إلهام مسيوغة - لعبة الدّوال في ومضات "أفيون" لسهام شكيوة

لا يمكن أن نفهم كتابة جديدة دون أن نجدّد مفهومنا للنص المكتوب في علاقته بالكاتب والقارئ. في كتاب سهام شكيوة لن أتحدّث عن الكاتبة الشاعرة أو عن المتلقّي الفاهم أو غير الفاهم أو حتّى عن العلاقة الفاصلة بينهما بل سأقف عند ذات النص المستقلّة عن السلطتين. فلن أقول بموت المؤلّف على نحو البنيويّين ولن أنوّه بعبقريّة القارئ على غرار أنصار نظرية التلقّي وإنّما سأنظر إليه من خلال نظرية النص الجديدة كما أثبتها رولان بارت باعتبار النص نسيجا من الدوالّ حبكته ذات منتجة كاتبة أو قارئة لأنّ النص خطاب مشتغل DISCOURS EN ACTE أي مسرح لإنتاج ذاته حيث يلتقي منتج النص وقارؤهذاتين متكافئتين في الإنتاج لأنّ القارئ أيضا بات ذلك "الذي يريد أن يكتب"
لكن ما الذي يشتغل عليه النص؟ يشتغل على اللّغة. فكلاهما يفكّك لغة التواصل والتعبير ويعيد بناء لغة أخرى كثيفة وتنطلق الإنتاجية وتتمّ إعادة التوزيع ويحدث النص بمجرّد أن يشرع المؤلّف في اللّعب بالدّالّ وأن يخترع القارئ معاني لم يتكهّن بها المؤلّف.
بعد هذا الفسحة الوجيزة في نظرية النص لبارت ومفهومه للنص المشتغل في علاقته بالذات والدالّ والآخر. فلا وجود لناقد في نظرية النص بل هو نفسه ذات موجودة داخل اللّغة وتنتج نصّا مكتوبا.
من المهمّ أن يحدّد القارئ المنتج موقعه من النص بمجرّد أن يدخل اللغة. فلن أكون ذاتا مستهلكة بل منتجة داخل نسيج النص اللّغويّ، منصهرة فيه مع ذات الكاتبة المنتجة حتّى يشتغل النص.
واشتغلت على هذا الجسد اللّغوي بالتشريح والتقليب أنتجت فيه نصّا ممكنا. فلم يعد الأمر متعلّقا بشرح أو وصف وتحليل بل يتعلّق بالدّخول في لعبة الدوالّ مع الذات الكاتبة في الممارسة النصّيّة.
وفي هذه اللعبة وجدت ثلاث علامات أو دوالّ مختلفة وفقها اشتغلت على النص وبالتالي ثلاثة عوالم شعرية شكّلت ذات النص في حقله اللّغويّ:
العالم الأول: من أول ومضة إلى حدود الصفحة 87 وهي أكبر العلامات "قلبي"
العالم الثاني: من ص88 إلى 103 دوالّ الطبيعة
العالم الثالث: كالجنس الثالث اختلطت فيه الدوال وعلامات الحياة والموت
حين ولجت العالم الأول لاعبتني علامة أو دالّ متواتر الحضور يكاد لا تخلو منه ومضة منذ ص13 إلى حدود الصفحة 87 وهو "قلبي" وأرهقني هذا الدالّ لشدّ ما تلوّنت استعاراته وتعدّدت مجازاته. فلهذا القلب أرقام، ثقوب، عصافير، عتبات، رصيف، جدار، شوارع، شجرة، حبال، مسار، نجوم، أزقّة،عقارب، ولهذا القلب أيضا: حنجرة تجاعيد، أصابع، أوصال، كتفين..
وله أفعال وصفات وأحوال: يسبّح، يؤمّ، يعضّ، يلفظ النفس، متورّم، مثقوب، مشلول، شائك، مخترق، موخوز، رميم، سائب، أبكم، منهوش، حاف، عازل، بوصلة الشوق، أفيون
ما هذه العلامة؟ ما هذا القلب؟ هو الإنسان في أوصاله، وهو العالم بمكوّناته.
أ يمكن أن يكون ذلك العالم المذكور في التصدير حيث تقول "أحمل العالم بين كفّيّ"؟
كي أوهمك أنّك مازلت أفيوني..
أنت تحلم أن تعود صيادا...
وأنا لا أجادل عودتي كفريسة.
أ يمكن أن يكون أفيون الإنسان المذكور في آخر ومضة في فلك القلب فيكون هو الصيّاد وهو الفريسة؟ هل أحواله المتقلّبة هي حال الإنسان المعاصر في هذا الكون؟
إذن هناك رؤية شعرية لهذا العالم أجملتها الذات الشاعرة في ومضة أولى "أحمل العالم في كفّي" ثم فصّلت هذا العالم في علامات صغرى مكثّفة لها طاقة إيحائية تنتجها الذات القارئة. وأثناء الممارسة النصّية لهذا العالم بدوالّه تتّضح لنا قوانين اللعبة التي وضعتها الكاتبة فكلّما تجد دالّ "قلبي" يوجد معنى مختلف. هذا الدال كالقنبلة الموقوتة أو كاللغم المشتغل القابل للانفجار بمجرّد أن تقف عليه.
علامة وزّعتها الكاتبة توزيعا مقصودا قد يبدو للقارئ المستهلك الذي لا يحاول أن ينتج مع الكاتب النص لأنّه تعوّد المعاني الجاهزة، قد تبدو له تكرارا ثقيلا أو لوكا لنفس الكلمة وكأنّ الذات الشاعرة لا تملك غير تلك الكلمة أو ذلك الدالّ لتشكيل صورها. من السذاجة أن نظنّ بالشاعر أنّه قد يقع في مثل هذه الهنات المدرسية. تكرار هذه العلامة مقصود والتكرار ينبّه ويوقظ حسّ القارئ لينتج المعنى، وإن لم ينبّهك جرس التكرار لتفهم ما يقال فعليك أن تصلح ما بك من خلل.
وهنا تكمن صعوبة الومضة إنتاجا كتابة وقراءة. فالشاعر عامّة لا يقول الشعر من فراغ. ويبني ملفوظه وفق توزيع مخصوص وبدوالّ معيّنة ويضعه في صيغة اشتغال. وسهام شكيوة في كتابها وزّعت ومضاتها بذكاء بالغ: في البداية أهدت ثم صدّرت الكتاب بوضع العالم في كفّها ثم حيّت بومضة أولى مشاكسة وموحية " في حضرتي ترفع قبّعتها فزّاعة الحقل" ورفع القبعة علامة احترام وتقدير لكن ممّن؟ من فزاعة الحقل المخيفة.. فسهام شكيوة على ما يبدو تخاف القارئ ضمنيّا لكن في قرارة نفسها تقول لن يكون مرعبا أكثر من الفزاعة. نعم سيّدتي الكتابة مغامرة وتحدّ ملفوف بالخوف وموسوم بالشجاعة والثقة.
راحت تحدّد مكوّنات هذا العالم في فلك علامة واحدة وهي "قلبي" فتستعير الذات المتكلّمة لقلبها ما تشاء دون تحفّظ وتشخّصه كما أوضحت منذ قليل. وتتالت هذه الومضات وفق منطق داخليّ متماسك تماسكا فظيعا والخيط الناظم لا ينتجه إلاّ القارئ. فقد يهيّأ لك أنّك تقرأ ومضات متناثرة منفصلة لكنّك حين تتبع العلامات في هذه اللعبة تمسك بطرف الخيط ويكتمل العالم الشعري في ذهنك.
ونحن في حضرة الوجيز نعوّل على طاقة المفردة الخلّاقة والمفردة لا تأتي من غريب الكلام ولا من عسيره بل من اليوميّ البسيط. و"قلبي" في هذه الومضات هو أفيون العالم بل اختزلت العالم في قلبها وهو أفيون (وهو عصارة الخشخاش) أي مخدّر.
وهذا العنوان يحيلنا على أشهر أقوال كارل ماركس: الدين زفرة الإنسان المسحوق، روح عالم لا قلب له، كما أنّه روح الظروف الاجتماعية، إنّه أفيون الشعب". أيّ أنّ الدين يخدّر الشعوب ويبلّد أذهانها.
لكنّ سهام شكيوة في اختيارها لهذا العنوان وفي نصّها تبطل مصادرة ماركس لتؤكّد أنّ للعالم قلبا وهو أفيون الإنسان. فإذا بها تماهي بين العالم والقلب البشري المخترق، الموخوز، الأبكم، المنهوش، الحافي، بوصلة الشوق، أفيون الشعوب في حزنها وفرحها.
لن أقف عند التدلال في هذه الومضات القلبية لأنّني قد أحبّر كتابا لكن ما أؤكّد عليه أنّ كلّ لفظة فيها على علامة ودالّ مقصود ومختار في ضوء رؤية فلسفية للشاعرة وليست مجرّد كلمات ضئيلة بسيطة أو صور مجازية خفيفة أو معان غزلية مألوفة. فالإيحاء شرط من شروط الومضة وإن لم يدخل القارئ اللعبة وفق هذا الشرط سيخرج بخفّي حنين.
العالم الثاني تغيب علامة القلب وتحضر علامات أخرى تتعلّق بدوالّ الطبيعة وتقلّب كلّ الفصول (الربيع، الخريف، الشتاء، الزهر والشجر الأخضر والعاري والعقيم، الريح الصرصر والإعصار، والشمس والثلج والبحر والموج والشاطئ) طبيعة مختلفة: جنيّة وطبيعة عنيفة وأحيانا قاحلة وأخرى ثلجية. فالعناصر الطبيعيّة دوالّ رمزيّة لها دلالات عديدة مألوفة. فهل من علاقة بين القلب أفيون العالم وهذه الطبيعة المختلفة؟
وهنا ندخل في باب التأويل وكأنّ الطبيعة بأجوائها وأنوائها تعبّر عن قلب الإنسان المتقلّب في أحواله بين الهدوء والغضب، بين اللين والعنف، بين الدفء والبرود، بين اليأس والحلم..
وهنا أ لا يمكن أن يكون هذا القلب ابن الطبيعة تترجم عنه حقيقته الإنسانية؟ نستحضر الشابي في علاقته بالطبيعة وطريقة استحضارها وتوظيف عناصرها للتعبير عن قلبه. فإلى أين تذهب بنا سهام شكيوة في هذه الومضات الطبيعيّة؟ تراها تهيّئنا لمعادلة أخرى تقول إذا كان القلب بأشواقه وأحواله أفيون العالم هل تكون الطبيعة بأجوائها هي أفيون القلب؟
ومضات كاشفة عن تأمّلات الذات المتكلّمة وما لجوؤها إلى دوالّ الطبيعة للتعبير عن أحوال القلب والعالم إلّا اختيار فنّي يعمّق شعريّة النصوص ويخصّب إنتاج المعنى.
أمّا العالم الثالث فهو أقوى ما جاء في هذه الومضات، عالم فتّق قيود الذاتية ليجوس في عالم اجتماعي واقعيّ بعيدا عن رومنسيّة الطبيعة ونوازع الإنّيّة. في هذا العالم تنوّعت العلامات واختلفت الدوالّ بل تداخلت وعاد قلبي إلى الحضور في علاقة بدوالّ أخرى موحية بالوجع الإنسانيّ (يتيم، جائع، آهات، فقير، أعمى، الثكالى، قهقهات العائلة الارستقراطية، الهجرة، المكر، الخيبة، الأصدقاء، الوطن، الحزن، العمر، الحياة، الموت والكفن)
لا يغرّنّكم قصر الومضات، فقد ألمّت الكاتبة بمعظم أوجاع الإنسانية في هذا العالم وأشدّها تأثيرا في القلب. ووزّعت دوالّها في هذا العالم توزيعا داخليّا قائما على التقابل ففي ص104 تحدّثت في أوّل ومضاته عن "قطار العمر"
يدهسني..
بلا هوادة...
قطار العمر.
وفي آخر الومضات عن "قماط وكفن"
متجر الحياة،
من لون واحد:
قماط وكفن.
وبهذا النفس الوجودي الحزين صبغت الكاتبة العالم الثالث المخروم بالهموم سواء في كتابها أو في خارطة العالم، فللكلمة الواحدة طاقة تعبيرية تنفجر في ذهن القارئ وتجعله يريد أن يكتب وينتج نصّا آخر.
ما أنوّه به في هذا الكتاب هو حسن توزيع الدوالّ في الومضات ومن طرق التوزيع إنتاج الاستعارات والمجازات والكنايات واختراع علاقات جديدة في إطار اللّعب باللّغة والتناصّ (ص76)
يحيي القلوب
وهي رميم...
ليل السكارى.
ليصبح النص نسيجا من الشواهد البائدة التي تنقل إلى النص. ثمّ ترتيب الومضات بطريقة ذكيّة فرغم النصوص الظاهرة phéno- textes توجد نصوص باطنيّة géno textes تنبع من منطق عامّ يحكم الومضات ويبني بها عالما شعريّا تتعدّد دلالاته ويكشف عن رؤية الشاعرة للذات والعالم والآخر.


بقلم الكاتبة التونسية إلهام بوصفارة،

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى