لا أخفي عليكم أن هذا السؤالَ خامرني ويُخامرني منذ مدة. بل إنه سؤالٌ مٌحَيِّرٌ جعلني أطرح على نفسي بعض التَّساؤلات. من بين هذه التساؤلات، كنتُ ولا أزال أتساءل : "هل في القرآن الكريم إشاراتٌ تَحُثُّ الإنسان على القيام بالبحث والتنقيب، وخصوصا أن اللهَ سبحانه وتعالى أوصى هذا الإنسانَ بإعمار الأرض انطلاقا مما سخَّره له جلَّ عُلاه من خيرات في هذه الأرض وفي السماء؟ وهنا، لابدَّ من التَّذكير أن القرآنَ الكريم، ولو نزل على الرسول والنبي محمد (ص) بلغة العرب الذين كانوا يُعمِّرون الجزيرة العربية، فإنه موجَّهٌ للبشرية جمعاء مصداقا لقوله سبحانه وتعالى :
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ ... (البقرة، 185)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (الإسراء، 89)
وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا (الإسراء، 106)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (سبأ، 28).
ما يثير الانتباهَ في هذه الآيات الأربعة هي كلمة "ناس". الآيات الثلاثة الأولى تبيٍّن أن القرآنَ موجَّهٌ للناس جميعا. وهو الشيء الذي تؤكِّده الآية الرابعة التي تبيِّن أن الرسولَ محمد (ص) أُرسِلَ للناس كافةً وهو الذي سيبلِّغ ما جاء به القرآنُ لهؤلاء الناس. فحينما قلتُ : "إشاراتٌ تَحُثُّ الإنسان"، فالمقصود بالإنسان هم الناس جميعا بغض النَّظر عن كونهم مسلمين أو غير مسلمين.
يقول الحقُّ سبحانه وتعالى: "...هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ… (هود، 61). في هذه الآية الكريمة، دعا اللهُ جلَّ عُلاه، من خلال نبيه صالح عليه السلام، قومَ ثمود إلى عبادته، كما دعاهم إلى إعمار الأرض معتمدين على ما سخَّره اللهُُ لهم من خيرات. واللهُ سبحانه وتعالى خاطب قومَ ثمود بصفتهم بشرٌ. وهذا يعني أن إعمارَ الأرض ليس حكرا على هذا القوم، بل إعمارُ الأرض من مهام البشر كلهم. السؤال الذي يفرض نفسَه هنا هو : "كيف سيُعمِّر البشرُ الارضَ؟
بكل بساطةٍ وكجواب على هذا السؤال، يأتي دورُ العقل الذي ميَّز به اللهُ، سبحانه وتعالى، بني آدم على سائر المخلوقات. والعقل هو الذي يُوفِّر للإنسان التفكيرَ والذكاء وكلَّ ما من شأنه أن يُسهِّلَ تفاعلَه مع الوسط الذي يعيش فيه. وهذا التفاعلُ هو الذي يُثيرُ فضولَ التَّعرُّف على الوسط وعلى ما يزخر به من خيرات.
ولا داعيَ للقول أن تفاعلَ الإنسان مع الوسط الذي يعيش فيه، إن كان يعتمد على الفِطرة والغريزة، في بداية وجود هذا الإنسان على سطح الأرض، فإن هذا التَّفاعلَ تطوَّر، عبر الزمان والمكان، إلى أن أصبح يعتمد على منهجية فكرية أساسُها الملاحظة observation وصياغة الفرضيات formulation des hypothèses وعلى التَّجريب expérimentation للوصول إلى نتائج résultats يتمُّ تفسيرها أو تأويلُها interprétation للوصول إلى استنتاج conclusion يقود إلى إنتاج معارف ونظريات جديدة أو إلى تأكيد ما سبق إنتاجُه من معارف ونظرات.
هذا هو عملُ الباحث الذي يتلخَّص في إنتاج المعرفة. والمعرفة يمكن أن تتحوَّل إلى أفكار تنير طريقَ الإنسان نحو إعمار الأرض. كما يمكن أن يُحوِّلَها العقلُ البشري إلى وسائل مادية تُسهِّل هذا الإعمارَ. السؤال الذي يجب طرحُه هنا هو : هل اللهُ سبحانه وتعالى بيَّن مراحل إنتاج المعرفة في كتابه العزيز؟
الجواب هو لا، وأبدا لا. لماذا؟ لأن القرآن الكريم ليس كتابَ علوم بالمفهوم الدنيوي. إنه كتاب هداية وإرشاد وموعظة وتوجيه العباد إلى ما لهم فيه خيرٌ… لكن القرآنَ الكريم يحتوي على إشارات، وأقول وأكرِّرُ إشارات لبعض الظواهر الطبيعية، البيولوجية والفزيائية على الخصوص. يمكن أن نفرأَ القرآنَ الكريمَ، من ألفه إلى يائه، لن نجدَ فيه ولو نطريةً واحدةً مفسَّرة ومُفصَّلة كما فسَّرتها وفصَّلتها العلوم الدُّنيوية مثل الجاذبية pesanteur، النَّظرية الذرية théorie atomique، تباعد أو انجراف القارات dérive des continents، النسبية relativité…
ومن جهة أخرى، تجدر الإشارةُ إلى أن الباحثَ، حينما يكون منهمكا في البحث في موضوع ما، فإنه لا يعرف شيئا عن هذا الموضوع أو يكاد. فمهمتُه هي إنتاج معرفة جديدة لتوضيح ما هو بصدد البحث فيه. بينما اللهُ سبحانه وتعالى لا يبحث. اللهُ جلَّ علاه يحيط بكل شيء علما. وهو على كل شيء قدير. وهو مُبدعُ الكون وخالقُ كل شيء. والدليل على ذلك أن كلمةَ "بحث" توجد في آية واحدة من القرآن الكريم وهي الآية 31 من سورة المائدة : "فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ…". وفعل "يبحث" مستعملٌ في هذه الآية ليس بالمدلول المتعارف عليه كبحثٍ عن المعرفة. معناه، في الآية، النَّبشُ في التراب بالمنقار لإحداث حفرةٍ في هذا التراب (قصة قابيل وهابيل أبناء آدم عليه السلام).
وحتى المفردات أو الكلمات المستعملة في منهجية البحث البشري لا أثرَ لها في القرآن الكريم. لماذا؟ أولا، لأن القرآنَ الكريمَ، كما سبق الذكرُ، ليس كتابَ علوم بالمفهوم الدُّنيوي. ثانيا، لأن اللهً سبحانه وتعالى يُحيط بعلمه كلَّ شيء، ولا يبحث ولا يفترض ولا يُجرِّب ولا يستنتج. ثالثا، الله على كل شيءٍ قدير، يخلق ما يشاء ويفعل ما يريد مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (يس، 72). وهذا هو ما نلمسه عندما نطَّلع على أسماء اللهِ الحسني. إنه هو الخالق، أي المبدع لخلقه بإرادته. وهو المصوّر، أي الذي أعطى لكل خلق صورة خاصة. وهو العليم، أي المحيط علمُه بكل شيء. وهو الخبير، أي العالم بكل شيء باطن أو ظاهر. وهو الحق، أي خالق كل شيء بحكمة. وهو القادر، أي المنفرد باختراع الموجودات.
لكن، هل عدمُ الإشارة، في القرآن الكريم، لكل ما له علاقة بالبحث بمفهومه الدنيوي، يعني أن اللهَ سبحانه وتعالى لا يدعو الإنسانَ للإنشغال بالبحث والتنقيب؟ هذا ما سنراه في الفقرات الموالية.
أولا، يجب أن لا ننسى أن اللهَ ميَّز الإنسان على سائر مخلوقاته بالعقل. والعقل هو أحسن وأرقى وأفضل وأسمى نِعمةٍ من الله للإنسان. بالعقل، الإنسانُ يعبد ربَّه العظيم. بالعقل، الإنسانُ يسير في الطبيعة ويتأمَّل في مكوِّناتها (جماد، كائنات حية، جو، بحر…) ويكتشف، من خلال فضوله curiosité أسرارَها. والمقصود هنا ب"فضول" ليس الفضول الذي يدفع الناسَ للتَّدخّلِ فيما لا يعنيهم للإطلاع على أسرار الغير وجعلها موضوعَ نميمة وتطيُّر واغتياب... المقصود ب"فضول" هي تلك الملَكَة التي تُولِّد عند الناسَ الرغبةَ والشغفَ في التَّعرُّف على الأشياء أو إلى التَّعلُّم وحب الاطلاع والاكتشاف والادراك والبحث عن المعرفة وعن الجديد. والفضول، بهذا المعنى، يتطلَّب دقةَ الملاحظة ويحتاج إلى التَّحليل analyse…
ثانيا، هناك إشارةُ مهمَّةٌ، في القرآن الكريم، يجب أن ننتبهَ لها. تتمثَّل هذه الإشارةُ فيما أراده اللهُ سبحانه وتعالى، في كتابه العزيز، حيث بعض الكلمات مستعملة بمعناها الواسع أو العام sens générique. وبعبارةٍ أوضح، الكلمات ذات المعنى الواسع تُطلَق على فئةٍ من الأشياء (جماد أو كائن حي) تنتمي لنفسُ الجنس genre. لكنها إذا أُخِذت على حدة، تصبح لها خاصياتٌ تميِّزها عن الأشياء الأخرى. مثلاً، عندما نقول "نخل" أو "نمل" أو "نحل"، فالأمرُ يتعلَّق بتسمياتٍ تضمُّ جميعَ أنواع النخل والنمل والنحل.
والكلمات من هذا النوع وارِدةٌ بكثرة في القرآن الكريم. من بينها مثلاً : "خير"، "فساد"، "دابة"، "نبات"، "طين"، "طير"، "نِعمة"، "رزقٌ"، "شجر"، "ثمرة"... وعلى رأسِها كلمة "شيء". والقرآن الكريم لم يبيِّن بالتَّفصيل وبالتَّسميات ما هي أنواعُ الخير والفساد والدواب والنبات والطين و… أما كلمة "شيء"، فتشمل كل ما هو موجود على/في سطح الأرض. والشيء يمكن أن يكون ماديا جامدا أو ماديا حيا. كما يمكن أن يكونَ الشيءُ معنويا، أي لا يوجد إلا على مستوى الفكر. وللإشارة، فإن كلمةَ "شيء" توجد في أكثر من 190 آية من القرآن الكريم. فما هو المقصود من وجود كلمات واسعة المعنى في القرآن الكريم وما المقصود من وجود كلمة "شيء" بكثرة في نفس القرآن الكريم؟ وهنا، لرفع كل التباس، أقول أنهَ ليس بعزيزٍ على اللهِ سبحانه وتعالى أن يفصِّلَ أنواعَ كل شيء مادام هو خالِق كل الأشياء. فلا بدَّ أن يكونَ من وراء عدم الدخول في تفاصيل الكلمات الواسعة المعنى، حِكمةٌ.
قبل الإجابة على هذا السؤال، أريد أن أذكِّرَ :
1.بأن اللهَ سبحانه وتعالى يدعونا لنتدبَّرَ في آيات القرآن الكريم. وفعل "تدبَّرَ" في شيء ما أو في الأمرِ، يعني أمعَنَ التفكيرَ والتَّأمُّلَ فيه. وبعبارة أخرى، البحثَ فيه بتبصُّرٍ سعيا إلى الوصول إلى معاني قد لا تكون واضحةً للباحث في أول وهلة. يقول الحق سبحانه وتعالى: "أفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا" (النساء، 82). كما يقول سبحانه وتعالى : "أفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" (محمد، 24).
2.كما أريد أن أذكِّرَ أن اللهَ سبحانه وتعالى فضَّلَ الإنسانَ بالعقل على جميع مخلوقاتِه. والعقل هو الذي يجعل من الإنسان شخصا فضوليا باحثا عن المعرفة. فحينما يلتقي التَّدبُّرُ والفضولُ المعرفي، يتَّضِح للباحث ما المقصود من وُرودِ كلمات واسعة المعنى وعلى رأسها كلمة "شيء" التي هي أوسع وأشمًل معنىً.
بعد هذين التَّوضيحين، أصبح من الممكن أن أجيبَ على السؤال المطروح أعلاه (فما هو المقصود من وجود كلمات واسعة المعنى في القرآن الكريم وما المقصود من وجود كلمة "شيء" بكثرة في نفس القرآن الكريم؟)
الجواب، حسب رأيي الشخصي، هو فتحُ الباب واسعا ليقومَ الإنسانُ بأبحأثٍ للوصول إلى ما يمكن إدراجُه في "الكلمات الواسعة المعنى" من المكوٍّنات، المادية والمعنوية، التي هي من الأشياء التي خَلَقَها اللهُ على وجه الأرض. ولهذا، فإن اللهَ سبحانه وتعالى يدعو الإنسانَ إلى الانشغال بالبحث للتَّعرُّف على ما أوجده اللهُ سبحانه وتعالى من مخلوقت ومن أشياء مادية ومعنوية. والتَّدبُّرُ في آيات القرآن الكريم، هو نفسُه، دعوة للإنسان ليقومَ بأبحاث للتَّعرُّف على مكوِّنات الأرض والسماء والكون برمَّته. التَّسخيرُ هو الآخر دعوة للإنسان ليبحَثَ فيما سخَّره اللهُ من خيرات لإعمار الأرض. بل التَّدبُّرُ في القرآن الكريم بأكمله، دعوةٌ من الله سبحانه وتعالى للبشر ليقوموا بأبحاثٍ للتَّعرُّف على ما يريده لهم من خير ماديا كان أو معنويا. وحينما يوجِّه اللهُ سبحانه وتعالى كلامَه إلى أولي الألباب، فهي دعوةٌٌ أخرى للبشر للتَّمعُّن في آياته الكريمة مصداقا لقوله سبحاته وتعالى : "كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (ص، 29). والتَّمعُّنُ، في حد ذاته، دعوةٌ للإنشغال بالبحث.
وهذا هو ما حصل منذ أن ظهر الإنسانُ على وجه الأرض إذ قام هذا الإنسانُ بملايين الأبحاث التي بيَّنت ما هي أنواع الخير والفساد والدواب والنبات والطين والطيور والنِّعم والرزق والشجر والثمرات… ولهذا، فالحِكمة من ورود "كلمات واسعة المعنى" وعلى رأسِها كلمة "شيء" هو (واللهُ أعلم) بمثابة دعوة للإنسانِ للإنشعال بالبحث والتَّنقيب، أولا، للتَّعرُّف على مكوِّنات الأوساط التي يعيش فيها، ثانيا، لإعمار الأرض كما أمره اللهُ بذلك. وحينما قال اللهُ سبحانه وتعالى : "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ…" (البقرة، 31)، فالأمر يتعلَّق، منطقيا، بأسماء الأشياء التي سيصادفها ويحتاجها في الوسط الذي يعيش فيه أو الذي سيعيش فيه. فبواسطة هذه الأسماء، سيتفاعل آدمُ عليه السلام مع هذا الوسط، وهذا التَّفاعلُ سيقوده وذرِّيتُه إلى المزيد من المعرفة حول ما يحيط بهم من أشياء.
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ ... (البقرة، 185)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (الإسراء، 89)
وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا (الإسراء، 106)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (سبأ، 28).
ما يثير الانتباهَ في هذه الآيات الأربعة هي كلمة "ناس". الآيات الثلاثة الأولى تبيٍّن أن القرآنَ موجَّهٌ للناس جميعا. وهو الشيء الذي تؤكِّده الآية الرابعة التي تبيِّن أن الرسولَ محمد (ص) أُرسِلَ للناس كافةً وهو الذي سيبلِّغ ما جاء به القرآنُ لهؤلاء الناس. فحينما قلتُ : "إشاراتٌ تَحُثُّ الإنسان"، فالمقصود بالإنسان هم الناس جميعا بغض النَّظر عن كونهم مسلمين أو غير مسلمين.
يقول الحقُّ سبحانه وتعالى: "...هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ… (هود، 61). في هذه الآية الكريمة، دعا اللهُ جلَّ عُلاه، من خلال نبيه صالح عليه السلام، قومَ ثمود إلى عبادته، كما دعاهم إلى إعمار الأرض معتمدين على ما سخَّره اللهُُ لهم من خيرات. واللهُ سبحانه وتعالى خاطب قومَ ثمود بصفتهم بشرٌ. وهذا يعني أن إعمارَ الأرض ليس حكرا على هذا القوم، بل إعمارُ الأرض من مهام البشر كلهم. السؤال الذي يفرض نفسَه هنا هو : "كيف سيُعمِّر البشرُ الارضَ؟
بكل بساطةٍ وكجواب على هذا السؤال، يأتي دورُ العقل الذي ميَّز به اللهُ، سبحانه وتعالى، بني آدم على سائر المخلوقات. والعقل هو الذي يُوفِّر للإنسان التفكيرَ والذكاء وكلَّ ما من شأنه أن يُسهِّلَ تفاعلَه مع الوسط الذي يعيش فيه. وهذا التفاعلُ هو الذي يُثيرُ فضولَ التَّعرُّف على الوسط وعلى ما يزخر به من خيرات.
ولا داعيَ للقول أن تفاعلَ الإنسان مع الوسط الذي يعيش فيه، إن كان يعتمد على الفِطرة والغريزة، في بداية وجود هذا الإنسان على سطح الأرض، فإن هذا التَّفاعلَ تطوَّر، عبر الزمان والمكان، إلى أن أصبح يعتمد على منهجية فكرية أساسُها الملاحظة observation وصياغة الفرضيات formulation des hypothèses وعلى التَّجريب expérimentation للوصول إلى نتائج résultats يتمُّ تفسيرها أو تأويلُها interprétation للوصول إلى استنتاج conclusion يقود إلى إنتاج معارف ونظريات جديدة أو إلى تأكيد ما سبق إنتاجُه من معارف ونظرات.
هذا هو عملُ الباحث الذي يتلخَّص في إنتاج المعرفة. والمعرفة يمكن أن تتحوَّل إلى أفكار تنير طريقَ الإنسان نحو إعمار الأرض. كما يمكن أن يُحوِّلَها العقلُ البشري إلى وسائل مادية تُسهِّل هذا الإعمارَ. السؤال الذي يجب طرحُه هنا هو : هل اللهُ سبحانه وتعالى بيَّن مراحل إنتاج المعرفة في كتابه العزيز؟
الجواب هو لا، وأبدا لا. لماذا؟ لأن القرآن الكريم ليس كتابَ علوم بالمفهوم الدنيوي. إنه كتاب هداية وإرشاد وموعظة وتوجيه العباد إلى ما لهم فيه خيرٌ… لكن القرآنَ الكريم يحتوي على إشارات، وأقول وأكرِّرُ إشارات لبعض الظواهر الطبيعية، البيولوجية والفزيائية على الخصوص. يمكن أن نفرأَ القرآنَ الكريمَ، من ألفه إلى يائه، لن نجدَ فيه ولو نطريةً واحدةً مفسَّرة ومُفصَّلة كما فسَّرتها وفصَّلتها العلوم الدُّنيوية مثل الجاذبية pesanteur، النَّظرية الذرية théorie atomique، تباعد أو انجراف القارات dérive des continents، النسبية relativité…
ومن جهة أخرى، تجدر الإشارةُ إلى أن الباحثَ، حينما يكون منهمكا في البحث في موضوع ما، فإنه لا يعرف شيئا عن هذا الموضوع أو يكاد. فمهمتُه هي إنتاج معرفة جديدة لتوضيح ما هو بصدد البحث فيه. بينما اللهُ سبحانه وتعالى لا يبحث. اللهُ جلَّ علاه يحيط بكل شيء علما. وهو على كل شيء قدير. وهو مُبدعُ الكون وخالقُ كل شيء. والدليل على ذلك أن كلمةَ "بحث" توجد في آية واحدة من القرآن الكريم وهي الآية 31 من سورة المائدة : "فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ…". وفعل "يبحث" مستعملٌ في هذه الآية ليس بالمدلول المتعارف عليه كبحثٍ عن المعرفة. معناه، في الآية، النَّبشُ في التراب بالمنقار لإحداث حفرةٍ في هذا التراب (قصة قابيل وهابيل أبناء آدم عليه السلام).
وحتى المفردات أو الكلمات المستعملة في منهجية البحث البشري لا أثرَ لها في القرآن الكريم. لماذا؟ أولا، لأن القرآنَ الكريمَ، كما سبق الذكرُ، ليس كتابَ علوم بالمفهوم الدُّنيوي. ثانيا، لأن اللهً سبحانه وتعالى يُحيط بعلمه كلَّ شيء، ولا يبحث ولا يفترض ولا يُجرِّب ولا يستنتج. ثالثا، الله على كل شيءٍ قدير، يخلق ما يشاء ويفعل ما يريد مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (يس، 72). وهذا هو ما نلمسه عندما نطَّلع على أسماء اللهِ الحسني. إنه هو الخالق، أي المبدع لخلقه بإرادته. وهو المصوّر، أي الذي أعطى لكل خلق صورة خاصة. وهو العليم، أي المحيط علمُه بكل شيء. وهو الخبير، أي العالم بكل شيء باطن أو ظاهر. وهو الحق، أي خالق كل شيء بحكمة. وهو القادر، أي المنفرد باختراع الموجودات.
لكن، هل عدمُ الإشارة، في القرآن الكريم، لكل ما له علاقة بالبحث بمفهومه الدنيوي، يعني أن اللهَ سبحانه وتعالى لا يدعو الإنسانَ للإنشغال بالبحث والتنقيب؟ هذا ما سنراه في الفقرات الموالية.
أولا، يجب أن لا ننسى أن اللهَ ميَّز الإنسان على سائر مخلوقاته بالعقل. والعقل هو أحسن وأرقى وأفضل وأسمى نِعمةٍ من الله للإنسان. بالعقل، الإنسانُ يعبد ربَّه العظيم. بالعقل، الإنسانُ يسير في الطبيعة ويتأمَّل في مكوِّناتها (جماد، كائنات حية، جو، بحر…) ويكتشف، من خلال فضوله curiosité أسرارَها. والمقصود هنا ب"فضول" ليس الفضول الذي يدفع الناسَ للتَّدخّلِ فيما لا يعنيهم للإطلاع على أسرار الغير وجعلها موضوعَ نميمة وتطيُّر واغتياب... المقصود ب"فضول" هي تلك الملَكَة التي تُولِّد عند الناسَ الرغبةَ والشغفَ في التَّعرُّف على الأشياء أو إلى التَّعلُّم وحب الاطلاع والاكتشاف والادراك والبحث عن المعرفة وعن الجديد. والفضول، بهذا المعنى، يتطلَّب دقةَ الملاحظة ويحتاج إلى التَّحليل analyse…
ثانيا، هناك إشارةُ مهمَّةٌ، في القرآن الكريم، يجب أن ننتبهَ لها. تتمثَّل هذه الإشارةُ فيما أراده اللهُ سبحانه وتعالى، في كتابه العزيز، حيث بعض الكلمات مستعملة بمعناها الواسع أو العام sens générique. وبعبارةٍ أوضح، الكلمات ذات المعنى الواسع تُطلَق على فئةٍ من الأشياء (جماد أو كائن حي) تنتمي لنفسُ الجنس genre. لكنها إذا أُخِذت على حدة، تصبح لها خاصياتٌ تميِّزها عن الأشياء الأخرى. مثلاً، عندما نقول "نخل" أو "نمل" أو "نحل"، فالأمرُ يتعلَّق بتسمياتٍ تضمُّ جميعَ أنواع النخل والنمل والنحل.
والكلمات من هذا النوع وارِدةٌ بكثرة في القرآن الكريم. من بينها مثلاً : "خير"، "فساد"، "دابة"، "نبات"، "طين"، "طير"، "نِعمة"، "رزقٌ"، "شجر"، "ثمرة"... وعلى رأسِها كلمة "شيء". والقرآن الكريم لم يبيِّن بالتَّفصيل وبالتَّسميات ما هي أنواعُ الخير والفساد والدواب والنبات والطين و… أما كلمة "شيء"، فتشمل كل ما هو موجود على/في سطح الأرض. والشيء يمكن أن يكون ماديا جامدا أو ماديا حيا. كما يمكن أن يكونَ الشيءُ معنويا، أي لا يوجد إلا على مستوى الفكر. وللإشارة، فإن كلمةَ "شيء" توجد في أكثر من 190 آية من القرآن الكريم. فما هو المقصود من وجود كلمات واسعة المعنى في القرآن الكريم وما المقصود من وجود كلمة "شيء" بكثرة في نفس القرآن الكريم؟ وهنا، لرفع كل التباس، أقول أنهَ ليس بعزيزٍ على اللهِ سبحانه وتعالى أن يفصِّلَ أنواعَ كل شيء مادام هو خالِق كل الأشياء. فلا بدَّ أن يكونَ من وراء عدم الدخول في تفاصيل الكلمات الواسعة المعنى، حِكمةٌ.
قبل الإجابة على هذا السؤال، أريد أن أذكِّرَ :
1.بأن اللهَ سبحانه وتعالى يدعونا لنتدبَّرَ في آيات القرآن الكريم. وفعل "تدبَّرَ" في شيء ما أو في الأمرِ، يعني أمعَنَ التفكيرَ والتَّأمُّلَ فيه. وبعبارة أخرى، البحثَ فيه بتبصُّرٍ سعيا إلى الوصول إلى معاني قد لا تكون واضحةً للباحث في أول وهلة. يقول الحق سبحانه وتعالى: "أفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا" (النساء، 82). كما يقول سبحانه وتعالى : "أفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" (محمد، 24).
2.كما أريد أن أذكِّرَ أن اللهَ سبحانه وتعالى فضَّلَ الإنسانَ بالعقل على جميع مخلوقاتِه. والعقل هو الذي يجعل من الإنسان شخصا فضوليا باحثا عن المعرفة. فحينما يلتقي التَّدبُّرُ والفضولُ المعرفي، يتَّضِح للباحث ما المقصود من وُرودِ كلمات واسعة المعنى وعلى رأسها كلمة "شيء" التي هي أوسع وأشمًل معنىً.
بعد هذين التَّوضيحين، أصبح من الممكن أن أجيبَ على السؤال المطروح أعلاه (فما هو المقصود من وجود كلمات واسعة المعنى في القرآن الكريم وما المقصود من وجود كلمة "شيء" بكثرة في نفس القرآن الكريم؟)
الجواب، حسب رأيي الشخصي، هو فتحُ الباب واسعا ليقومَ الإنسانُ بأبحأثٍ للوصول إلى ما يمكن إدراجُه في "الكلمات الواسعة المعنى" من المكوٍّنات، المادية والمعنوية، التي هي من الأشياء التي خَلَقَها اللهُ على وجه الأرض. ولهذا، فإن اللهَ سبحانه وتعالى يدعو الإنسانَ إلى الانشغال بالبحث للتَّعرُّف على ما أوجده اللهُ سبحانه وتعالى من مخلوقت ومن أشياء مادية ومعنوية. والتَّدبُّرُ في آيات القرآن الكريم، هو نفسُه، دعوة للإنسان ليقومَ بأبحاث للتَّعرُّف على مكوِّنات الأرض والسماء والكون برمَّته. التَّسخيرُ هو الآخر دعوة للإنسان ليبحَثَ فيما سخَّره اللهُ من خيرات لإعمار الأرض. بل التَّدبُّرُ في القرآن الكريم بأكمله، دعوةٌ من الله سبحانه وتعالى للبشر ليقوموا بأبحاثٍ للتَّعرُّف على ما يريده لهم من خير ماديا كان أو معنويا. وحينما يوجِّه اللهُ سبحانه وتعالى كلامَه إلى أولي الألباب، فهي دعوةٌٌ أخرى للبشر للتَّمعُّن في آياته الكريمة مصداقا لقوله سبحاته وتعالى : "كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (ص، 29). والتَّمعُّنُ، في حد ذاته، دعوةٌ للإنشغال بالبحث.
وهذا هو ما حصل منذ أن ظهر الإنسانُ على وجه الأرض إذ قام هذا الإنسانُ بملايين الأبحاث التي بيَّنت ما هي أنواع الخير والفساد والدواب والنبات والطين والطيور والنِّعم والرزق والشجر والثمرات… ولهذا، فالحِكمة من ورود "كلمات واسعة المعنى" وعلى رأسِها كلمة "شيء" هو (واللهُ أعلم) بمثابة دعوة للإنسانِ للإنشعال بالبحث والتَّنقيب، أولا، للتَّعرُّف على مكوِّنات الأوساط التي يعيش فيها، ثانيا، لإعمار الأرض كما أمره اللهُ بذلك. وحينما قال اللهُ سبحانه وتعالى : "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ…" (البقرة، 31)، فالأمر يتعلَّق، منطقيا، بأسماء الأشياء التي سيصادفها ويحتاجها في الوسط الذي يعيش فيه أو الذي سيعيش فيه. فبواسطة هذه الأسماء، سيتفاعل آدمُ عليه السلام مع هذا الوسط، وهذا التَّفاعلُ سيقوده وذرِّيتُه إلى المزيد من المعرفة حول ما يحيط بهم من أشياء.