولة (وزارات، مؤسسات ومقاولات عمومية، جماعات محلية، أحزاب سياسية) ويُصدِر تقارير يبيِّن فيها ماذا احترام المساطر والقوانين التي، بموجبها، يتمُّ استعمال المال العام. والمقصود هنا ب"متعثِّر" هو أن بعض التقارير بيَّنت أن استعمالَ المال العام تشوبه اختلالات وخروقات وتجاوزات. عادة، مثل هذه التقارير تُرفع للقضاء ليبثَّ فيها وهو الشيء الذي، نادرا، ما يحدث.

فلماذا لا يُطبَّق مبدأ "ربط المسئولية بالمحاسبة" من ألفه إلى يائه، علما أننا نعيش في دولةٍ يُقال إنها دولة الحق والقانون؟

فهل المال العام مِلكٌ للجميع أو مِلكٌ لمن يسهر على استعماله؟

فلماذا لا تُلحُّ الأحزاب السياسية، و بالأخص تلك الممثلة في البرلمان، أغلبية و معارضة، على تطبيق هذا المبدأ بحذافره؟

فكيف للبلاد أن تنتفعَ من نموذجها التنموي الجديد ومالُها العام يُساء استعمالُه؟

فكيف للمواطنين أن يثقوا في المؤسسات التَّشرعية و التَّنفيذية و في الأحزاب السياسية وهي تتفرَّج على هدر المال العام؟

فكيف للمسئولين الذين تبتث في حقهم اختلالات تتعلق بهدر المال العام، أن يبقوا أحرارا طليقين؟

فكيف لمباديء نصَّ عليها الدستور وأنشأت الدولة من أجلها مؤسسات عليا أن تبقى مجرد حبرٍ على ورق؟

كل هذه الأسئلة ستبقى، هي الأخرى، حبرا على ورق ما لم تتوفَّر إرادةٌ سياسيةٌ قويةٌ تساوي بين المواطنين من حيث الحقوق والواجبات. إرادة سياسية لا تعترف إلا بالقانون وتتنكَّر للمحسوبية واللوبيات بجميع أشكالها وانتماءاتها. هذا هو حُلم المواطنين الغيورين على مصلحة بلادهم. أقول "حُلم" لأن الأحلامَ التي حققتها، إلى حد الآن، الأحزاب السياسية والحكومات المنبثقة عنها، هي فعلا أحلام تحققت فقط في المنام.

في نظري وحسب ما يروج في المشهد السياسي من فساد، ستبقى تقاريرُ المجلس الأعلى للحسابات مجرَّدَ أسود على أبيض، صالحة فقط وحصريا لذرِّ الرماد على العيون. لماذا؟

لأنه، من المستحيل، أن يُحارِبَ الفاسدون والمفسِدون فسادا أصبح بنيويا ويحقِّقون، من خلاله، مآرب وأطماعا لا تُحصى. وإنه كذلك، من المستحبل، أن يعترفَ فاسدون أو مُفسدون بفسادهم الذي يُعتبر، بالنسبة لهم، تجارةٌ مربِحة. هذا إن لم يبرِّروا فسادَهم بقولهم أن هذا الفسادَ ينتفع منه كثيرٌ من الناس مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (البقرة، 11). بل أن الفاسدين والمفسدين، حمايةً لمصالحهم اللامشروعة، يُشكِّلون لوبياتٍ سياسية واقتصادية تتحدَّى الدستورَ والقانونَ والمجتمعَ والأخلاق والأخلاقيات éthique. أليس غلاءُ الأسعار الذي تتخبَّط فيه البلادُ حاليا ناتجا عن تآمر وتواطؤ هذه اللوبيات؟

أن تتضرَّرَ البلادُ والعبادُ من جرَّاء عُتُوِّ هذين التَّآمر والتَّواطؤ، فهذا شيءٌ لا يُعير له الفاسدون والمفسِدون أي اهتمام. لأنهم، بحٌكم فُقدانهم لأدنى إحساسٍ إنساني، مستعدون للدَّوسِ بأقدامهم على أجساد المواطنين شريطة أن تتحقَّقَ مآربُهم الفِرعونية!

بل إنهم كالحيوان المُفترس الجائع الذي تدفعُه غريزتُه إلى الاعتداء على حيوانٍ أضعف منه بدون شفقة ولا رحنة! الفرق بينهم وبين الحيوان المفترس هو أن هذا الأخيرَ، بعد إشباع بطنه، تنطفئُ غريزتُه الوحشية الهجومية ويخلُد إلى الراحة بينما الفاسدون والمُفسِدون لا ينطفئُ جشعُهم وطمعُهم مهما راكموا من أموال ومهما حقَّقوا من مآرب ومهما بلغوا من أطماعٍ وريع…

الفاسدون والمُفسدون رسَّخوا وجودَهم في المجتمع عندما فطِنوا بزواج المال بالسلطة (السياسة). فأصبح وجودُهم هذا أخطَبوطا يمسك بأذرعِه أهمَّ دواليب الدولة. أحكموا قبضتَهم على هذه الدواليب، فأصبحوا لا يخشون لا اللهَ ولا العبدَ. وأصبحوا كذلك لا يُعيرون أي اهتمام للمسئولية لا على مستوى الفردي ولا على المستوى الوطني ولا على المستوى الاجتماعي ولا عل. المستوى الاقتصادي ولا على المستوى الإنساني، الأخلاقي والديني. بالنسبة لهم، كل افتراسٍ للمواطنين يُؤدِّي إلى إشباع غريزة الجشع، مباحٌ. المسئولية هي آخر ما يشغل بالَهم

السبيل الوحيد لمحاربتِهم هو أن تُوفَّرَ إرادةٌ سياسية قوية ومن أعلى سلطة في البلاد، وأن يكون القضاءُ نزيها، مستقيما ومستقلاًّ عن جميع السلطات الأخرى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى