في زمن الخليفة هشام بن عبد الملك، وفي صبيحة عيد الأضحى اعتلى المنبر «خالد بن عبد الله القسري»، والي الكوفة، وبعد أن أنهى خطبته قال: «أيها الناس ضحُّوا، تقبل الله أُضحياتكم، فإني مُضحٍّ بالجعد بن درهم» (الجعد بن درهم لم يكن خروفاً، بل كان إنساناً!) وبالفعل، نزل الوالي عن المنبر وحمل سيفه وذبح الرجل في المسجد وأمام جموع المصلين.
أما جريمة «ابن درهم»، فكانت قوله بتنزيه الله سبحانه عن الصفات الآدمية، ورفضه للتجسيم للذات الإلهية، أي نفيه أنَّ لله يداً مثل أيدي البشر.. وكان «نصر بن سيار» والي الأمويين في خراسان، قد قتل «جهم بن صفوان» تلميذ ابن درهم، بحجة قوله أن الله لم يكلم موسى بلسانه.
كما أمر هشام باعتقال «غيلان الدمشقي»، وأعدّ له محكمة صورية في دمشق، أمرت بإعدامه، ويُقال أنَّ هشاماً قطع يد غيلان بالسيف، ثم قطع رجله وتركه ينزف، وفي اليوم التالي، أرسل له من يشمت به: «أرأيت كيف كتب الله عليك قدره، فهل ما زلت تنكر قدره؟»؛ فصرخ غيلان: «ويحك.. وهل أتهم ربي؟ إنما أتهم هشاماً وأعوانه من الظلمة»، فأمر هشام بصلبه في ساحة عامة.
أما جريمته فكانت اعتراضه على تبرير مظالم الحجاج، ورفضه التسليم بأنها قدر الله وقضاؤه، وقوله بأنها مظالم من الحاكم، ولا يجوز تبريرها.. أي أنه أنكر الاستخدام السياسي لعقيدة القدر التي كان الخلفاء الأمويون يروّجون لها: «ما أصابكم هو قدر الله، وأنَّ حكمهم هم أمرُ الله وقدره، وأن عليكم أن تسمعوا وتطيعوا..» وأيضاً، كان الحجّاج قد صلب معلم غيلان «معبد الجهني»، أول صحابي تحدث بموضوع القدر.
وبعد معركة الزاب التي انتصر فيها العباسيون على الأمويين، بحث الجند عن «عبد الحميد بن يحيى» كاتب الدولة الأموية، الذي فر منهم، واختبأ في بيت عبد الله بن المقفع، لكن جند العباسيين عثروا عليه، واقتادوه للإعدام.
وجريمة عبد الحميد أنه كان كاتب الخليفة مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين. ولم يشفع له أنه أسس فن الرسائل وجعل منها أدباً حقيقياً، وأول من استخدم التحميدات بعد البَسمَلة، وأمهر من استخدم الترادف والمحسنات اللغوية، والتأنق في اختيار المفردات، وصاحب الفضل في نهضة النثر في العصر الأموي.
وفي زمن أبي جعفر المنصور، جلب «سفيان بن معاوية»، والي البصرة، «عبد الله بن المقفع»، وأمر بقتله بطريقة وحشية، فقطع يده وألقاها في التنور، وأجبره على أكل جزء منها، ثم أجهز عليه.
أما جريمته فكانت كتابه الأشهر «كليلة ودمنة»، وهو مجموعة من القصص تدور على ألسنة الحيوانات يحكيها الفيلسوف بيدبا للملك دبشليم، ويبث من خلالها آراءه السياسية في المنهج القويم للحُكْم، وينتقد بها مظالم الحكام.. والتي رأى الوالي أنه يقصد بها الخليفة.. وقيل أيضاً أن سبب قتله رسالة منسوبة إليه دعا فيها إلى خلع الخليفة.
وبعد وفاة هارون الرشيد، قامت حرب أهلية بين ابنيه الأمين والمأمون، دامت أربع سنوات، وقُتل فيها خلق كثير، وانتهت بقتل المأمون لأخيه الأمين، ومن بعدها شهدت البلاد فترة من السلام والرخاء والازدهار.. مثلت العصر الذهبي للحضارة الإسلامية.. ومع ذلك..جلب الخليفة المأمون الفقيه أحمد بن حنبل، وأمر بحبسه وجلده، وقد ظل ابن حنبل في سجنه حتى مات المأمون، واستمر سجنه في عهد المعتصم، الذي أمر بتعذيبه، فكان يُضرب بالسياط حتى يُغمى عليه، ويُنخس بالسيف فلا يحس، وبعد ثمانية وعشرين شهراً أُطلق سراحه وأُعيد إلي بيته مثخناً بالجراح.. وبعد وفاة «المعتصم» فرض عليه «الواثق» إقامة جبرية، ومنعه من الاجتماع بالناس، وألا يخرج إلى صلاة ولا لغيرها، حتى مات «الواثق»، وجاء من بعده «المتوكل» الذي أفرج عنه، وقربه منه.
لم يكن ابن حنبل وحده من تعذب وأهين وسُجن بسبب ما عُرف حينها بمحنة خلق القرآن، فقد مات الفقيه يوسف بن يحيى البويطي، ونعيم بن حماد في سجون الواثق، وتحت وطأة التعذيب.
والتهمة التي وُجهت إلى هؤلاء الفقهاء قولهم بأن القرآن أزلي وليس مخلوقاً.. وهي عكس التهمة التي ستوجه إلى فقهاء المعتزلة في زمن المتوكل، وبقية الخلفاء من بعده، أي تهمة القول بأن القرآن مخلوق وليس أزلياً.
وفي زمن الخليفة المقتدر عُقدت محكمة صورية للشاعر الصوفي «الحلاج»، أمرت بجلده ألف جلدة، ثم قطع يده ورجله من خلاف، ثم قطع رأسه وحرق جسده حتى لا يبقى له أثر، ولا يتحول قبره إلى مقام..
والتهمة التي أسندت للحلاج قوله «أنا الحق»، وفي الحقيقة كان سبب قتله مناصرته لثورتي الزنج والقرامطة ضد طغيان السلطة.
وفي عهد الناصر صلاح الدين الأيوبي، تجمع مشايخ حلب ورفعوا شكوى للسلطان مفادها أن الشاعر المتصوف «السهروردي»، يفتن الناس عن عقيدتهم بسبب أفكاره وضلاله، وطالبوا بإباحة دمه، فأمر الأيوبي بسجنه في القلعة وتركه حتى يهلك جوعاً وعطشاً، ويُقال أنه مات خنقاً وهو في الـ38 من عمره.
وجريمة «السهروردي» تأليفه كتباً في التصوف والسيمياء، منها «حكمة الإشراق»، و»بستان القلوب»، وترجمته لأعمال ابن سينا من العربية إلى الفارسية.
ما تقدم مجرد أمثلة من التاريخ موثقة في كتب التراث، ويمكن اعتبارها نماذج تبين كيف كانت تُدار الخلافات بين أصحاب الفكر وأصحاب السلطة.. واللافت أن الأمثلة المذكورة تتعلق فقط بالخلافات حول أمور فقهية وعقائدية، وأطرافُ الخلاف فقهاء ومتصوفون مسلمون.. أي أنني لم أذكر أمثلة للخلافات مع مفكرين وأدباء وعلماء نُسبت إليهم تهم الزندقة والإلحاد، أو الفسق والمجون.. والذين إما قُتِلوا، أو عُذِبوا، أو تم نفيهم، وإحراق كتبهم، وتكفيرهم.. وأيضاً دون ذكر الخلافات التي كانت سرعان ما تتحول إلى صراعات دموية.
ما هو جدير بالتبصر، كيف كان يتم تحويل الخلافات ذات النزعة البشرية إلى خلافات دينية، أي الخلافات التي سببها الحقيقي اقتصادي، مادي، قبلي، شخصي.. ثم يتم إضفاء الصبغة الدينية عليها.. والأغرب من ذلك التحولات والانقلابات في المواقف، خاصة من قبل رجال الدين، وبأوامر من السلطان.. وهنا مثلاً يتحول علي بن أبي طالب من إمام وخليفة وسبط للنبي.. إلى قاتل يتم شتمه وصب اللعنات عليه من فوق المنابر.. ويتحول فقهاء المعتزلة إلى زنادقة، ويتم حرق كتبهم ولعنهم.. كما كان يفعل المعتزلة بأتباع ابن حنبل.. وكما فعل ابن تيمية ونظام الملك والغزالي بالفلاسفة وعلماء الكلام..
ما كان يجري حقيقة، عبارة عن تحالف خفي أحياناً، ومعلن في أغلب الأحيان بين الفقهاء والسلطان، فيتم صياغة وتشكيل مفهوم مغاير للدين، وتأويل للنصوص بحسب ما تقتضيه مصلحة التحالف، وما يريده الطرف المنتصر.. وهذه الصورة ما زالت ماثلة أمامنا حتى وقتنا الراهن.. وبنفس الكيفية.. ومن أراد رؤيتها عليه متابعة تصريحات وفتاوى الفقهاء وأقطاب الإسلام السياسي، وطبيعة الخلافات في مجتمعاتنا، وعلاقة ذلك كله بالأنظمة المستبدة.
عبد الغني سلامة
2023-03-01
أما جريمة «ابن درهم»، فكانت قوله بتنزيه الله سبحانه عن الصفات الآدمية، ورفضه للتجسيم للذات الإلهية، أي نفيه أنَّ لله يداً مثل أيدي البشر.. وكان «نصر بن سيار» والي الأمويين في خراسان، قد قتل «جهم بن صفوان» تلميذ ابن درهم، بحجة قوله أن الله لم يكلم موسى بلسانه.
كما أمر هشام باعتقال «غيلان الدمشقي»، وأعدّ له محكمة صورية في دمشق، أمرت بإعدامه، ويُقال أنَّ هشاماً قطع يد غيلان بالسيف، ثم قطع رجله وتركه ينزف، وفي اليوم التالي، أرسل له من يشمت به: «أرأيت كيف كتب الله عليك قدره، فهل ما زلت تنكر قدره؟»؛ فصرخ غيلان: «ويحك.. وهل أتهم ربي؟ إنما أتهم هشاماً وأعوانه من الظلمة»، فأمر هشام بصلبه في ساحة عامة.
أما جريمته فكانت اعتراضه على تبرير مظالم الحجاج، ورفضه التسليم بأنها قدر الله وقضاؤه، وقوله بأنها مظالم من الحاكم، ولا يجوز تبريرها.. أي أنه أنكر الاستخدام السياسي لعقيدة القدر التي كان الخلفاء الأمويون يروّجون لها: «ما أصابكم هو قدر الله، وأنَّ حكمهم هم أمرُ الله وقدره، وأن عليكم أن تسمعوا وتطيعوا..» وأيضاً، كان الحجّاج قد صلب معلم غيلان «معبد الجهني»، أول صحابي تحدث بموضوع القدر.
وبعد معركة الزاب التي انتصر فيها العباسيون على الأمويين، بحث الجند عن «عبد الحميد بن يحيى» كاتب الدولة الأموية، الذي فر منهم، واختبأ في بيت عبد الله بن المقفع، لكن جند العباسيين عثروا عليه، واقتادوه للإعدام.
وجريمة عبد الحميد أنه كان كاتب الخليفة مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين. ولم يشفع له أنه أسس فن الرسائل وجعل منها أدباً حقيقياً، وأول من استخدم التحميدات بعد البَسمَلة، وأمهر من استخدم الترادف والمحسنات اللغوية، والتأنق في اختيار المفردات، وصاحب الفضل في نهضة النثر في العصر الأموي.
وفي زمن أبي جعفر المنصور، جلب «سفيان بن معاوية»، والي البصرة، «عبد الله بن المقفع»، وأمر بقتله بطريقة وحشية، فقطع يده وألقاها في التنور، وأجبره على أكل جزء منها، ثم أجهز عليه.
أما جريمته فكانت كتابه الأشهر «كليلة ودمنة»، وهو مجموعة من القصص تدور على ألسنة الحيوانات يحكيها الفيلسوف بيدبا للملك دبشليم، ويبث من خلالها آراءه السياسية في المنهج القويم للحُكْم، وينتقد بها مظالم الحكام.. والتي رأى الوالي أنه يقصد بها الخليفة.. وقيل أيضاً أن سبب قتله رسالة منسوبة إليه دعا فيها إلى خلع الخليفة.
وبعد وفاة هارون الرشيد، قامت حرب أهلية بين ابنيه الأمين والمأمون، دامت أربع سنوات، وقُتل فيها خلق كثير، وانتهت بقتل المأمون لأخيه الأمين، ومن بعدها شهدت البلاد فترة من السلام والرخاء والازدهار.. مثلت العصر الذهبي للحضارة الإسلامية.. ومع ذلك..جلب الخليفة المأمون الفقيه أحمد بن حنبل، وأمر بحبسه وجلده، وقد ظل ابن حنبل في سجنه حتى مات المأمون، واستمر سجنه في عهد المعتصم، الذي أمر بتعذيبه، فكان يُضرب بالسياط حتى يُغمى عليه، ويُنخس بالسيف فلا يحس، وبعد ثمانية وعشرين شهراً أُطلق سراحه وأُعيد إلي بيته مثخناً بالجراح.. وبعد وفاة «المعتصم» فرض عليه «الواثق» إقامة جبرية، ومنعه من الاجتماع بالناس، وألا يخرج إلى صلاة ولا لغيرها، حتى مات «الواثق»، وجاء من بعده «المتوكل» الذي أفرج عنه، وقربه منه.
لم يكن ابن حنبل وحده من تعذب وأهين وسُجن بسبب ما عُرف حينها بمحنة خلق القرآن، فقد مات الفقيه يوسف بن يحيى البويطي، ونعيم بن حماد في سجون الواثق، وتحت وطأة التعذيب.
والتهمة التي وُجهت إلى هؤلاء الفقهاء قولهم بأن القرآن أزلي وليس مخلوقاً.. وهي عكس التهمة التي ستوجه إلى فقهاء المعتزلة في زمن المتوكل، وبقية الخلفاء من بعده، أي تهمة القول بأن القرآن مخلوق وليس أزلياً.
وفي زمن الخليفة المقتدر عُقدت محكمة صورية للشاعر الصوفي «الحلاج»، أمرت بجلده ألف جلدة، ثم قطع يده ورجله من خلاف، ثم قطع رأسه وحرق جسده حتى لا يبقى له أثر، ولا يتحول قبره إلى مقام..
والتهمة التي أسندت للحلاج قوله «أنا الحق»، وفي الحقيقة كان سبب قتله مناصرته لثورتي الزنج والقرامطة ضد طغيان السلطة.
وفي عهد الناصر صلاح الدين الأيوبي، تجمع مشايخ حلب ورفعوا شكوى للسلطان مفادها أن الشاعر المتصوف «السهروردي»، يفتن الناس عن عقيدتهم بسبب أفكاره وضلاله، وطالبوا بإباحة دمه، فأمر الأيوبي بسجنه في القلعة وتركه حتى يهلك جوعاً وعطشاً، ويُقال أنه مات خنقاً وهو في الـ38 من عمره.
وجريمة «السهروردي» تأليفه كتباً في التصوف والسيمياء، منها «حكمة الإشراق»، و»بستان القلوب»، وترجمته لأعمال ابن سينا من العربية إلى الفارسية.
ما تقدم مجرد أمثلة من التاريخ موثقة في كتب التراث، ويمكن اعتبارها نماذج تبين كيف كانت تُدار الخلافات بين أصحاب الفكر وأصحاب السلطة.. واللافت أن الأمثلة المذكورة تتعلق فقط بالخلافات حول أمور فقهية وعقائدية، وأطرافُ الخلاف فقهاء ومتصوفون مسلمون.. أي أنني لم أذكر أمثلة للخلافات مع مفكرين وأدباء وعلماء نُسبت إليهم تهم الزندقة والإلحاد، أو الفسق والمجون.. والذين إما قُتِلوا، أو عُذِبوا، أو تم نفيهم، وإحراق كتبهم، وتكفيرهم.. وأيضاً دون ذكر الخلافات التي كانت سرعان ما تتحول إلى صراعات دموية.
ما هو جدير بالتبصر، كيف كان يتم تحويل الخلافات ذات النزعة البشرية إلى خلافات دينية، أي الخلافات التي سببها الحقيقي اقتصادي، مادي، قبلي، شخصي.. ثم يتم إضفاء الصبغة الدينية عليها.. والأغرب من ذلك التحولات والانقلابات في المواقف، خاصة من قبل رجال الدين، وبأوامر من السلطان.. وهنا مثلاً يتحول علي بن أبي طالب من إمام وخليفة وسبط للنبي.. إلى قاتل يتم شتمه وصب اللعنات عليه من فوق المنابر.. ويتحول فقهاء المعتزلة إلى زنادقة، ويتم حرق كتبهم ولعنهم.. كما كان يفعل المعتزلة بأتباع ابن حنبل.. وكما فعل ابن تيمية ونظام الملك والغزالي بالفلاسفة وعلماء الكلام..
ما كان يجري حقيقة، عبارة عن تحالف خفي أحياناً، ومعلن في أغلب الأحيان بين الفقهاء والسلطان، فيتم صياغة وتشكيل مفهوم مغاير للدين، وتأويل للنصوص بحسب ما تقتضيه مصلحة التحالف، وما يريده الطرف المنتصر.. وهذه الصورة ما زالت ماثلة أمامنا حتى وقتنا الراهن.. وبنفس الكيفية.. ومن أراد رؤيتها عليه متابعة تصريحات وفتاوى الفقهاء وأقطاب الإسلام السياسي، وطبيعة الخلافات في مجتمعاتنا، وعلاقة ذلك كله بالأنظمة المستبدة.
عبد الغني سلامة
2023-03-01