عائشة البصري - مبدعون في حضرة آبائهم - 6 - اليقين الراسخ في الحياة.. إعداد: مصطفى الإدريسي

في رسالة كافكا إلى أبيه: « أبي الحبيب.. لقد سألتني مؤخراً: لماذا أزعم أنني أخاف منك؟ وكالعادة لم أدر بماذا أجيبك. تارة بسبب الخوف الذي يعتريني أمامك، وتارة لأن الكثير من التفاصيل متعلقة بحيثيات ذلك الخوف، بحيث لا يكون بوسعي لملمة شتاتها في الحديث معك ولو جزئياً. وإنني إذ أحاول هنا أن أجيبك خطياً، فإن كل ما أقوم به لن يكون سوى محاولة مبتورة، وذلك لأن الخوف وتبعاته يصدانني عنك حتى في الكتابة، ولأن جسامة الموضوع تتعدى نطاق ذاكرتي وإدراكي «.
أمام اللجوء أو الهروب إلى الأم الحاضنة والحنونة وملاذ « التواطؤات « الجميلة، كيف يستحضر مبدعونا المغاربة صورة الأب، وهل تختلف نظرتهم إلى هذه السلطة الرمزية التي ارتبطت بالصرامة والتحكم؟ كيف دبروا هذه العلاقة التي تلتبس فيها العواطف بين خوف واحترام، بين حب أو كره، بين تقديس وقتل؟
مرت الآن سنوات عديدة، ولم أستطع أن أكتب عن والدي، الذي كان هو المحفز الأول لامتهاني الكتابة. لأنني ،ولسبب لا أعرفه، أستطيع أن أكتب عن موتاي المقربين،و أن أستعمل فعلا ماضيا لمن أحببتهم.حاولت، أكثر من مرة، أن أكتب له رسالة، وهو هناك، فقط لأقول له كلاما كانت تمنعه سلطة الأب.
كان والدي قارئا نهما رفيقا وفيا للكتاب، يعشق التربة والبحث في تنويعات الطبيعة، ويندهش كطفل لملمس الصخرة كما الوردة، يتحسس نبض الأرض ليعلن عن مطر قادم..
قد يكون والدي هو ذلك اليقين الوحيد الراسخ في حياتي . والعقل الوارف الذي حمى توازني من الاختلال.لكن علاقته المتوترة مع والدتي والتي انتهت بالطلاق ، ضلت تلقي ظلالا رمادية على علاقتنا الفكرية بل على علاقة الأب والابنة. في لحظة ما كان علي أن أقف إلى جانب والدتي وأأخذ موقفا مضادا لأبي في إطار حقوق المرأة ووضعها في العائلة …هذا التوتر كانت له إيجابياته، كذلك، لأنه نبهني إلى قضية كبرى، إلى الوضع الاعتباري للمرأة وما يمارس عليها من حيف من طرف الرجل والمجتمع. وهو ما بصم كتاباتي فيما بعد بل أصبح وضع المرأة التيمة الأساسية في كل ما كتبت..لم أكره والدي لأنه كان فلتة لزمنه في محبته للمعرفة والفكر ، لكن فجوة صغيرة حلت بيننا حين أصبحت شابة.
كانت الكتب المرصوصة على رفوف مكتبة والدي هي أول دعوة لي لعالم الحروف والكلمات. مكتبة كبيرة تحتل جزءا من الصالون، على اعتبار أن الكتب تضم بين دفتيها كائنات حية بمؤلفيها وشخصياتها. ضيوف يقاسموننا البيت ونخصص لهم أفضل غرفة، ومن واجبنا احترامهم بعدم اللمس. والدي كان صارما في هذه المسألة، لا نلمس كتابا إلا بإذنه، لأن للقراءة ضوابط وطقوس، أهمها أن يختار الكبار الكتاب المناسب لسن كل منا نحو الأطفال الخمسة في البيت. تساكُنُنا في بيت واحد ليس مبررا لتقليل الاحترام للضيوف، يؤكد والدي. أما المجلدات المذهبة فكانت محظورة تماما علي الصغار .
بما أن والدي كان يقرأ باللغتين الفرنسية والعربية، فقد ضمت رفوف المكتبة قواميس بلغات مختلفة، روايات وأشعار شعراء فرنسيين من القرن الماضي ، وسيرا لعظماء بصموا التاريخ الإنساني، كتب التاريخ خصوصا حول الحربين العالميتين الأولى والثانية ،وحول الحركة الوطنية المغربية . جزء آخر منها حول الحضارة الرومانية و تاريخ مصر القديمة.
معظم الرفوف السفلية للمكتبة، والتي كانت في متناول قامتي الصغيرة، كانت روايات بوليسية من السلسة السلسلة السوداء»Serie noire « التي واظبت على إصدارها دار النشر الفرنسية غاليمار منذ الخمسينات..
لكن، الأكيد أن تلك المساءات الشتوية الطويلة في مدينة صغيرة و هامشية ، كانت هي مصدر عشقي للكتاب والكتابة. حين كنا نتحلق حول المدفأة أنا وإخوتي ويقرأ علينا والدي مقتطفات من روائع الأدب الفرنسي للقرنين السابع والثامن عشر مؤكدا على مخارج الحروف وسلامة النطق بها، دون أن ينسى كونه أستاذا للغة الفرنسية . ثم يفتح النقاش حول كتاب تاريخي، فيفتح أقواسا وتأويلات أخرى غير التي نقرأها في المدرسة . تأويلات كنت أجد فيها، حينها ، الكثير من المبالغة. لكنني تأكدت مع مرور السنوات وانقشاع ضبابية تحريف التاريخ –بما فيها التاريخ الوطني-أن معظم تأويلاته كانت صائبة. هو الذي كان يذكرني بأنه لا بد وأن يظل أحد خارج اللعبة السياسية ليكتب بحياد.
تدريجيا تحولت كتب الأدب والتاريخ في مكتبة والدي إلى كتب الفكر والتصوف والحفر في الديانات ، و بشكل غامض بدت شخصية والدي تتأرجح بين الجنون والعقل.
فقدت المكتبة هيبتها، انتقلت المجلدات إلى علية البيت قبل أن تخفي تماما.
لا أذكر أن والدي احتفى بإصداري الشعري الأول، هو الذي كان عاشقا متيما بالأدب.لكنني وجدت- بعد وفاته كتابي بين وثائقه المهمة في خزنته السرية.
ظل شديد الإيمان بالقومية وبقيمة العقل العربي رغم تعدد النكبات والجنازات..
مباشرة بعد سقوط بغداد، أصبح مقلا في الكلام. صعد برج الصمت إلى أن مات في خلوته مختنقا بالربو وإلى جانبه مرمدة مليئة ببقايا السجائر و الرسالة السابعة والثلاثون (ماهية العشق ) لإخوان الصفا. وتدوينة على مذكرته «الله هو المعشوق الأول ، كل الموجودات إليه تشتاق وتحن ،ونحوه تقصد.. الله نور الأنوار «.

الكاتب : إعداد: مصطفى الإدريسي


بتاريخ : 05/07/2019





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى