نتصور أن العلاقة بين الكتابة والألم، علاقة وجودية ـ باتولوجية؛ وجودية لأن اللغة تقتل الأشياء، وعلينا أن نستحضر هنا، أن الموت يجرُّ الكون للفراغ، هذا الأمر يُحدث ألما – لا محالة ـ الذي هو ليس سوى ألم الانفصال عن الأصل، كما يتوجب علينا أن نضع نصب أعيننا أن الكتابة، بالمقابل، هي شكل من أشكال مقاومة الموت، وهي ميلاد جديد لكينونة أخرى، فالكتابة «تكريس للوجود عبر الكلمة» (جاك دريدا)؛ وهي ـ أي العلاقة ـ باتولوجية، لأن الكتابة فعلٌ نابع من ذات رافضة ومجروحة. والحاصل، في كلتا الحالتين، أن الألم يتحول إلى لعبة مازوشية من خلال فعل الكتابة.
وبالنظر إلى هذه العلاقة، وإلى أن الشاعر الحقيقي، كما يقول جاك دريدا، هو من «يعرف كيف يترك الكلمة، يتركها تتكلم وحدها، وهو ما لا يمكنها القيام به إلا داخل الكتابة»، تلزم الإشارة إلى أن الشاعرة إيمان الخطابي، من خلال إضمامتها، قيد المداعبة، «حمالة الجسد»(منشورات بيت الشعر)، تحضر في تضاعيف عوالمها كذات رافضة وجاحدة بكل الخدوش ـ قيمية كانت أم أخلاقية- القاهرة للجسد في المقام الأول.
ولما كانت الطفولة، بما هي احتفاء فطري بالجسد العفوي، الجسد المنطلق والمتحرر من ثقل الترسبات القيمية، وطهرانية التصنيفات الذكورية، فإن غيابها ـ الطفولة ـ أو فقدانها، سيُحدث ألما كبيرا وجرحا غائرا في نفسية الشاعرة إيمان الخطابي، بالقدر نفسه الذي يُحدثه استحضار الذكريات المرتبطة بهذا الموضوع المفقود، في إطار نوستالجيا مازوشية لكائن (عيادي).
ولئن كان الانفصال عن الأصل، هو السبب المباشر للألم عند هيجل، كما أسلفنا، فإن الشاعرة ترى بأن التشبث بالأصل هو الذي يحدث ألما؛ تقول الشاعرة:
لا أمت لدمي
إلا بصلة الألم
ومع هذا أواظب
على مشقة الانتماء. ص8
والحق أن العين الفاحصة، ستجد أن الموقفين يتماهيان معا في العمق؛ إذ ليس الانتماء الذي تلوح به شاعرتنا سوى الطفولة، بجسدها العفوي، التي تفر منها باستمرار. إنها الهوية المفقودة، تلك التي كانت وراء هذا الألم، الذي هو ألم الانفصال عن التّخلُّق الأولي للكينونة؛ تقول الشاعرة في الصفحة 9:
ما زلت هناك
مشدودة إلى جذع الألم
يا وجه الندم
أرني كيف يكون غدي
لو أني لم أمدّ يدي
أستعطف الحب.
ثم تقول تيمة الغياب والفقدان هاته:
بلا أب
كأني عيسى
لكن
لا نبوءة بانتظاري. ص22
وإذن هو حنين للحب الأول، ولرعشة الجسد الأولى، بين يدين عاريتين ـ الحبيب أو الأب- إلا من الحلم تحت شجر يُسيل لعابه، شجر اسمه الطفولة. نقرأ في قصيدة «نوستالجيا»:
أجلس إلى شجر الطفولة
أتلمس كدمات الجذوع
وندوب الغصون
يا صبر الروح على الريح
أراجيح صبانا أدمت كتفيك يا الشجر
والتين لم يسلم في عرشه ولا الزيتون
رجمنا الهواء ورجمنا الثمر
وعذبنا الزيزفون
لم نكن ندرك حكمة الشمس ولا حكمة الظل
كنا نتلهى بقطف طفولتنا
فإذا الوقت يذبل في يدنا فجأة
وعمرنا يتوجس خيفة
من تجاعيد القدر. ص10
لقد كبرت شاعرتنا، وكبرت بداخلها امرأة حذرة جعلتها قاب بعد أو أقصى من طفولتها الهاربة، مخلفة بالداخل حريقا، جرحا، وألما، نقصد ـ دائما- ألم الانفصال عن البدايات الأولى:
امرأة هي جذري الأوحد
كلما هزني نرجس وبختني
خففي الوطء كي لا تميد بنا الأرض
واخفضي الحلم بقدر جناحيك
وبقدر الهواء في الرئة الناقصة. ص14
والمفارقة الكبيرة، كون الشاعرة الماتعة إيمان الخطابي، حتى وهي تهتبل فرصة طائشة لكي تتسلل إلى حدائق طفولتها، حيث الجسد في تخلقه الأول، وذلك عبر ثقوب ذاكرة شقية، يتربص بها الألم في مسرب العزلة والوحدة؛ تقول في ص17:
أيها الحزن
لا تفتك بي
مثلما فعل فرح كذاب
لا تتربص بي عند منعطفات الضعف
وتسلبني الضحكات الجديدة
وأنا متسللة إلى النسيان
وحيدة وخائفة.
ولعل من تبديات الألم في هذه الإضمامة الباذخة بلغتها المنشرحة، واشتراطاتها الجمالية القشيبة، نلفي إحساس الشاعرة بحالة الفقدان والانفصال الشعوري عن الواقع المعيش. فليس من شك، أن هذا الإحساس ولّد لديها شعورا فظيعا بالاغتراب، بسبب القهر المادي، وليس أقل من ذلك، القلق الميتافيزيقي والفراغ الروحي:
أرى فيما يرى الخائفون
أناسا يصعدون
أناسا ينزلون
ترتجف قدماي
وأهوي في فك الفراغ. ص28
وما من شك أن لهذا التمزق والقلق الناتجين عن إحساس الجسد بقهر الزمن وعنفه، وبثقل ترسبات الواقع باشتراطاته القيمية والخلقية، انعكاسا قويا على الممارسة الكتابية عند هذه الشاعرة المتميزة، بما «يخدم النص ويقويه ويجعله يتمايز عن الأنا الشعرية الصرف، ويحضر من ثم، كأنا شعرية اخرى، بأسئلة أكثر كونية، فنيا وأنطولوجيا» (حداثة النص الشعري ل ). لنتأمل هذا المقطع:
صحوت اليوم
وفي نيتي أن أطير
تفقّدت عدّتي
لم يكن بحوزتي
ما يكفي من حرية. ص36-37
إن الحرية كسؤال كوني، تتحول، عند الشاعرة، إلى جرح وألم؛ والجسد الخاضع للنظام الأبولوني، يتحول إلى عبء ثقيل وممل؛ تقول الشاعرة:
خذ عني هذا الجسد قليلا
لأخمد روحي. ص50
القيد الذي يكبل جسدي
يدمي نسغ الروح. ص50
في قفص تربى جسدي
فلم تذهب بعيدا روحي. ص51
وبهذا تكون الكتابة الشعرية، عند إيمان الخطابي، استحضارا للغياب، وترميما لذاكرة مثقوبة، وسردا لفقدان جاثم. إنها كتابة تنهض على الألم، ولا تني تنمو من دون انقطاع، على أنقاض كائن (عيادي)، مصاب بأعراض خطابات موحشة؛ هذا هو الخطاب الشعري الأصيل؛ خطاب لا تتم مباشرته إلا « داخل جرح ما «(دريدا).
صفوة القول إن تيمات، الطفولة، الجسد المتخلق، الحب الأول، الانتماء للأصل الغائب، الفقدان، تحضر بقوة في هذه الإضمامة الرائقة والشائقة، مجترحة بذلك، أفقا كونيا، ليس من شك، أنه يشكل أحد اشتراطات الحداثة المتقدمة، وما بعد الحداثة، ما دامت كلها تيمات تضع الإنسان خارج النظام الأبولوني، وفي قلب اللانظام الديونيزيسي بلغو نيتشه. أليس تمرد الشاعرة، في منجزها، قيد الدراسة، على صرامة العقل الحداثي، منذ العتبة الأولى (العنوان)، هو انتصار للجسد، وللحلم، وللاستيهامي، وللمنسي، ومن ثم أليست الخلفية الفلسفية التي استقوت بها شاعرتنا في بناء متخيلها الشعري لهذا الديوان، هي خلفية ما بعد حداثية؟
من المؤكد أن الشاعرة جمعت وألفت بين هذا وذاك، في وشيجة متوعّرة، بوعي فني ماكر، لا شك في ذلك، في البين- بين الفلسفي [أي الحداثة وما بعد الحداثة]، فاتحة بذلك أفقا شعريا خاصا بها؛ أفقا شعريا مضادا بكل المقاييس.
كاتب من المغرب
محمد الديهاجي
وبالنظر إلى هذه العلاقة، وإلى أن الشاعر الحقيقي، كما يقول جاك دريدا، هو من «يعرف كيف يترك الكلمة، يتركها تتكلم وحدها، وهو ما لا يمكنها القيام به إلا داخل الكتابة»، تلزم الإشارة إلى أن الشاعرة إيمان الخطابي، من خلال إضمامتها، قيد المداعبة، «حمالة الجسد»(منشورات بيت الشعر)، تحضر في تضاعيف عوالمها كذات رافضة وجاحدة بكل الخدوش ـ قيمية كانت أم أخلاقية- القاهرة للجسد في المقام الأول.
ولما كانت الطفولة، بما هي احتفاء فطري بالجسد العفوي، الجسد المنطلق والمتحرر من ثقل الترسبات القيمية، وطهرانية التصنيفات الذكورية، فإن غيابها ـ الطفولة ـ أو فقدانها، سيُحدث ألما كبيرا وجرحا غائرا في نفسية الشاعرة إيمان الخطابي، بالقدر نفسه الذي يُحدثه استحضار الذكريات المرتبطة بهذا الموضوع المفقود، في إطار نوستالجيا مازوشية لكائن (عيادي).
ولئن كان الانفصال عن الأصل، هو السبب المباشر للألم عند هيجل، كما أسلفنا، فإن الشاعرة ترى بأن التشبث بالأصل هو الذي يحدث ألما؛ تقول الشاعرة:
لا أمت لدمي
إلا بصلة الألم
ومع هذا أواظب
على مشقة الانتماء. ص8
والحق أن العين الفاحصة، ستجد أن الموقفين يتماهيان معا في العمق؛ إذ ليس الانتماء الذي تلوح به شاعرتنا سوى الطفولة، بجسدها العفوي، التي تفر منها باستمرار. إنها الهوية المفقودة، تلك التي كانت وراء هذا الألم، الذي هو ألم الانفصال عن التّخلُّق الأولي للكينونة؛ تقول الشاعرة في الصفحة 9:
ما زلت هناك
مشدودة إلى جذع الألم
يا وجه الندم
أرني كيف يكون غدي
لو أني لم أمدّ يدي
أستعطف الحب.
ثم تقول تيمة الغياب والفقدان هاته:
بلا أب
كأني عيسى
لكن
لا نبوءة بانتظاري. ص22
وإذن هو حنين للحب الأول، ولرعشة الجسد الأولى، بين يدين عاريتين ـ الحبيب أو الأب- إلا من الحلم تحت شجر يُسيل لعابه، شجر اسمه الطفولة. نقرأ في قصيدة «نوستالجيا»:
أجلس إلى شجر الطفولة
أتلمس كدمات الجذوع
وندوب الغصون
يا صبر الروح على الريح
أراجيح صبانا أدمت كتفيك يا الشجر
والتين لم يسلم في عرشه ولا الزيتون
رجمنا الهواء ورجمنا الثمر
وعذبنا الزيزفون
لم نكن ندرك حكمة الشمس ولا حكمة الظل
كنا نتلهى بقطف طفولتنا
فإذا الوقت يذبل في يدنا فجأة
وعمرنا يتوجس خيفة
من تجاعيد القدر. ص10
لقد كبرت شاعرتنا، وكبرت بداخلها امرأة حذرة جعلتها قاب بعد أو أقصى من طفولتها الهاربة، مخلفة بالداخل حريقا، جرحا، وألما، نقصد ـ دائما- ألم الانفصال عن البدايات الأولى:
امرأة هي جذري الأوحد
كلما هزني نرجس وبختني
خففي الوطء كي لا تميد بنا الأرض
واخفضي الحلم بقدر جناحيك
وبقدر الهواء في الرئة الناقصة. ص14
والمفارقة الكبيرة، كون الشاعرة الماتعة إيمان الخطابي، حتى وهي تهتبل فرصة طائشة لكي تتسلل إلى حدائق طفولتها، حيث الجسد في تخلقه الأول، وذلك عبر ثقوب ذاكرة شقية، يتربص بها الألم في مسرب العزلة والوحدة؛ تقول في ص17:
أيها الحزن
لا تفتك بي
مثلما فعل فرح كذاب
لا تتربص بي عند منعطفات الضعف
وتسلبني الضحكات الجديدة
وأنا متسللة إلى النسيان
وحيدة وخائفة.
ولعل من تبديات الألم في هذه الإضمامة الباذخة بلغتها المنشرحة، واشتراطاتها الجمالية القشيبة، نلفي إحساس الشاعرة بحالة الفقدان والانفصال الشعوري عن الواقع المعيش. فليس من شك، أن هذا الإحساس ولّد لديها شعورا فظيعا بالاغتراب، بسبب القهر المادي، وليس أقل من ذلك، القلق الميتافيزيقي والفراغ الروحي:
أرى فيما يرى الخائفون
أناسا يصعدون
أناسا ينزلون
ترتجف قدماي
وأهوي في فك الفراغ. ص28
وما من شك أن لهذا التمزق والقلق الناتجين عن إحساس الجسد بقهر الزمن وعنفه، وبثقل ترسبات الواقع باشتراطاته القيمية والخلقية، انعكاسا قويا على الممارسة الكتابية عند هذه الشاعرة المتميزة، بما «يخدم النص ويقويه ويجعله يتمايز عن الأنا الشعرية الصرف، ويحضر من ثم، كأنا شعرية اخرى، بأسئلة أكثر كونية، فنيا وأنطولوجيا» (حداثة النص الشعري ل ). لنتأمل هذا المقطع:
صحوت اليوم
وفي نيتي أن أطير
تفقّدت عدّتي
لم يكن بحوزتي
ما يكفي من حرية. ص36-37
إن الحرية كسؤال كوني، تتحول، عند الشاعرة، إلى جرح وألم؛ والجسد الخاضع للنظام الأبولوني، يتحول إلى عبء ثقيل وممل؛ تقول الشاعرة:
خذ عني هذا الجسد قليلا
لأخمد روحي. ص50
القيد الذي يكبل جسدي
يدمي نسغ الروح. ص50
في قفص تربى جسدي
فلم تذهب بعيدا روحي. ص51
وبهذا تكون الكتابة الشعرية، عند إيمان الخطابي، استحضارا للغياب، وترميما لذاكرة مثقوبة، وسردا لفقدان جاثم. إنها كتابة تنهض على الألم، ولا تني تنمو من دون انقطاع، على أنقاض كائن (عيادي)، مصاب بأعراض خطابات موحشة؛ هذا هو الخطاب الشعري الأصيل؛ خطاب لا تتم مباشرته إلا « داخل جرح ما «(دريدا).
صفوة القول إن تيمات، الطفولة، الجسد المتخلق، الحب الأول، الانتماء للأصل الغائب، الفقدان، تحضر بقوة في هذه الإضمامة الرائقة والشائقة، مجترحة بذلك، أفقا كونيا، ليس من شك، أنه يشكل أحد اشتراطات الحداثة المتقدمة، وما بعد الحداثة، ما دامت كلها تيمات تضع الإنسان خارج النظام الأبولوني، وفي قلب اللانظام الديونيزيسي بلغو نيتشه. أليس تمرد الشاعرة، في منجزها، قيد الدراسة، على صرامة العقل الحداثي، منذ العتبة الأولى (العنوان)، هو انتصار للجسد، وللحلم، وللاستيهامي، وللمنسي، ومن ثم أليست الخلفية الفلسفية التي استقوت بها شاعرتنا في بناء متخيلها الشعري لهذا الديوان، هي خلفية ما بعد حداثية؟
من المؤكد أن الشاعرة جمعت وألفت بين هذا وذاك، في وشيجة متوعّرة، بوعي فني ماكر، لا شك في ذلك، في البين- بين الفلسفي [أي الحداثة وما بعد الحداثة]، فاتحة بذلك أفقا شعريا خاصا بها؛ أفقا شعريا مضادا بكل المقاييس.
كاتب من المغرب
محمد الديهاجي