شهادة أولى
مات عبداللطيف الراشد في نهاية الأمر لأنه تأخر عن الموت كثيراً!
قبرٌ جديد في أرض السواد يضاف الى آلاف المقابر كل يوم، فالجميع يتهيأون الى هذه الإحتفالية السوداء، فالموت في بلادنا لم يعد مخيفاً جداً، والراشد عبداللطيف كان يبحث عن موته ويسعى إليه بكل صلافة وقوة منذ زمن بعيد.
أعرفه جيداً منذ الثمانينيات السود وتعرفون هذا الفقير العصامي الذي تمرد على نفسه واصابته لوثة الشعر والنشر والصحافة، فسعى لأن يكون ضمن هذه الدائرة حتى لحظته الأخيرة، لا لمجدٍ ينتظره ولا لمالٍ يتباهـى به، إنما لأن قذارة الشعر في ذاك الزمن القذر أوهمته بأن ينجو من مشنقة الحرب، لكنه أصبح فيما بعد طريدة الشعر والحرب معاً في أقسى سنوات مرت علينا وعليه بين صفارت الإنذار وعويل النساء وموت الجميع في في مصهر قائدنا الهمام!
رحل الراشد دون أن يودعه احد أو يودع احداً ؛ رحل الراشد على الطريقة البغدادية لموت الصعاليك الفقراء، رحل الفقير النظيف الذي كان يملك قلب طفل وصوت حمامة ؛ رحل الأمير التعيس دون أن يرى نهاية الكون واكذوبة البلد المضرّج بالدماء.
أشهد أن عبداللطيف الراشد كان من انظف الفقراء الصعاليك. وأشرف من كثيرين توهموا بأنهم يمتلكون إمبراطورية الشعر وإنهم وصلوا الى مرتبة الانسانية..
أشهد ان الراشد كان رماداً تغلي من تحته نار..
مات عبداللطيف الراشد في نهاية الأمرلأنه تأخر عن الموت كثيراً!
شهادة ثانية
أثناء الحرب الأخيرة "الحواسم" ضيّفت عبداللطيف الراشد في بيتي في الأسبوعين الأخيرين مع الشاعرين حسين الحسيني الذي لا يقل عنه بؤساً واضطراباً وأمين جياد الذي غادرت أسرته الصغيرة الى ديالى..في الأسبوعين الأخيرين كان الراشد يغلي ويتابع الأخبار ويتسقطها وفي قلبه لوعة كبيرة وأمنية أن يشهد سقوط النظام، فشهد السقوط المدوي وكان يستعجل الأخبار وأنا أنبهه من أن الجيران قد يسمعون لغونا وعلينا أن نتماسك الى آخر لحظة.
في الليلة الأخيرة لم ينم الراشد الى الصباح، وعندما سقط النظام فعلاً كان الراشد يرقص رقصة الفرح مثل زوربا ؛ كانت رقصة غامضة، لكنها جريئة وصريحة انتصر فيها لسنوات حرمانه الطويلة. كان سعيداً كطفل، عمّت روحه أفراحٌ منسية دفنها بين جراحه العريضة وآلامه المفتوحة الى آخر مدى.
في أيام السلب والنهب التي برع فيها العراقيون وأثبتوا فيها أنهم لصوص محترفون يتفوقون على عصابات الكاوبوي، كان الراشد يتفقد الوطن المسلوب عبر بوابة بغداد التي مزقوها في مهرجان اللصوصية الكبير وفي عينه دمعة عجوز يرى الفجيعة ولا يستطيع درءها. كان أضعف من أن يفعل شيئاً.
هذا موقف شريف وكبير سجلوه عني بمثابة شهادة الى الراشد الراحل ولا أبغي منها غير أن أقول ما يتوجب قوله في حضرة ميت تأخر عن الموت كثيراً ؛ هذا الموقف حكيته قبل أيام الى الصديق الروائي علي بدر في أبو ظبي عندما كنا نتكلم عن عبداللطيف الراشد وسيرته وشعره وصعلكته: بعد أسبوع من الفرهود العراقي الذي كان يُنقل الى العالم عبر الفضائيات، كنت مع الراشد في منطقة الميدان نتسكع ونرى تمزيق بغداد بواسطة أهلها، فنتحسر الى ما آلت إليه الحال ونحن نرى الناس تثأر من سنوات عجاف بطريقة مرعبة وبدائية، ولأني أعرف فقر الراشد وعوزه وحاجته الى كل شيء، ولأني أعرف حرمانه الطويل، ولأني أعرف أنه يسكن في غرفة قذرة في الميدان، اقترحت عليه أن يوثث غرفته من هذا السبي الجماعي، حيث بات لا أحد يستحي من أحد، والأغلبية نزعت ورقة التوت، فلا بأس بأن " يفرهد" بعض الأثاث ليسوي حاله الرث ويستكين الى بيت صغير مادام الأمر أصبح هكذا. وعلى عكس ما كنت اتوقع، ولأني ؛ على ما يبدو ؛ لم أفهم بشكل جيد سريرة الراشد ونقاءه الداخلي، ثار في وجهي ثورة غريبة وزعل بشكل مفاجئ وعدّ مقترحي نوعاً من الإهانة الشخصية له وضربة في أخلاقه وإنسانيته وشفافية روحه، ولأن الراشد طفل كبير بقلب حمامة بيضاء سرعان ما إعتذر وكأنه هو المخطئ! ففهمت على الفور أي نقاء يسكن هذا الفقير العفيف، فحولت الكلام الى مزاح وتداركت خجلي، لكني بتُّ على يقين من أن الراشد أعطاني درساً بليغاً.. وها أنا أشهد له وأعترف..وهذا الموقف مسـجل له في كتابي غير المطبوع (آخر حروب الرئيس).
مات عبداللطيف الراشد في نهاية الأمر لأنه تأخر عن الموت كثيراً!
قبرٌ جديد في أرض السواد يضاف الى آلاف المقابر كل يوم، فالجميع يتهيأون الى هذه الإحتفالية السوداء، فالموت في بلادنا لم يعد مخيفاً جداً، والراشد عبداللطيف كان يبحث عن موته ويسعى إليه بكل صلافة وقوة منذ زمن بعيد.
أعرفه جيداً منذ الثمانينيات السود وتعرفون هذا الفقير العصامي الذي تمرد على نفسه واصابته لوثة الشعر والنشر والصحافة، فسعى لأن يكون ضمن هذه الدائرة حتى لحظته الأخيرة، لا لمجدٍ ينتظره ولا لمالٍ يتباهـى به، إنما لأن قذارة الشعر في ذاك الزمن القذر أوهمته بأن ينجو من مشنقة الحرب، لكنه أصبح فيما بعد طريدة الشعر والحرب معاً في أقسى سنوات مرت علينا وعليه بين صفارت الإنذار وعويل النساء وموت الجميع في في مصهر قائدنا الهمام!
رحل الراشد دون أن يودعه احد أو يودع احداً ؛ رحل الراشد على الطريقة البغدادية لموت الصعاليك الفقراء، رحل الفقير النظيف الذي كان يملك قلب طفل وصوت حمامة ؛ رحل الأمير التعيس دون أن يرى نهاية الكون واكذوبة البلد المضرّج بالدماء.
أشهد أن عبداللطيف الراشد كان من انظف الفقراء الصعاليك. وأشرف من كثيرين توهموا بأنهم يمتلكون إمبراطورية الشعر وإنهم وصلوا الى مرتبة الانسانية..
أشهد ان الراشد كان رماداً تغلي من تحته نار..
مات عبداللطيف الراشد في نهاية الأمرلأنه تأخر عن الموت كثيراً!
شهادة ثانية
أثناء الحرب الأخيرة "الحواسم" ضيّفت عبداللطيف الراشد في بيتي في الأسبوعين الأخيرين مع الشاعرين حسين الحسيني الذي لا يقل عنه بؤساً واضطراباً وأمين جياد الذي غادرت أسرته الصغيرة الى ديالى..في الأسبوعين الأخيرين كان الراشد يغلي ويتابع الأخبار ويتسقطها وفي قلبه لوعة كبيرة وأمنية أن يشهد سقوط النظام، فشهد السقوط المدوي وكان يستعجل الأخبار وأنا أنبهه من أن الجيران قد يسمعون لغونا وعلينا أن نتماسك الى آخر لحظة.
في الليلة الأخيرة لم ينم الراشد الى الصباح، وعندما سقط النظام فعلاً كان الراشد يرقص رقصة الفرح مثل زوربا ؛ كانت رقصة غامضة، لكنها جريئة وصريحة انتصر فيها لسنوات حرمانه الطويلة. كان سعيداً كطفل، عمّت روحه أفراحٌ منسية دفنها بين جراحه العريضة وآلامه المفتوحة الى آخر مدى.
في أيام السلب والنهب التي برع فيها العراقيون وأثبتوا فيها أنهم لصوص محترفون يتفوقون على عصابات الكاوبوي، كان الراشد يتفقد الوطن المسلوب عبر بوابة بغداد التي مزقوها في مهرجان اللصوصية الكبير وفي عينه دمعة عجوز يرى الفجيعة ولا يستطيع درءها. كان أضعف من أن يفعل شيئاً.
هذا موقف شريف وكبير سجلوه عني بمثابة شهادة الى الراشد الراحل ولا أبغي منها غير أن أقول ما يتوجب قوله في حضرة ميت تأخر عن الموت كثيراً ؛ هذا الموقف حكيته قبل أيام الى الصديق الروائي علي بدر في أبو ظبي عندما كنا نتكلم عن عبداللطيف الراشد وسيرته وشعره وصعلكته: بعد أسبوع من الفرهود العراقي الذي كان يُنقل الى العالم عبر الفضائيات، كنت مع الراشد في منطقة الميدان نتسكع ونرى تمزيق بغداد بواسطة أهلها، فنتحسر الى ما آلت إليه الحال ونحن نرى الناس تثأر من سنوات عجاف بطريقة مرعبة وبدائية، ولأني أعرف فقر الراشد وعوزه وحاجته الى كل شيء، ولأني أعرف حرمانه الطويل، ولأني أعرف أنه يسكن في غرفة قذرة في الميدان، اقترحت عليه أن يوثث غرفته من هذا السبي الجماعي، حيث بات لا أحد يستحي من أحد، والأغلبية نزعت ورقة التوت، فلا بأس بأن " يفرهد" بعض الأثاث ليسوي حاله الرث ويستكين الى بيت صغير مادام الأمر أصبح هكذا. وعلى عكس ما كنت اتوقع، ولأني ؛ على ما يبدو ؛ لم أفهم بشكل جيد سريرة الراشد ونقاءه الداخلي، ثار في وجهي ثورة غريبة وزعل بشكل مفاجئ وعدّ مقترحي نوعاً من الإهانة الشخصية له وضربة في أخلاقه وإنسانيته وشفافية روحه، ولأن الراشد طفل كبير بقلب حمامة بيضاء سرعان ما إعتذر وكأنه هو المخطئ! ففهمت على الفور أي نقاء يسكن هذا الفقير العفيف، فحولت الكلام الى مزاح وتداركت خجلي، لكني بتُّ على يقين من أن الراشد أعطاني درساً بليغاً.. وها أنا أشهد له وأعترف..وهذا الموقف مسـجل له في كتابي غير المطبوع (آخر حروب الرئيس).